في كل مرة يسأل فيها الشاعر الراحل آدم حاتم لماذا لم يطبع ديوانه الأول حتى الآن ؟، كان جوابه المعهود:قصائدي خيول برية ولا أرضى أن أضعها في أسطبل, ومع أن الاجابة لم تكن تخلو من سخرية سوداء، فإن آدم رحل من بيننا تاركا قصائده مبعثرة – كحياته – في كل مكان, فهل سينزعج منا آدم ونحن فتأمل خيوله البرية في: لا أحد؟
لقد قرأت قصائد آدم مرات عدة,قرأتها ونحن بصدد جمعها ومقارنتها بين ما تركه من مخطوطات لدى الصديق الشاعر أحمد محمد سليمان, وبين ما احتفظ له عندي من قصائد وقرأتها ثانية والديوان في طور التدقيق والاخراج النهائي، وقرأتها أيضا والديوان مطبوع بصيغته الحالية, وقبل ذلك قرأت ما كان ينشره من قصائد في الصحف والمجلات.
وفي كل قراءة تعلن قصائده عن شعر صريح, شعر خارج التيارات والمدارس والنزعات, لكنه شعر داخل الشعر نفسه, والتجربة التي توثق الألم باوجاعه, والمنفى بوجوديته، والماضي بأسطوريته. ولهذا، فلا ينبغي قراءة شعر كهذا بمعزل عن تجربته, ولعل آدم من القلائل الذين توحدوا مع كتاباتهم سيرة وتوجها، فهو لم يكن معنيا كثيرا بالتأليف البلاغي الخارجي، لكن صراحة شعره تقدمه لنا شاعر التجربة بامتياز.
جدل الحياة / الموت
ليس ثمة حد فاصل بين الحياة والموت لدى آدم حاتم انهما مصير دائم في ضفة واحدة ووحيدة, أما ما يشاع عن «مهرجان الحياة " فقد انفضت نهائيا من التاريخ الشخصي لآدم. انه ينتقد الموت والحياة:
"الموت لأنه لم يأت والحياة التي ذهبت هكذا فيما اتفق " (ص5)
في قصيدة "تلك هي حياتي" والتي كان الشاعر قد نشرها في مكان آخر تحت عنوان "ذئاب تقود نيزكا" يبدأ آدم بتعريف بسيط:
"جدول الدم الذهب
الى فم الساحرة
تلك هي حياتي "(ص 14).
وبهذا التعريف – ببلاغة سوداء – يقدم آدم صورة مصغرة للدهشة الداخلية التي تسكنه, دهشة متشحة بالخوف, لكنه يتمتع بذاكرة متداخلة تلمع في انفاقها صور شتى من "الحياة " الواقعية, ومن الحياة "الميتة" أو المستحيلة كذلك.
"انظر الى الماضي كطفل
يتفرس في صورة أبيه
الذي قتل في الحرب" (ص 13).
داخل جدل الحياة, الموت نفسه يجيد آدم طريق المرئيات ! إنه يصيغها لنا بصوفية باطنية, تقترب من اشراقات ابن عربي، وتجليات الحلاج وشطحات أبي يزيد، وتذكرنا في الوقت نفسه بمراثي "ريلكه" حيث الطبيعة تغار مما عليها من أحياء فتعمل على استردادهم عبر نهائية الموت.
لكن مراثيه تلك, يخلطها آدم – بإرادته – بغرض نقيض: الهجاء. فإذ يوجه "رسائل الى الموتى" وإذ يبدو كأنه يرثي "الموتى" هو في حقيقة الأمر يهجو الحياة والأحياء فيها أيضا.. وأحيانا يقلب المعادلة, فيخاطب من في الحياة على أنهم أموات يستحقون الرثاء! وهكذا يفعل مع نفسه:
"أوقفني بين الأموات
وقال لي:
إنهض فأنت أجمل الأحياء"(ص 25).
آدم إذن "هجاء" أيضا. لكن بذلك الهجاء المشحون بنزعات عدوانية أو الصادر عن ذات مرضية. بل يصيغ آدم هجاءه بحكمة وتأمل ممزوجين بألم واشفاق لأجل أولئك المتلفعين بشعارات تريد تغييب الشعر والوطن ! كما في قصيدتي: "مالك الحزين " و" الساهرون" وهذا المطقع من "رسائل الى الموتى":
"وطنى الصغير
أنت الذي قدمت النار والشعر
لمن لا يعرفها
أتساءل وأنا وحيد في جنازتك
لماذا لم يرتفع نحيبي
في تلك الساعة,نحو الله؟"(ص20).
في نهاية قصيدته "تلك هي حياتي" يتناسل التعريف المبسط الذي أشرت اليه ليقدم لنا آدم تعريفات متصادمة لا تخلو من القسوة معرفا أو ناكرا حياته:
"حكم إعدام في صباح جميل
قرصنة كادت تغير مجرى الأمور
وكر الملائكة الذي تفكر نوافذه بالهرب,
عاشق تحرس أحلامه سبعة مستحيلات
تلك هي حياتي "(ص18).
الاسم والمنفى
آدم حاتم أو "سعدون حاتم الدراجي" كما ورد في شهادة الميلاد، وربما في شهادة الوفاة أيضا! يفقد اسمه في الحياة ولا يستعيده إلا بعد موته. لكن أية حياة ؟ حياة المنفى.
لقد اختار "سعدون حاتم الدراجي" اسم آدم وعاش به منذ خروجه من العراق عام 1978. فهل لذلك علاقة "بآدم "المطرود من الجنة:
لقد عاش آدم وفي داخله شخص آخر باسم آخر وذكريات أخرى يلتقي الشخصان أحيانا ويتبادلان الحديث وربما يختصمان, ولعل هذا ما يفسر لنا انشغال آدم في اظهار صوت مواز لرجل غامض في داخله, يتحدث عنه بحرية, وبضمير الغائب مما أعطى قصائده سحرا دراميا يتشكل عبر ما يسمر "تشيؤ الذات " أي جعلها شيئا خارجيا، وهو ما يمثل التطور اللاحق في قصيدة الحداثة, حيث استبدال قصيدة "القناع " لدى السياب والبياتي بإحالة الذات الى تيهها، الى سؤالها الأزلي عن جدواها في معمعات غربتها واغترابها مع الآخرين وفيهم أيضا.
يمكن وصف قصيدة «من هو الشخص الذي كتب هذه القصيدة " بأنها نموذج واضح ومثال دقيق لهذا "التشيؤ" في الذات:
"شخص تنازع عقده الثالث صنوف الزوال
يحيا على قمم الخسارة
وينتظر من الله ان يتوجه أميرا على الخراب,
في النهار ترفع يداه مطرقة العداوة
وفي الليل يمضي لاشغال الحرائق في قرى النوم
يحلم بالخيول والمجوهرات
رغم أن جسد ه خال من المعادن
سوى بضعة من ازرار معطفه الذي
صار من شدة التسكع يعرف الطرقات
الى مخارف الجحيم "( ص 42).
وبالاضافة الى ما يؤكده هذا المقطع من انهمام آدم في مشكلات شخص آخر منفي في داخله, فإن المقطع يمثل – كذلك – تخطيطا نفسيا لعوالم هذا الشخص, والذي يتنبأ له الشاعر أن يزول قبل زوال عقده الثالث.
صياد الحانات
عرف عن آدم أنه صياد الحانات ونديمها أيضا، حتى أن أول لقاء لي به بعد وصولي الى دمشق في خريف 1991 كان في "حانة " لكأنه كان يتمثل بقول طرفة, "ففي الحانات تصطد". والا تتضح "الحانة " بوصفها مكانا خاصا في قصائد الشاعر فذلك يحمل أكثر من إشارة, ليس أقل منها أن آدم الذي عاش صعلوكا ومشردا في حياته لم يقدم لنا مشهدا يوميا عابرا من صعلكته المعهودة, لم ينشغل بتفصيلات الحياة الصغيرة, عن سؤال الحياة الوجودي، بجانبها الفلسفي العميق.
الحانة التي كان آدم على علاقة خاصة بها ليست الا جهة أخرى يتأمل الشاعر "منها" حياته هناك دون أن يهتم كثيرا بنفعيتها الموضوعية الآنية:
"لا أحد يصحح خطأ الموت
كما تقول الشاعرة
التي أصادفها في الحانات كثيرا (ص 28)
ثمة "لا أحد" في الحياة ولا أحد في الحانات "
الجميع يستحقون المراثي من آدم لأنهم ذهبوا بعيدا أو يستحقون الهجاء لأنهم تركوه وحيدا. ومع هذا يحذرنا آدم من الآخر الذي في داخله وكأنه يعتذر مسبقا عما قد يقترف:
"إحذروا هذا الفتي السكران
ربما سسييء اليكم
لا لشيء آلا لأنه أساء الى نفسه كثيرا"( ص 16).
يذكرنا آدم كثيرا بعبد الامير الحصيري، الشاعر الرجيم والصعلوك الذي توفي في بغداد في السنة التي غادرها آدم, وبعمر يقارب العمر الذي توفي فيه أيضا!
لكن الحصيري, كان "شاعر الحانات " يفيض فيها شعرا وسكرا، لقد رأى فيها مكانا آمنا خارج الحياة, أما آدم فقد غاص عميقا في سؤال الالم في
الحياة.
يقول الحصيري في ديوانه "أنا الشريد":
أنا شريد فما للناس تذعر من وجهي وتهرب من أقدامي الطرق
بيد أن آدم لا يجد جلاسا فى الحانات, لاللأسباب ذاتها التي أحالها الحصيري الى شعر، بل لأن آدم معني تماما بإشكالية الوجود ببعده الباطن, إنه يرى الى ظلام شامل يغيب كل شيء فيقرر أن يغيب هو أيضا.
الحانة بالنسبة لآدم مكان آخر للموت, لموت السكارى، أما الفنادق فهي أمكنة لموت الغرباء، إنه الموت اللاعضوي، الموت المعنوي المتحقق في الحياة نفسها:
"سكارى المدينة ماتوا في حاناتهم
وكل الفنادق مات فيها الغرباء
دونما بسب "( ص 57)
فكم ميتة مت في الحياة قبل أن تختار موتك الوحيد؟ وفي أي من هذه الأماكن ؟ هنا أتذكر مقطعا للبياتي من قصيدة "سأبوح بحبك للريح والأشجار":
"يموت الشاعر منفيا أو منتحرا أو مجنونا أو عبدا أو خداما في هذي البقع السوداء وفي تلك الأقفاص الذهبية ".
وإزاء هذا المقطع أضع القطع الأول من قصيدة "رسائل الى الموتى" التي يقرر فيها آدم اختيار شكل موته:
"ما أكثر ما رأيت في الحياة
لذا وضعت بوصلة الضياع ورحلت
وإن كان علي
إن أحيا مجبرا
ستجدني ذات يوم قتيلا في الوديان البعيد ة "(ص 19).