صيغوا له التعريف الذي يروق لكم. أما نحن فنعرفه. نعرف سيماء الألم والمذلة. نعرف الأيادي المقيدة والعيون المعصوبة. نعرف أن الرجال الظاهرين في لوحات فرناندو بوتيرو يتعرضون للتعذيب. ولدينا الدليل على ذلك في صور فوتوغرافية وشهادات أدلى بها الجناة، وضحايا من دم ولحم.
في صباح مشمس من نوفمبر، وفي عاصمة الدولة [الأمريكية]، وقفت قبالة اللوحة تلو اللوحة أثناء افتتاح معرض «أبو غريب كما يراه بوتيرو» في متحف الجامعة الأمريكية في العاصمة واشنطن، وكنت أعض على أصابعي فيما تتكالب آلات التصوير على الفنان كولومبي المولد من خلف ظهري. في إحدى اللوحات، ثمة كلب مقيد يهاجم سجينا ينزف. في ثانية، رجلان معصوبا الأعين، يرتديان ثيابا داخلية نسائية، موضوعان أحدهما فوق الآخر. في ثالثة، حارس يضرب سجينا بالعصا على رأسه. في رابعة، حارس آخر يبول على رجلين منهوكي القوى. في خامسة، حارس يبدو عليه الضجر، يرتدي قفازين أخضرين ويصب الماء على وجه سجين مقيد ليوهمه أنه يغرق. (وعلى بعد أميال قليلة، في مبنى الكونجرس، وعشية تعيينه محاميا عاما، كان مايكل موكاسي يؤكد أن شروط التعذيب لا تتوفر في هذه الممارسات).
قلت لبوتيرو عندما تيسرت لي لحظة انفراد به: «لقد ذهبت إلى متحفكم في بوجوتو بكولومبيا الصيف الماضي». كان يرتدي نظارة سوداء مستديرة، ويمشي ببطء، ولكن لحيته الفضية الصغيرة اتسعت تحت بسمة عريضة بمجرد أن أتيت على ذكر كولومبيا.
يحظى بوتيرو بمحبة غامرة في أمريكا الجنوبية، وذلك جزئيا بسبب مائة لوحة صور فيها عنف تجار المخدرات في بلده، مسجلا فيها مذابح القرى، وبورتريهات القادة العسكريين، والرؤساء النيام. وتبرع بها جميعا لجاليري بوجوتا الوطني بشرط أن يبقى عرضها مستمرا دونما توقف.
لكن صوفيا فاري ـ وهي زوجته الفنانة حمراء الشعر ـ أخبرتني أن هذه المجموعة الجديدة من اللوحات مختلفة. فبوتيرو ـ كما قالت ـ قد «نشأ على العنف الكولومبي حتى …. من الصعب أن أقولها ولكن لا مفر …. حتى اعتاد على هذا العنف. أما بالنسبة لأمريكا» وترددت لحظات قبل أن تقول «إن العنف الأمريكي كان صدمة له». سألت بوتيرو عن السبب ـ في رأيه ـ لعدم شعور الأمريكيين أنفسهم بالصدمة، فاكتسى وجهه بالقلق بغتة ثم قال: «هذا أمر مدهش، أليس كذلك؟»
كانت الغاية من معرض «أبو غريب» أن يتطرق إلى هذه المسألة بالذات، أي أن يواجه الجمهور الأمريكي بهذه الحقائق، ولكن بوتيرو عانى كثيرا في إيجاد جاليري يعرض لوحاته في أمريكا. فقد طافت اللوحات أرجاء أوربا قبل أن تظهر في نيويورك ـ في جامعة كاليفورنيا ببيركلي حيث تبرع بمجموعة اللوحات، ثم في واشنطن. لقد أراد بوتيرو لهذه اللوحات أن تبقى في أمريكا، أمام المشاهدين الأمريكيين، أن تبقى لـ «تذكِّرهم». وفي ثنايا المؤتمر الصحفي، وكلما كان الصحفيون يوجهون إليه أسئلتهم بالأسبانية، كان يجيب بالإنجليزية. كان يريد للجميع ـ في متون أمريكا وهوامشها ـ أن يسمعوا كلامه مباشرة كما يخرج من بين شفتيه.
قال لي بوتيرو «لمدة تسعة أشهر لم أفكر إلا في هذا الأمر، ظللت لتسعة اشهر أدور في فلكه». كان قد بدأ العمل على هذه السلسلة من اللوحات بعد نشر سيمور هيرش لمقاله في مجلة ذي نيويوركر في مايو 2004 [والتي فضح فيها أحداث التعذيب في أبوغريب]. كان بوتيرو في الطائرة عائدا إلى بيته في باريس حينما قرأ أن الجيش الأمريكي استولى على سجن أبو غريب ليخضع السجناء هناك ـ وأغلبهم مدنيون أبرياء ـ لمثل ما كانوا يتعرضون له من أعمال وحشية هي التي لوثت صورة صدام حسين. وكان هيرش قد وقع على تقرير بتفاصيل تلك الانتهاكات:
كسر المصابيح الكيميائية وصب السائل الفسفوري على بعض المعتقلين، صب الماء البارد على بعض المعتقلين العراة، ضرب بعض المعتقلين بأيدي المكانس وبالكراسي، تهديد بعض المعتقلين الذكور بالاغتصاب، السماح للشرطة العسكرية بوخز جراح معتقل مصاب بعدما تعرض للضرب في جدار زنزانته، إدخال مصباح كيميائي وربما يد مكنسة في دبر معتقل، استخدام الكلاب العسكرية في ترويع وإرهاب المعتقلين من خلال التهديد بإطلاقها عليهم، وتعرض أحد المعتقلين بالفعل لعقر أحد تلك الكلاب.
وفي حين هز أغلب الأمريكيين أكتافهم ووضعوا المجلة جانبا، عجز بوتيرو عن غض طرفه. بدأ يرسم على الفور وهو في الطائرة، وواصل رسم اسكتشاته، حتى وصل إلى باريس. يقول بوتيرو: «فعلت ذلك انطلاقا من غضب عارم انتابني كما انتاب العالم كله بمجرد الكشف عن تلك الفضائح. كانت صدمة للعالم، للجميع، ولكن وقعها كان أقوى على فنان».
وبعد سورة الغضب الأولى، بدأ إحساس بوتيرو بالأمر يماثل إحساسه المعتاد بالرسم، سواء كان موضوع الرسم زهرة أم جثة. إذ إنك «تفكر في الرسم واللون والتركيب» وينبغي عليك أن «تخلص لمثلك الجمالية، للرسم قبل أي شيء». ولهذا السبب، لم يحد بوتيرو عن بصمته، عن أسلوبه الحجمي الذي يسبغ على كل شيء مظهرا غرائبيا بدينا قصيرا. فعلى مدار سنوات، ظلت بورتريهات بوتيرو وثماره وآلات الكمان البدينة كما يرسمها تمثل احتفالا تهكميا بالحياة البرجوازية بشتى مظاهرها، من الطعام إلى الموسيقى والمال والجنس.
قد يبدو للبعض أن هذه التقنية مناقضة للموضوع الجاد والوحشي الذي يتناوله بوتيرو في هذه المجموعة. غير أنه لا يوجد أي ملمح كارتوني في رجال بوتيرو المرسومين بتركيز حميمي على أجسادهم إذ ينحنون لستر عريهم، والذين تبرز أحجامهم الضخمة ضعفهم ووهن أجسامهم، وتكشف فيهم عن كثير مما يثر الألم.
والنتيجة، المدهشة، هي أن لوحات بوتيرو تحرك الناس بفعالية تفوق فعالية الصور الفوتوغرافية والشهادات التي تم الإدلاء بها عقب نشر الصور. ومع أن بوتيرو حرص على ألا يسجل بريشته شيئا لم يتم توثيقه من خلال الصور، إلا أن تأثير اللوحات كان أكبر من تأثير الصور الفوتوغرافية، إذ يبدو أن اللوحات قد وضعت الناس أمام حقيقتهم العارية. وحينما سألت بوتيرو عن هذا، قال لي إن النسب الفعلية، والتصوير القريب من الواقعي «هو جزء من السبب» ولكن ثمة شيئا لا يقل أهمية وهو أن «اللوحات مركزة، لا تشتيت فيها، تأخذك مباشرة إلى الجوهر». فالسجناء ينزفون على أرضية مطلقة النظافة، في قاعات مطلقة الخواء. ويكون التأثير الدقيق هو أنك ـ إذ تشاهد ـ تجد نفسك وحدك تماما مع الضحايا.
بل إن القائمين بالتعذيب لا يكادون يظهرون. في بعض اللوحات، ثمة كلاب مزمجرة تشير إلى الأمريكيين الذين لا يزيد وجودهم عن أيد تظهر عند أطراف الأعنة. وبحذفه هكذا للحراس، يكون بوتيرو قد أبرز معاناة السجناء، وأشار ضمنا إلى أي نظام يقر التعذيب. قال بوتيرو وصوته يشي بالتحذير إن «القفازات رمز للإذلال. فالقفازات تقول إنك مضطر إلى ارتداء القفازات قبل أن تلمس هؤلاء البشر. القفازات تقول: ما أنت إلا حيوان، ما أنت إلا حيوان دنس. ما أنت إلا وَسَخ. القفازات تقول إنك لا يمكن أن تلمسهم بيديك العاريتين. وقد كان اللون الأخضر معبرا. كان بالغ البشاعة، أخضر».
وأخيرا قال بوتيرو إن «مسؤولية الفنان هي أن ينتج الفن. ويتصادف أحيانا أن تكون إنسانا أيضا ويكون لزاما عليك أن تعبر عن شيء ما. أنتج الفن. على أحسن ما يمكنك. ارسم، ثم قل ما يتحتم عليك قوله». اي أن مقدرة الفن على الاحتجاج هي ـ بعبارة أخرى ـ قرين جاذبيته الفنية والجمالية. فالمفترض بالفن كما يقول بوتيرو هو «أن يمنح المتعة، حتى وإن كان مثل هذا الفن، إنكم تنظرون إلى شخص مصلوب فتقولون ما أجمل هذا، وكلما أمعنتم في النظر إلى المعاناة، كلما ازددتم إحساسا بها»
عن فصلية فرجينيا كورترلي ريفيو الأمريكية، عدد شتاء 2008
أونر جونز ترجمة: أحمد شافعي شاعر ومترجم من مصر