"قاص وباحث"، صفتان (فقط) تلازمان كل تعريف بحياة وأعمال خورخي لويس بورخيس (ولد في بوينس آيرس عام 1899 وتوفي في جينيف عام 1986، كتب أعماله القليلة بلغات مختلفة، ثم ترجمت هذه اللغات بدورها إلى لغات مختلفة. بعض ما كتبه في أبحاثه وضمنه سيرته الذاتية المبعثرة، لم يكن سوى تلفيق؛ وفي بعض محاضراته التي دعي إلى القائها بين الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا واليابان، أجرى تدقيقا مطولا في نصوص مختلفة، واستند إلى مراجع غير موجودة، وأحيانا إلى مؤلفين اخترع أسماءهم وسيرهم ومجالات اختصاصهم. ومع ذلك قيل عنه انه أحد أساتذة الأدب في القرن العشرين.
لم يعترف بورخيس الا بالقصة فنا أدبيا صرفا. شغف بالشعر وكتب بعضا منه، لكنه أهمل الرواية والأنواع الأدبية الأخرى. العالم بالنسبة له، هو مكتبة هائلة، حتى يحار واحدنا حيال ما يصفه بالعيش. أما الكتاب فهم كائنات مختلقة على غرار ما يؤلفونه، ففي آخر الأمر لا أحد يعرف من يكتب ماذا أو ماذا يكتب من؟ الاختلاق هو الحقيقة والحقيقة هي اختلاق.
كتب الكثير عن أدبه وسيرته، وحين أراد أن يكتب، هو، سيرته كتبها أجزاء فير مكتملة بالانجليزية، وفي نيويورك عام 1970؟ لذلك أذنت لنفسي أن أنقل إلى العربية أجزاء من هذا النص عن لفة ثالثة هي الفرنسية، لظني أي في ذلك لا أخون النص الا قليلا، لأن خيانة النص الأصلية قد اقترفها كاتبه.
الأرجح أن بعض الأسماء والعناوين والأحداث في هذا النص مختلق. لم أشر في أي موضع إلى مثل هذا الاحتمال لأن الاشارة تفسد سياق الاختلاق، ولأن أدوات التحقق معدومة أو شبه مستحيلة، ولأن الاختلاق يجعل النص طبقات متراصة من الكذب والصدق إلى أن يتبادلا صفتيهما؛ واذ ذاك كيف الاهتداء إلى ما كان صدقا وما كان كذبا في حكاية، مجرد حكاية؟
فيما يلي الترجمة العربية للصفحات الأولى من "محاولة في (كتابة) سيرة ذاتية" الذي صدر، في طبعته الفرنسية، ملحقا بـ "كتاب المقدمات" لخورخي لويس بورخيس (سلسلة كتاب الجيب "فوليو"- باريس 1987).
لا استطيع القول ما اذا كانت ذكرياتي الاولي ترقى إلى الضفة الشرقية او الضفة الغربية من نهر دولابلاتا الموحل المتهادي، بمونتفيديو حيث كنا نقضي أوقات عطل طويلة كسولة في فيلا عمي فرانشيسكو هاييدو، أو في بوينس أيرس، حيث رأيت النور، في وسط تلك المدينة عام 1899، ناحية شارع توكومان بين سويباشاوا سمرالدا، في منزل صغير متواضع يمتلكه جداي لأبي. على غرار معظم المنازل وقتذاك، كان سطحه مصطبة ومدخله بهوا فسيحا مزينا بعقد جسر يسمى "الزاغوان" وقد ألحق به خزان نجر مياهنا منه، وبردحتين خارجيتين. ولابد اننا سرعان ما انتقلنا منه للاقامة في ضاحية باليرمو لأنه المكان الذي ترقى اليه ذكرياتي الاولي عن منزل آخر من راحتين مطليتين وحديقة مجهزة بناعورة هوائية عالية ومن الجهة الأخرى من الحديقة فسحة أرض بور. في تلك الحقبة كانت باليرمو تلك التي أقمنا فيها، بالقرب من شارعي ستراند وغواتيمالا- ضاحية فقيرة من ضواحي المدينة وخير من سكانها لا يعترفون بأنهم يقطنونها بل يكتفون بالقول، إذا سئلوا، أنهم يقيمون في الناحية الشمالية من المدينة. كنا نقيم في أحد المنازل ذات الطابقين النادر وجودها في الشارع، فيما الجوار يقتصر بمعظمه، على منازل وطيئة وأراض بور. لطالما تحدثت عن تلك الناحية ناعتا اياها بالوضيعة غير أي لم أكن أقصد بذلك حرفية ما تعنيه عبارة SLUM في أمريكا، ففي باليرمو كان يقيم أناس فقراء لكنهم لائقون، والى جانب هؤلاء أناس غير مرغوب فيهم. كان في باليرمو أيضا لصوص وأشقياء- يسمون بالكومبا ودريثويس – اشتهروا بمشاجرات المدى، غير أن هذا الوجه من أوجه باليرمو لم يطغ على مخيلتي الا فيما بعد، لانهم في المنزل، كانوا يبذلون ما بوسعهم لكي لا ندرك ذلك وكانوا يفلحون في سعيهم على أكمل وجه، مثل هذا التغافل لم يكن ليشمل جارنا ايفاريستو كارييغو الذي صودف انه كان أول شاعر أرجنتيني يستغل تلك الامكانيات الادبية المتاحة في متناول يده، أما أنا فكنت غير مدرك تقريبا لوجود الكومبادريتوس لأني، عمليا ما كنت أغادر البيت مطلقا.
أبي، خورخي غييرمو بورخيس كان محاميا، فيلسوفا فوضويا- من مريدي سبنسر- وكان، في الوقت نفسه، يدرس مادة علم النفس في معهد المعلمين للفات الحديثة حيث يعطي دروسه باللغة الانجليزية مستندا إلى مؤلف وليم جيس المختصر في علم النفس. وكان مرد إلمام أبي بالانجليزية إلى كون والدته، فاني هاسلام مولودة في ستافوردوشاير لأسرة متحررة من نورثميرلاند، اذ حملتها ظروف غير اعتيادية إلى أمريكا الجنوبية. فقد تزوجت الأخت البكر لفاني هاسلام مهندسا ايطاليا يهوديا يدعى خورخي سواريس هو الذي أدخل على الأرجنتين أولى حافلات الترامواي التي تجرها الخيل، واستقر هو وزوجته في هذه البلاد واستقدم اليها فاني، اذكر سالفة من تلك الحقبة. كان سواريس ضيفا على "بلاط" الجنرال أوركويزا، في أنثري ريوس، واقترف خطأ ان يفوز في الدور الأول للعبة الورق على الجنرال وهو طاغية المقاطعة الذي لا يتوانى عن قطع الرقاب، فور انتهاء الدور سارع بعض الضيوف المجربين إلى ابداء النصح وقالوا لسواريس إنه إذا أراد أن يحظى بالموافقة على تسيير حافلاته في انحاء المقاطعة، فما عليه، قطعا إلا أن يخسر كل مساء حفنة لا بأس بها من النقود الذهبية خلال اللعبة. ولأن أوركويزا لاعب أخرق إلى أقصى الحدود عانى سواريس الأمرين لكي يتمكن من خسارة المبالغ المطلوبة.
في بارانا، عاصمة مقاطعة انتري ريوس، التقت فاني هاسلام، الكولونيل فرنسيسكو بورخيس. كان ذلك في عام 1870 أو 1971، خلال حصار المدينة من قبل (0المونتانيروس"، ميليشيا الرعاة أنصار ريكاردو لوبيز خوران. وكان بورخيس الوافد رأس فرقته، قائدا للجنود الذين يدافعون عن المدينة. رأته فاني هاسلام من على شرفة منزلها. وفي الليلة نفسها أقيم حفل راقص احتفاء بقدوم القوات الحكومية المتحررة، فاني والكولونيل التقيا ورقصا سويا وتحابا فأفضى بهما ذلك إلى الزواج.
كان أبي أصغر الولدين اللذين رزقاهما، ولد في أنتري ريوس وكان من عادته ان يشرح لجدتي، وهي الانجليزية الجديرة بالاحترام، بأنه ليس حقا من أبناء أنتري ريوس، لأن "أمه حبلت به في البامبا". وكانت جدتي تجيبه آنذاك بكل التحفظ الذي يؤثر عن الانجليز: "اني لا أدرك ماذا تقصد حقا". غير أن ما كان أبي يردده هو صحيح فعلا، ذلك أن جدي كان في مطلع السبعينات قد عين، في البامبا، قائدا عاما للحدود الشمالية والغربية لمقاطعة بوينس ايوس. وفي طفولتي سمعت الكثير من الحكايات التي كانت فاني تسردها على مسمعي وتدور حول الحياة في المناطق الحدودية في ذلك الوقت. وقد نقلت وقائع احداها في "حكاية المحارب والسيرة". لقد أتيح لجدتي أن تلتقي عددا من زعماء الهنود الذين كانت أسماؤهم الغريبة، على ما أعتقد، سيمون كوليكويو، وكاترييل، وبنسين ونامونكورا. عام 1874 في أثناء إحدى حروبنا الأهلية، وافت المنية جدي، الكولونيل بورخيس. كان عندها في الحادية والأربعين، فقد أرغمته ظروف هزيمته في معركة لافردي على التنقل ممتطيا حصانه، مشتملا بالبانشو الأبيض، ومتبوعا بعشرة رجال أو اثني عشر رجلا، على مقربة من خطوط الأعداء التي أطلقت منها الرصاصتان الرمنغتون اللتان أردتاه. وكانت تلك هي المرة الأولى التي تستخدم في الغدارات الرمنغتون في الأرجنتين. ولا أملك الا أن يذهلني، كل صباح، مجرد التفكير في أني استعمل شفرات من نفس ماركة البندقية التي أردت جدي.
كانت فاني هاسلام شغوفة بالقراءة، وكان الناس لا ينفكون يرددون على مسمعها، هي التي تخطت الثمانين، ظنا منهم أنهم بذلك يسعدونها، بأن في أيامنا هذه لا نجد كتابا يضاهون ديكتر وثاكري، فتجيبهم جدتي: "إذا أردتم الحق اني اؤثر على من ذكرتم أمثال ارنولد بينيت وجيلسوورثي وولز".
وكانت قبيل وفاتها عن عمر يناهز التسعين عاما، قد اعتادت أن تدعونا للجلوس بجانب سريرها وتقول لنا بالانجليزية (فقد كانت تتكلم الاسبانية بطلاقة ولكنها اسبانية ركيكة) وبصرتها الخافت: "إني امرأة عجوز تحتضر ببطء شديد. وليس في ذلك ما هو لافت أو غير معتاد". فهي ما كانت ترى أدنى سبب موجب لحال الاضطراب الذي يسود المنزل، بل كانت مربكة حيال الوقت المتمادي الذي يستغرقه موتها الوشيك.
كان أبي رجلا بالغ الذكاء، وعلى غرار الرجال الأذكياء جميعا، كان رجلا طيب القلب. ذات يوم أشار علي بأن أراقب مليا الجنود والبزات النظامية والثكن والبيارق والرهبان والمجازر، لأن كل ذلك على وشك أن يزول، ومأتمكن، على هذا النحو، من أن أحكي لأولادي بأني حقا شهدت كل ذلك. لم تتحقق نبوءته، لأسفي الشديد، إلى اليوم. كان أبي رجلا على قدر من التواضع جعله يتوق أن يكون، لو استطاع، غير مرئي. وعلى الرغم من افتخاره بنسبه الانجليزي، فقد اعتاد أن يسخر منه على سبيل الدعابة، فيقول متظاهرا بالحيرة: "في آخر الأمر، من يكون الانجليز؟ انهم مجموعة من العمال الزراعيين الألمان". كان شديد الاعجاب بشيلي وكيتس وسوينبرج، وكان شغوفا بمجالين من مجالات القراءة. تأتي أولا مؤلفات الميتافيزيقا وعلم النفس (بركلي، هيوم، رويس، ووليم جايمس). وفي المرتبة الثانية الأدب والمؤلفات التي تتناول الشرق (لاين،.بورتن، وبدين). فهو من كشف لي معنى الشعر ومغزاه – واقع أن الكلمات ليست أداة اتصال وحسب بل هي أيضا رموز سحرية وموسيقى. وعندما أنصرف اليوم إلى تلاوة قصائد بالإنجليزية، تقول لي أمي أن نبراتي هي هي نبراته. وهو أيضا- وان لم أدرك ذلك في حينه – أول من قرأ علي مبادئ الفلسفة. وفى صباي المبكر جدا شرح لي، مستعينا برقعة شطرنج، مفارقات زينون – أخيل والسلحفاة – والطيران الجامد للسهم واستحالة الحركة. وقيما بعد، ومن دون أن يأتي على ذكر بركلي، اجتهد ما أمكنه الاجتهاد في تلقيني المبادئ الأولية للنزعة المثالية.
أمي، ليونور آسيفيدو دو بورخيس، من أسرة عريقة أرجنتينية وأوروجوانية، وهي في الرابعة والثمانين من عمرها مازالت في صحة ممتازة، مقدامة وكاثوليكية صالحة. ففي عهد طفولتي كان الدين هو حمى النساء والأولاد. أما الرجال في بوينس آيرس فكانوا، في معظمهم، من ذوي الأهواء التحررية – مع أنهم لو طرح عليهم السؤال آنذاك لأجابوا جميعا، من دون شك، بأنهم كاثوليكيون. أحسب أي ورثت عن أمي فضيلة أنها دائما كانت تحسن الظن بالآخر انطلاقا من حسها العميق بالصداقة. فقد كانت أمي تهوى حسن الضيافة. ومنذ اليوم الذي تعلمت فيه اللغة الإنجليزية، كفت تقريبا عن قراءة أي شيء الا بالإنجليزية. اثر وفاة والدي، واذ شعرت بأنها باتت عاجزة عن التركيز على أي نص مطبوع، شرعت في ترجمة "الكوميديا البشرية" لوليم سارويان لكي تنكب على عمل ما. وقد صدرت تلك الترجمة في كتاب واستحقت عليها استحسان الجالية الأرمنية في بوينس آيرس، فيما بعد انكبت على ترجمة بضع حكايات لهاوثرن وأحد مؤلفات هربرت ريد حول الفن. كما أنجزت ترجمات لملفيل وفيرجينيا وولف وفوكنر يعتقد اليوم أنها لي. لطالما كانت بالنسبة لي رفيقا- خصوصا خلال هذه الأعوام الأخيرة، لما صرت أعمى- وصديقا مفعما بالتفهم والتغاضي. لسنوات طويلة والى وقت قريب، تولت هي أعمال السكرتارية لأجلي، فردت على الرسائل التي تصلني، وقرأت لي، ودونت ما أمليته عليها، ورافقتني في أسفاري الكثيرة، داخل بلادي أو خارجها، وهي التي، وان لم أفكر في الأمر آنذاك، نمت في، بروية وشدة، ما أنجزته في حياتي الأدبية.
جدها هو الكولونيل ايزيدور سواريس، الذي كان في الرابعة والعشرين حين قاد، خلال العام 1824، هجوم سلاح الفرسان البيروفي والكولومبي، والذي بفضله تغيرت موازين المعركة فأحرز النصر في معركة خونين في البيرو، كانت تلك المعركة هي المعركة ما قبل الأخيرة في حرب الاستقلال الأمريكية الجنوبية. وعلى الرغم من أن: سواريس كان ابن العم الشقيق لخوان مانويل دي روزاس الذي نصب نفسه ديكتاتورا على الأرجنتين بين 1835 و1852، فقد فضل حياة المنفى والعوز في مونتيفيديو على الحياة في ظل الطغيان في بوينس آيريس. طبعا صودرت ممتلكاته، وأعدم أحد أشقائه. فرد آخر من عائلة أمي كان يدعى فرنسيسكو دي لابريدا، وهو الذي أعلن في توكومان خلال رئاسته الكونجرس عام 1816، استقلال الكونفيدرالية الأرجنتينية، ثم قتل عام 1829 في غمرة حرب أهلية، والد أمي، ايزيدور آسيفيدو، الذي لم يكن رجلا عسكريا، خاض هو الآخر حروبا أهلية بين 1860 و1880. وبهذا أكون امتلكت أسلافا محاربين من عائلتي لأبي ولأمي. وقد يفسر هذا أحلام مصيري الملحمي الذي لم تشذ الآلهة أن أعطاه لحكمة منها دون شك.
لقد قلت فيما سبق انني أمضيت القسط الاوفر من مراهقتي بين جدران المنزل ولا فتقارنا لأتراب الطفولة عمدنا، أنا وأختي، إلى اختلاق رفيقين متخيلين أسيمناهما لأسباب أجهلها كويلوس وطاحونة الهواء. (وعندما مللناهما أخيرا، قلنا لأمي أنهما ماتا). لطالما كنت حسير النظر أرتدي نظارة، ناحل الجسم. وبما أن معظم أفراد عائلتي كانوا عسكريين – حتى أن أحدهم كان ضابطا بحريا- وليقيني بأني لن أكون مثلهم ذات يوم، فقد استبد بي، في سن مبكرة جدا، احساسي بالخجل من كوني شخصا لا يحب الا الكتب بدل أن أكون رجلا فاعلا. وطوال مراهقتي لازمني الشعور بأن حبهم لي هو من قبيل السلوك الجائر، كنت لا أستحق أن أحب، بأية حال، وأذكر أن يوم الاحتفال بعيد ميلادي كان يسبب لي حرجا لا يوصف، لأن الجميع يغدقون علي بالهدايا وأنا أشعر بأني لم أفعل شيئا لكي أستحقها وبأني، في ذلك الموقف، ألعب لعبة المحتال، ولم أتمكن من تخطي ذلك الشعور الا بعد أن تجاوزت الثلاثين. في المنزل كنا نتكلم الإنجليزية والاسبانية، سواء بسواء، وان سئلت عما كان الأشد تأثيرا في حياتي لأجبت على الفور: مكتبة أبي. وقد يخطر ببالي أحيانا أنني، في الواقع، لم أغادر تلك المكتبة يوما. فمازالت ماثلة أمام عيني، حجرة منفردة، غطيت جدرانها برفوف ذات واجهات زجاجية، ولابد انها كانت تحتوي بضعة آلاف من المجلدات.
كنت حسير النظر إذن إلى درجة جعلتني أنسى معظم وجو» تلك الحقبة (والأرجح أن حين أفكر في جدي اسيفيدو، إنما أفكر في صورته على ما أظن) ومع ذلك فاني مازلت أذكر بوضوح عددا من الرسوم التوضيحية في دائرتي معارف شامبرز وبريتانيكا. وأولى الروايات التي قرأتها كانت (HLJCKLEBRY) أعقبتها (Roughing it) و (Flush Days in California) كما قرأت كتب القبطان ماريا و (Les bremiess homes dows la lunu) لوليز، وادجار ألن بو وطبعة بمجلد واحد للونغفيلو، و (Llsle on heron) وديكنز، ودون كيشوت، (Ton Brouns school Days) ولويس كارول، و(Les Aventures de Mr. Vadaut Green) (وهو كتاب منسي الآن)، وألف ليلة وليلة لبرتون، كان كتاب برتون مليئا بما اعتبر آنذاك، اباحيات، وحظرت قراءته علينا، لذا قرأته خلسة، على السطح، غير اني كنت في تلك الحقبة مفتونا بسحر هذا الكتاب فلم أعر أي انتباه للفقرات الفاضحة، قارئا تلك الحكايات لا يساورني أدنى شك بأنها قد تنطوي على معنى آخر. تلك الكتب التي ذكرتها كنت قد قرأتها بالانجليزية. وعندما قرأت، فيما بعد "دون كيشوت"، في نصها الاصلي بدا لي النص ترجمة رديئة، ومازلت أذكر جيدا تلك الاغلفة الحمراء السميكة التي تحمل عناوين بأحرف مذهبة، التي كانت تصدرها دار نشر غارينيه. ثم جاء يوم تبعثرت فيه مكتبة أبي وعندما قرأت "دون كيشوت" في طبعة مختلفة، أحسست بأن هذه ليست "دون كيشوت" الحقة.. فيما بعد استحصل لي صديق على نسخة من طبعة غارينيه وفيها الرسوم نفسها والهوامش ففيها في أسفل الصفحات ملحق تصويب أخطاء الطباعة، نفسه، فكل هذه الاشياء كانت بالنسبة لي، جزءا لا يتجزأ من الكتاب. فكان ذاك في نظري هو "دون كيشوت" الأصلي، بالاسبانية قرأت أيضا عددا من مؤلفات ادوارد جوتييونير عن الخارجين على القانون، وديوسبيوادوست الارجنتيني- وفي طليعتهم خوان مورييرا- بالإضافة إلى كتابه(Siluetas militare) الذي يتضمن سردا حماسيا لمصرع الكولونيل بورخيس. وكانت أمي قد حظرت علينا قراءة "مارتن فبيرو" لأنه كتاب لا يثير الا اهتمام الدنيئين وتلامذة المدارس، ناهيك عن كونه لا يتحدث عن الرعاة الارجنتينيين الفعليين. هذا الكتاب أيضا قرأته خلسة. وكان رد فعل والدتي مبنيا على واقع ان هرنانديز هو أحد أنصار دي روزاس، وهو تاليا، عدو اسلافنا أنصار الحزب الوحدوي. كما قرأت (Facundo) لسارمينثو، وعددا كبيرا من المؤلفات حول الميثولوجيا الإغريقية، وقيما بعد، حول الميثولوجيا الاسكندنافية. وقد طرقت الشعر من باب اللغة الإنجليزية – شيلي، كيشس، فيتزجرالد سوينبرن، الشعراء المفضلين لدي وبإمكانه ان يتلو الكثير من أشعارهم وغالبا ما كان يفعل.
لقد كان الشغف بالأدب تقليدا متوارثا في أسرة أبي فشقيق جده، خوان كريسوستومو لافيندر، كان أحد أوائل شعراء الأرجنتين. ونظم نشيدا حول مقتل صديقه الجنرال مانويل بلغرانو عام 1920.
أحد ابناء عم أبي، ويدعى آلفارو مليان لافينور، الذي أعرفه منذ صباي، كان شاعرا قليل الشأن ولكن ذا حظوة استطاع فيما بعد أن يصبح عضوا في أكاديمية الآداب الأرجنتينية، وجد أبي لوالدته، ويدعى ادوارد يونج هاسلام، كان قد أصدر أحدى أولى الصحف الانجليزية في الأرجنتين، الـ (Southern)، وحائزا على شهادة الدكتوراة في الفلسفة او الآداب، ما عدت أذكر بالضبط، من جامعة هايدلبرنج. اذ لم يكن هاسلام يمتلك الإمكانات المادية التي تخوله الالتحاق باكسفورد أو كامبريدج، فتوجه إلى ألمانيا حيث نال شهادته بعد أن أنهى كل دراسته باللاتينية. وفي النهاية توفي في بارانا. ألف أبي رواية نشرها في مايورك عام 1921، حول تاريخ انتري ريوس.
كان عنوانها: "الكوديلو" (الزعيم). وألف أيضا (وأتلف) كشكول دراسات، وأصدر ترجمة لعمر الخيام نقلا عن ترجمة فيتزجيرالد ملتزما تشطير الأبيات كما وردت في الأصل. ألف كتابا هو عبارة عن مجموعة حكايات شرقية – على غرار ألف ليلة وليلة – مسرحية مأساوية، عنوانها (Hicia la noda) (نحو العدم) تدور أحداثها حول اب محبط من ابنه، كما نشر عددا من السونيتات الجميلة محاكيا اسلوب الشاعر الأرجنتيني أنريكي بانكس. منذ طفولتي، ومذ صار أبي كفيفا، توافق جميع من حولي على ضرورة أن أتمم المصير الأدبي الذي لم تشذ الظروف أن يكون لأبي. كان أمرا بديهيا (فمثل هذه الأمور أشد تأثيرا من تلك التي يعبر عنها ببساطة)، كان المرتقب في أن أصبح كاتبا.
كان أول عهدي بالكتابة حين كنت في السادسة او السابعة، حاولت ان أقلد الكتاب الكلاسيكيين باللغة الاسبانية – ميجيل دوسرفانتس، على سبيل المثال. وألفت بانجليزية رديئة جدا نوعا من التاريخ الميسر للميثولوجيا الكلاسيكية، أحسب انه كان سرقة موصوفة لمؤلف لمبريير.. كانت تلك، على ما اعتقد، خطواتي الأولى في عالم الأدب. وقصتي الأولى كانت حكاية عجيبة، كتبتها مقلدا سرفانتس – رواية فروسية عثيثة عنوانها: (La visua ratal) (مقدم الخوذة القاتل)، كنت أنكب على كتابة مثل تلك الأمور على دفاتر مدرسية، وكان أبي حريصا على عدم التدخل فيما أفعل، اذ يتيح لي سانحة أن اقترف أخطائي الخاصة، حتى أنه خاطبني ذات مرة قائلا: "الأولاد هم الذين يربون آباءهم وليس العكس". "حين شارفت على سن التاسعة ترجمت "الأمير السعيد" لأوسكار وايلد، إلى الأسبانية، ونشرت تلك الترجمة في أحدى صحف بوينس آيرس، EIPais وبما أنها حملت توقيع "خورخي بورخيس" كان من الطبيعي أن تنسب تلك الترجمة إلى أبي (….).
ترجمة: بسام حجار (شاعر ومترجم من لبنان)