حياتي الحالمة هي ضحية الصيف الذي تركتني فيه زوجتي مثل سراب يتلاشى تدريجيا، كلما اقتربنا من نهايتنا، طوال سنوات زواجنا الأربع عشرة وأنا أحلم مصورا كل ما عرفته وما تخوفت منه وما أحببته من العالم المستيقظ في رقادي، فإذا رأيت حيوان الجيران (ولنقل حصانا أو كلبا مثلا) فسأرى العشرات من تلك الحيوانات في أحلامي تلك الليلة, الحيوانات التي أفهم لفتها جيدا وأكن لها الاحترام, الحيوانات التي أندب حظها مثلما أندب حظي.
في ساعات الصباح الأولى بعد ولادة ابننا البكر، كنت أشاهد سربا من الحمام من غرفة المستشفى التي كانت ترقد فيها زوجتي، كانت المئات منها – كأي طيور سارحة العيون – ترفرف بأجنحتها وتلتف في هرج ومرج في الهواء يزقزق طائرها زقزقة حزينة مدوية متواصلة مثل ثرثرة الحفلات.
بعد ساعات, كنت نائما في البيت عندما سمعت ضجة متميزة فطيور الحلم تلك كانت تثرثر وكنت أتحسس الحديث الذي تتناقله بينها حتى أني استيقظت من نومي مبتسما وكأني سمعت أسرارا تكفي حيويتها لأن أعيش بها. أينما كانوا. كنت شمالا أو جنوبا. في مناخ حسن أو رديء.. صوب الأ شجار أو قرب شاطيء
.. فوق السقوف أو في الوديان.. كنت خلال ساعات النعاس حمامة.
مرة أخرى وأنا أقضي العطلة في (ديزني لاند) صرت الناس الذين مررنا بهم في الطريق, أولئك الذين ضخوا لنا الوقود أو الذين طبخوا لنا الهمبرجر أو الذين وقفوا وراء طاولات الفنادق التي مكثنا فيها… صرت النادل في مطعم (الفونيكس ).. صرت السيدة الشقراء الواقفة عند مدخل حديقة حيوانات (سان دياغو) وكان طفلها إما مصابا بمغص أو متخما جدا… صرت سواق السيارات التي اجتزناها خلال الستين ميلا في الساعة.. صرت المواطنين الذين أشرنا حول أوطانهم في الأطلس: سانتا تربارة, لاغونا بيقش, سان ماتيو، اني سددت أثمان قوائم جمعياتهم وتسوقت وأكلت وتذمرت عوضا عنهم.. في نهاية أسابيعنا الأربعة, عندما كنت أسوق من (سان فرانسيسكو) جنوبا نحو بيتنا في (لاسكروسيس )، كنت في الأعالي.. كنت الطيارين الذين ثرثرتهم متميزة مثل ثرثرة الطيور..
ولكن عندما تركتني كارين توقفت أحلامي عن النبض لم تتوقف على نحو مفاجيء كانتهاء شريط حياتي الروحية, وانما توقفت تدريجيا وكأن العالم الذي في داخلي أصبح عرضة للتآلحل بفعل العناصر الطبيعية للماه والهواء ويفعل العناصر غير الطبيعية للكآبة وانعدام الحب.
كنت في ليلة وحدتي الأولى كأي جنرال.. كأني جورج أرمسترونج كوستر بشعره الأشقر وشريطا الذهبي المجدول في سترته الحريرية الضيقة التي تشد على بطن رجل كسول مثلي.
كان صوتي الحالم صارما ومفردات لفتي متقنة وجادة كتلك التي نقرأها في أي كتاب مدرسي.
عندما رن المنبه, استيقظت من ذلك الحلم الذي أصدرت فيه أوامر مطاعة بكل سرعة وسرور وسمعت أسمي ينادى به كثيرا استيقظت قائلا: "نعم, هل من خدمة ؟".
وقفت بانشداه (كما أتذكر) بجانب السرير (كما اعتقد) يقظا مثل حارس متمنيا أن أعرف الطاريء الذي أعادني الى ضوء النهار ثانية. قلت: "كارين ؟", "ما الخبر؟" وبرغم اني كنت بكامل وعيي الا أن نصفي الذي تركته كارين جانبا وذهبت عند أختها في (البازو) كان يؤمن بأنها ما تزال هنا، إن لم تكن في الحمام فمن المؤكد أنها في المطبخ. دخلت ال فندقي (دنبي) باحثا عنها. بدت غرف النوم خالية مهجورة الأسرة مرتبة, الخزانات مقفلة, الدمى في مواضعها، فتشت عنها وكان اسمها مايز ال يتردد في ذاكرتي.
هنا شجيراتها (السرخس والوردية )، هنا كتبها ومعظم ملابسها سواها هي.. ليست هنا.. عندما فتحت باب الفناء متأملا شجيرات الورد التي زرعتها في السنة الماضية انهارت قواي، شعرت كمن أصابته لكمة قوية, كنت مصعوقا حقا… شيء مرعب جعلني أتهادى قسرا.
ناديت ثانية: "كارين ؟" الا أنني لم أكن أعنيها هذه المرة, فاسمها ليس سوى كلمة تمثل شيئا لن يكون هنا أبدا كلمة ترمز الى الغياب مثل الظلمة نفسها اذ تمهد السبيل لليقظة. في الأسابيع التي تلت ذلك, كانت أحلامي تأتي بسرعة وبصورة مشوشة غير متكاملة.. لم تكن لها بدايات,أما نهاياتها فلم تختتم وانما قطعت قطعا وكأنها مشاهد متسللة وصور ومضية خاطفة جمعها قلبي الأحمق المضطرب.
جاءت العائلة ثم ذهبت.. ولد أبنائي كبروا قاربوا سن البلوغ بسرعة مذهلة, والدي الغائب عن الأنظار ظهر الآن بقبعته الأنيقة مرتديا ملابس لعبة الجولف. لم يتكلم, لم أره كالسابق متسمرا عند واجهة التليفزيون وسيما، موظفة البنك الثابتة المشؤومة بل كان يضرب سائقا بين فينة وأخرى ضربة تستعرض المقدرة العقلية والعضلية بصورة يحسد عليها. كنت أرى أمي أيضا،فو أن يرخي الليل سدوله حتى تجلس عند حانة مسرح النادي الريفي بملابس السباحة ذات القطعة الواحدة غير الجذابة التي أشرطتها العريضة تحني الأكتاف أما تنورتها فهي تناسب الأطفال أكثر. كانت تحرك الماء بقدميها وهكذا دواليك مشيرة بنشوة غامرة صوب طفل نحيف ذي حفاظات تبعثر فينقع في حوض سباحة الأطفال.
ذات ليلة, شاهدت أصدقائي القلائل الذين عرفتهم في صباي ، مايك رونيان وجون ريزنار وجيمي بولارد – كما شاهدت أول بيت سكنا فيه _في ويسة نمالاجير.بقرب حقل القطن حيث كنا نتسابق بدراجاتنا الهوائية التي استبدلناها فيما بعد بالفورد المهترىء زي البابين, وشاهدت كلية (تاكساس ) التي لم أتمكن من التخرج فيها وحجرة القسم الداخلي التي عشت فيها وحانة الزيات "اليك والأسر" التي سكرت مرة فيها حتى الثمالة. كلها ذكريات تصيبني بالحزن والأرق.
في أحيان كثيرة, كثيرة جدا لا يسعني تعدادها، أشاهد وجوها وأحداثا مصطفة جنبا الى جنب وكأن علي أن أقارن بينها، وكأن علي أن أجد صلة بين ما يقع في اليسار حيث زوجتي في ا´بيت بملابس السهرة وبين ما يحدث في اليمين حيث أنا في مقهى النادي الريفي لم أشاهد شيئا.. لا معنس للأشياء ولا أهمية.. لم أكن ز دائرة الأشياء.. بعيدا عما كنت أراه في رقادي وبعيدا عما كنت أراد في يقظتي.
كنت آوي الى فراشي بعد أخبار الساعة العاشرة وقبل أن أهيىء المنبأ وأطفية المصباح أتساءل مع نفسي: يا ترى أية أحلام بلهاء غريبة بائسة أو بهيجة ستأتيني: لم أحلم مرة بعملي بوصفي مدرس رياضيات الصف التاسع ولا بأي من الذين أعرفهم, لم أحلم بمديري وصديقي المفضل فيرب سوثيمان ولا بسكرتير ته أميلي روبرت ولا بأي من الصبيان الذين دربتهم في فريق كرة القدم, بدأت أعتبر اللاوعي الذي تتدفق منا أحلامنا مثل شبكة صيد الأسماك التي نسيجها واسع جدا قياسا الى مجرى الحياة في أيلول, قذفت بي أحلامي الى العمل. فكنت كل ليلة أقطف الأوراق من أشجار لاوجود لها، كنت أقطفها ورقة ورقة ثم أجمعها أكواما حتى أذني.
كتبت اسمي بإحدى يدي ثم كتبت باليد الأخرى، كتبته بالحبر وبالقلم العادي، في ورقة مخططة وأخرى بيضاء. مرة, مشيت في نومي بعد أن أتملت بي كارين هاتفيا وكانت كماتها الأخيرة غير شخصية اطلاقا حتى أن سكان المريخ يمكنهم أن يتفوهوا بها، كان حلمي يجسد ظمأ، فحينما هدأ المنبه وأنا واقف نائم وجدت خمسة أقداح من الماء وأود أن أخبرك الآن بأني شربتها جميعا على نحو بطيء وجاد وكأني لم أجرؤ، وكأن ما أمرتني أحلامي القيام به جزاء الاهمال الذي أصابني لا يقل عن الموت نفسه.
نعم, تجرعتها، وبعد كل جرعة في أثناء الصمت الجليدي ما بين وضع قدح ورفع آخر كنت أتخيل نفسي مع كارين في فترة زواجنا إذ كنت شابا عاقلا لا يعرف ما يضمره الزمن للحب.
بعد سنة تقريبا جاءت آخر أحلامي, إذ كان ذلك إثر انتهاء اجراءات الطلاق فعرفت أن علي أن أمضي مجددا في طريقي. كان ذلك قبل بضع سنين إذ كنت ألعب )البوكر) في حجيرة الرجال في النادي الريفي. كنا خمسة, كلهم متزوجون ما عداي. وعشرون دولارا هي كل ما يمكنك أن تخسره في هذه اللبة المحددة بربع دولار، ولمحنا نحتسي الشراب ونطلب شطائر اللحم من مشرب الطابق الثاني، ولما نتأخر نستحم أو نفطس في المسبح أو نخرج الى ميدان السياقة لنصبر مجانين.
في ليلة الحلم ذاك, كنت آخر من غادر ولم يكن لمشهد كسب النقود أي تأثير علي, ليس هناك مكان للذهاب اليه فايدي ذهب الى بوني في البيت وماكس ذهب الى جين أما الآخرون فذهب كل واحد منهم الى زوجته, وأنا كنت هناك مرتميا على كرسي مسرفا في الشراب مصفيا الى أصوات الشواء وما يتقطر من اللحم في قدور الهواء الطلق.
ألقيت بنفسي في حوض السباحة بكامل ملابسي وأ حذيتي تماما مثلما كنت أفعل في طفولتي منجذبا نحو النهاية العميقة خمسة عشر قدما تحت الماء حيث السكون الثقيل وضغط الماء الذي يغمرني ليزيد من وقع جاذبية الأرض علي, كنت أغوص عميقا في الماء محاولا تأجيل عودتي الى اليابسة بقدر المستطاع.
شعرت بتحسن فلدي زوجة تعيش في مكان ما وأبناء لم يصبهم ما حدث بأذى كبير ووظيفة لا بأس بها والأهم ه ن ذلك كله, لدي ليلي الخاص بنجوما المتناثرة التي تكفي لأن تمنح كل وطن أمنية وغيومه التي تخبرك بقدوم المطر ونسائمه التي تجلب معها شذى الأزهار التي غرسناها في الجوار في وادي سيسيلا, أتذكر أني غنيت وها أنا الآن أستمع لذاك الغناء ثانية وكأني غريب عن نفسي مخاطبا إياها في غضون الليل: هنالك رجل يفني بصوت خدشته السجائر والكحول, انه رجل سعيد.
علقت ملابسي الندية عل السياج الحديدي وتأملت المكان. أمعنت النظر في البنايات.. واجهة السوق.. قاعة الرقص.. غرفة السيدات في الطابق العلوي.. وخلف ذلك كلا قريتي التي ثلثها لا ينام وليس له عمل يؤديه.
بامكاني من هنا أن أرى هايبرت وهو يدق المسمار وأن أرى مسرح روعيت وأن أرى مركز لوريتو التجاري الذي محا منعطف الشارع الرئيسي عن الأنظار. بإمكاني أن أسمع محركات السيارات التي تصدر أصواتا خافتة متواصلة.. وعجبت لمن كان هناك !
تمنيت لو كان بامكاني أن أزيح التل الذي أمامي لأتمكن من الاشارة الى بيتي والبيوت التي أمر بها يوميا في طريقي ال مدرسة (الاميدا) المتوسطة.
كنت أجمع شتات عالمي مثلما تجمع الأحلام شتات نفسي. أينما أنظر، أكشف عن شيء ما. شجرة صفصاف.. مرآب.. قد يبدو الشي ء أحل من هنا أو هناك أو هنالك.. شعور مجرد منحني اياه جاك دانيال الذي أحبه, شاهدت العالم الذي تمكنت من تشييده في خيالي لأجل ستين ألف نفس بشرية تشاركني فيه, فالبيت أصبح في خيالي قلعة.. برجا.. مصباحا شارعا. وكأني كنت أحل مسألة رياضية لصفي (س ) مع (ص / و(أ) مع (ب ).
بعد مرور ساعة من الوقت, جلست على كرسي بسيط بجانب حوض السباحة فقد أصبحت هذه القرية الواسعة في (دونا آنا كاوتني) تلفت الأنظار الى طرازها العتيق وتضم مختلف الأجناس اليها فمنذ قديم الزمان ونحن نتوق الى مثلها دون جدوى. كان للمرح والطرب والبهجة والفضيلة أوجه عديدة تلك الليلة حتى اني وضعت كل ما سرقه الزمن وما هشمه وما أحزنه في الجيوب والقلوب والعقول, ثم حلمت.
أؤمن بأننا نسمع الكثير عن حقائق ذواتنا ودواخل حياتنا من خلال الكتب والمجلات والتليفزيون, فنسمع بأننا حسنون أو سيئون, كالكلاب أو ليس كالكلاب, كالملائكة أو ليس كالملائكة, فينا خلل أو بالفون حد الكمال, فنضيع وسط القيل والقال الذي يفشي به المعلمون والواعظون والأساتذة والسياسيون والأطباء وكل الخبراء الثرثارين, ولكننا لا نمس ذواتنا الحقة ولا نعرف لغتها الخاصة ولا نتوغل فيها الا في الأحلام, أحلام الحمام وأحلام الماضي وأحلام الراحلين منذ زمن بعيد.
قراءت في حلمي الأخير صحراؤنا التي تحيط بـ (لاس كروسين) حيث آلاف الأميال المربعة من الرمال والصخور والأدغال التي يقول عنها صوت القيامة: انها ستكون يوما بيتك.
كان عالما راكدا مجدبا مثل المقلاة وفي الحافة وميض خاطف كالبرق. كان عالم من السمرات الحمر والصفر والخضر وكل الألوان التي يحبها الشعراء، فيشرق نور المكان ويتلألأ هنا وهناك وحلمت بأني كنت وسط كل ذلك في مفترق طرق مجهولة وفي العمر نفسه, تسع وثلاثون سنة وبصمة جيدة. كان بامكاني أن أذهب يمينا أو يسارا أو الى الامام ولكن الخيار لا يهم الرجل الذي كنته حينذاك.
كنت أعرف أن علي أن أرى شيئا ما, ولم يمض وقت طويل حتى رأيت شيئا في الأرض النائية اليباب التي تضيء بوهن, رأيت نفسي.. أسود مقابل أبيض.. عملاق في أرض ضئيلة.
قلت:"حسنا.. حسنا".. كانت ذاتي وهي العالم المكون مما كنته وفعلته تحادثني بروية وهدوء، وكنت أسمع وأفهم ما تقول. ثم تقدمت صوب نفسي, شاهدت الرجل الذي أكونه الآن وهو يمشي صوب الماء الذي كنته ويحتضنه مثلما يحتضن الأب أطفاله, يتعانقان, المستقبل يهز مهد الحاضر والحاضر فك وثاق روحه ومشابكها وأقفالها وسلمتها للآخر عن طيب خاطر.. كانا هناك, كلاهما في:رض الأحلام تحت السناء وفوق الجحيم.. صورتا رجل واحد تتعانقان عناقا لا ينتهي الا عند القيامة.
عن الكاتب
لي. ك. آبوت: كاتب أمريكي معروف أصدر عددا من الكتب آخرها مجموعة قصصية بعنوان "غرباء في الفردوس ". وهو يعمل محاضرا في جامعة كليفلاند. القصة المختارة "أحلام الحيرات النائية " مأخوذة من كتاب موسوعي بعنوان "أحسن القصص الأمريكية القصيرة في عام 1987".
أحلام الحيوات النائية
لي.ك. آبوت
ترجمة: دينا ميخائيل(كاتبة تعيش في أمريكا).