يروي الكاتب الأرجنتيني خورخي لويس بورخيس في إحدى حكاياته أنّ رجلا فكّر في رسم صورة للعالم فملأ بمرور السنين، لوحةً بصور الممالك والبلدان، والخلجان والسفن وجزر الأسماك (…) ليكتشف قبل موته بقليل أن متاهة الأشكال تلك لم تكن في الواقع سوى صورته هو.
لعل هذا هو حال الكاتبة الفرنسية هيلين سيكسو في كتاباتها السردية التي تبدو حفراً متواصلا ومحموماً في جسد العالم، وجسد اللغة باعتبارها وعياً به، في سعي لرسم صورة للذات، رغم إدراكها لصعوبة الوصول إليها، وايمانها بعدم ثبات الكائن البشري وبتعدّد الأنوات فيه وصعوبة حبسه في هوية مغلقة، هي، الفرنسية الجنسية، الجزائرية المولد والنشأة (غادرت الجزائر إلى فرنسا في سن الثامنة عشرة) اليهودية الأصل،(سفارديم من جهة الأب وأشكنازية من جهة الأم الألمانية الأصل).
هي التي كانت إذا سؤلت عن لغتها الأم أو تساءلت عنها لا تدري ماذا تجيب فهي قد تكون العربية أو الألمانية أو فرنسية شمال افريقيا، ومع أنها اختارت الفرنسية لغة تكتب فيها أدبها إلا أنها رفضت أن تسجن فيها فكتبت من حين إلى آخر باللغة الإنجليزية، هي التي ناضلت أيضاً ضد الاندماج الكامل في الهويّة الفرنسية بالقدر الذي ناضلت فيه من موقعها كواحدة من أبرز الناقدات النسويات ضدّ أن تحبس في مفهوم المرأة، ومن موقعها كمبدعة ضد أن تسجن في نوع أدبي معين فكتبت الرواية والمسرحية والشعر والكتابات الذاتية العصية على التجنيس،أو أن تسجن في حقل معرفي واحد فاشتغلت بالنقد الادبي والفلسفة والتحليل النفسي والانثروبولوجيا.
في كتابها «أحلام المرأة الوحشية» الذي ننقل هنا بعض صفحاته الأولى(٭) تعود سيكسو إلى سنوات طفولتها في الجزائر وهو ما لم تفعله من قبل، محاولة، عبر سينوغرافيا حلمية، انطلاقاً من الأصل، من مسقط الرأس والأمكنة الأولى، رسم بعض المشاهد الأصلية (وهذا هو العنوان الفرعي للكتاب، في إشارة للمصطلح الفرويدي) تعيد من خلالها بناء الماضي عبر كتابة اعترافية متشظيّة يخترقها التخييل الأمر الذي يخرجها من إطار البنية التقليدية لرواية السيرة الذاتية.
تكتب سيكسو بلغة فرنسية تصفها بأنها مهجنّة تحمل في أعماقها آثار لغات أخرى كالعربية والإسبانية واللاتينية المهجورة وهي تعمل على تثويرها من خلال اشتغالها على إعادة اكتشاف ينابيع أصول الكلمات من جهة، وعلى السعي لابتكار كلمات جديدة من جهة أخرى، هذا بالإضافة إلى خروجها على النحو أحياناً وإهمالها علامات الترقيم أحايين كثيرة مما يجعل نصوصها عصيّة على الترجمة.
أحلام المرأة الوحشية
(١)
«طيلة الوقت الذي عشتُه في الجزائر كنت أحلم بأن أصِل يوماً إلى الجزائر، كنت على استعداد لفعل أيّ شيء كي أصل إليها- هذا ماكنت قد كتبتُه – لم أجد نفسي في الجزائر أبدا وينبغي الآن تحديداً أن أفسّر ذلك، كيف أردت أن ينفتح الباب، الآن وليس غداً-كنت قد دوّنت هذا على عجل- في حمّى ليلةٍ من ليالي تموز، ذلك أنّه، الآن، وربما لعشرات الأسباب أو مئاتها، ثمة باب قد انفتح قليلاً في رواق النسيان في ذاكرتي، وللمرّة الأولى ها قد باتت لديّ إمكانية العودة إلى الجزائر، وبالتالي الواجب ..»
كنت قد كتبتُ هذا في قلب ليلةٍ من ليالي تموز وكما يحدث لي أحياناً حين يبزغ كتاب، دائماً في قلب الليل، منتظَراً بالطبع، ومأمولاً فيه بصبر بالغٍ قادرٍ على منح كل ثقة ممكنة وكل خشوع يمكن أو يستحيل تصوره كنت قد كتبت تلك السطور تحت تأثير الانبعاث المنتظر ولكن اللامتخيّل للكتاب الذي كان يريد حقاً أن يستسلم لتوسّلاتي الخجولة للغاية، وكما أفعل عادةً في مثل حالات التجلّي الليليّ هذه،كنت قد كتبت دون أن أشعل الضوء لأتجنّب المخاطرة بجعل (القادم) يهرب، سرعان ما أمسكت دون إصدار أيّ ضجة بالدفتر الذي لا يفارق وسادتي أبداً وبقلم الحبر عريض الرأس الذي يسمح بالكتابة على الورق بخطّ بارز وبسرعة. كنت قد دوّنت السطور الأولى التي كان يمليها عليّ (القادم)، مالئةً الصفحة الكبيرة، في العتمة، بدفقٍ متسارعٍ من العبارات التي لا تقدّر بثمن، فهي خميرة الكتاب وهبة الآلهة التي لا أعرف حتى اسمها بعد أن تلقيّتُ الزاد المقدّس غامرتُ بإشعال الضوء، وكما لو أنّ في فمي، فم الروح واليد، وعلى لساني الليليّ خبز الذبيحة الذي يبعث جسد (القادم) ودمه في جسدي، كتبت، متشرّبة إيّاه، بعد البذرة الأولى، أربع صفحات كبيرة بسطور متراصّة وخطّ سميك عجول، تفوح منها رائحة الحبر التراب الخفق المتسارع العرق الأنف اللاهث، صفحات حيّة، مكتنزة، قويّة، غزيرة، يثير عطاؤها الحماس كنت أتهلّل فرحاً،، فكّرتُ : سأقدّم الشكر لمن وهبونيها غدا أربع صفحات هائلة لها كلّ فضائل ما هو قابل للحياة، ما يعني بالنسبة لي أن ليس عليّ سوى المضيّ إلى ما هو أبعد، فحين نحصل على هذه البداية ليس علينا سوى المضيّ قدماً في ذلك الاتجاه. بالطبع، يتوجبّ علينا العمل بكلّ ما أوتينا من قوة لكنّ الأساس حاضر،والباقي ممكن ولا يتطلّب من المرء سوى استدعاءٍ استثنائيٍّ لطاقاته.
نهضت مع الفجر الصافي، هادئةً، مصمِّمة، مكلّلةً بهالة، طافحةً بالرضا : فطوال الليل، عبر فيض غزير من الأحلام وخليط من الحضارات، أرسلتْ إليّ الجزائر صناديق من الرؤى وآثار الذكرى، بعثت طروداً اجتازت آلاف الحواجز معيدة للحياة من جديد شخصيات كان النسيان قد طواها تماماً. تظنّين أنْ ليس ثمة شيء طيّ الركام، ولكن إنحني قليلا من على الشرفة! ما الذي تريْنه ؟ محمّد! كنت أرى : محمّد! الذي لا بدّ أنّه قد مات منذ أمد بعيد، لم أره فحسب، بل شممتُ روائحه وفكّرت : لست فقيرة ومهجورة بالقدر الذي كنت أظنّ. محمّد بشحمه ولحمه مقيماً في بيت السلّم في شارع فيليب. كنت قد كتبت بسرعة الكلمات التالية كإشارة لمحمّد : قصعات، سلال من القنّب ولم أعد أدري ماذا أيضاً.
وها أنا الآن لم أعد أعثر عليها. من الصفحات الخمس التي كنت قد كتبتها بفرح لا يحدّ والتي لم أخترعها إذ أنني رأيتها مكتوبة، لم أجد سوى نصف الصفحة الأولى التي كنت قد كتبت فيها دون أن أشعل الضوء هذه السطور:
«طيلة الوقت الذي عشتُه في الجزائر..الخ» إلى «واجب» أمّا الباقي فقد اختفى. أمرٌ مستحيل.
شرعت أفتّش عنها، حولي الكثير من الأوراق، المئات، ربما ألف، لم أجدها. عدت للبحث ثانية ولكن بدِقّة وعصبيّة متزايدتين بدأت أغلي، خلعت كنزتي الصوفيّة، بحثت في الملفات التي كان من شأن الحماقة وحدها أن تلهمني دسّ تلك الأوراق فيها ، ولم ألبث أن عدت للبحث في الملفات ذاتها بعدها بقليل، ما كنت لأعود قادرة على التوقف عن البحث عنها وعن عدم العثور عليها وقد ملكتني حتّى الهذيان فكرة أنّي لن أستطيع في أيّ حال من الأحوال التوقف عن البحث عنها دون العثور عليها. بات الأمر قضية حياة أو موت، لم أعد قادرة على فعل شيء آخر عدا التنقيب في مئات الأوراق وتقليبها وتصفّحها، ما كان لشيءٍ في العالم القدرة على كبح جماحي. كانت قد انقضت ساعتان، ساعتان هما الأغلى بالنسبة لي، فقد كنت أزمع أن أكمل فيهما، نهاراً، تلك الصفحات الرائعة التي لم توهب لي إلا ليلاً، ساعتان انقلبتا من الأمل إلى اليأس الأشدّ عنفا، كنت أحفر قبري بالتأكيد بدأت فكرة الانتحار تملأ حفرة الورق، وفي الوقت الذي كنت أقول فيه لنفسي أنّ عليّ التوقف كنت أسرّع إيقاع الحفر القاتل، كما أنّي لم أسع في أيّ لحظة إلى استذكار تلك الصفحات كانت فكرة استعادتها من الذاكرة مرفوضة، كنت أريد تلك الصفحات بعينها، الصفحات التي وهبت لي ثم تبخّرت بحيلة سحرية لا تفسير لها.
منطقيّاً، من المؤكد أنها موجودة في مكان ما لكني كنت أقف أمام جدار أتلمّسُه بيدي منتحبة، دون أن أجد الباب. عند الحادية عشرة صباحاً وقعت أيضاً ظاهرة سماويّة غير قابلة للتفسير : فجأة،اسودّت السماء تماماً وخيّم ليْل إنّني أروي الوقائع. دام ذلك الليل الخارق، المتقادح بالرعد غير المصحوب بالمطر، مدة ساعة. في ذلك الليْل الذي قاوم النهار حتى ساعة الظهر، كنت أفتّش وقد أشعلت الأنوار كلّها، لم يكن لدي خيار آخر ودون الكفّ عن التفتيش لاحظت توافق الإشارات. ولكن لم يكن ثمّة ما يمكن أن يخرجني من التزامي الجوّاني وما من أحد كان بوسعه فكّ السحر الرهيب الذي استحوذ عليّ.
ثمّ خطرت لي فكرة :كان يلزم موت، ربما موتُ أمّي لكي تنكسر القيود، نعم، ربما هذا فقط. ألمٌ بوسعه أن يجاري الألم الذي كان يقيّدني بالسلاسل كلّ ذلك في العتمة. لم يكن بمقدوري التخلّي عن ذلك. سنموت وليس ثمّة موت ليس ثمة ما هو أسوأ فكّرتُ كما تتأرجح شمعة نحو الانطفاء فكري يتأرجح ليس ثمة ما هو أسوأ، بل تقريبا أن أفقِد ولكن ليس تماماً بل أكاد أفقِد وأُنبَذ في الهواء?536; غير القابل للتنفّس على تخوم الموت دون أن يكون لي في الأمر حيلة، وما من مرفأ أو باب(١) آخر سوى موت أو ميتة. إنّه فيلم رعب، ليس سوى فيلم رعبٍ ربما، نقول، لكنّ الرعب يجمّد قلوبنا.
حسناً، قلت لنفسي ببطء بين انقباضتين في القلب عند نهاية الصبيحة الضائعة، المقدّمة قرباناً للجنون (في تلك الأثناء،كانت أمّي التي رأتني وقد أوشك القلق يقضي عليّ، تفتّش بدورها في كل مكان، في المطبخ، وفي صوان السفرة) حسناً هذا بالضبط ما كان يحدث لي مع الجزائر آن كنت أعيش فيها: كنت أملكها، أمسك بها- لم أعد أملكها، لم يحدث وأن ملكتها يوماً، لم أحضنها يوماً. بالضبط : كنت أجري وراءها ولم تكن بعيدة كنت أسكن في الجزائر : وهران في البداية ثم في الجزائر العاصمة، كنت أعيش في مدينة وهران وأبحث عنها. ثم كنت أعيش في مدينة الجزائر وأفتش عن مدخل إليها وكان يهرب مني، على ترابها، تحت قدميّ، لكنّه ظلّ عصيّ المنال، كنت أريد للباب أن ينفتح عليّ الآن أن أنجح في رواية تلك الرحلة التي صببْتُ فيها كلّ قوى حياتي باتّجاه الجزائر، كيف أمضيْتُ الشطر الأوّل من حياتي الوهرانيّة في البحث عن الصفحات الأربع بحماس وعناد، كيف انتهى بي الأمر إلى التخلّي عنها، على أمل أنّني سأنجح في الوصول إليها حين أبلغ مدينة الجزائر في النصف الثاني من نهاري، كيف في (كلو-سالمبييه)(٢) (تعرضت للحظة وهم عابرة تمثّلت بدخول أمّي إلى مكتبي قبل نصف ساعة، مشرقة الوجه، لظنّها أنها ستعيد إليّ الحياة بأن مدّت إليّ كرّاساً ميّزتُ فيه ! عن بعدٍ !كتابتي! شعرتُ للحظة أن قد جاءني الخلاص ولكن هذا الكرّاس لا، إنّه الكرّاس الذي أدوّن فيه أحلامي وقد كنت قلّبته مرّات عشر، ليس الذي أبحث عنه ليس هو. وكذلك في الحديقة،في (كلو-سالمبييه)، كنت أندسّ في حضن عائشة ما أن تنزع غطاء رأسها في الفناء الصغير الذي يقود إليه ذلك الجزء من الممرّ الكبير الذي يحاذي البيت من الجهة اليمنى أمام باب المطبخ، كان الشهود علينا دجاج القنّ قبالتنا، وإلى اليمين، حبيسةً في قفص شخصية الكلب فيبس الذي لم نكن نعي أنا وأخي، مثلنا مثله ، أنّا كنا نعيش هناك، في محيط دائرة من الأسمنت تدعى الساحة الصغيرة، كنت ألتصق بجسد عائشة فتدعُني، وهي تضحك، أحضن بلدها لبرهة صغيرة لا تتمّة لها سوى المئات من أبواب (كلو-سالمبييه) التي تلتفت نحونا من وراء سياج الحديقة بأجفانها المسبلة.
الحقّ أنّ الصفحات التي تلت تعلّقت بأمّي وما أسمته انتحارها،أي الطريقة التي تسبّبت فيها، بنفسها، بخسارتها لذاتها التي تجسدت بالعيادة التي كانت رائعتها، تحفتها، إبداعها وطاحونتها العجيبة التي تجيء بالأطفال إلى نور الجزائر،الخسارة الهائلة التي لا تساويها خسارة لأنّ أمّي وعلى العكس مني، ما كانت لِتتركَ الجزائر أبداً بطريقة أخرى( غير تلك المصيبة التي تدعى انتحاراً لاطوعيّاً ).
«طيلة الوقت الذي عشته في الجزائر »،كما شرحتُ بسطور بارزة ومتوهّجة في تلك الصفحات التي لا أستطيع أن أصدّق حتى الآن اختفاءها، اشتهيت الجزائر، ليس على نحو غامض وبلا مبالاة فحسب بل بإلحاحٍ، وبعنادِ من جنّ حبّاً. كان بوسعي أن أُمضي أياماً وشهوراً منتصبةً في الشارع، متربّصة، مطالبة بمعجزةٍ، بوصولٍ، بظهور طيف، مقتنعةً بأنّي سأحصل بقدرة الفكر الكليّة على ما لن أحصل عليه أبدا ولكن حين أفكّر أنّي أنا من استدارت على عقبيها ومن فكّت ذلك الارتباط ! وحين أفكّر أنني أنا من رحلَت وأنّ أمّي الألمانية هي التي بقيت!
ولكن في نهاية المطاف، تلك التي لم ترحل، التي لم يضنِها الحنين، ولم تقطع الصلة ولم تبحث، تلك التي وجدت نفسها دائماً دون أيّ مشقّة في الدروب المتعرّجة للمدن ومدن الصفيح، التي لم تخَفْ يوماً ولم ترغب ولم تنتظر ولم تصرّ بأسنانها والتي أدارت،بانتظام، العيادة التي كان يخرج منها كلّ سنة عدّة مئات من المواليد، تلك التي على العكس مني، كانت في المركز، في القلب، وفي الداخل، هي من طُرِدتْ من البيت نهاراً مرّة واحدة وللأبد. هي التي لم تطرد خادمةً ولا قابلةً أبداً بل كانت قد تجذّرت عميقاً في الرحم الكبير الذي ما كان لغير عملية إجهاض عنيفة أن تطردها منه. أمّا أنا، فلطالما سرت على حبال اللايقين إلى أن جاء اليوم الذي اخترت فيه أن أضع حدّا لذلكً، بعد أن أنهكتني محاولاتي التتشبّثَ بتلك الصلات.
كان الألم ذاته يصيبني بالجنون، ألَم أن لا أعثر على الشيء عينه، الذي أنا خالقتُه ومخلوقتُه، الشيء الذي كان بين يدي، الذي هو في بيتي، في، والذي أخذ يغزوني ، يحتلّني، يصعد إلى رئتي، أذني، رأسي، يملأني بغيابه، بانسحابه، والذي يجعل من جسدي كلّه ألماً(٣) لا يطاق.ولكن، فكّرت فجأة، قد لا يكون هذا الحادث غير المفهوم سوى انفتاح هاوية مفاجئ في قلب مكتبي الذي استندت إلى حافّته، ربما كان ثقباً في الكون أو في رأسي. ربّما هو، رحت أقول لنفسي، خلال ليْل الظهيرة الحالك الذي لم يكن ثمة ما هو أكثر واقعية منه، وأكثر غرابة في الوقت نفسه ،ربما هو حدث هذيانيّ مشؤوم.ولكن على العكس تماماً، الأمر يشبه كثيرا ذلك النوع من مرض الجزائر الذي كنت أصاب به في الجزائر أو الذي كانت تصيبني هي به، ذلك الإحساس بأن قد تملكّك إحساسٌ بعدم امتلاكك لذاتك وما كان يستدعيه ذلك من ردّ فعل، من كفاح من أجل امتلاك المتعذّر العثور عليه الذي قد يقودني إلى التدمير الذاتيّ، تماماً كما حدث في الماضي، هنا، في مكتبي، بعد وقت طويل. روحي، فريسةً لما لا يمكن القبول بموته، تنهش روحي حتى تنزف دما
لذا، وبجهد مؤلم انفصلت عنيّ، تخليّت عنّي(٤)، بترتُ نفسي لا أدري كيف، كما لو كنت قد أمسكتُني من وسط جسمي ونزعتُني من مشهد الغرق في الهاوية ذاك. ثمّ، ودائماً دون أن أعرف كيف، صرت اثنتين ودخل(تُ) في جنون (ي). انقلبتُ بحركة دائرية، قلبتُ نفسي في الاتجاه المعاكس كنت قد فقدتٌ كنزاً لا يعوّض. وهذه الخسارة التي لا تعوّض هي ذاتها ستعوّض الصفحات التي لم أكن أقد تقبّلت موتها بعد، حتى وإن كنت بمرور الوقت،بتّ أقترب من التخلّي عن البحث والتقتيش، أي التخلّي عن جزءٍ من روحي.
(٢)
الجزائر، تلك المدينة التي يتحدث عنها أُناس من أصول شتّى كما لو كانوا يتحدّثون عن مدينة أخرى مشهورةٍ بجمالها وبأماكن المتعة الكثيرة فيها، مدينةٍ قيّض لها أن تُسكَن مثل البندقيّة أو روما، وصارت فعلاً معْلماً ومهوى أفئدة، تلك المدينة التي تعدّدت أسماؤها حالها حالُ المدن الإلهية التي نتلو صفاتها، كانت الجحيم بالنسبة لي،تحديداً بسبب كثرة الأماكن الرائعة فيها، بسبب شوارعها المثيرة للحماسة، سواء تلك الشوارع الصغيرة المعتمة، العطنة والملتوية، أم تلك الرئيسة الطويلة العريضة والمتكبّرة، تحديداً بسبب الكثافة الصاخبة، الضاجّة، المتدافعة، اللامبالية، بسبب شرفات مقاهيها المقنطرة، أشجار تينها المثقلة بالعصافير، سكانّها الذين يتألفون كليّاً من أشخاص جعلهم التماسّ مع الموت القريب أبعدَ غورا، تحديداً لأنها كانت،بزهْوٍ، خادعة ومخبّية للآمال وقد بدت كأنها الحياة ذاتها، إلا أنّها في الحقيقة، حسب رأيي، كانت حرباً فوق حرب، بناءً من العداوات،كعكة عملاقة مسمومة، يشعر كثير من الناس فيها بالسعادة ويتردّدون إلى الكنيسة، كما يتردّدون أيضاً إلى الحفلات المسرحيّة وإلى شاطىء من شواطئها دون آخر. لم يكن هذا حالنا نحن أهل(كلو-سالمبييه)، لم نكن من بين سعيدي الكنيسة أولئك، ولكن بالنسبة لي،فإن مدينة الجزائر تزوير، وغشّ نجح نجاحاً كبيراً، بيضيّة (٥) عملاقة وملوّنة على هيئة دجاجة تحضن بيضاً يفرّخ حروباً.، إذ لا يمكن في نظري، أن نخطو خطوة في الشارع، أن ندخل متجراً دون أن نكون على الفور، ضحيّة، شريكاً، مذنباً أو دون أن نصاب بالعدوى، هنالك دائماً واحدٌ في طريقه لإفساد آخر في طريقه ليدوس واحداً آخر أو واحدٌ في طريقه لأن يشاهدك وأنت تهرب من مشهد لا يحتمل إنسانيّاً. بالنسبة لأمي، كانت ألمانيا متعذّرة الشفاء،بالنسبة لي فإنّ مدينة الجزائر كذروة وكاستعارة للجزائر كلّها هي عين المتعذِّر شفاؤه. حين كنت أعيش في أعالي جحيم (كلو-سالمبييه)، في قمّة درب الذرى، كنت أتساءل إن كانت أمّي على وعي بأنها قد انتقلت من مشهد مميت إلى مشهد موت، ولكنّ وفقاً لأخي فإنّ أمّي لم تدرك أبداً كمّ العناصر المميتة المحتشدة في المدينة.
قد تكون العيادة هي ما يفسّر موقفها: ذلك أنّه تماماً في قلب المدينة التي كانت بأكملها فريسة للسكاكين الحقيقية والمتخيّلة، كانت العيادة هنالك- محروسةً في البداية بأبي وبأمي بعد موته- المهد والملاذ الآمن في عزّ الحرب. في الواقع أنّ العيادة تنتمي بامتياز لما قبل التاريخ إذ تدخل النسوة عرايا، ليلدن أطفالاً عراةالمكان الوحيد واللحظة الوحيدة اللذان لا يكون للإنسانيّة فيهما من غايةٍ سوى أن ترى- وهذا أمر استثنائيّ – النور.
في قاعة العمليات لم يكن العالم ينزع إلّا إلى الولادة. أفضل ما في الجزائر، في نظري، عاش في تلك القاعة الصغيرة، ولكن بمجرد الخروج من قاعة التوليد، على بعد خطوات باتجاه المطبخ، كان شيء من الحرب يتكدّس، في فترة حضانة بانتظار أن يفرّخ، كانوا يسارعون إلى إخماد ناره بالخرق التي يمسحون بها الأرض لكنّه ما يلبث أن يشتعل ثانية عند أول فرصة، دون أن يصل إلى المنطقة كلّها بيد أنّ الأمر كان قد قُضي من جهة باب المدخل: كلّ شيء كان ملغّما، بدءاً بالمصعد الذي تسبّب بالعديد من الكوارث (سأرويها لاحقاً) ثم الممرّ حيث كان بوّاب العمارة قد فتح بمساعدة أمّي التي عميت عن الأخطاء القاتلة دكانّاً لبيع حمالات الصدر والملابس الداخلية للحوامل، انتهاء بغرفة الحارس التي لم تكن سوى قنبلة موقوتة أُدخلت بالمساعدة العمياء من أمي إلى قبو البناية فانفجرت أخيراً مدمّرة البيت تدميراً كاملا، لتختفي العيادة بكلّ ما فيها ولِتأتي (بنتيجة منطقية لم يتوقّعها الحارس) على دكّان الملابس الداخلية للحوامل سراويلَ وحمّالاتِ صدرٍ ولينتقل فجأةً من أملوا بزيادة ثروتهم ، من الازدهار إلى البوار. ولكن قبل التدمير النهائيّ للعيادة عام ١٩٧١، وتلك النهاية الفظيعة التي أكّدت أنّي كنت على حقّ تماما قبل ذلك، كان يمكن أن ننخدع، فما كان يجري من ولادات وصراخ مواليد ووقتٍ تستغرقه حالات المخاض، كان يبدو مواصلةً للعمل من أجل الحياة وليس العكس.
فيما كنّا نقيم في (كلو-سالمبييه) الواقعة في منطقة مرتفعة في الفترة ما بين 1946 و1956، كنّا نرى ما لم تكن تراه أمّنا في ملاذها(العيادة) أسفل المدينة
فزيادة على العنصريّة الفرنسيّة المؤسِّسة، عنصرية الأصل، العقل، الأساس، الركائز، المجتمع، الثقافة، التقاليد زيادة على هذا اللقاح الوراثي الحماسيّ على هذه التركيبة الأنجح والأكثر شيوعاً في العالم زيادة على الكلاسيكية الفرنسية، زيادة على تلك الحالة المرَضِيّة المنظور إليها باعتبارها علامة صحّة وعافية، شهية طيبّة! يجب أن نذكر اللاساميّات التي تنضاف إلى بعضها البعض بالطّبع : لاساميّة كلِّ عنصرٍ من المجموع تجاه اليهود (الفرنسيين، فرنسيّي الجزائر، الإسبان، العرب، الكورسيكيين، الأطباء، الموظفين، المحامين) باستثناء القبيليّين(٦) والشيوعيين الذين كانوا في أغلبهم يهوداً سابقين في الأصل، ثمّ اللاساميّة المزمنة التي تقارنها أمي وجدتي بـ gesunder antisemitismus (٧) التي تعايشتا معها في ألمانيا دون كبير انزعاج، وإلى اللاساميّة المألوفة المبتذلة والمستمرّة، اللاساميّة الحادّة ذات الاندفاعات المفاجئة الخطيرة، يجب، إلى هذا كلّه، إضافة نزعة معاداة الأرامل(٨) التي رأينا تجليّاتها بعد وفاة أبي من قبل الأقارب وأصدقاء أبي الذين باتوا جميعاً يريدون أن يكونوا عشّاقاً لأمّي ومن قبل زوجاتهم اللواتي، دون استثناء، نبذن، وذلك كإجراء وقائي، أمّي والعائلة.
علاوة على ذلك، كانت هنالك حرب فظّة عنيفة تدور بين الجنسين في(كلو-سالمبييه)، حرب شبيهةٌ بحرب الورود، مسألة شوك ورد، حرب بين جنسين بالغي الحساسيّة، فيها حيوانات نصف مسلوخة ومقذوفات من القطط والفئران كاملةً أو مقطّعة الأوصال، حرب أطفالٍ وحوش، تقدّم لها القوى/ الأشخاص الكبرى، محاباتها، انحرافها، لا مبالاتها المصطنعة، لكنّها لا تشارك فيها مباشرة، حرب تنقسم إلى جبهتين، فمن جهة، هنالك الحرب بين الأولاد ضمن الحنس ذاته، يجب التشديد على ذلك، فهي كانت تجري بين مختونين، وكانت تتعلّق بصراع انتصابات، أعضاء ذكوريّة، حركات وإيماءات جنسية بذيئة، إشارات احتقار وتحدّ، صراع عضلات وتفوّق، ومن جهة أخرى حرب هؤلاء مع البنات والتي كنت أجد نفسي فيها معظم الوقت معزولة بلا أخت، بلا أخ أو صديقة. إنما جدّتيّ الاثنتين في عمق المشهد، في المطبخ، يظهرن في النهاية ليلتقطن الجرحى بعد وقوع الأذى لكنّي أنا وحدي من يستطيع الحديث عن تلك الحرب المزدوجة،، لأني وحدي كنت في (كلو-سالمبييه) في كلا المعسكرين وذلك كأخ، عن طريق أخي، وكبنتٍ من دون أخي الذي ما كان بوسعه في تلك الحال أن يكون أختي: إنّني أعرف ما هي القذارة،مع ذلك فإن الألم الأكبر لم يكن تلك القذارة التي أوصلتني أكثر من مرّة إلى حدود الانتحار.
إن أقسى الأمور التي لم تكن لتحتمل، فيما عدا الصراعات، والمعارك والإذلالات، هو أنّنا كنا نهاجَم في(كلو-سالمبييه) من قبل أولئك الذين أردنا أن نحبّهم، من كنّا واقعين في حبّهم على نحو يثير الرثاء، من كنّا مرتبطين بهم، هذا ما كنّا نظنّ، بكل صور القرابة والاشتراك في الأصل والمصير والذهنية والذاكرة، والذوق، إذ كان أصدقاؤنا هم أعداؤنا. كانت قد اختلطت الجهات على كلّ الجهات(٩). من كلّ الجوانب، كنت أريد أن أكون لجهتهم، لكنّ تلك كانت رغبة من جهتي، أمّا من جهتهم هُم فكانت الرغبة بلا اتجاه، بلا هنا، كانت موقد جمر، شجيرة أغصانها أشواك، لم أكن أريد غير مدينتهم وجزائرهم، كنت أريد بكلّ قوّة أن أصلَ إليها، كان بوسعي أن أمضي ساعات مقرفصة على بعد أمتار منهم، دون أدنى حراك، كي أبدي حسن نواياي، وهذا صبر وتصرّف لم أمارسه أبداً مع المعسكر الفرنسي، كنت،إن تعلق الأمر بالفرنسيين، أغدو جذَلاً سلاحا وإن تعلق بالعرب، أملاً وجرحاً. أنا، كنت أفكّر، عربيّة غير قابلة للانفصال(١٠)، وهذه علاقة مع الذات لا تحتمل.
إنّها العلاقة مع أولئك الذين كنا ندعوهم «العرب الأحبّاء»، مقتنعين على نحو غامض أننا كنّا وإياهم منذ المهد بل وقبل ذلك، منذورين لبعضنا البعض ومفترقين كما نرى ذلك في حكايات الأخوة غريم، كنّا نشعر أننا البجع المتّسخ لكن الموعود بالتعويض وتبدل الحال، وكنا نذكر أنا وأخي كبشارة خيرٍ الرحلةَ الأخيرة التي قمنا بها مع أبي عام 1948 في سيارته السيتروين انطلاقاً من العيادة، مروراً أمام البريد الكبير لنصل ببطء إلى أسفل شواطئ الجزائر الشهيرة، كان أبي قد أوقف الستروين عند مدخل(درب الذرى) ليقلّ اثنين من العرب اللذين كانا يستوقفان المسافرين على أمل أن يقلّهما أحد، ينبغي أن نعرف أن هذا الحدث كان،قطعاً، حدثاً استثنائيا في ذلك الوقت خاصّة وأنّه لم يكن بوسعنا التيقّن من أن السيتروين ستتشغل ثانية فقد كان يتوجّب دائماً مداعبة المحرك طويلا بالمانفيلا. إنّه العيد داخل السيتروين، المسافران يشكران بفرحٍ الضيافةَ غير المتوقّعة، فقد كانا مصيبين حين آمنا وأمِلا بأن الأمر ممكن الحدوث، الشيء الذي لم يكن ممكناً المراهنة عليه بالعقل والمنطق، إذن لم يكن العالم بالسوء الذي نعتقد، فهذا فرنسيّ قد توقف، فكّرت أنّ هذا خطأ، فأبي ليس فرنسيّاً مع أنّه ربما ظن نفسه كذلك، أبي حركة خاطئة في تاريخ هذا البلد، فباعتباره نفاية الفرنسيين، منبوذهم ومخلوعهم من جهة، وباعتباره النموذج المثاليّ لـ(أنا) الطبيب اللائذ كمجنون إلى (كلو-سالمبييه) حيث ما من طبيب طبيعي (بمعنى أّنه يمتلك طموحاً طبيّا،ماليّاً ومهنيّاً طبيعيّاً ) كان سيسكن ذلك الحيّ الذي لا فرنسيين فيه، الحيّ غير الملائم للنجاح ولحياة المجتمع المخمليّ، كان أبي قد توقف، ينبغي الاعتراف بذلك، باعتباره نوعاً خاصّاً من العرب، عربيّاً غريباً توقّف مع علمه أن السيتروين حين تتوقف أثناء اندفاعها يصعب دائماّ إعادة تشغيلها. حدث ذلك قبل عشرة أيام،تقريباً، من موته الذي أحسّ أو لم يحسّ باقترابه، هذا ما لن نعرفه أبداً، لكن علينا أن لا نقول لمسافريْنا أن أبي عربيّ حقيقيّ تحت المظهر الكاذب لشابّ وسيم، طبيبٍ فرنسيّ ويهودي أيضاّ مما قد يرجح إحدى كفتيّ الميزان، لأن من شأن اعترافنا هذا أن يجرّد ضيفينا السعيدين من شعورهما الرائع بأنّ كلّ شيء، بالرغم من كل شيء، ممكن في هذا البلد المصاب بلعنة ومرض الكراهية، البلد المستحيل تماماً.
حين وصلنا إلى منعطف جادة لوران-بيشا، كان أبي قد أوقف السيّارة في أعلى المنحدر، وقد أشرق وجها الرجلين مثلما وجوهنا نحن، أنا وأبي وأخي، فنزلا بقلب منشرح : الباب، الباب، ومردّدين :شكرا، إنّك لأخ شكراً يا يا أخي بارك الله فيك قالا ذلك بالفرنسية وفي المقابل ردّ أبي بالعربية قائلاً أنّهما أخواه. ما زلنا إلى اليوم،نتذكر بسذاجة قصوى تلك الفرصة الأخيرة حيث تحقّقت كلّ أحلامنا قبل أن تغلق الأبواب نهائياً بأيام قليلة.بيد أن الحظّ الأكبر تمثّل في أنّنا كنّا، ذلك اليوم، في الستروين التي كانت تصعد من أعماق الجزائر- المدينة صوب (كلو-سالمبييه) وهو ما لم يسبق وأن حدث لنا قط منذئذ، ونحن نروي كل سنة تلك الحكاية: حين انفتحت أبواب السماء أمامنا عند منعطف تلك الجادة، فدُعي أبي أخاً، وصرنا أبناء الأخ لبضعة أيام. بالطبع،كانت السماء شديدة الزرقة،أسناننا التي كشفت عنها ابتسامتنا ناصعة البياض، ورفقاؤنا من زمن الكتاب المقدس، ثمّ وقع موت الإله وانغلق كتاب الأبواب في وجوهنا(…)
لم يكن أمامي أيّة فرصة ومع ذلك كنت أحاول. كنت أفتّش ولا أجد.ثم أبدأ من جديد، طيلة الوقت الذي عشته في الجزائر، مع ذلك كنت أحاول
كلّ ما يضطّرب داخلي، كل ما ينطلق ليطارد الأشياء، الكتابة إذن، يمكن أن يردّ إلى أبواب وهران أوّلاً ثم لاحقاً إلى أبواب الجزائر وهي مختلفة، يبدو لي أنّه يمكن أن أردّ دائماّ أو أنّي مردودةّ إلى الأبواب غير المرئية لمدينتين مختلفتين جدّا،وهران ثم الجزائر، وخصوصاً إلى لامرئيّتهما التي هي مصدر عثراتي المتجدّدة. فلأنّي لم أكن أرى تلك الأبواب كنت أَصطَدِم بها أو أُصطدَم بها، على كل حال كنت أحسّ بها كأعمى يشعر باقتراب القضبان والبوابات منه، فيتقدّم بعناد قائلا: « إنّي أرى بوابة، إنّي أرى سياجا»، مستخدماً كلّ مرة الفعل «يرى» لما لا يراه بعينيه بل يراه بكلّ ما يحلّ محلّ العينين: الحدس، التنفّس، أُذن القلب، أطراف الأصابع وكلّ الأعضاء الأخرى التي وُهبت القدرة على الرؤيا(١١).
لقد كانت كلمةُ «مدينة» تعني لي دائماً مائة باب مدينة محاصَرة محاصِرة مغلقة معسكراً محصّناً أسلاكاً شائكةً سوراً (كلو-سالمبييه) مخبأً أرضاً مطوّقةً أسراً خروجاً طروادة وهران الجزائر دماً – رجلا ودماً رامرأة (١٢)، بدوني
فيما باريس لا، باريس بلا أبواب وبالتالي بلا قوى متضادّة بلا توسّلات، بلا اقتحامات، بلا حصان، بلا كلب ولست أعيشها كمدينة.
أمّا الفارق بين وهران والجزائر فهو فارق جنسيّ، كانت وهران بالنسبة لي امرأة والجزائر الرجل، في وهران كنت المرأة، في الجزائر الرجل، وذلك بسبب الطريقة التي مثّلت بها وهران بالنسبة لي الغواية كلّها : مدوّرة، مكتنزة وردية معطّرة الإبطين بالتوابل هاربة أبداً، وأنا أجري وراءها، كانت كلّها حجباً وأشرعة، عصيّة، حيّة، متبخّرة، وأنا تائهةٌ دوماً في أبخرة الحمّام العربيّ البنفسجية ، عاشقةً أتقّرى أجساد أهلي المتحلّلة وقد صارت لامتناهية. بينما كانت الجزائر تعني الخسارة، أن أُطرح أرضا، أن أمتطي فرساً ثم أسقط من عل، بلا أخ ولا أب، فأنهض وأعيد المحاولة مرّة ثانية مع ذلك، في(كلو-سالمبييه) ، كنت أريد الدخول في الجزائر بكلّ قواي، اقتربت من النهاية، كان الوقت مدوّخاً، عندها، كنت مسكونة بالموتى دون أن أعي، كنت ممسوسة بلهفة وتعجّل مجنون، كما تمسّ بذلك الأشباح التي لم يعد أمامها سوى ساعات قبل حلول النهار الذي يضع حدّا لمحاولاتها في العبور، كنت أمضي بأقصى سرعة، ليس إلى الأمام بالضرورة، فقط بأقصى سرعة، ولم أدرك ساعتها أنّني لا أنجح في محاولتي، ولم أدرك كذلك أنّني لن أنجح.من جهة، كنت أهاجِم ومن جهة أخرى كنت أُدافع، كنت أمضي بسرعة بالغة، على غير هدى، حتى أنّني، كأحصنة ماكبث المجنونة، كثيراً ما عضضتُ نفسي عند الخامسة والنصف صباحا، كان ديكٌ صغير يصيح في البعيد، كان يهبني الـ(هناك) القصيّ.
الهوامش
٭ تصدر قريباً الترجمة الكاملة للكتاب بتقديم من المؤلفة عن دار أزمنة في عمّان.
(١) تلعب الكاتبة هنا على الجناس اللفظي بين مفردتي port (ميناء أو مرفأ) horte (باب).
(٢) اسم الدارة التي كانت تعيش فيها الكاتبة مع عائلتها خلال حياتها في مدينة الجزائر.
(٣) توظف الكاتبة هنا تضمُّن كلمة الجزائر بالفرنسية (Algerie ) لكلمة (Algie) وهو مصطلح طبّي متخصص يعني الألم كما أن الاسم الفرنسي للجزائر العاصمة هو ((Alger وهو يقترب لفظاً من لفظ هذا المصطلح وهي تفعل ذلك لتؤكد على طبيعة العلاقة الموجعة التي ربطتها بالجزائر ومن هنا حديثها في موضع آخر عن «مرضها» بالجزائر على نحو غير قابل للشفاء. مثل هذا اللعب على الدوّال يمثّل سمة أسلوبية بارزة في كتابة هيلين سيكسو ويطرح صعوبات جمّة عند الترجمة.
(٤) هنا تستخدم الكاتبة الفعل rompre بدلالاته المتعددة لتكثفّ فكرة القطيعة فهو يعني فيما يعنيه : قطع( علاقة)، كسر، كفّ عن، فسخ، نقض، هجر وانفصَل .
(٥) الكأس التي تستخدم لأكل البيضة النمبرشت.
(٦») s kabyles التسمية التي يطلقها الفرنسيّون على سكّان المناطق الجبليّة في الجزائرمن الأمازيغ.
(٧) بالألمانيّة في الأصل.
(٨) المقابل الذي اخترناه لـ antiveuvisme وهي كلمة من ابتكار الكاتبة.
(٩) تكرّر الكاتبة هنا كلمة coté متلاعبة بدلالاتها المختلفة وهذا ماحاولنا أن ننقله بقدر من الدقة من خلال مقابلها العربيّ «جهة».
(١٠) ابتكرت الكاتبة هنا نعتاً جديداً لتصف علاقتها الوثيقة والمعقّدة بالبعد العربي والجزائري في هويّتها المركبّة وذلك بأن حذفت الحرف قبل الأخير من الصفة « inséparable (غيرقابل للانفصال) لتحصل على كلمة ((inséparabe )) التي يمثّل المقطع الثاني منها الصفة « arabe(عربي).
(١1) تتكّرر تيمَتا العمى وصعوبة الرؤية في أعمال هيلين سيكسو سواء في إحالات واقعية إلى معاناة الكاتبة من إصابتها بقصر النظر أو كاستعارة رمزية لعجز الذات عن الوصول إلى موضوع رغبتها،فهي تذكر مثلاً في كتابها المشترك مع الفيلسوف جاك دريدا(حجب، باريس، غاليليه 1998) أنّها « وُلدت بحجاب في العين» وتتحدّث بعد إجرائها لعملية تصحيح بصر عن» فرحة العين التي تحرّرت حسيّاً: شعور لذيذ كما لو نزعت عنها دبابيس ذلك لأن لقصر النظر مخالب تبقي العين تحت حجاب ضاغط،إلحاح، أجفان مشدودة، جبين مقطّب، وجهود عبثية لتشقّ الحجاب فترى» على صعيد آخر تؤكّد سيكسو في سياق رفضها السيرة الذاتية (الأتوبيوغرافيا) وتفضيلها الاعتراف la confession ) أنّ السيرة الذاتية هي» نسخة الأعمى من اعترافاته»، كما تبيّن إلى أي حدّ كانت إصابتها بقصر النظر حاسمة التأثير على طريقة إدراكها للعالم وفي أسلوب كتابتها،حيث تروى الأحداث بأدقّ التفاصيل كأن العين تكاد تلتصق بالأشياء التي تصفها أو تُخترَع الأحداث لأنها لم تكن واضحة الرؤية. ( صور الجذور، هيلين سيكسو بالاشتراك مع ميراي كال-غروبر، باريس 1994)،
(12)تلعب الكاتبة هنا أيضاً على الجناس اللفظي بين كلمتي sang وتعني : دم، hans» وتعني:بدون.
ترجمة وتقديم :وليد السويركي أكاديمي ومترجم من فلسطين