نطمح هنا الى دراسة الشاعر المعاصر أدونيس وما له من علائق بالشاعر العباسي المتنبي. ومن خلال ذلك نطمح الى إبراز فهم أدونيس للمتنبي من ناحية ومفهومه للحداثة من ناحية أخرى. ومن ثم نأمل في عرض المباديء الأساسية لماهية الشعرية العربية في رأي أدونيس.
يقول أدونيس في معرض حديثا عن نشأته والتأثيرات الباكرة عليها إن طفولته الأولى في القرية انجبلت بالشعر العربي القديم، وذلك بتوجيه أبيه وسهره على تربيته، إذ "كان قارئا محبا للشعر وبصيرا في اللغة العربية وأسرارها.» ويضيف «على يديه قرأت بشكل خاص، المتنبي وأبا تمام والشريف الرضي والبحتري، والمعري، وعشرات آخرين، في دواوينهم أو في مجاميع شعرية – وبخاصة " الحماسة » لأبي تمام" (أدونيس 1993، ص 26-27). فلما التحق بجامعة دمشق حيث درس الفلسفة، لم يجد في نفسا رغبة لكي يقرأ من جديد ما كان قد قرأه من الشعر بل إنه وجد الجامعة مكانا يقتل الشعر والذائقة الشعرية. (أدونيس 1997، ص 27). غير أنه نظم الشعر منذ أواسط الأربعينات ليعبر عن تجاربه في الحياة على ضوء قراءته للشعر العربي القديم وما كان يصله من الشعر العربي المعاصر قبل تخرجه في الجامعة عام 1954، ويخص بالذكر منه شعر نزار قباني وبدوي الجبل وعمر أبي ريشة ومحمد نديم وسعيد عقل (أدونيس 1993، ص 24- 26)، وعلى الرغم من أنه لم يكن قد درس اللغة الفرنسية في المدرسة أكثر من سنة ونصف السنة في طرطوس في منتصف الأربعينات، إلا أنه تجرأ على أن يقرأ بهذه اللغة «أزهار الشر" لبودلير بكثير من المعاناة، وقرأ بعد ذلك ريلكه في ترجمته الفرنسية. ثم عرضت له قراءة رينيه شار، وهنري ميشو، وماكس جاكوب عام 1955 وهو في خدمة العلم في حلب (أدونيس 1993، ص 28- 29). وانفتحت أمامه فيما بعد آفاق كثيرين غيرهم من شعراء الغرب عبر اللغة الفرنسية وكان أن أصبح له أسلوب جديد في كتابة الشعر العربي منذ أواسط الخمسينات شارك به مع غيره من الشعراء العرب الشباب آنذاك في تأسيس حركة الحداثة في الشعر العربي المعاصر.
وقد تعرضت حركة الحداثة هذه لمهاجمة شديدة شرسة، غير أنها صمدت وترسخت على مدى الأيام حتى أصبح لنتاجها الشعري اليوم شأن يذكر. وفيه يقول ادونيس: "إنه، على الصعيد العربي، أعظم إنجاز شعري، بعد انجاز الكوكبة الفريدة: ابي نواس، وأبي تمام، والمتنبي والمعري، وعلى الصعيد العالمي واحد من أهم الانجازات الشعرية في تاريخ الابداع الحديث ». (أدونيس 1993، ص 151).
المتنبي إذن من «الكوكبة الفريدة » في رأي أدونيس، وشعره جزء من أعظم انجاز شعري عرفه العرب. وهو مواز في أهميته لانجاز حركة الحداثة الشعرية العربية التي هي بدورها من أهم الانجازات الشعرية في تاريخ الابداع الحديث. وليس هناك جديد في اعتراف أدونيس بعظمة شعر المتنبي، لكن الجديد أنه يقرنه بالحداثه الشعرية العربية ومن خلالها بالابداع العالمي الحديث.
في الخمسينات وجد أدونيس نفسه يقف على مفصل حاسم للشعر العربي ولاسيما بعد مشاركته يوسف الخال في تأسيس مجلة «شعر» وتحريرها في بيروت بدءا من شتاء 1957. ولم يكن قبل تخرجه في الجامعة قد قرأ شوقي ولم يكن يعرف شعر الجواهري وكان بعيدا عن جبران، على حد قوله (أدونيس 1993، ص 26). لذلك وجد نفسه أمام مسؤولية شخصية كبيرة للاطلاع على نتاج الشعر العربي المعاصر وأن يأخذ نفسه بشيء من الشدة وحسب، ولكن في التراث العربي الاسلامي بأسره فضلا عن التراث الغربي والعالمي. فعكف على مطالعات واسعة لأكل الاتجاهات.
وكان من حصاد ذلك أن تكونت في ذهنه صورة كبيرة موحدة عن مسيرة الشعر العربي منذ الجاهلية حتى العصر الحديث، وعن نموه في نظام معرفي محدد تحت تأثيرات معاشية معينة ساعدت على تكوين تضاريسه واتجاهاته. ووجد من واجبه أن يعيد النظر في كثير من المباديء النقدية لتقييمه، لكي يصله بما ينتجه الناس من شعر في العالم الحديث. فكان أن جمع اختياراته من الشعر العربي على ضوء ذلك كله فيما أسماه «ديوان الشعر العربي» وذلك في ثلاثة أجزاء أصدرها بين عامي 1964و1968. وكان من ذلك أيضا أن التحق بالجامعة اليسوعية في بيروت لدراسة التراث العربي الاسلامي بعمق ونظام، وكتب رسالة دكتوراة في هذا الموضوع نشرها بعد تخرجه سنة 1973 بعنوان "الثابت والمتحول » (1974-1978) مضيفا الى جزءيها الأصليين جزءا ثالثا عن الحداثة.
بعد هذين العملين الكبيرين أي "ديوان الشعر العربي» و«الثابت والمتحول »، يمكن أن يقال إن أدونيس كان قد استأنس لما اختطه لنفسه من طريق في قول الشعر والتنظير له منذ قصيدته «الفراغ » (أدونيس 1959، ص 31-47). التي نشرها سنة 1954 وتخطى فيها أسلوبه السابق. وهي قصيدة غاضبة ترفض الراهن العربي الفارغ وتفتح امكانية بناء حياة عربية جديدة، ويخرج ايقاعها الجديد على نظام الشطرين والقافية ولا يتبع نسقا موحدا من التفعيلات من حيث انتظام العدد والتوزيع على الأشطر بل يسير بحرية موازيا لهيب الغضب وتموجات الفكر في القصيدة.وكان أدونيس كذلك قد ارتاح لما توصل اليه من فهم جديد للتراث العربي الاسلامي، الأدبي منه والحضاري. وللموازين والمعايير التي بها تم له الحكم على قيمه، السالف المنصرم منها والراهن الحي.
يقول أدونيس وهو يتكلم على سيرته نحو الحداثة: "أحب هنا أن أعترف بأنني كنت بين من أخذوا بثقافة الغرب. غير أنني كنت، كذلك بين الأوائل الذين ما لبثوا أن تجاوزوا ذلك، وقد تسلحوا بوعي ومفهومات تمكنهم من أن يعيدوا قراءة موروثهم بنظرة جديدة، وأن يحققوا استقلالهم الثقافي الذاتي، وفي هذا الاطار، أحب أن أعترف أيضا أنني لم أتعرف على الحداثه الشعرية العربية، من داخل النظام الثقافي العربي السائد، وأجهزته المعرفية، فقراءة بودلير هي التي غيرت معرفتي بأبي نواس، وكشفت لي عن شعريته وحداثته، وقراءة مالارميه هي التي أوضحت لي أسرار اللغة الشعرية وأبعادها الحديثة عند أبي تمام، وقراءة رامبو ونرفال وبريتون هي التي قادتني الى اكتشاف التجربة الصوفية – بفرادتها وبهائها. وقراءة النقد الفرنسي الحديث هي التي دلتني على حداثة النظر النقدي عند الجرجاني، خصوصا في كل ما يتعلق بالشعرية وخاصيتها اللغوية – التعبيرية (أدونيس 1985، ص 86- 87).
بعد عمليه الكبيرين "ديوان الشعر العربي» و«الثابت والمتحول »، كان باستطاعة أدونيس أن يدحض قول كل من يتهمه بمعاداته للتراث العربي والدعوة للأخذ بثقافة الغرب كان يرى نفسه شاعرا يصدر عن أعز ما في التراث الشعري العربي ومفكرا يدعو لأعز ما فيه من قيم، وهي في رأيه قيم التساؤل والتجاوز والابداع المتجدد، والايمان بالانسان وحريته وسيادته وقدراته الفكرية والروحية لفهم العالم وامكان العمل على الخلق والتجريب والتغير والبناء الجديد. وهي القيم التي ينسبها أدونيس الى الحداثه بغض النظر عن العصر الذي يتبناها أو البشر الذين يعملون بها.
يبدأ أدونيس مقدمة الجزء الثاني من "ديوان الشعر العربي» فيقول في التحول الكبير الذي حل بالشعر العربي في العصر العباسي: "من القبول الى التساؤل: هذا هو الخط الذي ترسمه الحساسية الشعرية العربية بين امريء القيس وأبي العلاء المعري". (أدونيس 1986 / 2، ص 5). ثم يشرع في تفصيل القول مبينا ما أدى اليه التساؤل من جديد في شعر من سماهم نقادهم "المولدين » أو «المحدثين " لما عرف عن شعرهم من توليد للمعاني واحداث في الصور والألفاظ والتراكيب خرجا بشعرهم على ما سماه النقاد عمود الشعر. يذكر أدونيس ذلك الخروج على شعر السلف معترفا أنه مخالف للطريقة العربية في كتابة الشعر آنذاك، ولكنه يؤكد أنه «ليس خروجا على الروح الشعرية العربية، بل إنه أفق آخر يتفجر منها ويغنيها. »(أدونيس 1986/ 2، ص 5). فهو يؤمن أن أصولية الشعر العربي ليست عادة وتقريرا، كما فهمها النقاد القائلون بعمود الشعر، ولكنها تتصل بالطاقة الروحية في الشعب وتعبر عن ذاتها بأشكال مختلفة لأنها نابعة من حالات ومواقف كثيرة ومتنوعة (أدونيس 1986/ 2، ص 5).
يتضح من هذا أن أدونيس ينظر بمنظار جديد الى الأصول الأولى للشعر العربي كما تجلت في العصر الجاهلي، ويردها ذات كثرة وتنوع، ويرى أن اللاحقين من شعراء العصور التالية غير مضطرين الى نظم شعرهم متبعين أصلا واحدا منها، بل لهم أن يختاروا وعليهم أن يبدعوا ولا يكرروا، لأن التكرار موت للروح الشعرية، ولأن الابداع حياة متجددة لها. وقيمة كل شاعر ما في شعره من استحداث وابتكار متأصلين في هذه الروح. فإذا كان الشاعر ينطلق في شعره من تجربته في عصره، وهي بلا شك مختلفة عن تجارب غيره في عصره والعصور السابقة، فإنه لا محالة قائل شعرا مغايرا، وهو بالتالي شعر حديث إن كان فيه طاقة فنية للتطلع والتخطي والابداع.
نظرة أدونيس هذه الى الأصول الشعرية العربية وحاجة الشعراء في العصور الطالعة الى تخطيها موازية لنظرته الى الأصول الاسلامية في التراث الحضاري العربي وحاجة الناس في العصور الطالقة الى تجاوزها. (أدونيس 1977، ص 203- 207). وفي كلا الحالين يكون التخطي أو التجاوز منطلقا من الأصول، متجذرا فيها. ذلك لأن الافلات التام منها غير مستطاع بتاتا لأن في الأصول بدء الحياة والتاريخ، وبدونها لا حياة ولا تاريخ. ومن ناحية أخرى، فإن الأصول تؤول الى الضمور والموت والاندثار إن لم يتعهدها الناس بالتخطي، إذ في التخطي الحياة والتاريخ، وهو نسغ الاستمرار بلا تكرار لأنه خلق جديد.الثابت في الأصول يتحول بالتخطي، وفي المتحول تجدد للاصول واستمرار لحياتها وبقائها.
ينظر أدونيس في شعر المتنبي ويختار منه مقاطع وأبياتا لـ"ديوان الشعر العربي» راقت له. (أدونيس 1989/ 2، ص 342- 368) وهو في اختياره يتبع المذهب ذاته الذي سار عليه منذ أخذ على عاتقه مهمة إعادة النظر في الشعر العربي على ضوء حساسية حديثة وقيم نقدية جديدة،. فاختياره اختيار شخصي على حد تعبيره وان حاول فيه الافادة من قيم جمالية فنية خالصة تتجاوز حدود الزمان والمكان، وتتخطى الاعتبارات التاريخية والاجتماعية ولكن دون نفي أهميتها ودورها (أدونيس 1986/ 1، ص 13). ليس الشعر في رأيه وثيقة اجتماعية أو تاريخية، وليس قيمته بموضوع معين يتناوله، إنما هو ذو قيمة بنفسه وبالقدر الذي يرتقي فيه الشاعر من الجزئي الى الكلي: يحتفظ بحرارة التجربة الجزئية ولكن يستشرف عمق الحقيقة الكلية، يعاني اللحظة الآنية ولكن يتعالى فوقها بإبداعه. لذلك اهتم أدونيس بهموم الشاعر وأفراحه وآلامه وبمواقفه من الحياة والدنيا والناس والطبيعة، ولكن لم يعر اهتمامه لما يتصل بالمجتمع أو التاريخ من شعر المدح والهجاء وما اليهما لأنه جزء من التاريخ السياسي الاجتماعي لا من تاريخ الابداع الشعري.
ومع هذا، يختار أدونيس من شعر المتنبي أبياتا من ميميته في مدح سيف الدولة (أدونيس 1986/ 2، ص 356- 358). وأبياتا من ميميته في رثاء جدته لأمه (أدونيس 1986 / 2، ص360- 363). وأبياتا من يائيته في مدح كافور الاخشيدي (أدونيس 1986/2، ص368) وأبياتا من داليته في هجائه (أدونيس 1986/2,ص 348-349). وغير ذلك من شعر المناسبات. لكن اختياره يقع على الأبيات التي يعلو فيها المتنبي على المناسبة في كل من هذه القصائد ليستصفي منها تجربته للحياة والناس، وليعبر عن عواطف إنسانية تجيش في نفسه وتظهر شخصيته بحميمية وعمق، ويتجلى فيها وفي غيرها من الاختيارات حسن القول في التركيب وزخم الابداع في التصوير وغنى المعنى في التجربة – حتى في تلك الاختيارات التي كانت بيتا واحدا أو بيتين أو ثلاثة فقط.
يبدو المتنبي في هذه الاختيارات وقيما كتبا عنه أدونيس شاعرا عملاقا، واثقا من نفسه، تياها على عصره ومعاصريه، ويبدو أيضا انسانا يشعر في عمق أعماقه بأن الدهر خؤون، ولكنه لا يرضى أن يهادنه بل إنه يترفع عليه ويحتفظ بالكرامة ولا يقلل من عزمه وطموحه.
يقول أدونيس: "المتنبي يفرز نفسه ويعرضها عالما فسيحا من اليقين والثقة والتعالي في وجه الأخرين وضدهم ». (أدونيس 1986/ 2، ص 19). ثم يضيف: "إن شعره كتاب في عظمة الشخص الانسانية، يسيره جدل اللانهاية والمحدودية، الطموح الذي لا يعرف غاية ينتهي عندها، والعالم الهرم الذي لا يقدر أن يتحرك ويساير هذا الطموح. (أدونيس 1986/ 2، ص 19- 20).
هل يعني هذا أن التعاظم والاعتداد والتكبر على الآخرين من مميزات الحداثة؟
لا، بكل تأكيد. ولكن هذه من صفات المتنبي المميزة ويجدر ذكرها في الصدارة لفهم الرجل وشعره. أما ما هو من مميزات الحداثة فيه فهو هذا التساؤل في دخيلاء النفس الذي ينفرز على قول الشاعر في جدل كؤود بين محدودية الانسان ولانهائية طموحه، وهو الجدل الذي يدل على وعي بعظمة الانسان وما يكمن فيه من الامكانات وضروب التحقق. فإذا لم تتيسر هذه له لأن العالم لا يقدر أن يساير هذا الوعي أصيب الانسان بشعور بأن امكاناته هدرت. فإذا كان الناس هم سبب هذا الاحباط زاد ذلك في شعوره بهدر قيمة الانسان، وقد يدعوه هذا الشعور الى الثورة على الناس والتعالي عليهم. وما أكثر ما فعل المتنبي ذلك !
لكنه لا ييأس أبدا وان لم يبلغ غايته، ذلك أنه يقدر باستمرار أن الحياة «شروع دائم " كما يعبر أدونيس. ينظر دوما الى المستقبل ليحقق ذاته لأن الوقوف عند الحاضر الآسن هو العجز الأعظم، وحياته وشعره تطلع دائم الى ما وراء الأفق، الى ما يمكن في الامكان، الى ما يغير الواقع. هذا هو طموحا، وما شعره إلا أغنيات لهذا الطموح.
واذا كان هذا الطموح الجامح يؤدي بصاحبه الى التفرد، بل الى الانفراد والوحدة، فليكن. «كذا أنا يا دنيا» يقول المتنبي. ولكنه لا يهادن، ولا يقبل بالمسكنة والسكون، ولا يرضى بالفسولة. قد يتألم في وحدته، لكن ألمه ألم النفس الكبيرة يجابه بها العالم وهو راض. قد يسخر من العالم ومن أناسه صغار النفوس، ولكن سخريته سخرية الرفض للواقع الذي يريد هو أن يتخطاه ويتجاوز كل ما فيه مما يتنافى مع مثله ورؤاه للمستقبل هذه الوحدة وحدة غاضبة لا يرضيها شيء، كما يقول أدونيس. ويضيف: هي «وحدة التعالي والمطالب الكبرى والاتصال بينابيع القوة والسيطرة على العالم وتغييره. إنها الوطن الأرحب ». (أدونيس 1986/ 2،ص21).
وأكبر ظني أنها الوطن الأرحب لأدونيس أيضا، ومن هنا اعتباره المتنبي شاعرا من شعراء الحداثة. ومن أجمل ما قاله في هذا الصدد ما ختم به حديثه عن المتنبي في مقدمة الجزء الثاني من "ديوان الشعر العربي» إذ قال: «إنسان المتنبي موجة لا شاطيء لها – دائما في حركة. إنه أول شاعر عربي يكسر طوق الاكتفاء والقناعة، ويحول المحدودية الى أفق لا يحد. شعره للحركة، للحرارة، للطموح، للتجاوز، إنه جمرة الثورة في شعرنا، جمرة تتوهج بلا انطفاء. إنه طوفان بشري من هدير الأعماق، والموت هو أول شيء يموت في هذا الطوفان ». أدونيس 1986/2 ,ص 22).
ولأدونيس اختيارات أخرى من شعر المتنبي أوسع مدى من اختياراته في «ديوان الشعر العربي» وهي التي نشرها في ملحق من اثنتين وثلاثين صفحة لمجموعة من الصحف العربية وزع مجانا في صيف 1997 في مشروع «كتاب في جريدة "، وهو عمل ثقافي عربي شاركت فيه منظمة اليونيسكو و«كتاب الشيخ زايد العربي»، ويهدف الى الاندماج الثقافي في الوطن العربي وتعميم القراءة والتواصل مع الآداب والفنون عبر العصور المختلفة. وقد سمى أدونيس عمله هذا «الدهر المنشد. المتنبي – مقتطفات " وقدم له بمقدمة قصيرة، وزينه الفنان العراقي ضياء العزاوي بالرسوم. ومن الصحف العربية الاثنتين والعشرين المشاركة في توزيع هذا الملحق وأمثاله: «الأهرام » و«النهار» و«القدس ».
في «الدهر المنشد" مختارات من قصائد وأبيات للمتنبي وردت في «ديوان الشعر العربي» وتكاد مباديء الاختيار في الكتابين تكون هي نفسها، إلا أن أدونيس في «الدهر المنشد» قلل من اختيار ما راه يتصادى أو يتقاطع في معانيه مع شعر آخرين وان كانت صياغته أجمل وأغنى، وحرص على اختيار ما راه يتصادى مع مشكلات العرب وهمومهم وتطلعاتهم الواهنة، ولا يحتاج بالضرورة الى شرح معجمي. وعلى الرغم من ادخاله كمية أكبر من قصائد المناسبات في المدح والهجاء والرثاء وغيرها، إلا أنه اختار منها ما يمثل رؤية انسانية فيها تجربة شخصية ذات عمق وحرارة تعلو على المناسبات المحدودة. ويقول أدونيس في المتنبي: «إن شعره، كمثل حياته، بوتقة إبداعية فذة، ينصهر فيها الشخص والجماعي، الفني والانساني، الأصل والصيرورة، ويتآلف فيها هذا كله، على الرغم من تناقضاته، وربما بفضلها". (أدونيس 1997، ص 5). وهو قول يؤيد ما سبق أن قاله فيه، ويؤكد أهمية الابداع وتخطي الأصل بالصيرورة المستمرة، وضرورة الصدور عن التجربة الشخصية واقتناص المعاني الانسانية التي تهم الجماعة – وكل ذلك في تآلف وفن يصهران التناقضات. أضف اليه إيمان أدونيس أن في شعر المتنبي المكتوب قبل أكثر من ألف عام ما يتمادى مع مشكلات العرب وهمومهم وتطلعاتهم اليوم، وكأنا يؤمن بالالتزام والتحام الشاعر بأمته ومجتمعا إذا كان هذا الالتزام وهذا الالتحام نابعين من نفس الشاعر عن تجربة شخصية صادقة، لا مفروضين عليه من سلطة حكومية أو حزبية أو عقائدية تفسد عليه الشعر.
أحس أدونيس بضرورة استحضار المتنبي الى العرب المعاصرين لتجاوب شعره مع أحوالهم الواهنة ولكنه لم يكتف بالمقتطفات مما نشر من هذا الشعر، لذلك عمد الى حيلة أدبية فيها الخلق والابداع فضلا عن المعرفة بالتراث. فتقمص شخصية المتنبي وكبس ظروف عصره وأخرج عملا جديدا عنوانه "الكتاب: أمس المكان الآن. مخطوطة تنسب الى المتنبي يحققها وينشرها أدونيس، (أدونيس 1995/ 1). وهو عمل فريد في فكرته، طريف في طريقته، ولابد أن أدونيس وجد فيه ما يربط عصره بعصر المتنبي » شخصيته بشخصيته، لما تبين له في كليهما من وشائج الحداثة المشتركة.
في الكتاب فصول عشرة مرقمة، تحتوي السبعة الأولى منها على شعر حر منسوب الى المتنبي، وكل فصل من هذه الفصول السبعة يحتوي على ثمانية وعشرين مقطعا، كل منها مطبوع على صفحة في إطار مستطيل مرقم بحرف من حروف الأبجدية ومختوم بحاشية شعرية في أسفله. ويلي كل فصل (ما عدا السابع) قسم عنوانه "هوامش » فيه عشرة مقاطع شعرية، كل منها مطبوع على صفحة في إطار مستطيل وهو منسوب الى المتنبي، وفيه يستوحي شاعرا عربيا من التراث ويناجيه أو يحاوره، ويسبق هذه «الهوامش » في كل من الفصل الثاني والرابع والسادس مقطوعة طويلة عنوانها «فاصلة استباق" أما الفصول الثلاثة الأخيرة من الكتاب، فالثامن منه عنوانه "أوراق (أوراق عثر عليها في أوقات متباعدة، ألحقت بالمخطوطة)"، الورقة الأولى منها غير مرقمة والخمسون التالية مرقمة. والفصل التاسع عنوانه «الفوات في ما سبق من الصفحات " وفيه أربعة وثلاثون فواتا. والفصل العاشر عنوانه "توقيعات" وفيه ثلاثة توقيعات، الأول اسمه مفرد والثاني ثلاثي والثالث متعدد.
بالاضافة الى ذلك، لكل صفحة من صفحات الفصول السبعة الأولى ذات المقاطع المؤطرة المرقمة بالأبجدية هامشان عريضان، أيمن وأيسر، في الأيمن ما يرويه الراوي من تاريخ الاسلام من السنة الحادية عشرة الهجرية الى السنة الـ160 الهجرية مسحوبا على الفصول السبعة كلها بتسلسل، وفي الأيسر إشارات محقق الكتاب وتعليقاته على قول الراوي أو أحيانا على نص المقطع. أما الفصول الثلاثة الأخيرة فلا يظهر فيها الراوي، لكن للمحقق اشارات وتعليقات في الفصل التاسع منها فقط.
وينتهي الكتاب على الصفحة 180 وهي مؤرقة في باريس،آذار1995.
إن فهم بنية الكتاب تساعد على فهم محتوياته، وقد يبدو للقاريء أن المقاطع المؤطرة في الفصول السبعة الأولى هي نواته الفكرية والفنية. لكنها على أهميتها البالغة يجب أن تقرأ على ضوء ما يقوله الراوي ويجب أن يؤخذ معها في الاعتبار ما جاء في حواشيها وفي "الهوامش " و "فواصل الاستباق " و" الأوراق » و" الفوات " و "التوقيعات". ولا يقل عنها أهمية ما يقدمه المحقق من إشارات وفوائد.
قد لا نميل الى اعتبار الراوي محايدا وهو القائل:
للمتنبي ذاكرة لهب يتغغل
في التاريخ وجرح يتدفق في
جرح,
وانا قبس منه،
(أدرنيس 1995، ص26)
ولكننا ندرك أن كثرة روايته لأحاديث الشقاق والخلاف والقتل واستبداد أصحاب السلطة في تاريخ الاسلام بين سنة 11هـ وسنة 160 هـ غايتها التمهيد لفهم روح التمرد التي عرفت عن المتنبي ودعوته لاحقاق الحق. ولعله يتوسل بمعرفته للمتنبي لتقديم صورة قاتمة لفوضى الحكم وبؤس الضعفاء وبطش ذوي السلطة بالمطالبين بالعدل والمساواة في المجتمع الاسلامي منذ يوم السقيفة حتى خلافة المهدي، كما يتوسل أدونيس بالنقل عنه لتقديمها للعرب المعاصرين صورة رمزية عن المجتمع العربي المعاصر. وغاية كليهما أخذ العبرة بما مضى وتحسين الحال.
يقول الراوي في مطلع روايته:
إن المتنبي عاش ولكن في ما يشبه تابوتا
سافر ,لكن في ما يشبه مقبرة
في طقس لا تخلو سنة منه,
في طقس للقتل (وقد لا يخلو يوم)
(أدونيس 1995/ 1, ص 9).
ويضيف في ما بعد:
لا نعرف من نحن
الآن، ومن سنكون ,
إذا لم نعرف من كنا. ولذا
سأقص عليكم
من كنا –
(أدونيس 1995/ 1، ص 10)
ثم يسرد مشاهد وحوادث تاريخية بدءا من يوم سقيفة بني ساعدة، ويمر بما قاساه علي بن أبي طالب وذريته وشيعته من فواجع على يد أصحاب السلطة، ثم ما لاقاه الخوارج وغيرهم من تقتيل وتمثيل من أجل العقيدة، ويذكر الصراع بين المتسلطين أنفسهم وأعمال العنف والغدر والكيد التي ارتكبوها لنيل الحكم أو للمحافظة عليه والاستبداد به. ويعود بين الفينة والفينة ليتحدث على المتنبي وما هاله من هذه الأخبار وكيف كونت ما انبجس منه من فيض الشعر. ويقف من حين الى آخر ليعلق على سير التاريخ الدامي. يقول مرة:
ألفكرة قتل أو مقتل:
تلكم مائدة الماضى
أتراها مائدة المستقبل)
(أدونيس 1995/ 1، ص 107)
ويقول مرة أخرى:
أترى أرضنا لغة في الأثر
لا يترجم أسرارها
غير قتل البشر؟؛
(أدونيس 1995/ 1، ص 188)
ويتعجب من المتنبي كيف يفيض بحر التاريخ عليه وكيف يكتب الشعر:
وأتعجب , لا بالريشة
يكتب , لا بيديه ,
بل بالكون، وبدءا
من كل حصاة فيه,
من كل عذاب،
من كل عماء,
من كل ضياء,
بدءا من كل جنين.
كلا ,لن تفهم
ما أرويه ,
لن تفهم شيئا من
تاريخك , لن
تتفهم سر الحاضر
إن لم تفهم هذا الشاعر
(ادونيس 1995/ 1،ص297).
وإن نحن قرأنا ما جمعه لنا أدونيس من شعر المتنبي من المخطوطة المنسوبة اليه، ولاسيما في الفصول السبعة الأولى وهوامشها، فإننا واقعون على سيرة ذاتية شعرية، فيها من استبطان النفس والكون، ومن استكناه المكان والزمان، ومن استنطاق اللغة والخيال، ما يمكن أن يفتح أمامنا آفاق الكشف لا عن حقيقة المتنبي وعصره وحسب ولكن عن حقيقة الانسان والحياة عامة.
يبدأ الشاعر بمولده في الكوفة كما أخبرت به جدته ثم يسير مفصلا حياته تجربة تجربة، من الطفولة والصبا الى ريعان الشباب، وذلك الى ما قبل اتصاله بسيف الدولة الحمداني في حلب وهو في نحو الثالثة والثلاثين من عمره. (يتوقف "الكتاب… / 1" الى هذا الحد، ولابد أن أدونيس سيواصل تحقيق المخطوطة في جزء لا حق ليتمم سيرة المتنبي حتى وفاته مقتولا وهو في نحو الخمسين من عمره).
لا يروي المتنبي سيرته الشعرية في "الكتاب " بسرد قصصي متتابع، لكنه يختار منها شذرات فيرويها نظرات في الحياة وتحليلات لما يعمل في نفسه من آمال وتشوفات، وروابط لما بينه وبين الطبيعة والكون من امكانات وأشواق. يذكر محيطا وتراثه، يسمى المكان في تنقلاته الكثيرة، يأنس لبعض الناس الذين يعبرون حياته، لكنه يبقى فردا وحيدا غريبا لا يرضيه أحد. ينظر الى السديم في ذاته ويريد أن يحاصره ويقبض عليه في كلام شعري لكن السديم يبقى هاربا منه أبدا ويضطره الى الجري وراءه دائما والرحيل في أثره بلا هوادة.
ولا حاجة بنا هنا لأن نروي سيرة المتنبي، فهي معروفة والأبحاث فيها وفي شعر المتنبي كثيرة وضافية،. وحسبنا في هذا المقال القصير أن نركز على بعض ما أختاره أدونيس من هذه السيرة وكيف صاغه شعرا حرا منسوبا الى المتنبي ندرك منه فهما لهذا الشاعر الذي ملأ الدنيا وشغل الناس، وندرك منه أيضا ما ينسبه اليه من حداثة يتجاوب معها العرب المعاصرون وغيرهم من المهتمين بمتابعة الابداع العالمي الحديث.
ها هو المتنبي في العاشرة من عمره يكتب الشعر:
أتنور: هذا المدى كتل من شرر
تتفتت بين صدور البشر
أتراها الحياة ضياء – بنو آدم يطفئون
شراراته؟
كي أظل بعيدا,غريبا
أخذتني الى بيتها كلمات
وسقتني إكسير أعشابها
زمن – جالس
مثل طفل على ركبتي، ليقرأ ما يكتب
الفضاء
في دفاتر مسروقة
من جيوب السماء.
(آدوتيس 1995، ص 23).
ثم يرحل من الكوفة الى بادية السماوة ليكتسب فصاحة البدو مدة سنتين. يعود وهو يشعر أن الشرر فيه يجب الا يتبدد والا ينطفيء، فهو ينتمي اليه انتماؤه ال أبيه السقاء.
أنتمي للشرر
أنتمي للحصاد، احتفاء
بالحقول , لسقائها
قلقا, ناحلا
أنتمي للرياح , توحد في عصفها
بين وجه التراب , ووجه الفضاء،
ووجه البشر.
(آدوتيس 1995، ص 36).
يشعر أن فيه قوة تدفعه ضد الواقع القاحل الذي يحيط به ويشعر أن عليه أن يغيره.
سأكرر هذا الرهان:
يتقدم نحوي
زمن ضد صحراء هذا المكان,
وصحراء هذا الزمان
باسمه , سوف أعطي لنفسي
سحر الدخول ,
وحق الدخول
الى كل شيء.
(آدوتيس 1995، ص 58).
ينظر حوله الى البشر وما يعانون من عسف ويتساءل:
أنت العائش في اصطبل
لخليفة هذا العالم،
تتمسح بالجدران وبالعتبات، وتحني رأسك
خوفا
أو تحني طمعا
أو تحني ذلا،
هل تشعر، حقا
أنك جزء من طينة آدم؟
ويضيف في حاشية المقطع:
رحم المعصية
تتموج، تدخل في عيدها،-
هيئوا الأغنية.
(أدونيس1995,ص63).
هو فى الرابعة عشرة من عمره ولكنه غير مستعد لأن ينحني:
لن أغني لتاج – لا لكندة، أو هاشم، أو هشام
الضياء الذي يتفتق من سرة الشمس،
وجهي: أحدا لا أحد
سأغني لتيه الأبد
عاليا في الكلام لتيه الكلام
عاليا في الأبد.
(أدونيس 1995، ص78)
يقصد بغداد برفقة والده ويتعرف على الوسط الأدبي فيها.
منتهى فكره:
قلق يتقلب في جمره.
(أدونيس 1995، ص 102).
يحضر حلقات اللغة والأدب ويتصل بابن دريد وأبي علي الفارسي، وغيرهما ويثبت جدارته في الصرف والنحو والأدب، لكن روحه عالقة في غيب يحضن أحلامه الماردة:
ما الذي يفعل النحو والصرف؟ أسأل ابن
دريد، وأكرر هذا السؤال على الفارسي،
هوذا الغيب يأتي الى
أتقراه في صمته وأرى وجهه
وألامس أطرافه وأخص يديه وأهدابه
وأرى كيف يصعد في سلم الفجر، يهبط
في سلم المساء،
لا أضيف اليه، لا أشاء الذي لا يشاء،
وأرى كيف يفتح أحضانه
لملائك أحلامي الماردة
نحن في جبة واحدة
(أدونيس 1995، ص 106).
لا يطيل الاقامة في بغداد أكثر من سنة وبعض السنة، ويرحل مع والده الى الشام يقيم في المدن حينا وفي البادية حينا آخر. يسائل نفسه مضطربا:
لاأعرف كيف أعالج قلبي، وهو المتقلب –
يعلو، يهوي، ويقلبني ويجيء ويمضي
ويسائلني:
أين حضوري من أمسي.
من أين أنا؟ من يرشدني
لأسائل نفسي عن نفسي؟
(أدونيس 1995، ص119).
يموت والده ويأسو لفراقه، لكن السديم مازال يترجرج فيه
وهو في تململ مقيم. ويسأل:
أسحابة تلقي عباءتها علي؟ حفيفها
لغة النجوم الآفلة –
تيه، وقافلة تضيع قافلة
وأنا الشهادة حائرا بهذي
كمن يمشي على أشلائه
يمشي ويرتجل الفضاء
وأنا الشهادة. أرضنا
طمست
لكثرة ما تراكم فوقها من أنبياء
(أدونيس 1995، ص 154).
يرى الفساد يعم، السجن والتعذيب والقتل والصلب وحز الرؤوس من وسائل ذوي السلطة، والمآسي من نصيب المستضعفين. هل الأرض في حاجة الى نبي جديد، وقد طمست بالأنبياء السابقين؟
النبوات ثوب
نسجته بأهدابها أرضنا
والسماء وأفلاكها تدور على أرضنا _
فلماذا
كل شيء عليها خواء؟
(ادونيس 1995، ص 162).
ويجاهر المتنبي بما يدور في خلده ويسمى الأشياء بأسمائها، فينسب اليه ما لم يقله:
كيف، ماذا، أتهذي؟
لم أقل لمعاذ
مثلما قيل عني: مرسل، أو نبي.
قلت: أعطي لهذي الدروب،
لتلك المسافات أسماءها
وأجاهر أن الزمان
ليس إلا دما
ينبجس من شريان المكان
(ادونيس 1995، ص 189).
قيل أنه ادعى النبوة وتبعه خلق كثير في بلاد الشام وبادية السماوة، ولهذا أطلق عليه لقب «المتنبي» وقد سجنه لؤلؤ الغوري أمير حمص من قبل الأخشيدية، ثم استتابه واطلق سراحه، لكن المتنبي كان يداور في جوابه عندما كان يسأل عن ذلك فيما بعد. وفي مخطوطة أدونيس قوله:
وأنا من تنبأ شعرا
لم أقل: مرسل أو نبي.
قلت: هذا الفضاء
يتنور باسمي ما لا يقال ويصدح في مطر
مستجاب
لا يشاء الذي لا أشاء.
(ادونيس 1995، ص 190)
وفيه أيضا قوله:
كيف لي أن أرد النبوءة _ تأتي
في قميص من الضوء، تلقي وجهها في
يدي، وتنفث أسرارها في عروقي؟
وأنا من تنبأ شعرا
انظروا: انها الآن تفرش لي ساعديها
وتسكنني دارها
كيف لا أتبطن أغرارها؟
وأنا من تنبأ شعرا.
(أدونيس 1995،191).
ينكر المتنبي أنه نبي أو مرسل، ولكنا لا ينكر أن الشعر ضرب من النبوءة، فهو تبصر في الحاضر وما يجب أن يكون، واستشراف للمستقبل وما يمكن أن يكون. عليه أن يتبطن أغرار هذه النبوءة ليرقى الى مسؤولية الانسان الكامن فيه ويحقق الخير بالقول والفعل، والا لم يكن من طينة آدم وما له من وعد حق وما يحمله من أمانة. يقول:
حملت شمسي وأيامي وأسئلتي
ورحت أستقريء الدنيا وأمتحن
لا أرض، لا وطن
إلا رؤاي- تروز المجد، ترسمه
بحرا وتوغل فيه، تستضيء به
الشعر ربانها، والمركب الزمن.
(أدونيس 1995، ص 194).
ويتابع سيرته هكذا، عاشقا لآفاق الثورة على الحاضر المنبوذ، يوقظ الأرض من نومها لتحضن وطنا اخر:
هكذا. نقطة، نقطة
أتقطر، أتساءل بين جوار الزمن
وطنا آخر
وطنا للوطن
(أدونيس 1995، ص 11 2).
ويواصل رحيله متنقلا في مدن الشام وهو في العقد الثالث من عمره،لا يقر له قرار، يقيم زمنا في مدينة ثم يغادرها،يعيش في دمشق وطبرية والرملة وطرابلس واللاذقية وأنطاكية وغيرها، يمدح أمراءها للاخشيديين أو الحمدانيين ثم يمض ويغني:
عجبي أنني مثل ورد
لا يبرعم إلا في اتجاه غد يقبل
ألهذا _ أبدا أرحل؟
(ادونيس 1995، ص 248).
قبل اتصاله بسيف الدولة الحمداني في حلب لا يواطن غير التمرد، ويهب نفسه للجموح ,ولكل رفض، ولا يرضى عن زمانه:
كلما قيل هذا زمان القرود، استعاذ الرواة
بها لم يقولوا
وأجفل من قوله القائل
وطن ماحل ماحل ماحل
(أدونيس 1995، ص 294).
ويقول في حاشية المقطع الثامن والعشرين من الفصل السابع في المخطوطة المنسوبة اليه:
دائما في رحيل
عن سواه وعن نفسه-
هكذا رسمته الفصول على وجهها
(أدونيس 1995، ص 298).
وفي الفصل الثامن، في «الأوراق " التي عثر عليها في أوقات متباعدة وألحقت بالمخطوطة نقرأ المقطع التالي من الورقة التي رقمها XVVII:
حظك الاكمل
أنك الشهوة الجهيرة والفتنة المعلنة
أنك الهائم المترحل في غيهب الأمكنة
حظك الاجمل
أنك العصف – ينقض يستأصل
ولك البدء: تجتاح أو ترحل
(أدونيس 1995، ص326).
وفي الفصل العاشر من المخطوطة وعنوانه ترقيعات » نقرأ آخر الأصوات بترقيعات متعددة ورقمه هـ، وبه تنتهي المخطوطة:
كلمات.
شهوة تتقلب في جمرها
كلمات –
غابة خبأته
بين أغصانها
لا نبي ولا ساحر- نار شعر
في المكان ومن لا مكان
تتأجج في تيه هذا الزمان.
(أدونيس 1995، ص 380).
من هذه المختارات الوجيزة من المخطوطة تتضح لنا صورة المتنبي التي يرسمها أدونيس. فهو شاعر ذو رؤيا لا يرضى عن الواقع الراهن لفساده ويثور عليه. وشعره تبصر واستشراف، يدرك أن للانسان امكانات عليه أن يحققها وإلا كانت حياته هدرا مهدورا، لكن القوى المتحكمة في المجتمع تحول دون تحقيق الامكانات، المتنبي في الخطوطة قوة تسعي، ونار تتأجج وسؤال دائم يتولد في النفس، وشعره دفع لتجاوز الحاضر، ورؤيا مشرقة للمستقبل، وأحلام ماردة لوطن الغد. فلا غرو في أن يرى فيه أدونيس شاعرا من شعراء الحداثة. ولا أظنني مغاليا إن قلت إنه يرى فيه صورة من ذاته فيما نقله عنه من المخطوطة، وفي مقدمته لـ«الدهر المنشد» يقول أدونيس: "كتبت عن المتنبي وأكتب. لا أظن أنني سأنتهي من الكتابة عنه وبه. فهو بالنسبة الي، الشاعر العربي الذي قد يكون الأكثر شمولا بشعريته، موحدا بين الشعر والتاريخ، مرتقيا بهذه الوحدة الى مستوى رمز فريد، غني، لا يستنفد" (أدونيس 1997، ص 5). لا يقول إنه يكتب عنه فقط، ولكنه يقول أيضا يكتب به وهو قول يوحي الى أنه يتخذه وسيلة ليكتب به، أي ليقول شعرا بمثل شمولية شعره ويوحد بين الشعر والتاريخ مثله، وهو الأمر الذي مازال أدونيس يقوم به، ولا سيما بعد قصيدة "الفراغ » سنة 1954.
وقد كتب أدونيس في مطلع سنة 1969، فيما كتب من شعر قبل هذه السنة وبعدها:
قادر أن أغير: لغم الحضارة – هذا هو أسمى
(أدونيس 1988، ص28و 32و 37).
وذلك في قصيدة "هذا هو اسمي» التي كتبها في اعقاب هزيمة العرب في حرب حزيران 1967، وهي القصيدة التي يوحد فيها بين الشعر واللحظة التاريخية العربية المأزومة بطريقة فيها الثورة على الوضع العربي المزري وعلى أساليب قول الشعر العربي المعروفة،وفيها كذلك تحقيق لتجاوز القراءة العادية الى قراءة يشترك القاريء فيها ببناء المعنى ضمن احتمالات متعددة، كلها تفجر جديد ودعوة جديدة لتحمل المسؤولية. لم يعد القاريء لشعر أدونيس قارئا ساكنا، وظيفته أن يتقبل فقط بطريقة سلبية، بل أصبح مشاركا ايجابيا للشاعر في بناء المعنى – وان ظلت القصيدة بعد ذلك أفقا، مفتوحا لقراءات أخرى. هو مسؤول، وعليه أن يعمل فكره لتفهم القصيدة والتعرف على أفضل الامكانات المتعددة المطروحة أمامه لفهمها، لأن ايقاعاتها وسطورها وجملها لم تعد مجرد شكل خارجي لها بل هي الحيز الذي تتحقق فيه التفجرات المطلوب حدوثها في نفس القاريء وفي مجتمعه على السواء.
فالقاريء الذي يشارك في خلق المعنى واعادة ابداع النص المقروء عبر هذه التفجرات قمين بأن يشارك في خلق المجتمع واعادة بنائه عبرها أيضا. "لفم الحضارة " – هذا هو اسم الشاعر في عرف أدونيس: ينسف ما هو قائم ساكن سائد، يهدم ما هو رتيب قديم كريه، يوقظ النائم، يحرك الراكد، يزعج الجامد، يتحدى المستقر يعكر الصفو، يثير الاضطراب. وهو يفعل ذلك كله لا لسبب سلبي عابث بل لسبب ايجابي جدي: ليجدد، ليبني ليتجاوز، ليستبق، ليستشرف. وعليه أن يفعل ذلك كلا في شعر هو نفسه صورة للتجدد وللبناء وللتتجاوز وللاستباق وللاستشراف. الشاعر في عرف أدونيس إنسان يمور في قلق وتساؤل ويعاني الهموم الذاتية والجماعية وهو يرى الى محيطه يتخبط في عماء، فيكتب شعرا يكشف فيه عن التناقض الذي هو أصل الخلل ويفتح آفاق الحلول الممكنة عبر جدلية التحول والتغير. «قادر أن أغير» – يقول أدونيس. ذلك لأن في التغيير لغما للحضارة، ولأن في التغيير هدما من أجل البناء. واذا كانت الحياة تجددا دائما، فإن الشعر الحقيقي الفاعل في الوجود عبر القاريء هو ابداع دائم وتجاوز مستمر. ولكي يكون كذلك بصدق ينصهر موضوع القصيدة في لغتها، يذوب الفكر فيها في طريقة التعبير، يتوحد المعنى فيها بايقاعاتها وكلماتها وصورها وتركيبات جملها وتوزيعات سطورها. فيصير هو إياها: ابداعا في ابداع وتجاوزا في تجاوز. يقول أدونيس: «وسر الشعرية هو أن تطل دائما كلاما ضد الكلام لكي تقدر أن تسمي العالم وأشياءه أسماء جديدة – أي تراها في ضوء جديد. اللغة هنا لا تبتكر الشيء وحده وانما تبتكر ذاتها فيما تبتكره. والشعر هو حيث الكلمة تتجاوز نفسها مغلقة من حدود حروفها وحيث الشي ء يأخذ صورة جديدة ومعى آخر (أدونيس 1985،. ص 78).
من هذه الجدة في التعبير والرؤية ينشأ ما يدعوه بعض الناس غموضا في شعر أدونيس. ويبدو لي أن مصدر هذا الغموض لدى هؤلاء الناس أن قراءتهم لشعره هي قراءة عادية، لا تكلف نفسها ما ينبغي من جدية في تحمل مسؤولية قراءة الشعر الجديد الذي هو مثال منه. فهو شعر لا يكتب لاطراب القاريء أو لتسليته أو لدغدغة مشاعره بل لخلخلة مفاهيمه المستقرة ولزلزلة كيانه المنخور في لاوعيه لكي يقام بدلا منه كيان جديد. واذا كانت الحياة في الماضي مبنية على مفاهيم مستقرة ثابتة في بعض نواحيها، فهي اليوم في دوامة من التحول ولا يستطاع تصويرها حقا إلا بأساليب متحولة. ولما كان المستقبل يعوم في سديم من التغير والتشكل فإن استشرافه من قبل الشاعر لابد أن يكون مفعما بالتساؤل والبحث المقلقين اللذين يثيران نوعا من المقاومة لدى القاريء الميال الى الاستكانة لما تعوده ولذلك ينسب الغموض الى الشعر الجديد الذي لا يتجاوب معه بل يزعجه أيما ازعاج.
وليست نسبة الغموض الى هذا الشعر العربي جديدة، فقد عرفها في الماضي المحدثون من شعراء العصر العباسي الذين لم يتقيدوا بما سماه النقاد عمود الشعر، ومنهم أبو تمام بل عرفها الشعراء في سائر الثقافات العالمية في مراحل تاريخية معينة، هي المنعطفات الكبرى التي حدث فيها تغير في مسار الشعر على يد الخلاقين من الشعراء، الفاتحين لآفاق جديدة لمعاصريهم.
ومما لا شك فيه أن المتنبي من الشعراء الخلاقين هؤلاء وقد ثارت حول شعره الخصومات فملأ الدنيا وشغل الناس بقصائده وكلماته، وهو القائل:
أنام ملء جفوني عن شواردها
ويسهر الخق جراها ويختصم
وقد فتح لمعاصريه ومن تلاهم من الأجيال الطالعة آفاقا جديدة وحقق لشعره العظيم مكانا متميزا في التاريخ، وهو القائل:
وما الدهر إلا من رواة قصائدي
إذا قلت شعرا أصبح الدهر منشدا
ذلك أنه وقف على منعطف كبير في مسيرة الشعر العربي. وقد أدرك ذلك بحدس صائب فكتب الشعر لعصره وهو يستشرف العصور اللاحقة في فنه وطريقة تعبيره، وفي فكره وعميق حكمته. كتب الشعر بإبداع فكان شاعرا حديثا بابداعه، وحداثته هذه دائمة على مر الأجيال.
أما أدونيس فقد أدرك هو أيضا بحدس صائب أنه يقف على منعطف كبير حاسم في مسيرة الشعر العربي منذ أواسط الخمسينات من هذا القرن العشرين. فهو يرى أن واجبه يحتم عليه الا يواصل كتابة الشعر على طريقة سابقيه من المعاصرين التي يعتقد أنها مازالت تسير في ركاب القديم من حيث رؤيتها للشعر ووظيفته. ويرى أن عليه أن يؤسس لكتابة جديدة، هي أبدا بدء جديد، يتجاوز فيها ما كان قد شرعه المحدثون في العصر العباسي، ولاسيما تلك «الكوكبة الفريدة » (أبو نواس، وأبو تمام، والمتنبي، والمعري) التي لم تواصل الأجيال اللاحقة انجازاتها من حيث رؤيتها للشعر ووظيفته، ومن حيث اعتبارها الابداع زحزحة للقيم الفنية والفكرية السائدة واستشرافا لعالم جديد أبدا، ثائر على أتباع السلف والأنماط الجاهزة الجامدة والأفكار الرتيبة المكرورة.
عندما يقول أدونيس إن «الحداثه رؤية جديدة، وهي جوهريا، رؤيا تساؤل واحتجاج: تساؤل حول الممكن واحتجاج على السائد» (أدونيس 1980، ص 321). فإنه لا يربطها بعصر من العصور. هي إذن في رأيه حداثة الشعر في كل عصر ينهض فيه الشاعر ليتساءل حول ما يمكن تحقيقه وليحتج على ما هو سائد مما يمنع تحقيق الممكن وينطبق بهذا التساؤل والاحتجاج على طريقة التعبير في الشعر انطباقه على موضوعه. غير أن الشعراء يختلفون فيما بينهم في مقدار تساؤلهم واحتجاجهم تبعا لعمق رؤية كل منهم للانسان والعالم والحياة، ومدى معرفة كل منهم لطرق التعبير وتراثه اللغوي والبلاغي والأدبي وسعة ثقافة كل منهم وفهمه لسير التاريخ والحضارة في أمته والأمم الأخرى. وهنا تبرز أهمية الابداع لدى الشاعر الذي تتجمع فيه هذه الخصال بأعلى صورها وتنطلق في ذاته الشرارة التي تشعل عبقريته، فيبدع أعمالا شعرية يتخطى فيها السائد، ويفتح آفاقا جديدة لغيره فيها حساسية وذائقة للابداع المتجدد الذي يزيد الكشف عن الانسان والعالم والحياة بعمق واستمرار يقول أدونيس: "الابداع لا عمر له. لا يشيخ. لذلك لا يقيم الشعر بحداثته بل بابداعيته إذ ليست كل حداثة ابداعا أما الابداع فهو أبديا حديث". (أدونيس 1980، ص 340).
هذه بعض المباديء الأساسية للشعرية العربية في رأي أدونيس وهو يردها ملزمة في هذا العصر الذي يتعرض العرب فيه لكثير من التحولات الثقافية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية ويتحتم على الشاعر إزاءها أن يعي منها الأعماق ليكون فاعلا فيها ولا يبقى منها على السطوح، اذا كان حقا يريد أن يكتب شعرا جديدا بابداع، يتساءل فيه عن الممكن ويحتج على السائد، من أجل اضاءة أفضل للانسان والعالم والحياة.
المراجع
ادونيس 1959
«أوراق في الريح » الطبعة الثانية، بيروت: دار مجلة شعر. ادونيس 1974
«الثابت والمتحول: بحث في الاتباع والابداع عند العرب » الكتاب الأول: الأصول، بيروت: دار العودة. ادونيس 1977
" الثابت والمتحول » الكتاب الثاني: تأصيل الأصول » بيروت: دار العودة. أدونيس 1978
«الثابت والمتحول: الكتاب الثالث: صدمة الحداثة، بيروت: دار العودة. ادونيس 1980
«فاتحة لنهايات القرن: بيانات من أجل ثقافة عربية جديدة » بيروت: دار العودة. أدونيس 1985
«الشعرية العربية » بيروت: دار الآداب. ادونيس 1986 / 1
«ديوان الشعر العربي» الطبعة الثانية. الكتاب الأول. بيروت: دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع.
أدونيس 1986/2
«ديوان الشعر العربي» الطبعة الثانية، الكتاب الثاني: بيروت: دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع.
أدونيس 1986/3
«ديوان الشعر العربي » الطبعة الثانية. الكتاب الثالث. بيروت: دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع.
أدونيس 1988
«هذا هو اسمي ". بيروت: دار الآداب. أدونيس 1993
"ها أنت أيها الوقت: سيرة شعرية ثقافية ». بيروت: دار الآداب. أدونيس1995 / 1
«الكتاب – أمس المكان الآن: مخطوطة تنسب الى المتنبي يحققها وينشرها أدونيس: «بيروت /لندن: دار الساقي. أدونيس 1997
«الدهر المنشد، المتنبي – مقتطفات » بيروت: مكتب اليونيسكو الاقليمي وكتاب الشيخ زايد العربي.
عيسى بلاطة(ناقد وأكاديمي عربي يقيم في كندا)