مثلما وضع داود باشا الفرمان الخاص باعدام قاسم الشاوي جانبا، جهة اليمين ، ودق عليه ثلاث مرات وأقسم أن ينتقم ، فإنه وضع فرمانات عبدالله بيك والأنما درويش ، وذاك الخاص بالباجة جي، جانبا ، لكن هذه المرة جهة اليسار، وقال يخاطب نفسه : "الفلوس بهذا الوقت أهم من الروس ، وكل واحد من الثلاثة يقدر، بالأموال المضمومة تحت مخدته يشتري ولاية ويسير قوافل ، فإذا أرادوا افتداء أرواحهم عليهم أن يدفعوا كفارة ، ومثلما أوقف عمر ، رضي امته عنه الحد أيام المجاعة ، يمكن أن نرفع عنهم الحد".
ولأن هؤلاء ، وأخوين ، كانوا قد اعتقلوا بعد أيام من سفر موفد خالد بيك ، بسبب ما قيل عن "المضبطة " التي يفكرون برفعها الى الحاكم لمطالبته بتنحية كل من له صلة قرابة أو مصاهرة بسليمان باشا الكبير، منعا للفتنة ، فقد قرر داود باشا أن يسد بعض الأبواب التي قد تأتي منها الرياح ، لأن لديه الكثير الذي يجب أن يفعله في هذه الفترة ، ولا يحتمل التشويش والتحديات ، وفكر أن يبقيهم بضعة شهور "ضيوفا" عنده ، ان لم يكن في سجن القلعة تماما، ففي جناح لا يختلف كثيرا عن السجن. حار أو شديد الحرارة في الصيف ، وشديد البرودة في الشتاء، وان يكون بالغ الضجيج ليل نهار، من داخل القلعة ومن خارجها، دون أن يتمكنوا من رؤية الناس ، لكي تتاح لهم المقارنة بين ضيافة الوالي الجديد وضيافة
هكذا فكر داود ، وكان يردد لنفسه ، وهو يبتسم عندما تترآى له وجوههم : سطوة وجرة اذن… وبعدها : يا غريب دور أهلك.
لكن هذه الخطة التي قرر اتباعها، في محاولة لترويض خصومة ومن يفكرون بمعارضته ، ما لبثت أن تغيرت بعد فرار ابن الشاوي وموت حمادي.
كان لابد من الحزم ، حتى لو اقتضى الأمر التخلص من المعارضين الخطرين ، وكان لابد من تدبير الأهوال اللازمة ، وبسرعة ، لمواجهة الأعباء المتزايدة.
لم يتأخر الباشا في التحضير لتنفيذ الأحكام ، وعلنا، بأولئك الذين لا يمكن أن يغفر لهم ، خاصة وأن لأغلبهم صفة أنهم تعودوا على الأخذ دون العطاء، اذ بالاضافة الى الفتاوي التي كانوا يصدرونها لسعيد ونابي خاتون ، فقد كانت ألستنهم طويلة ، قذرة وطافحة بالسخرية ، حين يمتنع العطاء وحين يقل ، إذ يتحولون الى خصوم ، وهذا ما جعلهم لا يتوقفون لحظة واحدة عن تأييد سعيد والنيل من خصومة ، وقد لحق داود ، منذ
أن غادر الى الشمال والى أن دق أبواب بغداد عائدا اليها، من ألستنهم الكثير، كانت نابي خاتون تملأ جيوبهم بالنقود، وتنشر عن طريقهم قصصا حول داود لها بداية لكن لا تنتهي. ورغم أنه لم يكن يخاف لحك القصص ، إلا انه لم يكن يحبها، إذ تتناول طفولته وفقره وأسرته ، في الوقت الذي كان يبذل أقصى الجهود من أجل أن يراه الناس كما يحب : ذكيا، لامعا في السياسة والحرب ، شجاعا ومنتصرا في كل المعارك.
الآن جاء الوقت ليصفي حسابه معهم ، وعليهم أن يدفعوا ثمن الأخطاء الماضية ، كما لايريد توبتهم ، لأن الكثيرين أخذوا يتسابقون اليه ليمدحوه ويشيدوا بمزاياه.
ومع التصميم على التخلص من هؤلاء ليكونوا عبرة لمن يفكر بالتطاول ، فقد أرسل الى الذين يملكون المال : عبدالله بيك ، ودرويش أنما والباجة جي من يفاوضهم لافتداء أرواحهم.
لما عرض الذين أرسلوا لعبدالله بيك اقتراحهم أن يدفع ليفتدي نفسه ، لجأ رأسا الى الشتيمة. شتم سعيد ونابي وحمادي ، لأنهم السبب في المذلة التي يواجهها الآن. وشتم السبب الذي جعله يتعامل مع هؤلاء الأوباش ، وشتم نفسه لأنه ترك العزيزية وجاء ليصبح عبدا عند نابي خاتون.
فوجيه الذين جاءوا يفاوضونه ، وكانوا يلتقونه أول مرة ، من هذه القابلية الخارقة على ابتداع الشتائم ، والتي لا تخلو من طرافة ، وقد حاول أن يستغل ذلك من خلال ادهاشهم واضحاكهم ، وفي جو من المرح ، والذي سرعان ما تحول الى ابتسامات فقهقهات ، أراد أن ينسيهم الفرض الذي جاءوا من أجله ، لكن ما إن يهدأ الجو قليلا ويسألونه عن المبلغ الذي يدفعه ليخلص من "الرزالة التي يعيشها ان "، حتى يعود من جديد:
– آني أبو فلوس ؟ آني عندي فلوس ؟
ويلتفت بحذر خشية أن يسمعه غيرهم ، ويتابع :
– شنو… مخابيل انتو؟ ما تشرفني مصلخ ، منتوف ، وما عندي غير طرق خصاوي؟
وحين يطلبون منه أن يترك الهزل ، وان يحدد ما يستطيع دفعه ، يرد بحدة:
– بابا.. قلت لكم مفلس ، بارة سز، حتى افندينا الحاكم ، أطال الله عمره ، نوى يتكرم علي بنيشان برنجي لاني أكبر مفاليس الولاية ؟
يهزون رؤوسهم أنهم لا يصدقون ، وعليه أن يبحث عن حجة أخرى ، فيهدر صوته :
– حتى داود ، الله يخلف عليه ، لقفها وهي طايرة ، ولأنهم لم يفهموا ما يعنيا يتابع :
– ليش أكو دور للايتام والعجز ؟ ليش الله بسماه العالية ، قال : لا تكسروا خاطر الفقير؟ ليشر الديانات كلها وصت بالمسكين ؟
وحين لا يجيب أحد ، يتولى الجواب :
– ربنا من فوق شايف حالي ، فقال لمحروس السلامة داود: هذا العبد الفقير، الميت من الجوع ، عبدالله بيك ، توقف قليلا ، وقد رنت "بيك " بأذنه كما رنت بآذان الذين يتابعونه ابتسم قليلا ثم قهقه ، وخرجت كلماته حادة ، مع حركات من يده ووجهه :
– هذي البيك قشمرة ، لا تغركم…
ثم يعود الى نبرة الصوت السابقة.
– قالوا لوالينا داود: دير بالك عليه ، لأن الرجال ما محصل خبزته ، مهتوك ، كل شيء ما عنده ، وداود ما قصر، قال : تعالى كل واشبع… وبعد قليل وبسخرية :
– عرفتوا ليش آني هنا.. لو بعد ؟
وتكون ابتساماتهم دلالة للانكار وعدم الاقتناع ، فيندفع أكثر:
– بابا انتو غلطانين ، ويجوز الباشا دازكم على واحد غيري ، قلبوا دفاتركم زين ، وبعدها راح تقولون : عبدالله الفقير لله يستحق الصدقة !
بين الحيرة والاستغراب ، ولأنهم لم يعرفوا كيف يتعاملون معه ، انسحب الرجال الذين أرسلهم داود، استعدادا لجولة ثانية ، بعد أن يستشيروا رؤساءهم فيما ينبغي عمله.
في المرة الثانية ، ما إن فتح الباب عليه ورآهم ، حتى استقبلهم صوته الحاد:
– العن أبوا ليوم اللي تركت العزيزية وداست رجلي بغداد، لأنه يوم اكثر، لو انكسرت رجلي وما طبيت بغداد. لو صاب مؤخرتي دوحاس وما شالني بغل أعور. لو عجاجة أكشر أخذتني لمكان ما كو بيه أحد، حتى لا أشرف هذي الولاية ولا أقابل جهرة نابي خاتون. لكن حظي نبس ، حظي خرا، ومن دعاوي أمي علي وآني زغير، ولأني بقت خبز العباس وكلاش المؤمن ،. وما خليت مكسورة إلا وسويتها، صار بي اللي صار.،. وهمين جديين علي تريدون فلوس ، وتقولون هات ؟
توقف لحظة كي ينشف العرق الذي أخذ يسح هن جبينه وخديه ، نظر خلسة الى الوجوه التي تتابعه ليكتشف النوايا، وما اذا اختلفت عن المرة السابقة ، فلما وجد أن الرجال يتابعون بصبر لكن لديهم ما يقولونه ، سأل بلهجة حملها مقدارا هن الحزم :
– ها… شلون ، تأكدتم ان اللي تريدونه واحد غيري؟
لم يجيبوا، لكن نظراتهم أشعرته أن الطريقة التي يتبعها لا تجدي قال بمسكنة :
– لو آني بغير هذا المكان ، والدنيا مو رمضان ، كان صحت لكم ماء بارد، حامض ، طاسة باقلاء أو لبلبي، لكن مثل ما تشرف عيونكم.
وبعد قليل ، بلهجة مختلفة :
– ما يخالف ، تهون ، تنقضي أيام القهر ، تصير سوالف وأخبار، وعندها عر راح أعزمكم نوبة ، مية نوبة.
ولما طالبوه أن يحدد المبلغ الذي يستطيع دفعه ، ليطلق سراحه ، سألهم من جديد:
– بابا..انتو متأكدين ان ماكو غلط بالموضوع ؟
وقالوا له ان الأمر لا يحتمل نقاشا طويلا، وعليه أن يختار.
بعد أن مست وقتا غير قصير،. جاء صوته وكان متحديا:
– زين ما يخالف ،راو أبيع اللي فوقاي واللي جواي، بسر قولوا شقا يريد افندينا داود؟
وحين أبلغوه أن المقدار المطلوب عشرة آلاف كيسر، رفت عيناه عدة مرات ، وبدا الخوف قويا على وجهه ، قال وهو يلهث :
– الزموا الباب ، يا معودين ، والله وياكم ، وابد لا تخلوني أشرف وجوهكم ، وبعدها اللي تشمره السما تتلقاه القاع ، هذا هو وألف جهنم !
قالوا له قبل أن يغادروا انهم مستعدون للتنازل قليلا، فسألهم بعصبية عن حجم التنازل ، ولما ذكروا ان المبلغ قد ينزل ألفا ، رد وهو يدير وجهه نحو الحائط :
– بابا.. شنو انتو عقال أو مجانين ؟ منين أجيب.
وبعد قليل ، كأنه يخاطب نفسه :
– لو باعوني بسوق هرج أكثر من ألف ما يتحصل !
وهم يخرجون ، وقد كانت خطواتهم ثقيلة ، عله يتراجع في آخر لحظة ، استدار من جديد، ولم يتخل عن صوته الغاضب :
– والمخلص. نهايتها شقد؟
ولما استدار آخرهم ، وقال انهم مفوضون بالمتسعة ، رد بسخرية :
– بابا… سيروا على بركة اته. سلموا هواية على الوالي ، وقولوا له : عبدالله مات ، مات مو من اليوم ، من يوم ما طب بغداد، وما تجوز على الميت غير الرحمة !
ولئلا تصل المفاوضات مع درويش بيك الى ما يشبا هذه النتيجة ، أرسل اليه مشهور أبو الهيل. جاء مشهور كصديق للزيارة والاطمئنان ، وقد أبلغه أثناء الحديث ، اذ كان يوافق ، ان بالامكان أن يفتدي حياته وحريته بمبلغ من المال ، وزين هذا الحل ، رغم صعوبة ان يوافق عليه ، لكن سيبذل أقصى ما يستطيع من أجل ذلك ، ودرويش أنما، الذي لم يرفض هذا الاقتراح ، تساءل عن الوقت الذي يمكن أن يقضيه في هذا المكان ، الذي ما إن تخيم الظلمة حتى يمتليء بالعفاريت ، وتأخذ هذه العفاريت تتراكض حوله وتصيح ، فتصطدم به وتنام فوقه وتدغدغه وبل الأمر ان سرقت سبحته ، ولم تعدها الا بعد أن أوجعها بكاؤه !
روى درويش أنما هذه القصة كوسيلة اضافية ليعجل مشهور باخراجه من هنا. فلما لاحظ هما على قسمات وجهه ، قال له بانفعال :
– الفلوس ، يا أبو مثقال ، وسخ ال نيا تروح وتجيء أما روح البني آدم اذا طلعت ، أبدا ما ترد!
وبعد أن وافقه مشهور بهزات من رأسه تابع درويش آغا بحزن.
– شلون بلوى ابكينا ، وما يندري همين شوكت تخلص : قال مشهور بحزن لا يقل عن حزن الآغا:
– الحبس ، آغا ، وان طالت أيامه ، يخلص ، بسر الواحد يخاف يصير غير شيء وهناك الطامة الكبرى!
– يعني شنو… قول بالقلم العريض ، خاف تكون سامع فد شي !
– والله ما جيت ، يا أغا، إلا على مود هذا الشي !
– يعني شنو؟
– الناس بالسوق تسولف وتقول : داود ما يتأمن ،مثل الدنيا ما تتأمن ، ولازم عرفت : قاسم فر، عصفور وطار، ومن ذلك اليوم ووالينا نار اته الكبرى، محموق ، وبس يريد ينتقم ، فقلت لروحي.. توقف لحظات أخذ نفسا ملء رئتيه ، وتابع :
– وخاف يتسودن وتجي براسه ويسويها..
واهتز الآغاء بعصبية ، لكن مشهور أضاف بلهجة مريرة :
– الفلوس بالف جهنم ، المهم أن تبقى حي، يا آغا!
واتفقا ان تبذل أقصى الجهود ، وبسرعة ، بغض النظر عن المبلغ الذي سيدفع ، من أجل أن تنجز هذه المهمة.
قال درويش آغالمشهور ، وهو يودعه :
– واليوم أحسن من اللي عقبه ، يا مشهور ، لأن روحي شاغت ، وما يندري شنو اللي يصير ، ورغم أن مشهور أكد له ، وأقسم أن يبذل كل ما يستطيع ، فقد سأله الآغا بخوف :
– وشوكت ترد الجواب ؟
– خليها على التيسير ، درويش آغا، ومن جهتي أبداعا راح أقصر، وما يلزم توصيني، بس المسألة ان نلاقي درب على الجماعة. وبعد قليل ، وهو يبتسم :
– وانت ، آغا ، اذا بيت خيرة ودعيت لنا بالتوفيق فرب العالمين يهون ويفك الف باب !
قال درويش ، وبدا متعبا وحزينا:
– اذا قلنا : اليوم الثلاثاء ، فشوكت انتظرك ، ومعك الجواب :
– لو المسألة يمي، آغا، كان اليوم قبل بأجر، لكن ينر اد نشرف درب على الجماعة ، نريد فد واحد يعرفهم زين ، ويمون.
ويهتز رأس الآغا ببطء موافقا، ومؤكدا على كل كلمة يقولها مشهور أبو الهيل ، ويريد منه أن يتابع أيضا، ولا يتأخر مشهور:
– واذا لقينا اللي يساعد ويوصلنا راح يكون حظنا من السما.
– يا معود، يا أبو مثقال ، انت معارفك هواية ، والدنيا ما تخلي ، من هنا ، من هنا، ولازم نلقى.
– وكل آلله ، آغا ، اللي يسأل ما يضيع ، واللي يدور يلقى.
– راح اعتمد عليك ، يا أخوي مشهور ، ولازم تدبر!
هز مشهور رأسه مرات عديدة دلالة الهم والتفكير، وقال ، وخرج صوته من أعماق الصدر:
– وكل آلله ، أنما.
– عليه توكلنا، واليه ننيب.
ولم يتأخذ مشهور في الزيارة الثانية ، جاء يوم السبت ، بدا ملهوفا ،.هو يضج بالفرح :
– أبشرك مولانا!
– الله يبشرك بالخير!
وتعمد مشهور أن ينتظر بعض الوقت. مسح حبات العرق التي تساقطت من الجبهة. نظر حواليه ،وكأنه يضع المسؤولية على هذا المكان الحار… قال وهو يهز رأسه :
– حارة… آغا… جهنم !
عصر ذلك اليوم وكان عبدالله بيك قد تعب من المناداة ودق الباب ، جاءه أخيرا الحارس ، وحين طب منه البيك أن يأتيا آمر المقلعة أو واحد من السراي، رد الحارس أن الأمر في إجازة ، ولا يعرف كيف يتم الوصول الى رجال المسراي، والأفضل أن يؤجل الموضوع الى يوم أو اثنين ، الى أن يعود الآمر هن اجازته !
ولم يتوقف صخب عبدالله بيك ، ولم تتوقف احتجاجاته ، الى أن جيء له بأحد المسؤولين ، وعندها سمع آذان المغرب الحفى البيك بحبة تمر لينهي مياهه ، وقبل أن تنتصف تلك الليلة تم الاتفاق على أن يدفع تسعة آلاف كيس ، واشترط أن يمهل تسعة أيام ، وله الحق أما بدفع الف كيس كل يوم ، أو أن يسلم الأكياس كلها في اليوم الأخير. ووافقت السراي على شرط عبدالله بيك ، وترك له أن يقرر : الدفع اليومي، أو الدفع في نهاية اليوم التاسع أيهما يرضيه ، وأيهما أكثر راحة له.
كانت ردة فعل الآغا سريعة :
– متنا ، احترقنا، وموبس بالنهار ، الليل أنجس..
ولما تأكد الأفا أن مشهور ليس مستعدا ، بمد للحديث ، تابع بحرقة :
– والماي..الماي عبالك بول بعران ، والبق الله لا يراويك ، وكل جريدي لا برون قصاب ، وما ادري بعد شنو…
وصمت الآغا متعمدا ليمهد لحديث من نوع آخر، وبعد أن مرت ثوان ، بدت طويلة وثقيلة ، قال الآغا بكثير من الود:
– أي أبومثقال ، قلت لي أنه الأمور تيسرت ؟
– خليها على الله ، آغا…
تراجع الآغا بخوف ، وكأنا لا يتحمل ممل هذه الاجابة الرجراجة ، خاصة وان مشهور تعمد أن يرد ببط ء، وقد شابت صوته رنة شجية ، سأل الآغا بحرقة :
– أريدك تسولف لي ، وبالتفصيل ، من ساعة تفارقنا الى اليوم!
رد مشهور بتثاقل ، وكان يهز رأسه :
– شا قدر احجي شا قدر أقول ، أغا…
وبعد قليل ، وبنبرة جديدة.
– انشلع قلبي وآني أركض من مكان لمكان ، أريد فد واحد افهم عليه ، ويفهم علي ، يوم ، اثنين ، الى أن لقينا فد خوش ولد، وبعد ما افتهم السالفة ، دق على صدره ، وحط ايده على الشارب ، وقال : هذي ، يا أبومثقال ، علي ، خذها من هذا الشارب !
– آلله يبشرك بالخير ، يا ابو مثقال…
أخذ نفسا، وأضاف :
– الدنيا بعد ، بيها خير، يا أبو مثقال ، والناس للناس ، شنو عبالك خلصت؟
ولما هز مشهور رأسه موافقا مع ابتسامة جذل ، تابع الأنما بحماس :
– أي نعم ، مولانا ، الناس للناس ، لأنها إذا خليت خربت ، مثل ما قالوا، الله يرحمهم جماعة قبل ، انت معي، أبو مثقال ، لولا؟
– شلون لعاد، آغا، وياك مية بالمية !
وترك الاثنان لبعض الوقت ان ان يمر ، لكي يبدأ بالحديث الجدي. قال مشهور أبو الهيل ، ليقطع الطريق على أية إمكانية للاعتراض :
– والجماعة الملي عاو نونا، موبس فشامة وأهل مروة ، آغا، وهمين اعتبروها قضيتهم ، وقالوا فدوى لعيون الآغا!
– بارك ألله بيهم ، ونحن شلنا عل الناس غير مروتهم ، ما تقول لي ، يا
أبو مثقال ؟
– هو بس فالشكل ، آغا، الدنيا مخبوصة ، والله العليم ان الباشا ناوي على شر ، ومثل ما قال الجماعة : نخلص القضية اليوم ، هالساعة ، أحسن ، لأن الواحد ما يدري شنو اللي يصير باجر!
– يخلف عليهم ، مولانا ،والله يكثر من أمثالهم !
وساد الصمت من جديد. ابتسم مشهور أكثر من مرة ، فرك يديه بحيوية وتابع :
– المهم خلصنا، إذا سارت الأمور على خير!
– أي ، أبو مثقال ، شلون اتفقتم ؟ على شنو؟
قلت لهم : المهم بالنسبة إلنا: روح الآغا، صحته وكرامته ، وبعدها كل شيء رخيص ، ما له قيمة…
– اي.. مولانا ، وبعد ؟
– تصور، آغا ، قالوا لي : لا تروح زايد. صحيح ، ونحن معك ، روح الآغا بالدنيا، ونريده بصحة زينة ، ونريده يقعد بيته على الشر بالنهار، وينام فوق السطح بالليل وهو أمير، لكن ما نريد جماعة الباشا يطمعون بينا!
رد الأغا بحمية وانفعال :
– يخلف عليهم ولازم نقول : الواحد ما يرده الا حليبه ، ولولا أن الجماعة أولاد حلال ، أولاد أصل ، يجوز تنلاص ، يجوز يطالبون بالآلاف !
قال مشهور، وخرجت كلماته بطينة ، لكن موزونة :
– لا.. آغا، من هذي الناحية طعن روحك ، الجماعة قالوا. نحن ما نريد ، ولو بارة ، المهم تخلص القضية على خير!
– يا أبو مثقال ، آني قلت لك الف مرة : الدنيا بعد بيها خير، وهذا رأيك ، مولانا ، مو هالشكل ؟
– تماما ، آغا، وحمدت ربي ألف مرة ، ان القضية راح تخلص فالشكل.
بعد هذه الجولة الطويلة ، وبعد الصمت الذي داخله التأمل والغرر وانتهاء الفترة الصعبة ، سأل الآغا:
– اي… مولانا ، شلون اتفقتم ؟
– الجماعة… قالوا: المسألة تحتاج عشرين… أقل شوي.. أكثر شوي!
– عشرين شنو؟
– عشرين آلف.. آغا.
– هاي منين نجيبها؟
وبعد قليل ، وكأنه يحدث نفسه :
– هاي بلوة ، هاي منين تنجاب ؟
رد مشهور بسرعة ويحسم :
– قلت لهم هذا كفر، وهاي فوق طاقة الانسان ، فوق طاقة الآغا، ولازم الواحد يكون بقلبه رحمة ، وعنده انصاف ، ويطالب بالممكن ، أما اذا راحت الرحمة من القلب وصارت الفلوس كل شي ء فالواحد ينفض أيده..
– اي.. وبعد؟
– قلت لهم : الآغا ما يدفع الا عشرة ، لو طلعت بروسكم نخلة ما يدفع أكر، شنو الدنيا توترة : المدنيا فالتون ؟ استراح مشهور قليلا، ثم أضافا بحزن :
– قلت لهم : خلوا الله بقلوبهم ، يا جماعة الخير، والآغا لو يقدر كان
فتر كيسه ، وقال لكل محتاج : تعال… اعرف ، لكن الرجال على باب الله ، واذا حصل فد يوم فلسين ، فنصها للايتام والفقراء والمحتاجين ، والنص الثاني حتى يعيش به الرجال هو وأهله.
– اي ، وشلون اتفقت وياهم ؟
– قلت لهم : حدنا العشرة ، فإذا انتم جاهرين ، الآغاه جاهز!
– اي.. وشنو اللي قالوه ؟
– قالوا: اذا هاي طاقته يمكن نقنع الجماعة !
– اي.. وبعد؟
قال مشهور ، وهو يبتسم :
– قلت لروحي: قبل ما أروح زايد لازم أشاورك ، لازم آخذ رأي الآغا!
– اي.. وشنو اللي قالوا؟
– قالوا : معك ثلاثة أيام ، اذا وافق ، عل خيرة اشر ، أما اذا قال فلاني وتركاني ترى نحن ما علينا..
وبعد أن مسح مشهور حبات العرق ، واضطر أن يخرج منديله من لباسه ، أو ربما مسح باللباس ، قال وكان متعبا:
– هذا اللي توصلنا له مولانا، وهسه ظلت موافقتكم ، رأيكم حتى نرد الجواب للجماعة ! سقطت دموع غزيرة على وجنتي الآغا درويش ، لم تظهر أول الأمر ، اذا انسربت الى لحيته ، لكن توالي الدموع ، ثم اخراج منديل من الحزام ، وكان كبيرا الى درجة يبدو وكأنه غطاء ، وما رافق من طريقة تنفس ، أكدت ان الآغا حزين ويشعر بالغبن ، وربما القسوة ، لكن بعد أن نشف نفسا من الدموع والحزن ، قال لمشهور:
– انت تمون ، يا ابو مثقال.
وبعد قليل :
لكن ينر اد لي كم يوم حتى أدبر المبلغ.
– هذا كان شرطي، آغا، قلت لهم : حتى لو وافقنا ، لا تأخذونا كراحة ، لا لمحوا زايد، لأن الرجال ينراد له وقت حتى يجمع الفلوس !
– اي ، وشنو اللي قالوه؟
– تالو: ما يخالف ، والدنيا ما تخلص بيوم أو اثنين ، وبعدين أولها وتاليها القضية قضية ثقة.
هكذا انتهى الأمر ، مع الآغا درويش.
أما الباجة جي، وحين طلب منه المبلغ الذي حدده الباشا، فقد وافق ، وافق من المرة الأول ودون نقاش طويل ، فقط طلب أسبوعين لكي يسدد ما طلب منه ، خاصة بعد أن رفض عزرا افندي الموافقة عل كمبيالات تدفع كل شهر!
وتم الافراج عن الآغا درويش والباجة جي بضجة كبيرة متعمدة ، ليسمع الأنما عبدالله بيك وليتأكد ان الفدية دفعت.
هر يوم ، وعند ضحى اليوم التالي ، تناهى لسمع عبدالله بيك وقع طبل يقترب ، أنشدت )عصابه تماما. اقترب الطبل ورافقه صوت. لم يكن الصوت واضحا أول الأمر ، لكن كلما اقترب تميز وتحدد، أما حين أصبح تحت أسرار القلعة ، وخيم الصمت ، ثم ارتفع الطبل وتبعه الصوت ، فقد عرف عبدالله بيك صوت خليل الأعور، منادي الشؤم ، كما كان يطلق عليه، وهو يبلغ الناس أن الفرمان الهمايوني قد صدر بصلب العصاة وأصحاب الفتنة ، وسوف يرى الناس بأعينهم المصلوبين.
عبد الرحمن منف
(كاتب روائي عربي يقيم في سوريا)