تتحرك شعرية (عبده وازن ) في الشفيف العميق من اللفظة والمعنى، من الواقع بكل عناصره، ومن ترائيات المخيلة التي تنتج العلائق صورا شعرية تتعالق فيها الأعماق الجوانية مع الأبعاد الموضوعية. فكيف تبني هذه الوحدات واقعها اللغوي والشعوري وتجليها الفني؟ يتسم المبنى القصيدي عند، "عبده وازن" بالانوجاد داخل اليومي الذي يتحول الى يومي مفارق عن طريق ادخالات المعاش في حيز الحلم الذي يعيد ترتيب اللحظة في أنساق لغوية تنمو عن طريق عدة أشكال. أهمها: التداعي والسرد والومض والتشكيل. كما ان الحالة القصيدية لا تتوانى عن التعامل مع المتنوع بين الرومانسية والرمزية والسريالية، اضافة الى انبثاقها، في أحيان أخرى، كخواطر شعرية، وكتسلسل قصصي تتباوح أحداثه، وتحكي أبعاده تلك الآلام وذاك الانتظار مسترجعة ايقاع الذاكرة. أو مضيئة (الآن ). او ممتدة الى الاحتمال. في تجربة "وازن" تصر مكونات الطبيعة على البروز بمجالها الطبيعي، أو بمجالها المضاف الى دالة مجردة مثلا (الوردة أو الزهرة: وردة النوم / زهرة الجدار)/ (الشجرة / الغيمة )/ (النهار والليل )… اخ. وتتضافر هذه التقنيات لتنجز الفضاء الدينامي للنص الشعري المتجه، بدوره، الى انجاز علائق تنسجم فيها المتضادات الثنائية المتشكلة كنص يتسارا مؤجلا دلالته الفيضية الى الخاتمة، أو يتوامض كاشفا عن العادي والحلمي والذاكرتي. او يتراكب في تشكيلات مشهدية لا تخلو من البعد الميتافيزيقي. فماذا بين حركة الحياة وصمت القصيدة؟ وماذا بين انفلاتات الموت والحب والطبيعة وبين ظلال الضوء الحاضر من المخيلة؟ وكيف تناغم حلم اليقظة مع حلم الكلمات؟ وأي حضور للسماء وهي تتشخص كمكونات وتراتيل غائبة وأرواح تحضر من آبار الذات والرؤيا؟ نتبلج (أنا) الشاعر بضمائر مختلفة: (أنا المتكلم / ضمير المخاطب / ضمير الغائب ) وذلك تبعا لابتغاءات المقول الشعري وطقوسه الظاهرة والباطنة: قالت انها من فوق، أبصرت نفسها تغادر نفسها والسرير والنافذة ووردة الجدار قالت ان دمعة يتيمة سقطت من عينها اليمنى أحدثت على الأرض بقعة من أضواء فاتنة. مقول إخباري ينقل ما قالته الأنثى، بشكل ايهامي لأن الذات الشاعرة هي القائل الفعلي والرائي الذي دون ما لم تقله (الذات الأخرى)، مرتكزا في هذا الارواء على شفافية الالتقاط وعلى موضعة التفاصيل بحيث غدا المقول عاديا لولا الصورتان الموجودتان: (تغادر نفسها)/ و(الدمعة ) التي تصيرة (بقعة من أضواء فاتنة ). وحين ننتقل من قصيدة (وردة الجدار- ص 67 )/ مجموعة "سراج الفتنة ") إلى قصيدة أخرى من مجموعة "أبواب النوم – ص (113)"، فاننا نلمع عناصر حركة (الغياب ) تتجسد في مقول لم يقله أحد وكتبته الذات الشاعرة المنفرة مع عناصر حركة الاضاءة والظل المهجورة إلا من (الحلم ) و(الوردة السوداءة الليل ) و(السرير) كمكانية نفسية أكثر منها واقعية، و(الأثر + الظل +الفيمة ) كـ(بديل اشاري) عن (الدمعة ) في قصيدة (وردة الجدار): هكذا في الحكاية التي لم يرها أحد: من يغلق الباب وراءه لا يترك أثرا ليديه، لا يدع غيمة ولو صغيرة. من يغلق الباب وراءه لا يلتفت حتى الى ظله، لا يسمع وقع خطواته. هكذا في الحلم الذي لم يبصره أحد: من يرجع الى سريره في الليل لن يجده، لن يجد الليل الذي سال ورده على النافذة. نلاحظ أيضا، ان الشاعر يعتمد (جملة) يكررها كـ(لازمة) بين صورة وأخرى محاولا بذلك انشاء ايقاع تراتبي يحكم المكتوب ويفتحه على حدود أخرى لاحقة لـ(الجملة اللازمة) كما انه يسعى، من ناحية أخرى، الى انشاء ايقاع قرائي تتسلسل عبره استرجاعات ذاكرة القارئ.. ربما هذا التكرار الجملي جميل وذلك حينما لا يتحول الى (ثيمة) ينبني عليها أغلب المقول الشعري.. لأن هذا التكرار الجملي سيؤثر على المبنى الفني ويحوله حينا الى كلام وصفي، يتحول عن علائقه الادهاشية الى تعريفات شعرية. أما ما يتناغم بشكل جمالي منشئا علائق جديدة في اللغة، فسنتبينه من خلال مجموعة(سراج الفتنة) المتآلفة مع القصيدة البارقة – الومضة، ومع القصيدة النازحة نحو تغريب الغياب واللامرئي المبنية على التسارد كمحور أسي تنبلج منه الأحداث الشعرية الذاتية والموضوعية واللغوية، والمتآلفة أيضا، من رؤيا ثالثة، مع الوقع التشكيلي للصوت والفعل وحركة الصمت بين الصور المتفككة بمقصدية التركيب ذي الأثر البعيد حيث الدلالة تحوم تحت النص لتجمع الصور المتناثرة في الوحدة الكبرى- القصيدة. تشتبك تحولات الحب والألم والنزيف والغربة والفراق والطبيعة والحياة والموت في(سراج الفتنة) فلا تنطفئ العتمة الوجودية والنفسية والظلالية ألا لتشتعل الجملة بضوء الجرح والروح والصلوات والامكنة الحاضرة كمعبد وطريق ودرب وشجرة وزهرة ونوم وحيرة وغموض وأرق وتداعيات وتأملات.. ويتضح من ذلك أن المكان يتحول الى حيز رمزي تتآمر دوائره مع الزمن القصيدي الناتج عن النسق. ويختلف هذا المنتج الدلالي تبعا لحركة الصورة وإحالاتها وإسقاطاتها، الناشئة، بدورها، عن كثافة الطاقة المبدعة في المفردات، وعن مدى ديناميتها المتواترة بالمناسب من الحركة والسكون، من التشكيل والبعثرة، من الوجود واللاوجود. ولا ينجز النسيج احتمالاته المنفتحة بهـذه الفنية إلا عندما تتضاعف دراسية الضوء مع الظلال مولـدة اللازمن من الزمن، ومناسلة من الزمن زمنية تجدل الذاكرة والمخيلة في لحظة مؤلفة من (الحلم / و(الآن ).. أحسد الزهرة لأنها عرفت كل ما لم أعرف في غفلتها الأعمق من حلمي ومن ماء عيني المفتوحتين / قصيدة "براءة " ص(38)
ماذا بين الحسد الشعري والبراءة؟ هل هو المجهول؟ أم انه الكثافة الكونية حيث الولادة الأولى لتحولات البذرة الى زهرة؟ سيكون المجهول طرفا، وسيحقق معادلته عبر التداعيات الأولى للتكوين الانوجادي، وستتم هذه المعادلة في المجال الجامع لـ(غفلة الزهرة الاعمق) و(الحلم الشاعر) بما في ذلك من تقابل دلالي مغيب في المبنى المكتوب، وظاهر في الترائي العلائقي الساقط بين (ماء العينين) و(غفلة الزهرة) وبين صفة العينين (المفتوحتين) وبين المعرفة الرمزية لاشتباكات التفتح من البذرة المغلقة الى الزهرة المتفتحة، لكن، هل تقتصر (البصيرة) الشعرية على البراءة المضمرة للبراءة الجمالية؟ أم أنها تمتد الى تساؤلات ومضية تفتح الغامض والمتفتح على احتمالات الوجود المترامز بـ(الموت) أو(العدم) أو(التصير اللامتوقع ) لعناصر الطبيعة؟:
غدا اذا انطفأت الشمس أي ضوء نسميه جرح الأزل؟
البحر اذا جف غدا أي زرقة نسميها فردوسنا الغابر؟
تتوامض بهذه الاستفهامات الحائرة قصيدة (غدا/ ص 59) فاسخة للزمن البروز بطريقة تقنية تضع عناصر الصور الاستفهامية بشكل تقابلي (الشمس/البحر) كتزاوج تضادي بين (النار) و(الماء) يتحول في تركيب الكلام الى زمن صامت يتأمل في تكوناته المستقبلية الذاهبة باتجاه (الموت =الانطفاء +الجفاف) وباتجاه تزاوج الدلالة التابعة (الجرح الأزلي) كحياة مستمرة تتحرك في مدار (الشمس)، و(الفردوس الغابر) التابع لـ(البحر) بكل مدلولاته المتناغمة مع عنصره الأولي (الماء) كخصب ووجود ودليله تموجاته الممتدة في الزمن والعمق الجواني كـ(حلم)= (الفردوس الغابر). منظومة رمزية بسيطة المكتوب، عميقة اللامكتوب، تمنح الصورة (حاستها التخييلية) وهي تعبر عن حركة فعل لآخر، ومن لون لآخر: لون الشمس الى زرقة البحر الى حمرة الجرح الى خضرة الفردوس، ومن لون الأزل الى لون الزوال (جرح الأزل )/(الفردوس الغابر). وهذا الذي يحدث في القصيدة وقد يحدث في الزمن الآتي نراه ينفي عنه الموت والنوم في قصيدة بارقة أخرى: (شعلة / ص 17): عين، حين أغفو لا تنام، جرح ينبلج من بئر اللوعة، خوف في عمق الوجه لا يستكين: في الضوء تنبثق شعلة أخرى. تتوازى طاقة الدلالة الهاربة من استفهامات قصيدة (غدا) الى اجابات قصيدة (شعلة) توازيا يحرك عناصر الفناء: (الانطفاء +الجفاف) باتجاه الانبعاث والتجدد المتجسد بمظاهر الحياة في (النوم): نوم الذات الشاعرة كحالة سكونية مخادعة، لان دلالاتها الباطنة تشير الى استمرار المتحرك من الذات والصمت والسكون بهيئات تلك (العين) المتمركزة في فجوة التوتر القصيدي المنبث بين (الجرح) و(البئر) و(العمق) و(الضوء) و(الشعلة)، وإيقاعات هذه المفردات تحيلنا بطريقة أو بأخرى الى (الشمس ) و(البحر) بكل معانيهما الرمزية والطبيعية المنعكسة من القصيدتين كطقس لتقلبات الذات والدالة يواصل ارتجاجه في الحيز الضمني لبياض المقول المتصل بقصيدة أخرى: (عين غريبة/ص 30) التي تتداول انبثاث الميكانيزمات المحورية بين الماء والنار)(صولفيج) يعزف (الماء) كقرار تارة، وكجواب تارة أخرى، مثلما يمنح النار ذات الحركة القرارية والجوابية المتنقلة في النسق الفني الذي تتمرأى صوتياته بالصوت: (أجراس الضوء/أجنحة الملائكة/أجراس أول الصبح/شاع الشمس). وتتحرك هذه المعزوفات بهيئة أخرى لتشكل (القصيدة اللوحة) كما في قصيدة (ألوان/ص 58):
الضوء الذي يحتل مطارق الغيم يجعل منها سفوحا
متعرجة لملائكة يصعدون وينزلون بخفة كالبرق.
لا يغيب الضوء ذاك إلا عندما تستحيل الغيمات وجوها
مبهمة تتلاشى فوق البحر، فوق الأكمات المنحدرة ببطء.
إن دلالات المفردات المتكررة تعيد إنتاج حضورها عبر إنزياحها عما انجزته في موضع سابق، فهي تأتي من قاموس الشاعر لكن بانبلاج يرغب في مغايرة انبلاجه في أنساق أخرى من نصوص المجموعة، وهنا، نتبين إن مفردات (الضوء /الملائكة / البحر)نسجت ضمن حالة تتلون بتشكيلات (الضوء) في مكانية هي (المخيلة) المتملصة من الباطن الى انعطافات التجلي)(غيم) لا يلبث أن يتحول الى (ملائكة) تنجز عبر فعليها المتعاكسين(الصعود/ النزول) حركة تواترية للصورة اللاحقة التي تمحو ارتباكات الضوء(لا يغيب الضوء.. إلا..) وهنا، نجد كيف انقطعت تكوينات الحضور الأول للضوء في صورته الاولي، لتتصل بصيرورة طيفية تناور على (التلاشي) بوجود آخر (الغيمات وجوها مبهمة /فوق البحر/ فوق الأكمات ).. فلولا التحديد المكاني لحركة التصير، لظلت أبعاد الصورة في لوحة ارتسمت لتختفي في حيزها الأول (الفضاء)، وحينما برز المكان بتعيين مقصود، انسحب التحول من طيفيته المنبثقة مع حركة الضوء والملائكة، إلى حركته النازلة باتجاه الأرض. وتتمدد هذه التعيينات لتخرج عن مكانيتها في صور أخرى توظف هاجسها في مسافة (التوتر المتغير): (حين أقول الحقل أقصد كل ما لا يحصر ناظري داخل الجدران / ص 65) وهذا اللاتحديد يفتح لنا بوتقة سرية على قصيدة أخرى (جدار الأناشيد/ ص70) وهي تبدأ بـ(الضبابة) لتمر على (الينابيع الداخلية) وترسم تضاريس الجواني وطبيعته بسردية تستوقف أبعادها بين جملة وجملة بصورة تنشط فيها فاعلية الرؤيا مع فاعلية الكلمات المتعالقة (السروات تحرس سور الصبح كعذارى الهيكل والصفصاف ينحني كعادته فوق النهر المنحدر ببط ء صوب أول الزرقة ). تنتج شعرية الصورة من تضافر عناصر عديدة أهمها انزياح العناصر الطبيعية عن طبيعتها بغية انمشاء علائق لا مألوفة فيما بينها وبين لحظتها المتجلية عبر انزلاق الدلالة الى ظلها ومن ثم توظيف الظلال في مبنى تركيبي يجعل (السروات): "حراسا كعذارى الهيكل" ويجعل "الصفصاف" منحنيا قبالة أنوثة السروات، ولا يخفى ما في ذلك من حالة تجريدية تجسد في منحناها الرؤيوي تداعيات الداخل بين الانوثة والذكورة كقطبين يمر بينهما (النهر) أي (الماء) بكل دلالاته الخصيبة والاشارية حيث يتم الانحدار نحو (اول الزرقة) الرامزة الى استمرارية التكون.. وأيضا ترتكز هذه الصورة المجردة ذات التكوين الرمزي الى موسيقى الدالة الموحية بتناغم واضح بين تكرارات (السين / الصاد/ الزين / الراء).. وبذلك، تنساب صورة الصوت العميق مع صورة الصوت المكتوب انسيابا ينسجم مع (الصبح) و(النهر) و(الزرقة) واحالات هذه المفردات على اللحظة المعاشة والتي تدفع تجريديتها الى نوع من التصوف في قصائد أخرى، مثل (نار الحقول ص 58) وقصيدة (الأو دية ص 62) وقصيدة (روابي العزلة ص 75) وقصيدة (كتاب النهر ص 74) التي سنحاورها تبعا لما تقترحه من تماوج يبدأ باشتعال خفيض لا يلبث أن يحرض تفاصيله على التنامي ثم يتسارع منتقلا من الذات الشاعرة الى ضميرها الآخر المتمظهر بذوات طبيعية مخاطبة (القمر/الليل):
كمصباح أشعل قلبي وأجلس طول الغسق أحصي
أيامي الغائبة.
قل لي أيها القمر: كم من سماء علي أن أعبر لأبصر
وجها أو منديلا، كم من شجرة علي أن أصادف لأهتدي الى
مملكة الغيم؟
تهرب (الرؤيا) من نفسها لتمكث في (مصباح القلب) ولتكون (البصيرة) المضيئة بشكل تناوبي مع (القمر). وبين (الشعلة) و(القمر) تبزغ مسافة يحكمها فعل (الجلوس) بما يضمره من ترقب وانتظار ودخول في (أعماق الذات) مثلما فعل (بوذا) الحاضر بخفاء شديد، ومثلما يفعل المتصوفة في لحظة البقاء والفناء، وتتعدد هذه المسافة جاعلة من نفسها حيزا زمنيا تلتقي فيه حركة المفردات لتنتج (الصورة الغائبة) في (الصورة المكتوبة) والتي تتخذ منحنى صاعدا، على عكس منحنى الهبوط الذي تبناه الضوء في قصيدة (ألوان)، ويتسم هذا الصعود بـ(اسراء) يعبر السماوات بحثا عن الاستفهام لا عن الاجابة كما يوحي بذلك ظاهر الصورة، وكما تسير المعاني المتراكمة في (السماء/ البصر/ الوجه / الشجر) لتستقر أخيرا في (مملكة الغيم ).
وتتنوع دروب الصعود والهبوط في النصوص تنوعا يخرج من الذات الى الكون، ويخرج من الكون الى الذات الانثوية المتشاكلة بالحواس (أكمام بيضاء- ص 91)/ ذئب القمر- ص 83/ غيبوبة – ص 99/ يدان ص 100) والخارجة الى الذات الانثوية، من جهة ثانية، كتشاكل للأعماق تتمرأى فيه (أنا الشاعر) لتندغم مع (الأنا الاخري): (وجهك في الليل هو وجهي ووجهك معا- ص 96)/ ليتك تلدينني فأنفض عني السأم الي ورثته عن آباء أجهلهم – ص 107)/ دمعتك التي لم تسقط تشرق في عيني كلما اشتعل فيهما صبح جسدك النقي- ص (121)..
ومثلما يتشكل (الحب) هالات تدور في النصوص، نجد ان الغربة والاحساس بالمنفى مدار موازي للحب يترامز كـ(دلالة مهجورة) الا من الأرق والانتظار والضياع والغياب. وتتسم هذه الدلالة بنغمات حضورية مختلفة تجمعها شبحية الوجود بمفرداته التكوينية وبمفرداته القصيدية، وبذلك نتراءى كيف تتحول اللحظة المكتوبة من شبحية وجودها الى (علائق طيفية ) بين ضياع الوجه: (وجهي الذي فقدته بين الوجوه وتحت سيل النظرات أعده الي لأكمل الطريق الذي لا أعرف أين تنتهي- ص (53) وهذا الفقد يتلامع في قصيدة أخرى بحركة جمعية: (حين لاح أول الصبح خرجوا كأخيلة شاحبة – ص (51). وهذا التشاح العلائقي يتخذ مسارات صورية متوزعة في القصائد، بعضها يتعلق بغياب الجسد كما قرأنا في الأمثلة السابقة، وبعضها يتعلق في البحث عن الغياب كحضور لا مرئي يمثله (الزمن) و(القصيدة)، و(الظن):
( 1) – يجري الزمن نحو انكماشه في بؤرة دلائلية تتسم بالحركة والتحول (الاحتراق):
لحظة واحدة فقط هي الأيام كلها
لحظة حارقة كنظرة القديسين، أليمة كصلاة الندامة. حين تخترق يديك، تشعل جمرهما، / ص (56). في الصورة الأولى يتراكم الزمن كـ(لحظة مطلقة) متهيئا وعبر السياق الى انتشار آخر ينزح من العمق الداخلي للذات متوسلا (ضميرا ثانيا: نظرة القديسين) ثم منزاحا الى علاقة جديدة، تشتعل فيها (اللحظة الواحدة) بارتفاع ايقاعي طيفي ثيمته (التجريد): (الصلاة)، ويلي حركة الانتشار ايقاع آخر يوحي بإعادة (التراكم) في مكانية مجسدة (يديك) حيث لا يستقر الزمن الا ليعيد انتشاره وذلك ما تخبئه آثار دلالة (الجمر) كاشتعال ثان يبعثر "اللحظة / الزمن / الأيام المرئية / الذات الشاعرة ).
(2) – انو جاد (الذات) في الانتظار السابق للقصيدة، وفي القصيدة التي لم تنكتب، وهذا زمن من نوع آخر تغيب فيه حضورات الجسد كمحسوس – جسد الذات وجسد الموجودات، ليحضر الغياب من مكانية هي (الانتظار) وهي التأثيرات الميكانيزمية للعناصر التي ستتناسل من فضائها المخيلتي – اللامكتوب، الى فضائها الذي سيصير (أسود):
وها أنت تنزلين كملاك، تصعدين كغيمة، وان طال
انتظاري أمام اوراقي أستسلم لسرابك، للسراب الذي
يسبقك دوما ودوما تتركينه وراءك على صفحة أشد بياضا
من الموت. / ص (14)
اغتراب دائم بين (بياض) القصيدة و(بياض) الذي سيأتي، وثمة مسافة بين (البياضين) تتحرك، ولا ترى الا بعد النبش العميق (اركيولوجيا المفردة الشعرية ) المكتوبة واللامكتوبة على السواء، وهذه المسافة ليست سوى (الأثر) المنجز من صراع خروج الذات من الذات، وخروج القصيدة من القصيدة، خروجا لا يعادل تناسلات حضوراته سوى (الموت)، فالشاعر يموت لتحيا القصيدة، وبذلك يتحول جسد الذات الى كفن وقبر منه تنبعث متصارعات الانوجاد الدلالي الأبيض.
(3) – انفتاحات (الظن) كزمن على (الزمن) وكـ(أثر) الفاعلية (الحلم) في (الزمن) و(الذات) و(الكلمة):
من كثرة ما اختطفني الأرق صرت أظنه شمس ما بعد الحلم، شجرة ما بعد النوم. / ص (56)
ويبقى (الظن) حالة محورية لاحتمالات قصيدية وقرائية تتزامن رموزها مع التشكيلات الصورية، ومع ايقاعات هذه التشكيلات الرومانسية والصوفية والسريالية والسردية ذات المبنى التكويري وذات المبنى المتقطع الذي فصل بين صورة وأخرى ليترك للمجال المتحرك بين الصور علائق تتراكب منجزة القصيدة بظهوراتها المتنوعة (الوامضة)/ (الحكائية)/ (المتعددة المقاطع): (زهرة المخمل – ص (119) المنجزة عبر (22) مقطعا مكثفا بالسردية وبالاختزال وبرشقة الدلالة على البياض النصوصي المنقسم في المجموعة الى ثلاثة عناوين: (شجرة النار والريح من ص (1) حتى ص (75) / نجمة الصحو من ص (79) حتى ص (124)/ ما لم يقلد هاملت في رثاء أوفيليا من ص (127) حتى ص (136).
x عبده وازن/ أبواب النوم/ دار الجديد/ ط ا/ 996ا م.
x عبده وازن / سراج الفتنة/ دار النهار/ ط1/2000/ الصفحات (136).
غالية خوجة (كاتبة من سوريا)