السورياليون، بوجه عام، لم ينكروا أبداً مبدأ التواصلية التاريخية، ولم ينقطعوا عن الماضي بل وطدوا من جديد الاتصال مع الماضي. لم يروا أنفسهم – أو حاولوا أن يقدموا أنفسهم – كمحتلين لمساحة فارغة. بل على العكس تماما، كانوا يلحّون المرّة تلو الأخرى على أن الغرائز التي منها تستمد السوريالية قوتها هي خالدة، وأنهم يجدون المتعة والسعادة في لفت الانتباه إلى البرهان والبيّنة الموجودة في فن وأدب الماضي، والتي تدعم جدالهم مع الآخرين.
لقد التفت السورياليون إلى الوراء لأسباب ذاتية، أنانية، أو على الأقل، كتعبير عن تمتعهم بالاكتفاء الذاتي.. إذ كانوا يبحثون في نتاجات وأعمال من سبقوهم عن ما يدعم أفكارهم وأعمالهم، عن براهين تؤكد أن ثمة من كان يشاطرهم رؤاهم، ويشعرون تجاههم بتجانس وتماثل في ما يتصل بالميول، الأهواء، الطموحات. لقد كانوا يبحثون عن أصداء لأسئلتهم الخاصة، ويلتمسون الأجوبة التي تتفق مع تلك التي صادقوا عليها.
منذ اللحظة الأولى والأكثر كثافة لثورته، شعر أندريه بروتون بأنه ينتسب إلى نسل من ثوار الأمس العظام: السحرة، الخيميائيين، الهراطقة، الأخلاقيين في الأدب.
كان للسوريالية الفضل في إعادة اكتشاف أسماء عديدة في أدب وفن الماضي، وذلك عندما سلطت أضواءً جديدة على أعمال ذات قيمة عالية لكن منسية، وعلى مبدعين غمرهم النسيان أو الإهمال أو التجاهل أو سوء الفهم. وكما قال لوي أراغون في 1963 فقد انبثقت السوريالية «لاستكشاف حقول شعرية كانت على وشك أن تضيع، وأخرى تتخلـّق أمام أعيننا».
لقد أعاد السورياليون اكتشاف أصوات مهمة تنتسب إلى الرومانسية وإلى الطبيعية – النزعتان اللتان كانتا مهيمنتين في أدب القرن التاسع عشر – ولولا السوريالية لغابت تلك الأصوات نهائياً ولم يذكرها أحد، وكما قال أراغون أيضا: «السورياليون هم الذين جعلوا الرومانسية تصبح معروفة على نطاق واسع.. أعني في جوهرها وليس في اختزالها إلى أشكال مدرسية موجزة».
أظهر السورياليون ميلا واضحا وحماسيا إلى الشعراء الذين اعتبرهم التاريخ الرسمي للرومانسية أفراداً ثانويين، والذين تجاهل النقاد أعمالهم. ومع أنهم اهتموا بنصوص شعرية مهّدت للتيار الرمزي إلا أنهم شنـّوا هجوماً عنيفا على الرمزية وجرّدوها من أية قيمة. لقد رفضوا هدهدة الحواس، كما يفعل الرمزيون، في الخواء المفروض ذاتيا. وطالبوا بالتحرر من الرمز إلى حد أن أحدهم – رينيه كريفيل – زعم أن «الشعر الذي يخلـّصنا من الرمز يبذر الحرية نفسها» (1927).
في مقالة لأندريه بروتون بعنوان «العجيب ضد الملغز» يعزو موطن ضعف الرمزية إلى خلطها بين الملغز والعجيب. وهو يرى بأنها علامة إهمال أن تخلق، من خلال التباسات لفظية، جواً بديلا للغز. هذا، بالنسبة إليه، تصوّف زائف يفتقر إلى قوة البقاء، في حين أن إقامة صلة حميمة بالعجيب أو المدهش يفتح للكاتب مصدرا للاتصال مع البشر.
الفجوة بين الإلهام الرمزي والسوريالي كانت تزداد مع مرور الوقت. ومع أن السورياليين أظهروا في سنواتهم الأولى الإعجاب والاحترام لمآثر الرمزيين واعتبروهم أسلافاً روحيين، إلا أن موقفهم من الفن والوضع الإنساني كان مختلفاً على نحو جذري. وقد لاحظ السورياليون أن على الرغم من محافظة غالبية الشعراء المعاصرين على التقنيات الأدبية الرمزية، إلا أن شهرة الرمزيين الفرنسيين، الذين برزوا في القرن التاسع عشر، قد بدأت تخبو ولم تعد ثابتة أو مستقرة. في العام 1936 تطرّق أندريه بروتون إلى مدرسة مالارميه وكيف أن أعضاءها قد غاصوا الواحد بعد الآخر في رمال النسيان.
في الحقيقة، السورياليون لم يلتمسوا تراثهم في الحركات الأدبية الماضية بل في عدد من الشخصيات الأدبية المستقلة،المتميّزة، المرتبطة بذلك الماضي. هذه الأسماء، بالنسبة لهم، كانت بمثابة الأنوار الساطعة التي توضح رؤيتهم الجديدة للفنون.
هكذا أشار بروتون، في البيان السوريالي الأول (1924) إلى أسلاف السوريالية على النحو التالي:
هيراقليطس سوريالي في الجدل (الديالكتيك)، لولي سوريالي في التعريف، فلامل سوريالي في ليل الذهب، سويفت سوريالي في المكر، ساد سوريالي في السادية، كارييه سوريالي في الغرق، شاتوبريان سوريالي في أجنبيته، مونك لويس سوريالي في جمال الشر، كونستان سوريالي في السياسة، فيكتور هوغو سوريالي حين لا يكون غبيا، ديبورد – فالمور سوريالي في الحب، أشيم فون أرنيم سوريالي بكل ما في الكلمة من معنى.. في المكان والزمن، برتران سوريالي في الماضي، راب سوريالي في الموت، إدغار ألان بو سوريالي في المغامرة، بودلير سوريالي في الأخلاق، رامبو سوريالي في ممارسة الحياة وفي غيرها، مالارميه سوريالي حين يكون حسن الظن بالناس، الفرد جاري سوريالي في السكـْر، نوفو سوريالي في القبلة، سان بول رو سوريالي في استخدامه للرموز، فارج سوريالي في الجو، هرفي سان – دينيس سوريالي في الحلم الموجّه، لويس كارول سوريالي في اللامعقول، هويسمان سوريالي في التشاؤم، سورات سوريالي في التخطيط، بيكاسو سوريالي في التكعيبية، فاشيه سوريالي فيّ أنا، ريفردي سوريالي في البيت، سان جون بيرس سوريالي في المسافة، روسل سوريالي في رواية القصص.
ويضيف بروتون: هؤلاء ليسوا سورياليين على الدوام، إذ أني أتبيّن عند كل منهم عددا من الأفكار المسبقة التي كانوا، بسذاجة، يتمسكون بها.. وكانوا يفعلون ذلك لأنهم لم يسمعوا الصوت السوريالي.
دو ساد:
مثلما فعل السورياليون مع لوتريامون، فقد شرعوا في محاولة إعادة اكتشاف المركيز دو ساد، ونفض الغبار عن الآثار الهامة،القيّمة، التي تركها، وتحريره من كهف النسيان الذي أراد المدافعون عن العفّة والحشمة إيداعه فيه وحبسه إلى الأبد. كان السورياليون من أوائل الذين أكدوا على الارتباط الوثيق لأعمال ساد بزمننا وعصرنا.
لقد سعوا إلى تخليص اسم وسمعة ساد مما لحق به، على مرّ السنين، من تشويه وازدراء، وما تعرضت له أعماله من حظر وتحريم وكبح. كانوا يعلمون أنهم – بفعل ذلك – يتحدّون الأخلاقيين الزائفين والامتثاليين، كما يتحدّون أشكال الجمود والكسل والقصور الذاتي.. في الحياة كما في الفكر.
إن افتتان السورياليين بالمركيز دو ساد صريح وجلي، ففي أعماله وجدوا التحرّر الكامل لطاقة الحب الذي يبلغ الحد الأقصى، الذي فيه يجابه الإنسان المجتمع بأخلاقية جديدة تهدّد بتقويض أسس النظام الاجتماعي القائم. ومثل ساد، أشار السورياليون إلى الدور الثوري الذي يمارسه الحب في المجتمع البورجوازي المتفسخ. لقد ناضل ساد طوال حياته، وفي كل كتاباته، من أجل سيادة الحب.. الدافع الأساسي لثورته الفردية.
في المعتقد السوريالي، يحتل ساد مكانةً لا تقل أهمية – من حيث الرؤيا – عن مكانة سان جوست في الثورة الفرنسية. كانوا يرون فيه واحدا من أعظم المفكرين الثوريين في كل الأزمنة.
كذلك وجد السورياليون في كتابات ساد انحيازاً إلى المخيلة، الرغبة، العاطفة، الشبق، الدعوة إلى تحرير طاقة الفعل الجنسي. إن مفهوم السورياليين للحرية في الحب، الحرية كمفهوم مطلق، هو الذي جعلهم يشعرون بالكثير من الإعجاب والاحترام تجاه ساد.
بالنسبة للسورياليين، العنصر الأكثر جاذبية في أعمال ساد قد يكون انحيازها إلى قضية الثورة مع مسألة الرغبة. الحب هو أحد مفاتيح السوريالية إلى الحرية، تماما مثلما تجد الحرية تعبيرها الأنقى في الحب المنعتق كلياً.
لديهم ثقة لا تتزعزع في شرعية الرغبة بوصفها قوة محركة أساسية لكل فعالية إنسانية ذات شأن أو جديرة بالاهتمام. في نظرهم، العالم الذي يصوره ساد هو ذلك الذي فيه توضع الرغبة قبل الإكراه الاجتماعي والأخلاقي. إن بحث ساد عن المطلق في نطاق اللذّة قد أصبح – كما يقول والاس فاولي في كتابه «عصر السوريالية» – محوراً لمناقشات السورياليين المتعلقة بقوة رغبة الإنسان وشرعية تحقيقها، وبقي كذلك، بين مبادئ المنهج السوريالي، مبدأ الإقرار باللذّة في حالتها الغائصة، المكبوتة، في أعماق الإنسان، وإرجاعها إلى السطح وإطلاقها في العالم.
شخصيات ساد – بكل ما تتّسم به من قسوة وشذوذ وخداع وتضليل وغطرسة وهمجية وأنانية وشراهة، بكل ما تمارسه من رذائل وأفعال شائنة وشنيعة – هي نتاج الطبيعة. إنها تفصح عن رفض صريح لما تقدّمه الكنيسة من عزاء ومواساة، وتتحدى القيم الأخلاقية والاجتماعية التي تفرض الامتثال وتعمّم الرياء.
على الرغم من تحفظ أندريه بروتون على أوجه معينة من سلوك هذه الشخصيات (المثلية الجنسية، تحديدا) إلا أنه أبدى إعجابه بالاعتماد على الذات وتكريس الهدف الذي غرسه ساد في شخصياته الرئيسية.. هذه التي لا تكفّ عن طرح الأسئلة، الأسئلة الأكثر جذرية وجوهرية عن الحياة الداخلية وعن كينونة الإنسان. لقد أكد بروتون أكثر من مرّة على مشاركة ساد في دراسة وعي الإنسان لذاته.
كتابات ساد فضائحية بامتياز لأنها تكشف النقاب عن كل ما لا يحتمله ولا يجيزه المجتمع البورجوازي والأخلاقية التقليدية. هي لا تكتفي بالكشف بل تسعى إلى الاستفزاز والتحريض. إنه يفضح النظرة التطهرية الزائفة إلى الجسد الإنساني، واستغلال الانسان للإنسان، بالتالي فليس غريبا أن يقضي المركيز دو ساد سبعا وعشرين سنة من عمره في السجن بسبب أفكاره وكتاباته، دون أن يفضي هذا إلى تحطيم إرادة الإنعتاق الأخلاقي والاجتماعي في نفسه الثائرة التي لم تكف عن سعيها لتحرير العقل الإنساني من قيوده.
لقد بيّن روبير ديسنوس بدقةٍ القيمة والأهمية التي تتخذها شخصيات ساد في السوريالية، وقد لاحظ بأن «كل هذه الشخصيات مسكونة بالرغبة في مطابقة تجاربها الخارجية مع حيواتها الداخلية».
مارس وصف ساد للمحرّك الإيروسي سحراً على مخيلة السورياليين. فشخصيات ساد، كما يشرح ديسنوس «تغادر الأرض في سبيل مثل أعلى» ويلاحظ ديسنوس أن «كل طموحاتنا الحاضرة مستنبطة جوهرياً من قِبل ساد» الذي كان أول من اقترح حياة جنسية كاملة كأساس لحياة الوجدان والفكر.
من ساد تعلم السورياليون أن الشعر قوة متفجّرة، انفجار يحدث عندما وحيثما يصبح التدمير ثورةً. لقد وجد السورياليون في ساد النموذج الذي ساعدهم في توضيح طموحاتهم الشعرية وفي شحذ الأدوات التي بها صاغوا أشعارهم.. ليس فقط عبر المزيج الفضائحي للشهوة الجنسية والدعابة، لكن بالأحرى عبر الاعتراف بالأهمية التي اتخذها ذلك النوع من التدمير السادي في ما يتعلق بالمنهاج الشعري الهادف إلى إحداث ما يسميه بنجامان بيريه: «علاج الكون».
التدمير، بوصفه قوة مقاومة واحتدام، هو عنصر شعري جوهرياً في المسعى السوريالي. وعندما هاجم بيريه – في مقالة له العام 1944- المسلّمات الأساسية لحركة التنوير الفلسفية في فرنسا، أشار إلى أن ذلك العصر (القرن 18) لم ينتج غير شاعر واحد فقط.. هو ساد.
لا شك أن الروح التدميرية هي التي ساعدت في الإبقاء على ساد حياً في أذهان السورياليين في كل مكان. لقد لاحظ بول إيلوار بأنه «ليس مفاجئا أن نرى كل المعلّقين الزائفين على أعمال المركيز الرائع يتجاهلون على الدوام المعنى الأسمى لكتابات هذا الرجل حيث لا يركزّون إلا على أسطورته التي تصدم طبيعتهم الهشّة، وفي الوقت ذاته تعطيهم ذريعة سهلة للدفاع عن مبادئهم الأخلاقية المنتهكة دوما».
إن ساد يستقطب الاهتمام من داخل الحركة السوريالية ليس فقط لكونه نموذجا مستمدا من أدب الماضي.. إن إيلوار في مقالة له العام 1926 يشير إلى سبب آخر هام جدا لإعجاب السورياليين بالمركيز:
«ذلك لأنه كان يرغب في أن يعيد إلى الرجل المتحضر قوة غرائزه البدائية وأن يحرّر المخيلة بالحب، ولأنه ناضل كثيرا من أجل المساواة والعدل المطلق. لقد كان المركيز دو ساد سجينا طوال حياته تقريبا في الباستيل وفنسان وفي مصح شارينتون. ألقوا بأعماله الأدبية في النار لتحترق أو تم تسليمها إلى كتـّاب إباحيين عملوا على تغيير وتحريف جوهر الكتب، حتى صار اسم ساد مرادفاً للقسوة والوحشية والجريمة. كما حمّلوا هذه النفس، التي لا يمكن قهرها، كل الرذائل والآثام. أبداً لم يوجد رجل أكثر شقاءً من ساد، مع ذلك هو قبل تحدي الأخلاقية السائدة وظل دوما في قلب الإعصار الذي وجّهته ضده تلك الأخلاقية. لقد كرّس نفسه للثورة جسدا وروحا.»
أندريه بروتون اعتبره أحد العظام الذين يمرّ خطه عبرهم. وفي العام 1959 كتب قصيدة بعنوان «هواء الماء» قال فيها: بكل حرية/ هذه الحرية/ التي من أجلها حوّلت النار نفسها إلى رجل/ التي من أجلها تحدّى المركيز دو ساد القرون.
أما سلفادور دالي فيشير إلى تأثير ساد عليه في قوله:
«كنت أعيد قراءة كتابه (120 يوما في سدوم) عاما بعد آخر لأن لدي مشروعا جليلا.. يوماً ما سوف أعيد كتابة هذا الكتاب من أجل أن أتيقن من خلوده. سوف أعكس كل العبارات الواردة فيه.. كل ما هو شائن سوف يصبح عفيفاً. كل ما يمثّل الغريزة الجنسية سوف يمثـّل النفس. كل هزّة جماع سوف تصير انجذابا صوفياً، وجْداً. كل ما هو جسدي يصير روحيا. سوف أجعله كتابا عن العفّة والتقشف والكمال الروحي» (باريس 1968)
من الكتـّاب المعاصرين، يشير ألان روب غرييه إلى تأثير ساد في قوله:
«المركيز دو ساد له مكانة مرموقة في الأدب الفرنسي وربما في الأدب العالمي. يمكن القول أن الفنتازيا السادية لها حيّز كبير في مخيلة الإنسان. إنها جزء مني. تركيب لا أرفضه وأرغب أن أراه متجسدا أمامي. أعتقد أن المخيلة الفنتازية عند الأطفال مهمة للغاية، ولمدة طويلة رفض الكبار أن يعترفوا بها، بل يقدمون لنا الأطفال كطيور بريئة. في الحقيقة أن المخيلة السادية – الإيروسية الإجرامية تظهر عند الأطفال أولاً قبل الكبار. الكبار، على العكس، يكبتون هذه المخيلة. لهذا فالأدب، وخصوصا أدب المركيز دو ساد، استطاع أن يرى الوحش الساكن فينا وخطـّط لعملية غريبة تسعى إلى السيطرة عليه عند الكتابة. وعندما نرفض رؤية هذا الوحش، فقد نصبح من ضحاياه ونقترف بأنفسنا الجرائم».
بودلير:
اكتشف السورياليون أن الشعر الحديث يدين بكل شيء، تقريبا، إلى بودلير.. الذي اعتبره رامبو الرائي الأول وملك الشعراء.
فعل الكتابة، بالنسبة إلى بودلير، هو فعل اكتشاف وحدة الوجود، وفعل خلاص وتحرّر.. هذا ما عثر عليه السورياليون في بودلير، في عالمه الذي لا يوجد بعيدا بل يكمن وراء نافذته مباشرة، على الحافة المتقلبة بين النوم والحلم، في موضع تحت الوعي حيث يصعب التمييز بين الرغبة والعمل، حيث للزمن والمكان علاقات غير تلك الكائنة في العالم الخارجي. هذا الإحساس بالعمق الاستثنائي والمدهش، الفيزيائي والروحي معاً، الذي استحوذ على بودلير من حين إلى آخر، صار الأساس لصوفية مكتشفة في بودلير، وتطورت كعقيدة وتقنية في الكثير من الشعر الفرنسي المعاصر. لكن الذي رفع بودلير فوق الرمزيين، في تقدير الشعراء الحديثين، هو توتر تجربته الحياتية التي تضاهي ذروة الشعر.
في حين كان على زملائه الرمزيين أن يطمسوا حياتهم أمام فنهم، ويشبعوا صوفيتهم بهدهدة الحواس، كانت الكتابة بالنسبة إلى بودلير حياة مكثـفة. هو لم يفقد أبدا الاحساس بالحياة. حتى سبره وارتياده للفراديس الاصطناعية كان شهوةً إلى إدراك حسّي أكثر حدّة، حيث «الأعين تتوجه إلى اللا متناهي، والآذان تدرك أصواتاً غير قابلة للإدراك وسط الجلبة المحتدمة».
لم يتحرك بودلير عبر غابة من الرموز بل على العكس، كان باستمرار يلتمس المادي والملموس كمادة لخيميائه الشعري. لقد اختار حياة الفنان وإرادته العنيدة، وكان يتوقع الكثير من الحياة.
لقد ساهم بودلير، مساهمة فعالة وكبرى، في تكوين نظرية جمالية (تولى تحقيقها مالارميه ومنحها رامبو التعبير العاصف في السنوات الأولى من سبعينيات القرن التاسع عشر) والتي تعتقد بوجود علاقة قائمة بالضرورة بين القصيدة والعرافة أو السحر أو التعزيم السحري. القصيدة – وفق هذا المنظور – تتكوّن بفعل عملية سحرية كالسيمياء، بالتالي تكون غريبة عن قواعد المنطق. فالقصيدة تنشأ في ما خفي من حياة الروح، بمعنى أنها انعكاس لحياة باطنية، خفية.
إن دعوة بودلير إلى استقلال الخيال صارت مبدأ رئيسيا في الحركة السوريالية، فقد رأى بودلير أن الأثر الفني هو نتاج الخيال، الذي ينبع من نوع حقيقي من الألم.. ليس ألم الحياة اليومية المؤقت والعابر، بل هو العذاب الداخلي العميق الدائم. وما على الشاعر إلا أن يغوص عميقا في ذاته ويبلغ نقطة التماس بين ذاته والعالم، حيث يلتحم الذاتي بالكوني.. وهي النقطة التي سعى إليها السورياليون على نحو عنيد.
رامبو:
الجيل الأول من السورياليين أبدوا إعجابا شديدا بشعر رامبو، وتحمسوا – بوجه خاص – لما سماه رامبو «خيمياء اللغة». كذلك احتفوا بـ «رسالة الرائي» التي كتبها رامبو في مايو 1871، موضحا فيها منهجه ومعبّرا عن رؤيته للشعر وللحياة معا. هذا النص يعد بيانا شعريا حقيقيا من جهة، وإعادة نظر في القيم الاجتماعية والأخلاقية لعصره، من جهة أخرى. من ضمن ما جاء في «الرسالة»: «ينقلب الشاعر رائيا عن طريق انفلات واسع ولا حدّ له في جميع حواسه. وهو يبحث في ذاته عن صيغ الحب والألم والجنون مستنفداً السموم كلها».
كان رامبو، وقتذاك، في السادسة عشرة من عمره، وكان يسعى – عبر طقوس التطهير – إلى بلوغ حالة من الصفاء الروحي من طريق تحرير النفس واستنزاف الجسد بطريقة موجعة وصادمة، ممارساً نوعا من التحدي للذات وامتحانا للنفس، في محاولة للوصول إلى حالة من الوعي الباطني يسميها «الرؤيا». كان رامبو، في كل ذلك، مأخوذا بالمطلق، بالتوق إلى اللا نهائي.
السورياليون لم يتأثروا برامبو الذي تحدث عن نفسه ثم احترق في جحيمه الخاص متخليا عن النضال مع المخيلة، مفضلا الهروب في رحلة غير مجدية، بل تأثروا برامبو الذي قال «أنا هو الآخر» – في مستهل رسالة الرائي – معبّرا عن وجود ذات أخرى، أكثر حقيقية، إلى جانب الذات اليومية المألوفة.
بالأحرى، تأثروا بالشاعر الذي، في مرحلة معينة، كان لديه الاستشراف الشعري الأكثر تفاؤلية في النصف الأخير من القرن التاسع عشر، والذي قال بأن الإنسان قادر أن يبلغ معرفة شبيهة بمعرفة الرائي أو العرّاف: الشاعر الخلاق الذي أعلن عن ارتفاع مفاجئ لإيقاعات متناغمة ورؤى لم يُسمع عنها من قبل، مصراً على أن العالم كله في حاجة ملحّة إلى التحوّل.
لقد شدّد السورياليون على أهمية اللاشعور عند رامبو، ورأوا فيه شهادة على اعتداد الشاعر بامتيازه كساحر. كان رامبو يلح على ضرورة أن يصير الشاعر غريبا عن اللغة المألوفة، الاعتيادية، وأن يكتشف لغة أخرى كائنة في ذاته الحقيقية. بهذه اللغة فقط يوقظ الشاعر «كلية الحلم الكبير».. حسب تعبيره.
لقد درسوا رامبو باعتباره شاعرا سورياليا في جوهره، ذاك العابر العظيم – على حد تعبير مالارميه – الذي رفض الرياء الاجتماعي والثقافي.. الذي ثار على كل شيء.
لوتريامون:
مع أن رامبو و لوتريامون (1846-1870.. واسمه الحقيقي إيزيدور دوكاس) كتبا في وقت واحد، إلا أن أحدهما لم يعلم بوجود الآخر في زمنه. لقد أنهى لوتريامون كتابه «أناشيد مالدورور» في الوقت الذي كان رامبو يكتب أشعاره الأولى.
قبل موته بسنتين، وكان في الثانية والعشرين من عمره، نشر لوتريامون النشيد الأول من «أناشيد مالدورور» على نفقته الخاصة. في السنة التالية عثر على ناشر بلجيكي وافق على نشر كتابه كاملا، أي أناشيد مالدورور الستة، غير أن الناشر امتنع عن توزيع الكتاب بعد طبعه بسبب جرأته البالغة ورؤاه الغامضة، ولم توزع الطبعة الأولى إلا بعد مرور عشر سنوات.
لكن هذا الكاتب المجهول تماما، المغمور كليا في عصره، صار في القرن العشرين من أكثر الكتـّاب تأثيرا. والفضل يعود إلى السورياليين الذين أولوه اهتماما كبيرا، تحديدا أندريه بروتون الذي اكتشف الأناشيد في 1918، وراح يتردد على المكتبة الوطنية ناسخاً النسخة الوحيدة المودعة في المكتبة، لينشرها في العام التالي في مجلة «أدب» التي ساهم في تحريرها مع سوبو و أراغون. بعدها صار لوتريامون الملهم الفذ للسورياليين الذين وجدوا في أعماله لغة جريئة مذهلة، واستشرافا للمستقبل في الحياة والرؤيا. لقد كان بمثابة المنارة التي يستدل بها الشاعر السوريالي وهو يبحر بعيدا عن الشاطئ المألوف متحررا من وهْم التقاليد الشعرية الراسخة، دونما أي ولاء أو ثقة بالنماذج الأدبية المتكرسة.
من أناشيده استخدموا تلك الصور النموذجية التي اتكأوا عليها كمبادئ أساسية.. مثل تعريفه للجمال بقوله: «جميل مثل لقاء تصادفي، غير متوقع، بين آلة خياطة ومظلة على طاولة تشريح».
في بيانه السوريالي الثاني، حرّر أندريه بروتون نفسه والسوريالية من أغلب الأسلاف الذين ذكرهم في البيان الأول، بل أبدى تحفظاته حتى بشأن رامبو، إلا أنه تشبث بلوتريامون معتبرا إياه السلف الحقيقي للسوريالية. وفي أعماله النقدية الأخيرة كان اسم لوتريامون يتردد باستمرار في هذه الكتابات مشيرا إليه بوصفه المؤثر الأبرز والأهم، و«الأكثر نبوغاً في الأزمنة الحديثة».
في مقدمته لأعمال لوتريامون، كتب فيليب سوبو معبّرا عن افتتان غامر: «المرء لا يحكم على السيد لوتريامون، بل يتعرّف عليه، وعندما يحييه، ينحني حتى يكاد أن يلامس الأرض».
أبولينير:
ظل اسم غيّوم أبولينير (1880-1918.. الإيطالي الأصل) يمارس سحره وحضوره القوي لسنوات طويلة على الجيل الأول من السورياليين الذين اكتشفوا فيه الباحث في الشعر عن اللا متوقع، ووجدوا لديه موهبة مدهشة، غير عادية، في الابتكار اللفظي عبر الصور المتنافرة، غير المألوفة، وإحساسا استثنائيا بالصورة الشعرية.
لقد اعترف له السورياليون بالفضل وأبدوا احتراما لأعماله المتنوعة، وأشادوا خصوصا بكتاباته التي تحتل موقعا متقدما إلى جانب بحوث بودلير ورامبو ومالارميه في ما يتعلق بالنظرة إلى الخيال بوصفه الرباط الذي يصل عالم الإنسان الداخلي النفسي بعالم الواقع الخارجي، والاعتقاد بوجود حياة أخرى تحت طبقة الوعي، معتبرا النشاط الشعري واسطة سحرية للمعرفة.. معرفة الذات والعالم، والتأكيد على أن الشعر يصدر عن قوى سرية دفينة، ومن طريقه يمكن بلوغ ما لا يُعرف وما لا يمكن التكهّن به، فالسحر قائم في كل شيء من حولنا، ويمكن مصادفته على نحو غير متوقع حتى في الأشياء المألوفة والعادية.
كان أبولينير، منذ فجر القرن العشرين، من أكثر الوجوه بروزا وفعالية في الحركة الطليعية الفنية والأدبية. لقد ساهم في تأسيس عدد من المطبوعات الأدبية، واحتشد حوله مجموعة من الشعراء، ولعب دوراً نشطاً في التطورات الفنية في زمنه، فقد كان من أوائل من أدركوا أهمية الرسم التكعيبي، وهو الذي ابتكر كلمة «السوريالية». في كل مستويات النشاط الفكري والفني ناضل أبولينير في سبيل حداثة التعبير من أجل أن تعكس الروح الجديدة لزمنه. لقد كان من الطبيعي لأولئك الشعراء الذين بلغوا مرحلة النضوج خلال سنوات الحرب أن يحتذوا حذوه. بل أن البعض، في مراحل لاحقة، ربط اسم أبولينير بولادة السوريالية.
لقد عبّر بروتون وأراغون وسوبو عن سعادتهم وفرحهم بالتعرّف على هذه الشخصية الفذة، وعبّروا عن إعجابهم وتأثرهم به.
بروتون، الذي بدأ في العام 1916 يراسل أبولينير قبل أن يزوره أثناء إجازة قضاها في باريس، أشاد بكتابات أبولينير النثرية والشعرية في مواضع وفترات مختلفة: لقد اعتبره، في مقالة كتبها في 1917 «هبة الأعجوبة المدهشة»، وأضاف قائلا: «كان أبولينير شخصية عظيمة لم أر مثيلا له. إنه الغنائية متجسدةً (..) التعرف عليه كان نعمة نادرة (..) وهو الذي سعى إلى إعادة اختراع الشعر».
في البيان السوريالي الأول، وجّه بروتون تحية تقدير وإجلال إلى أبولينير الذي «في مناسبات عديدة بدا لنا أنه انجذب إلى الاتجاه نفسه».
فيليب سوبو، الذي تخلى عن السوريالية بعد سنوات، حافظ على شعوره تجاه أبولينير وولعه به. إذ حتى بعد أربعين سنة من صدور البيان السوريالي الأول لم يكفّ سوبو عن اعتبار أبولينير «شاعراً جريئا، أكثر الشعراء جسارة في زمنه» واصفاً إياه بـ «الشاعر العظيم» و «الشاعر الملهم». ويقول عنه: «هو الذي وفّر للشعراء الشباب آنذاك الفرصة للانطلاق على نحو أسرع وأبعد، كما كان يرغب ويطالب بحماسة شديدة.. ونحن مدينون له».
في مقالة مهداة إلى أبولينير، كتبها فيليب سوبو في 1926، جاء فيها: «إذا كان بالإمكان التعبير بهذه الطريقة، فأستطيع القول أن أبولينير كان ناقلا للعدوى. لم يكن مرغما على اقتراح شروحات وتفسيرات. لم يكن بحاجة لأن يقنع. هو أعلن ونحن صدقناه (..) أنا ممتن جدا لحقيقة أنه، خلال سنوات قليلة، عرف كيف يعطي لزمنه لوناً، كيف يمنح للحياة شكلا. أرى لهباً.. وهو من يوجد في المركز بشاربه الدقيق وذقنه الملتوي وأسنانه البيضاء وجبهته العالية».
أما لوي أراغون فقد كتب في نوفمبر 1923: «أبولينير ما كتب شيئا لم يحظ بالإعجاب أو الإكبار». في ما بعد قال عنه: «إنه الرجل الذي أثّر فينا جميعا في ذلك الحين». كما وصفه بـ «رجل الحداثة».
ويتذكر أراغون في العام 1935: «عندما كنت في العشرين، كان أبولينير الوريث الوحيد لعالم الغيوم، ولكلماته في قلوبنا الصدى العميق الذي كان لكلمات شارل بودلير في قلوب الأجيال السابقة».
آخرون:
حظى مالارميه، في البداية، بتقدير كبير من جانب السورياليين، غير أن أهميته تضاءلت، بالنسبة لهم مع مرور الوقت. في حين أبدى السورياليون اهتماما أكبر بالكاتب ألفريد جاري (الذي توفى سنة 1907، و كان قد ألـّف مسرحية «أوبو ملكاً» و هو في الخامسة عشرة من عمره، والتي اعتبرها بروتون «المسرحية الرؤيوية الانتقامية العظيمة في العصور الحديثة») وجاك فاشيه (الذي انتحر في 1919 وهو في الثالثة والعشرين من عمره) وكان بروتون يعتبره شخصية هامة ومؤثرة جدا، وعن تأثيره كتب بروتون في 1924: «في الأدب، كنت منجذبا – على التوالي – إلى رامبو، جاري، أبولينير، نوفو، لوتريامون.. لكن إلى جاك فاشيه أنا مدين بالكثير».
إذا كان أبولينير يجسّد الروح الجديدة فإن فاشيه كان يجسّد العبثية والتمرد الشخصي بالنسبة للسورياليين الذين اعتبروه شهيد الثورة الشخصية بعد أن تناول جرعة مفرطة من الأفيون، مقدّرين محاولاته الخاصة لتحرير نفسه من خلال الفن ثم من خلال الأفيون.
أما ويليام بليك فقد كان واحدا من أوائل الأسلاف الروحيين، لكن ليس بليك الذي عبّر عن نفسه من خلال الرموز المسيحية، بل بليك الرائي.. حسب تعريف رامبو للكلمة.
السورياليون أطروا رفض بليك للواقع الخارجي كموضوع للتعبير الفني، ومحاولته تحويل العالم الفيزيائي من خلال تعديل أبعاده. في اعتقادهم، كانت عين بليك تمتص، لكن لا تحدّد، شكل الشيء: مثل آلة وسيطة، مسجّل لشعور فيزيائي، هي تركت مسألة التأويل إلى المقدرة التخيلية. برفض جعل الطبيعة مادة للإبداع الجمالي، هو انتزع الرسم والمجاز اللفظي من العوامل المتحكمة في الواقع الظاهراتي، المدرك بالحواس. لقد أعجب السورياليون ببليك لأنه، مثلهم، جعل من الشعر أسلوب حياة: مجازه التصويري والشعري كان فيضا من الأزمة الروحية، وفنه كان مدافعا عن طاقات الإنسان الخلاقة.
المصادر:
Towards the Poetics of surrealism, J.H.Mathews, 1976
Surrealism: The Road to the Absolute, Anna Balakian, 1959
From Enchantment to Rage, Steven Kovacs, 1980
ترجمة وإعداد: أمـــين صالـــح كاتب ومترجم من البحرين