منذر مصري
شاعر سوري
I-
لم يكن يومًا من آبائي الشعريين، حتّى أبرّر لنفسي جريمة قتله! في باكورتي: (آمال شاقة – 1978) إصدار خاص، أعترف بأبوة أربعة شعراء، شوقي أبي شقرا: «إيفاءً لدَين قديم»، وأنسي الحاج: «من كان يسمّي أوراق الخريف مريم العذراء» ومحمد الماغوط: «يتسلل إلى المطبخ، ويطلب من أمي كوبًا من الماء بحجة أنه عطشان، بينما أبي يقرأ أشعار إلياس أبو شبكة على ضيوفه في غرفة الاستقبال». ومحمد سيدة: «مقابل كلّ ما أخذته منه دون مقابل». مرجئًا لمجموعات أخرى ستتوالى، وإن من دون انتظام، اعترافي بأبوة شاعرين آخرين، أعمق وأبعد تأثيرًا في تجربتي، توفيق الصائغ: «.. وإني بين (بلى) كنتُها منذ بطش الضوء بالعتمة الحنون، و(بلى) ستكونينها حين تعيدنا معًا عتمة أحن، كنتُ (لا)». وجبرا إبراهيم جبرا: «نحن الغرباء الآبدون، نحن الرافضون، المخلفون للطين، سلاحف الطين، النافذون مصاريع الأيّام كالرصاص. غبار أرجلنا قصائد، ينتحر به الآخرون». جميعهم لا تربطني بهم معرفة شخصية، أو بتعبير أدق جميعهم لا يعرفونني أدنى معرفة، رغم أني التقيت بعضهم لقاءات عابرة مرة أو مرتين. أما هو؟ فالوحيد من بينهم، الوحيد بين كلّ هذه الأسماء، من عرفته كشخص، وعن شيء من القرب، بالرغم من المسافات الفاصلة بيننا! المسافة الفاصلة مكانيًّا، هو الذي لا تهدأ تحت قدميه أرض، وأنا العالق في العتمة الحنون، تأبى أن تفكّ عن رقبتي مشيمة الرحم الدامية. والمسافة الفاصلة زمنيًّا، فالرجل أحد كبار جيل الرواد، علمًا أنّ مكانته الشعرية العالية لا تقوم على ريادته للقصيدة العربية الحديثة بأي من شقّيها الرئيسين. الأوّل، ما اتّفق على تسميته قصيدة التفعيلة، فقد سبقه إليها على سبيل المثال لا الحصر: السيّاب في العراق، والقبّاني في سوريا، والحاوي في لبنان، والصبور في مصر، وغيرهم. وشقّها الثاني، قصيدة النثر، الّتي شرعها أولئك الشعراء الذين ذكرت، والتي يقال إنّه أوّل من أطلق عليها الاسم، وذلك نقلًا عن كتاب (سوزان برنار) الذي حمل العبارة ذاتها (قصيدة النثر من بودلير إلى أيامنا) كعنوان له، ومن يعرف شعر أدونيس يعلم كيف أنه كان من وقتها لليوم على مسافة، تبتعد عنها أكثر ما تقترب منها. أمّا من جهتي، فما عدت ذلك الشاعر الشاب الذي صادفه يومًا على رصيف شارع الحمرا في بيروت وأوقفه ليسأله ما إذا كانت قد وصلته القصيدة التي أرسلها على عنوان مجلة (مواقف)، فأجابه: «بالتأكيد أذكرها، عن أمريكا. أليس كذلك؟». ولكن.. للأسف لم أكن محظوظًا لدرجة أن تنشر (أمريكا أنت تعنين لنا المتاعب) في (مواقف)، ولكن ربما، كنت محظوظًا لدرجة أكبر، أنها نشرت في مجلّة (الحكمة) الفصلية، لسان حال اتّحاد كتّاب اليمن! وذلك عندما قدم الراحل عبد الله البردوني، الأجلّ من أن يعرّف! إلى اللاذقية، أواسط عقد السبعينيات من القرن الماضي، وزار مديرية التخطيط ليلتقي خصّيصًا بالمفكر (بو علي ياسين)، شريكي في الغرفة، فكان أن قدّمت له بعض قصائدي، الّتي كنت لا أجد سبيلًا لنشرها سوى أن أدقّها على الآلة الكاتبة وأستنسخها على طابعة الايستنسل عشرات النسخ، ثم أوزّعها على الأصدقاء، من بينها قصيدتي هذه. فإذ بي شاعر مشهور في اليمن! أعود إلى صديقي أدونيس وإلى المسافة الفاصلة الثالثة بيننا وهي الشعر. فالحقيقة، إنّ شعر أدونيس في عالم وشعري في عالم آخر! لغويًّا وفكريًّا وحسّيًّا وموقفًا من العالم ككلّ، لدرجة يحلو لي أن أعدّه ضدّي الشعري! مستدركًا إن كان شعري مستحقًّا كفاية ليأخذ هذه المكانة! كما كتبت في إهدائي له مختاراتي (مزهرية على هيئة قبضة يد -1997). شارحًا ومبررًا هذه الضدّية في العديد من المقالات الّتي كتبتها عنه، بعضها لا يخلو من القسوة مثل: (وقت بين الرماد وحديقة قصر الماء في «سيت”- لماذا لا يفوز أدونيس بجائزة نوبل؟) 2010، الّذي نشر باللغة الفرنسية في السنة ذاتها في مجلة الحركة الشعرية (Action Poetic) التي تصدر من باريس. ثم تأتي أخيرًا المسافة الفاصلة سياسيًّا. الأمر البالغ التعقيد! لأنّه عندما كنّا نتّفق بالعموميات كنّا نختلف بالتفاصيل، وعندما كنّا نتّفق بالتفاصيل كنّا نختلف بالعموميات. وهذا يعني أنّنا كنّا دائمًا متّفقين ومختلفين في آن واحد! ولا أدري أيّ مخاتلة تكمن في هذا الكلام! ذلك لأنّ هذا وغيره من المسافات الفاصلة بيننا لم تمنع أن نبقى أصدقاء. ففي نهاية مقالي الّذي أحدّد به الخمس نقاط الّتي تحول دون فوز أدونيس بجائزة نوبل أقول: «أمّا الخسارة الكبرى غير القابلة للتعويض، فهي -آخذًا بالاعتبار كلّ ما ذكرت حقًّا كان أو بهتانًا- أن يفوت على أدونيس الفوز بنوبل، وبالتالي تفوت على العرب جميعهم، لأني لا أرى اليوم على مدى الوطن العربي من مشرقه إلى مغربه، ومن مسقط رأسه إلى منافيه، من يستحقها أكثر، إن لم أقل.. سواه». ولأنّه هو من يقول، وهو من يفعل: «الصداقة الّتي لا تتأسّس على الاختلاف لا يعوّل عليها». فإننا اليوم، وبعد انقطاع دام سنوات، عدنا للتواصل. وأظن أنه يتوجب عليّ ذكر أنه هو من كان له الفضل بذلك، حين جاءني صوته، يخبرني أنه أخذ رقم هاتفي من أختي مرام، يسألني عن حال زوجتي يرسل لي وأرسل له صورًا ومقاطع فيديو عن مواضيع متنوعة، وبعض المكالمات الصوتية التي نتبادل بها الآراء حول ما يجري من أحداث، آخرها أنّه عندما أخبرته منذ أيّام بتعثّر سفري إلى إشبيلية لحضور لقاء الشعر العربي الذي جرى في منتصف شهر شباط الماضي، أجابني حرفيًّا: «مؤسف. لا أستطيع أن أفعل أكثر مما فعلت! انتهى العرب وها هو الغرب ينتهي!». نعم الرجل لا يتوقف عن إطلاق النبوءات!
وأخيرًا، لا أدري إن كانت قصيدتي التالية، الّتي ضمّنتها مخطوطة مجموعتي (قصائد من الحفرة) المتعثّرة منذ سنين عديدة لليوم، تنجح في تصوير، أو باستخدام الجناس البليد: تطوير، هذه العلاقة القائمة على الالتباس وتشابك طرفين غير متشابهين في كلّ شيء! كما ربّما العلاقات الإنسانية بأنواعها جميعًا، إذا رغبنا أن ندقّق فيها، بصدق، حتّى المصيرية منها!
II- أسودَان.. أسود لامع وأسود جاف
***
ترى ما هو مصير لوحتي؟
الّتي نقلتها على ظهر سيارة صديقي طه الزوزو
ولم تجفّ ألوانها تمامًا بعد
من مرسمي في شارع المتنبي في حيّ الأميركان في اللاذقية
إلى بيت أدونيس في مسقط رأسه في قرية القصّابين
أقصى الحدود الجنوبية لقضاء جبلة
الّذي بناه في وهدة منخفضة من الأرض
لا تطلّ على شيء
لا على واد ولا على مجرى نهر ولا حتى من بعيد
على بحر
مكتفيًا بما يحيطه من أشجار الجوز والتين والزيتون حديثة الزرع
على نيّة أن يقضي فيه سنواته الأخيرة من حياته
الّتي لا يعرف المرء مهما بلغ تبصّره
أين عساها ستكون
وكيف عساها تنتهي
هاجرًا بيروت وباريس وعائدًا إلى النبع
عين الحياة الّتي انبجس يومًا منها
وانبجس معه كلّ هذا الفيض الغامر من الشعر
وقد اكتملت دائرة حضوره بيننا
من البداية إلى النهاية
ثم من النهاية إلى البداية مرّة أخرى
وقدمتها له
جاعلًا من إحدى العبارات النادرة الّتي أحبّها من شعره عنوانًا لها:
«خطف المجهول قلبي»
وقد خططت على وجهها الخلفي:
«انظر.. هناك أسودان
أسود لامع وأسود جاف»
فقال معربًا عن دهشته:
«منذ زمن، أحببت أن أعلّق على حائطي لوحةً لك، لكنّي لم أكن أتوقّع أنّك ترسم هكذا!»
وقام
كما يقول الشاعر (محمد سيدة) في واحدة من أشقى وأجمل قصائده:
«على مرأى من عين قلبي الذائب»
ولكن بالنسبة لي
قلبي الذائب لم يكن بسبب رؤيتي
للمرأة الّتي لا يخفق قلبي إلّا من أجلها
ترتدي ثوبها الأبيض الجديد
من أجل حشاش سيجعل من جسدها البريء
مرحاضًا لشهواته!
بل بسبب الفرح
الفرح وأنا أنظر إلى أهمّ شاعر عربي
قيّض لي أن أراه بعينيّ غير المصدقتين
رغم أنّهما كانتا مفتوحتين على اتساعهما
يتسلّق
وقد ناهز الخامسة والسبعين
ظهر الكنبة المائل
دون أن يستند على شيء
ودون مساعدة أحد
وينزع عن حائط غرفة الاستقبال المكسو باللوحات
الّتي تبدو كنوافذ سحرية تطلّ على عوالم أخرى
لوحةً من العيار الثقيل
لأحد أهمّ الفنانين التشكيليين العرب المعاصرين
ويعلّق بدلًا منها
ويا لحظّها السعيد ويا لحظّي الأسعد
لوحتي المتواضعة.
/
بعد ذلك بأيّام
لم تتجاوز عدد أصابع اليد الواحدة
كان لي أن أعود إلى (قصّابين) وأزور بيت (أدونيس)
مع بعض الشعراء والأصدقاء السوريين والعرب
حيث لاقانا بما يعرف عنه من مودّة وحسن استقبال
كما خصّ بعضنا وأنا منهم
بالمعانقة والقبل.
/
ولا أظنني أحدًا يمكنه
حتّى وإن كانوا من مبغضيه لهذا السبب أو لذاك
ألّا يتأثر بلطف (أدونيس)
وكرمه الذي يصل إلى حد السخاء في أشياء كهذه
إلاّ أنّي كنت قد أتيت
وفي نفسي غاية أخرى
هي أن أستعيد شعورًا
لا أدري بماذا أستطيع أن أصفه
لا ريب أنّه سوف يبدو جليًّا على سيمائي
حتّى وإن حاولت إخفاءه
عندما ينظر الجميع إليّ
وأنا أقف متباهيًا بجانب لوحتي
المعلقة بين لوحات أشهر الرسامين العرب
الذين يبدون من كثرتهم
وكأنّهم تسابقوا ليقدموا للشاعر الكبير لوحاتهم
وأغلبها كلوحتي
مرسومة خصّيصًا من أجل أن تهدى له
فقد خطّ بعضهم قصائد قصيرة
أو عبارات أحبّوها من شعره
كما رسم بعضهم الآخر بطريقة شاعرية
ملامح غير واضحة من وجهه
وكأنّه قمر شاحب تغشيه الغيوم حينًا
وحينًا تكشفه
غير أنّه يحافظ أبدًا على نظرته الساهمة
ولحسن حظي
أو لأعترف
استجابة لإحساس مبهم في داخلي
راودني ما إن اقتربنا من بوابة القصر
استطعت تجنّب هذه الواقعة المخجلة
الّتي كانت ستروى عنّي كنادرة
تستدعي ضحكات
مع غير القليل من الشماتة ربّما
الكثير ممن سيسمعون بها
ويعيدون روايتها
في مجالس الأدب وصالوناته
كلّ بأسلوبه وكلّ على هواه
ذلك أني قبل أن أدعو الأصدقاء لرؤيتها
نظرت إلى حيث تركتها آخر مرّة وقع عليها نظري
منذ تلك اللحظة لليوم
معلّقة على الطرف الأيمن لجدار غرفة الاستقبال
فإذ بي أرى لوحة ضياء عزاوي الرائعة
قد عادت إلى مكانها
وهنا أسألكم
ماذا كان يجب عليّ أفعل؟
ماذا كان باستطاعتي أن أفعل؟
سوى أن أقوم
متظاهرًا بأنّي أستطلع المكان
وأبحث في غرف البيت وأروقته المتداخلة جميعها
الموزّعة على طابقين
ماسحًا بنظراتي الذاهلة جدرانه عاليها وسافلها
ولا أجدها.
/
لكنّي هذه المرّة
لم أرغب في إحراجك
ولم أسألك كما فعلت يومًا
في واقعة مشابهة لهذه الواقعة ليست بالغة القدم
عندما لم أرَ على سطح مكتبك
ولا فوق رفوف مكتبتك
المزدحمة بالكتب الشعرية القديمة والجديدة
مجموعتي: (مزهرية على هيئة قبضة يد)
الّتي قدمتها لك مساء اليوم السابق
قبل بداية تلك السهرة الصاخبة
التي أحياها كلّ من ميشيل كيلو وعبد اللـه هوشة وعادل محمود
وآخرين ما عدت أذكرهم
وقد كتبت في أعلى صفحتها الأولى
تلك العبارة المختصرة الّتي أبديت وقتها
اعتراضك عليها وإعجابك بها على حدّ سواء:
«ضدّ أدونيس إن كانت تستحق!»
فأجبت بما لم أكن أتوقعه منك مهما بلغ مقدار موهبتك على ابتكار الأعذار الجميلة:
«إنّها على المخدّة».
/
ومع ذلك أعترف بأنّه لا يمكن لي
مهما بلغ بالمقابل مقدار إجحافي
أن أنكر ذلك الشعور الطاغي بالفرح
الذي غمرتني به مقابل لوحتي المتواضعة
عندها
وها أنذا أعود وأصف ذلك المشهد الساحر
اعتليت
بقدر ملحوظ من المخاطرة
بقوامك الرقيق
ودست بحذائك البني الصغير على مسند الكنبة
وأنزلت لوحة (ضياء العزاوي)
نعم.. الفنان العراقي الأشهر (ضياء العزاوي) وليس سواه
وعلّقت بدلًا منها لوحتي أنا
مَن لا يعترف به رسامًا سوى الشعراء
تعويضًا له لعدم اعترافهم به
مهما كتب وهرف من القصائد وأشباه القصائد
شاعرًا!
ولو لزمن تبيّن فيما بعد أنّه كان قصيرًا
قصيرًا جدًا ولكن
ليس عابرًا
بدأ بعد وصولي بدقائق قليلة إلى منزلك
واستقبالك لي بالمعانقة والقبل
وجلوسي لا أدري كم من الوقت
مقابلكما أنت ولوحتي الّتي صارت لوحتك
أستمع إلى ما تقوله لي دون شديد تركيز
بسبب أني كنت أنقل النظر
منك إليها ومنها إليك
محاولًا أن أراكما
اللوحة المعلّقة على الحائط
وأنت الجالس تحتها على الكنبة
ضمن إطار صورة واحدة
تجمعكما أنتما الاثنين معًا
إلى أن حان وقت انتهاء الزيارة
فلكلّ شيء وقت يقول الجامعة
للحب وقت وللكره وقت
للسلام وقت وللحرب وقت
وللحياة وقت وللموت وقت
فما بالك بزيارة عابرة يقوم بها شاعر مغمور
لشاعر كبير أطبقت شهرته الآفاق
فقمنا ومضينا ممسكين بالأيدي
باتجاه الباب
ثم تمهلنا قليلًا عند العتبة
إن كنت تذكر
لتتمتم لي وأصابعك ما زالت تشبك أصابعي
بإحدى تلك العبارات
الّتي لا أظن أنّ في مقدور أحد في العالم
الإتيان بمثلها
في الوقت والمكان المحدّدين
اللّذين لا يصلح فيهما أيّ عبارة أخرى
بهذه الحروف ذاتها والنبرة ذاتها
والّتي أيضًا
يستحيل عليّ مهما تراكمت السنون
ومهما توالت الأحداث
أن أنساها:
«سنغدو جميعًا مراكب محطّمة
الصداقة
شاطئنا الأخير»..