منير الإدريسي
شاعر وكاتب مغربي
كمٌّ هائل من الأفلام يتراكم في الخزانة السينمائية العالمية كلّ سنة. كثيرها مُكرّر ومعتاد؛ لكن بعضها، ومن هذا البعض القليل أيضا، هو ما يمكن للمشاهد الباحث عن سينما حقيقية أن يتوقّف عنده. فليست كل سينما حقيقية، وليس كل من يشاهد الأفلام يستطيع أن يدرك أيًّا منها في ذات المستوى من تلك الحقيقة. وكما أن هناك نوعًا من القرّاء البسطاء، هم الأغلبية الأعم، قد ينفرون من أحدث الأشكال الشّعرية، ويتضايقون من التعمّق في الفلسفة؛ كذلك الأمر بالنسبة لمشاهدي الأفلام السينمائية. فهناك المشاهد البسيط، والذي لا يتجاوز حدود المستهلك. نراه يدمن في الغالب المسلسلات التركية، أو أفلام الأبطال الخارقين وأفلام القتال والمطاردة. ومن جهة أخرى المشاهد الذكيّ الذي سيجد كل السّذاجة في قصة حبٍّ تذهب في سرد أفقيٍّ إلى نهاية سعيدة. أو قصّة بطل صالح موسوم بالوسامة الهوليودية المتوقعة، يستطيع في الأخير أن يخلّص المشاهد من عقدة الألم بدحر الأشرار بطلقات من مسدّسه، أو بضربات من سيفه.
أعتقد أنه لا بدّ من هذه المقدمة لأجنّب البعض التورّط في مشاهدة فيلم لن يثير سوى خيبتهم. فإذا كنتَ مشاهدًا من النوعية الأولى، أتوقع أن فيلم I’m thinking of ending things “أفكّر في إنهاء الأشياء” سيدفعك إلى التثاؤب منذ الخمس عشرة دقيقة الأولى. إذ ستجده سخيفًا ومُملًّا، وربّما بثقل جاثوم على صدرك، وعليك التخلّص منه بأسرع وقت. إنّه أشبه بجلوسك وحيدًا مع نفسك وأفكارك المشوّشة في طقس صقيعي بارد وفي رعب غير مفهوم. ولن ترى أبدًا عمق الفكرة والمتعة الفنيتين الغائبتين عنك طوال مدّة المشاهدة. أما إذا كنت متلقيًّا من النوع الأخير، فإني أقترح عليك بكل ثقة هذا العمل السينمائيّ الفريد. الذي يقول فيرمز، ويفتح حيّزًا للإدراك ويحفّز على التأمل؛ في الوقت الذي يمنحك متعة تذوّق سينما متمرّدة على التقاليد الهوليودية، متعمّقة في معنى جماليٍّ وفلسفيٍّ غير مطروق سينمائيًا. كل ذلك ليس بعيدًا عنك، بل تقريبًا في الحياة التي تحدث لكل واحد منّا. ستشعر مع هذه القطعة البصرية الرّمادية، كأن الحياة اندفعت كلّها كعاصفة ثلجية عنيفة، برعبها وبرودة حقيقتها الصادمة إلى زاويةٍ من عقلك. وربما ستعيد الفيلم أكثر من مرة لتتعمّق في فهم مغزاه وإشاراته وتدرك اللّذة في كل ما تمّ على هذا النحو الغريب. إنه فيلم يحتاج منك إلى نضج كاف. وقد تشبعت حقًّا بكل السينما الممكنة إلى درجة أنّ السّهلة منها، المطمئنة، والدارجة كطبق يجبرونك على تناوله كل يوم، تصيبك بالغثيان.
حين شاهدتُ الفيلم مرارًا وتكرارًا، متوقفًا عند كل زاوية بعد صدمة تلقيه الأولى، تساءلت مع نفسي: لو أتيحت لي مشاهدته وأنا في العشرين من العمر، هل كنتُ سأفهم هذه اللغة السينمائية فهمًا كاملا يجعل جلدي يقشعر كما الآن من هول الحقيقة؟. لا، لا أعتقد. لكني سأستمتعُ مع ذلك، وفي رعب بالمشاهد الهادئة على نحو غير معقول خصوصًا في منتصف الفيلم، عندما تجلس العائلة إلى مائدة العشاء. تلك المشاهد التي أظنها صعبة الهضم على النسيان. أما قبلها وما بعدها فسيكون في نظري القاصر المحدود، مجرّد مسرحية عبثية تجري في رحلة ليلية باردة، نلمس فيها بعض الشذرات المضيئة المُلهمة، ثم يَلُفُّهَا ضبابٌ كاملٌ من الالتباس الفاضح، أو ربما حتى الجنون.
شارلي كوفمان وأعماله
شارلز ستيوارت كوفمان (1958)، يمكن القول وبلا مبالغة، إنّه من أشهر كُتاب السِّيناريو في هذا العصر. اختارته مجلة تايم الأمريكية العام 2004 باعتباره من بين 100 شخص الأكثر تأثيرًا في العالم. وهو اختيار له دلالته؛ إذ يعدّ كوفمان من أهم كتّاب السيناريو إبداعًا وتمرّدًا ومصدرًا لا ينضب لإلهام الكثيرين. يمتاز إنتاجه بخيال سرياليّ جامح؛ هو مزيج من سوداوية “فرانز كافكا” وعوالم الخيال العلمي للكاتب الأمريكي “فيليب ك. ديك”، ذلك ما سيجعل من أفلامه أكثر الأعمال السينمائية أصالة في أوائل القرن الحادي والعشرين.
لكوفمان رصيد مهم من العطاء في مجال السِّينما والتلفزيون. فقد بدأ حياته الفنيّة كاتبَ حلقات تلفزيونية لمسلسلات كوميدية مثل «Get a life» «عِشْ حياتك»، و «Ned and Stacey» «نيد وستيسي». لكن اشتغاله في فريق كتابة هذه السِّلسلات لم يرق إلى مستوى طموحه، فقد كان كل ذلك بالنسبة إليه مجرّد تجربة مرهقة للأعصاب. جعلته يشعر بالإحباط الشّديد، مقابل رغبته الدّفينة في الخروج عن النّمط السّائد. إذ ثمة نداء داخلي يحثه على تقديم أعمال يضع فيها بصمته الخاصة، الكفيلة بالتعبير عن أفكاره التي غالبًا ما كانت تتخطى الثوابت الهوليودية. أعمال ترضي وتشبع حاجته إلى الإبداع الحرّ وفق ما تمليه عليه موهبته المتّقدة وحدسه الثّاقب. وليس كتابة أعمال تخضع لما يحبّه المشاهدون، ويفضّلونه. والذي غالبًا ما كان يعني بالنسبة لمبدع مثله: التّكرار المُمِلّ.
لذلك، اتجه كوفمان إلى تجربة كتابة أفلام طويلة. وقد برزت موهبته بشكل كبير في فيلم “أن تكون جون مالكوفيتش” (1999)، وهو عبارة عن دراما كوميدية، استطاع من خلالها جذب التيّار السائد. فنال عمله هذا على قدر هائلٍ من الثناء بالإضافة إلى قاعدة جماهيرية كبيرة، ووصفته مجلة “Esquire” (إسكواير) بأنّه آخر فيلم عظيم في هذا القرن. ثم أعقبه بفيلم آخر لم يجد قبولًا كسابقه وهو “Human Nature” (الطبيعة البشرية) (2001). تلاه فيلم “Adaptation” (التكيّف) (2002) وفيه قلب كوفمان الطاولة على تقاليد الصناعة الهوليودية المهيمنة، بشكل جريء وشديد الوضوح.
لكن فيلم “Eternal Sunshine of the Spotless Mind” (إشراقة أبدية للعقل النظيف) (2004)، الذي أخرجه “ميتشل غوندري” ومثّل بطولته كل من “جيم كاري” و”كيت وينسليت” هو ما وُسم بالعمل الباهر. وقد خطف الأضواء بحصوله على جائزة الأوسكار كأفضل نصٍّ سينمائي. وُصف بالأصالة والمغايرة من حيث الأسلوب الفريد المُشبع بعناصر الإثارة النّفسية والسّرد غير الخطّي من أجل استكشاف طبيعة الذاكرة والحبّ الرّومانسي. ففي هذا الفيلم فرض كوفمان وجهة نظره السِّينمائية بقوّة.
أما العام 2008، فقد كان فاتحة دخول كوفمان إلى عالم الإخراج بفيلمه العاطفي Synecdoche,New York” (سينيكدوك، نيويورك) ثم أعقب ذلك دخوله غمار تجربة مُفارقة بفيلم أكثر طموحًا أخرجه سنة 2015 بتقنية الرّسوم المتحرّكة بعنوان “Anomalisa” (أنوماليزا). ومع أنه فيلم لم يلق النّجاج التجاري كما كان يرغب صاحبه من أجل تمويل مشاريع أفلام أخرى، إلاّ أن سُمعته قد تعزّزت كمخرج له القدرة والمرونة الكافية والعمق لتحويل الأفكار التأملية والفلسفيّة المعقدة إلى أفلام مُسلّية وقابلة للتّصديق.
بعد خمس سنوات من ذلك يأتي عمله السِّينمائي المُميّز الذي نتحدث عنه: “I’m thinking of ending things” (أفكّر في إنهاء الأشياء) 2020؛ أُدرج ضمن ما يمكن تسميته بأفلام الرُّعب والغموض. فيلم يتقصى في رعب نفسي مكتوم متاهات العقل وتشوّهات الزّمن في ما نظنّه معتادًا من حياتنا. لكنه يظلُّ مع ذلك، من الأعمال السينمائية الخارجة عن أيّ تصنيف جاهز.
الخطوط العريضة للفيلم
إنّه فيلم غير تقليدي بالمرّة. يضع فيه كوفمان الحياة بتشوّهاتها الزّمنية، ولا منطقها وسوداويتها على خلفية قد تبدو معتادة ومريحة. وهي قصّة بسيطة تُفاجئنا وهي تخبرنا عن الحياة المعقدة سريعة الزوال. رشِّح الفيلم لجوائز عديدة، كما ترك بالمقابل جدالًا واسعًا وتحديًّا كبيرًا في المشهد السينمائي الأمريكي كعمل مستقل، شديد الفردانية والفرادة، يطرقُ الباب من الجهة غير المتوقعة. ويضع رجُل الأوسكار الجديد مرّة أخرى في قلب المواجهة مع تقاليد الصناعة الهوليودية السائدة.
الفيلم مستوحى من رواية للكاتب الكندي “إيان ريد” (1980) وهي بالعنوان نفسه. لا يقدّم كوفمان السينما للجميع وحسب الطلب؛ وإنما يقدّم سينماه هو، مشبعة بشخصيته الخجولة المنطوية، ووجهة نظره الشاذة عن القاعدة. فرط حساسيته وقلقه الوجودي الذي يسِم رؤيته إلى العالم من جهة وإلى الفنّ السينمائي من جهة ثانية. ثمّ إليهما معًا منصهرين في لغة واحدة.
يحمل السيناريو وفقًا لمزاج كوفمان مِمحاة يمحو بها بعض التفاصيل التي وردت في الرواية، ويخطُّ أو يضيف ويبتكر ما يراهُ مناسبًا. يسير المحكيُّ الروائيُّ والسيناريو السينمائيّ معًا من نقطة البداية، ثم ينحرفان في خطين منفصلين ليتقاطعا من حين لآخر في بعض الأفكار والجُمل، مع الحفاظ دائمًا على الرؤية نفسها. في الأخير ينتهي التناظر التام بينهما في الرؤية التي أوحت لكوفمان بالاشتغال على العمل. لقد استفاد المخرج -وهو نفسه السيناريست الذكي- من فضاء الرواية، لكنه أضفى على العمل مناخه الخاص، ومزاجه السينمائيّ بالغ التعقيد الذي عُرف عنه.
I – في السيّارة حيث يُفترض أن يكون العالم أوسع مما داخل الرّأس
أبدًا لا تسير قصة الفيلم في المسلك المعتاد للحكاية التي يمكن سردها دون تعقيد. قد نلمس خيطا واضحا من القصة إذا اعتبرنا أن الفيلم يدور حول امرأة شابة (مثلت دورها بأداء رائع الممثلة الأيرلندية جسي باكلي) يصطحبها صديقها جيك (أدى دوره الممثل الأمريكي جيسي بليمنز) لزيارة والديه (أدى دورهما كل من الممثلة الأسترالية توني كوليت والإنجليزي ديفيد ثيوليس) حيث يعيشان في مزرعة بعيدة؛ تقع بين طريق ذهاب وطريق عودة في الليلة نفسها بسيارة قاتمة، تشقّ أغلب الوقت عاصفة ثلجية. لكن الحكاية ليست في الزّمن نفسه، ولا المكان ذاته، ولا الرحلة تمامًا؛ إنها كلّها تحدث في عقل شخص آخر. الرّجل المسنّ الذي نراه في مشاهد منفصلة يجفِّفُ أرضية المدرسة بصمت حزين دون أن ينبس بكلمة.
في الطريق إلى المزرعة نلمس غموضًا للأفكار في أحاديث الشابين اللذين يبدو أنّهما في بداية علاقتهما. تشيع روح المرأة الشّابة المرحة بعض الدفء، يكسره من حين لآخر الاستغراق المفاجئ في مونولوجها الدّاخلي بشأن مسألة إنهاء بعض الأمور. وهو ما يحيلنا في كل مرّة على العنوان. تشيرُ المرأة في ذلك إلى علاقتها بحبيبها جيك، حيث يجب أن تنتهي!. تسأل نفسها: هل ترغبُ حقًّا في هذه الرّحلة؟ تشكُّ إن كانت استجابتها لاقتراح الزيارة مُجْدٍ بأيّ حال. إذ من الأولى أن تنهي بعض الأعمال العالقة (بحث علمي أو مقالة صحفية). لا تستقرّ وظيفتها على شيء محدّد. هل هي صحافية أم باحثة في الفيزياء؟ (…). لهذا التأرجح وغيره مكانة أساسية في الفيلم.
أحيانا ما يحدث بين جيك وحبيبته شيء له صلة بالتخاطر. إن ما يحدث في عقل المرأة، هو ما يحسّه الشاب. أمر يزيد من غموض الفيلم. قبل أن نفهم أن كل ما حدث ويحدث يدور في عقل رجل واحد. ولذلك غالبا ما تبدو المحادثات بينهما كما لو أن الأمر متعلق بمنولوج داخلي. إنّ جيك يقرأ أفكار المرأة على نحو يُشوّشنا؛ في لحظة ما، نراه يمدّ يده إلى زاوية من شفتيه ليخفي بخجلٍ ما مسّه من النظرة التي رمقته بها. ومع أنها كانت نظرة جانبية خفيفة لا تكاد تلحظ، إلاّ أنهُ أحسّها. لقد وخزته وأثقلته بشعور مُعذّب، لعلّها نظرة كل النِّساء مصوبة إلى جانبٍ من قبح في “جيك”. يتكرّر هذا الشُّعور المؤلم في مشاهد أخرى من الفيلم؛ كما يزداد تعمّقًا في مواضع أخرى في سياق الأحاديث. إن مثل هذا الإلحاح على تلك الفكرة، يمثل إشارة إلى ما يشكِّل مأزقًا وجوديًا ناشئًا عن العلاقة مع الغير. بسبب نظرة غيرية منزلقة كهذه، تُسَلَّطُ كضوء كشّاف إلى عيب ما، يبدو المرء حينها ضئيلا، هشّا ومحاصرًا. منكفئا على جسده الذي سبّب له الإحراج، مع توق دفين إلى التواري إلى الأبد عن قسوة النّظرة. رد فعله هذا كان مُثقلا وعلى نحو بليغ بعبارة جان بول سارتر “الآخرون هم الجحيم”. حيث يمكن لنظرة الغير أن تمسخنا في لحظة واحدة، محوّلة إيّانا من ذات إلى «شيء». يفقد المرء عندها الشعور بالتحكم في ذاته ويصبح في حالة انكشاف، مما قد يولد شعورًا بالقلق أو عدم الراحة. من أجل هذا بالضبط يوجه كوفمان كاميرته وينصبها كالفخاخ.
تسير السيارة فيما الثلوج تسقط، ومسّاحات الزُّجاج تتثاءب كل الوقت في صوت انزلاقها الكئيب. يشغل جيك الراديو فيسمعان أغنية من مسرحية أوكلاهوما. هذه الأغنية ستُلقى مثل عبوة ناسفة في المشهد الأخير من الفيلم، مفجِّرة الإحساس بالكآبة. تشق الطريق بهدوء، وقليلا ما تركّز الكاميرا على الخارج الذي يشبه طقسًا رصاصيًّا يضغطُ بصقيعه المُملّ على جوانب السيّارة. يُذكِّر جيك رفيقته أنه ليس عليها أن تقلق من سوء الحالة الجويّة، إنه يحتفظ بسلاسل العجلات من أجل التعامل بنجاعة مع كثافة الثلج المتهاطل. في هذه المساحة المترامية لا أثرَ لأيّ شيء آخر سوى البياض الذي كفّ عن التدفق بالبهجة التي يمكننا أن نتصوّرها عن الثلج. تقولُ المرأة الشابة: (… أحب السيّارة حيث يبدو العالم أكبر مما يوجد داخل الرأس). لكن بخلاف هذه الرّحابة التي لا تتحقق، ظلّ الفيلم يجري في هذا الحيّز الضيق من الرأس حيث تهيمن الأفكار اللاّواعية والصِّراعات الداخلية والرّغبات المكبوتة؛ إلى أن يغذو الوجود نفسه حسب مقولة هيدجر “عبئًا عقليًا”. إن كوفمان يرى بحزن واقعيّ مأساتنا في عقلنا وأفكارنا تحديدًا، إنها سبب مشاعرنا التعيسة، وهي ما يكسب الحياة بُعدًا تراجيديًّا محسوسًا.
II- على مائدة العشاء: الطبق الوهم الذي يقدّم على أنه حقيقة
مع المضي في زمن الفيلم تزدادُ هوية المرأة الشابة غموضًا، وتصبح أكثر زئبقية، فمرة هي لوسي، وأخرى لويزا أو إيمي (سنطلق عليها من الآن لوسي تجنّبًا للالتباس). إن اعتبار دورها هو الدور الرئيس يبدو أمرًا مُضلِّلًا. مع أن كل ما في الفيلم من البداية إلى النهاية يوحي بذلك. وهذا ما يعمّق متاهة المُشاهد. ويجعله أسير الأسئلة. ولعلّه لن يدرك جوابًا واضحًا حتى صعود الجنيريك في النهاية؛ مع أن متعة الفيلم تكمن حقًّا في فهم كل ما يحويه من أحداث وإيماءات وحوارات على الوجه الأكمل. إنها أحجية قد تكون بلا حل، إلاّ في تأمّل الروابط الخفية التي تفترض دقّة الملاحظة، وهذا غالبًا لن يتأتى إلاّ حين مشاهدة الفيلم لأكثر من مرّة. إنه الفيلم الوحيد الذي لا يجب أن ينتهي عند نهايته.
أخيرًا يتوقف الشابان أمام بيت عائلة جيك. الثلوج ما تزال تهطل وستظل كذلك طوال مدة عرض الفيلم. وقبل أن يدخلا البيت يقترح جيك على لوسي التجوّل في المزرعة. في الحقيقة لا شيء في ذلك المكان يستحق أن نطلق عليه نزهة. إنه مرتع الكآبة؛ العتمة والبرود، القسوة والتقزز، ثم الرّائحة المقيتة. تقول الشابة في نفسها وقد ابتلعتها ظلمة الحظيرة: “شيء حزين هنا، أتساءل عن شعور الخراف. تقضي حياتها كلها في هذا المكان البائس كريه الرائحة ولا تفعل شيئا. تأكل تتغوط وتنام مرارا وتكرارًا”. تلمس الكاميرا مشهد خروفين متجمدين حتى الموت عند المدخل. يعلّق جيك: “ستحرق في الغالب بحلول الرّبيع”. ثم يردف قائلًا: “الحياة ليست جميلة دائما في المزرعة. هذا شيء يجب أن تعرفيه”. ثمة صورة صادمة أيضا عن الخنازير التي أكل الدُّود أسفل بطنها من التعفّن. سيوظف كوفمان هذه اللقطة الموجعة في المشهد الأخير من الفيلم بشكل رمزي بالغ القسوة والبشاعة المفعمتين بالمذلّة.
في بيت العائلة، حيث يفترض بعض الدفء تحلُّ الغرابة ويسطو بعض الجنون. كأن ثمة أكثر من عالم متوازٍ يتداخل مع بعضه البعض في فضاء واحد. يرنُّ هاتف لوسي. إنّه نفس الصوت، صوت الرّجل الحزين. يردّد: [هناك سؤال واحد علينا حلّه. أنا خائف. أشعر أنني مجنون. لست واعيًا. الافتراضات صحيحة. أشعر بخوفي يزداد، الآن حان وقت الإجابة، سؤال واحد فقط. سؤال واحد يحتاج إلى إجابة]. سندرك أنه اتصال ذهني آت من أعماق شخص معذّب. إنه ذلك الشخص الوحيد الذي يجري كل هذا في عقله.
تقفل لوسي الهاتف، وتضع في كل مرّة حدًا لفضول من حولها بكون الأمر لا يستحق، إنه اتصال بلا معنى. وكما يتغيّر اسم لوسي تتغير مهنتها واهتماماتها أيضا، ويبدو أن كل كلام عن خلفيتها يزيد من غرابة الوضع، ويجعلها أقرب من الوهم. إنها تبتعدُ ولا يمكن لمسها، مثل زئبق ينزلق من بين الأصابع. مع أنها تبدو بالنسبة لنا حقيقية أكثر من الآخرين، وممّا يدور حولها. يحدث هذا إن شئنا الوصف بلطف ماكر، دون تقلّبات صاعقة. مع أن ثمة ما يمكن أن نسميه بلوغ ذروة الحيرة والرّعب. رعب شاحب، رعب من اللامفهوم. لا يجعل القلوب تفزع أكثر مما تثير فزع العقل من الحياة بحد ذاتها.
كل شيء إذن، يتم على مائدة العشاء له وقع الغرابة. الألفة إلى جانب الجنون، الضحك مع الإثارة. تتقاطر أسئلة والدَي جيك على لوسي بشأن علاقتهما. متى التقيا؟ وكيف؟ سابقًا أخبرهما ابنهما أنّها رسّامة؛ قبل وصولهما إلى المزرعة كان لدينا انطباع على أنها شاعرة!
تردّ لوسي بلطف وتلقائية مرحة على الأسئلة بأن لقاءهما كان صدفة في حانة، وهذا ما حصل: تقدّم جيك بخطوة شُجاعة منها وطلب رقم هاتفها. هل هذا إنجاز كبير؟. تصفقّ الأم بجنون، ويهتفون. يصرخ الأب: وأخيرًا. لكن حين نصل الأشياء ببعضها البعض ندرك أن هذا لم يحدث أبدًا. إنها مجرّد تخيلاّت جيك. فالمرأة لا وجود لها على الإطلاق إلاّ في عقله. وهو ما يجعل هويتها منزلقة ووظيفتها مبهمة واسمها متقلّبًا. لا بدّ أن نُذكّر القارئ بما يشبه اللازمة: إن جيك نفسه هو النسخة المصغّرة عن حارس المدرسة المسنّ الذي يظهر من حين لآخر في مشاهد منفصلة، ينظف الأرضية وحيدًا في صمت حزين يكسر الرّوح.
لقد التقى جيك بالمرأة فعلًا في حانة. لكن، لم تكن له الشجاعة الكافية ليتحدث إليها. مرّ على ذلك سنين عديدة. وهو الآن يمزج رغباته التي لم تتحقق مع ذكرياته. إن صورة لقاء الفتاة بوالديه مجرّد وهم. رغبة، آمال عظيمة في امتلاك امرأة حقيقية ولو لمرة واحدة في العمر.
III- ما يبدو تشوهًا في الزّمن،
يُظهر حقيقة مرعبة!
في مشهد يثير الاستغراب تشدُّ نظر لوسي صورة معلّقة على الجدار، إنها “لصبيّ أو صبيّة” لا يمكن التمييزُ على وجه الدِّقة. تهتف: [هذه أنا. يردُّ جيك: لا هذا أنا.. جيك]. يمرّ الحادث كشيء عرضي. ثم تحدث وقائع أكثر غموضًا، فها هي تُطلع والدي جيك على رسوماتها الفنية المخزّنة في هاتفها المحمول، ألم يخبر والديه بأنها رسّامة. يتجاذبون أطراف الحديث في شأن أعمالها وخياراتها الجمالية، وعن كيف يمكن للحقل الذي رسمته “أن يكون حزينًا دون أن يبدو أن هناك شخصا حزينا في الحقل”؟ لكنها حين تنزل في مشهد آخر إلى القبو لتضع الثوب في الغسّالة تتفاجأ بوجود تلك اللوحات هناك. تعود إلى هاتفها كمن انصعق، تمرّر أصابعها المرتعشة على شاشة الموبايل، لكن لا أثر للوحات. ليس ثمة سوى البياض الصادم المليء بالشك والذهول. ذهولٌ يُولد -ويا للغرابة- لحظةَ تلاشيه، وهو ما يؤبّدُ حيرتنا ويجعلها أعمق. لماذا تتغافل الشابة عن كل هذا اللاّ معقول بتلك البساطة وتتجاهله في برود مخيف.
يسترسل الفيلم في إشاعة غرابة أكثر جنونًا من خلال تلك التقلبات التي تظهر على والدي جيك. إنها تقلبات مرعبة. تبدأ والدة جيك (توني كوليت) في محادثات غير منتظمة. تتغير ملامحها وسلوكاتها. تبدأ في النسيان، تنطق بعض الكلمات بطريقة تحيل على معنى آخر. يتدخل ابنها جيك ليصحّح، بعصبيّة. لا يبدو أن جيك راض أمام فتاته عن والديه. إنه يشعر ببعض الحرج من تصرفاتهما. تتراجع ذاكرة والدته، ويبدو كأن الزّمن يجري سريعًا على ملامحها، هذا لا يحدثُ إلا في الوقت الذي لا نلحظ فيه شيئا من ذلك. فيما يقول الأب كلمات تحمل الحقيقة المفزعة: (تزداد الحياة صعوبة مع الوقت.. آه نعم تزداد وكأنها قطار يسير إلى الجحيم. ترد والدة جيك: إنها طريق سريع إلى العدم، ثم تطلق ضحكة بلهاء). يفتقد الأب شيئا جوهريًا في زوجته. يُعبِّر بحسرة عن المرح الذي كانت تتمتع به، ويشعُّ منها، وهو أكثر شيء أحبه فيها. إنها حقيقة مرعبة بقدر ما هي محزنة. الفيلم بحد ذاته رعب قاتم عندما يقف عند هذه الحقائق ويظهرها، مُسقطًا إيّاها من الفكر التأملي الفلسفي على ضوء الشاشة. وبخلاف أفلام الرّعب حيث التأثيرات الصوتية والصور المفزعة يلمسنا الرّعب من وجودنا في عري الحقيقة الصادم لا غير. هنا نصل إلى الجرعة المكثفة من فكرة الفليم حيث لا شيء غير الضياع، الشرود، الفقد، الوحدة، والذهول من الإحساس بسرعة الزّمن.
تسأل الأم ابنها الشاب: (هل تتذكر عيد ميلادك الخمسين. يصحّح جيك: العشرين. تجيب الأم: آه.. يا إلهي أين عقلي!) تتداخل الأزمنة حتى لا تعود تعني غير متاهة كبيرة، يجب الخروج منها. متاهة داخل متاهة في عقل رجل واحد يريد أن ينهي كل هذه الأشياء التي تدور في عقله.
عند لحظة شرود المرأة الشابة وهي تتطلع إلى الطقس من خلال النافذة يختفي من حولها الجميع فجأة. يفتح المخرج حيّزًا لهذه المساحة المربكة من حين لآخر، فجوة مثقلة بالوحدة. فيما تظل الكاميرا تدور حول الفتاة وحدها كما يفعل نبات دوار الشمس. لقد وضعت في مركز كل شيء من هذا الجنون الذي تبدي نحوه على نحو غير طبيعي الكثير من التقبّل، الانفتاح والمرونة. تتجه إلى الأعلى عبر الدرجات حيث ردّ جيك على ندائها. تقودها الخطوات وهي ترفعها إلى غرفة صديقها في الطابق الأول. هناك حيث يمكن العثور في هذه الزاوية على تلك التلميحات الأدبية والفلسفية والموسيقية التي ساقها حوار الفصل الأول من الفيلم عندما كانا في طريقهما بالسيارة إلى هنا. تجد لوسي نفسها مرة أخرى في قلب كل ذلك. كل ما في الشقة هو عبارة عن تفاصيل صغيرة لا تبرحها طفولة جيك. إن رمزية الطفولة حاضرة ومهيمنة بقوّة. إلى جانب ذلك تلتقط الكاميرا مجموعة من القصص والكتب وأشرطة الأفلام، بما في ذلك مجموعة من مقالات بولين كايل تعود لعام 1996 بعنوان For Keeps: 30 Years at the Movies، وكتاب شِعري مفتوح على صفحة تلك القصيدة التي قرأتْها في الطريق؛ أم تخبر جيك على أنها هي من كتبها؟!. في تلك اللحظة يظهر أبو جيك، عجوزًا ومنهكًا ويعاني من الخرف. نقلة زمنية مفاجئة. يتحدث إلى صديقة ابنه ويشرح لها بعض الأمور حول طبيعة جيك. يصبح السّرير الصغير في تلك الغرفة موضوعًا أيضا للحديث، إنه سرير على مقاس طفل، تلميحٌ ذكيٌّ إلى أنّ جيك لا يكبر. إذ يظل حبيس نفسية الطفل الذي كانه. يخاف أن يخرج إلى العالم، لا يملك الجرأة الكافية ليصير رجلًا، ولا حتى ليمتلك فتاة حقيقية. وحياة طبيعية في مثل مرحلته العمرية. إن السّرير هو تعبير عن الحدود الضيقة التي يحيط بها نفسه.
-(يمكنك أن تبيتي الليلة هنا، ربما السّرير لا يناسبكما، لكن يمكن أن تدبرا أمركما الليلة)، يقول العجوز. ثمة مشاهد متشظية يمكن أن نركِّبها كلعبة البازل لنفهم ماذا تعنيه في علاقتها ببعضها رغم تباعدها في الزمن الفيلمي، يقتضي هذا دقة الملاحظة. مثلا، حين تنزل (لوسي) إلى القبو لتضع الثوب في الغسالة، تجدها ممتلئة بملابس الرّجل حارس المدرسة، بنفس تلك العلامة المميّزة للشركة. وفي بداية الفيلم نلمح كرسيًّا متحرّكًا والكاميرا تتجوّل في زوايا البيت الذي نسمع فيه صوت الشابة وهي تتحدث فيما يشبه مونولوجا داخليًا. هذا الكرسي هو نفسه لوالدة جيك المقعدة في المشاهد الأخيرة من بيت العائلة. إن كل ثانية من الفيلم وكل صورة هي دلالة، حلقة صغيرة قد تتكرّر في السلسلة الطويلة لتمنحنا فهمًا ورؤية كاملين.
IIII – قبل الفصل السريالي القاتم
بعد مغادرة المزرعة، نعود إلى الطقس السيئ نفسه. القيادة الثقيلة، وهمهمة محرّك السيّارة وصوت مسّاحات الزجاج الأمامية. فيما ابتلعت كل ذلك الملل عتمة هادئة، خيّمت على ملامح الممثلَيْن. تسطع كالبرق من حين لآخر في حواراتهما أفكار استدعتها ذاكرة كل منهما من قراءة الكتب والمقالات. تدور كلها حول مأزق الفرد الضعيف الأعزل في مواجهة مجتمع قاسٍ يقوم على أوهام الصورة السّطحية ومقاييس الجمال الموجّهة. يُردّد جيك جزءًا من مقال “ديفيد فوستر والاس” حول التلفزيون الذي لا يكف عن عرض الأشخاص الجذّابين وصور الحياة المزيّفة، باعتبار ذلك الأسلوب المؤذي الذي يُساهم في تآكل ثقتنا بأنفسنا. يتحدث جيك بنبرة منهزمة ومتذمِّرة في آن، ثم يشير إلى حدث انتحار كاتب المقال. ويعلّق على هذا الحدث منتقدًا، إذ صار خبر الانتحار بالنسبة للجميع هو القصة أو الأسطورة في حدّ ذاتها؛ لغاية التنصل من أسبابه الكامنة في ثقافة مجتمع لم يعد يعرف فيه أفراده كيف يمكن أن يكونوا بشرًا. عندها تسترسل لوسي في الحديث عن كتاب “مجتمع النظارات” للكاتب غي ديبور حيث إن مشهد صناعة الواقع ما هو إلاّ خداع بصري تنتجه تقنيات وسائل الإعلام. إنها رؤية عالمية تجسّدت في صورة مادية.
يغدو الحوارُ مكدّسًا بالمراجع مع جرعة حادّة من الألم النّفسي والتغيرات المفاجئة في اللهجة والأسلوب بين الثرثرة الخاملة والنقاش الفلسفي حد الانزعاج. كل هذا التيه العقلي مدعوم ومفعم حدّ الكآبة بقيادة لا نهاية لها عبر مسافة من الثلج؛ إذ “تبدو الطريق طويلة للغاية” كما تقول لوسي في ذعر كوميدي قاتم.
الطقس البارد الذي يلفُّ الفيلم كالمعطف هو تعبير عن برودة مشاعر العالم الخارجي تجاه جيك. نلمسُ هذه البرودة ودلالتها أكثر في وقوف السيارة عند متجر الآيس كريم في “تولسي تاون”. فإلى جوار حرمان جيك من أن يكون مرغوبًا من طرف الجنس الآخر، ثمة استيهامات تظهر عكس هذا الحظ السيئ؛ تمامًا مثلما يحدث في الأحلام. فبائعات الآيس كريم بملابس الستينيات، وهي فترة شبابه الآفلة، يلتهمنه بنظراتهنّ المُعجبة.
v- مسرح لإنهاء الأشياء
في ضوء العبث
للبحث عن سلّة المهملات في الطريق من أجل رمي كوبي الآيس كريم، يدعس جيك على مكبح السيارة عند بناية المدرسة في فراغ ليلة تنبح فيها الوحدة ككلبة. يخرج جيك الغاضب بلا سبب، ويغلق الباب وراءه. دون مبرّر، نفتقده. تتقدم خطوات لوسي بحذر في دهاليز المدرسة وهي تنادي بحثًا عن رفيقها إلى أن تلتقي في متاهة ذلك العقل، بصاحبه: حارس المدرسة. الرجل العجوز، مرتخي الكتفين، اليائس والبائس والوحيد حدّ الألم. لقد اختار “كوفمان” شخصيات الفيلم على مقاس المعنى الذي أرادهُ. لقد وُفّق في ذلك إلى حدّ كبير.
عند هذه اللحظة نحن أمام كيانين منفصلين، حيث المرأة مجرّد فكرة في عقل العجوز. يدفع كوفمان بهذا الجنون إلى الذروة حيث ندخل في تفاصيل خارجة عن النسق المعتاد لإيقاع الفيلم، وفي رمزية معقدة تعقيدًا شديدًا تُمَسْرَحُ فيها الأجساد وتُهندس الرقصات. يستبدل راقصان محترفان بباكلي وبليمونز. تقف الرّاقصة خلف لوسي وهي ترتدي نفس ملابسها. أما الرّاقص فخلف جيك بنفس زيّ هذا الأخير. يتقدم الرّاقصان فيما يتراجع الممثلان ويختفيان. لم يعد يظهر سوى بديليهما. تبدأ الموسيقى شفيفة نقية وهادئة، والإيماءات تنحو نحو رمزية الحب وطقس الزفاف. وفي تلك اللحظة حيث يبارك رجل الدين هذا الزواج الذي يتم التظاهر به على نحو مسرحي ينقصه الكثير من الإكسسوار اللازم، يهجم شخص غريب، وفي الآن تضطرب الموسيقى، ويتحول المشهد إلى عراك مثقل بالافتعال المسرحي. قتل مزعوم، ثم اختطاف للفتاة. هذه المشاهد المبالغة في الاستعراض تبدو بالنسبة لنا مقحمة بطريقة مزعجة، كما لو أن كوفمان يجبرنا على تذوق البوظة في منتصف وجبة حساء ساخن. لكن ماذا نتوقع من مزاج مبدع لا يعرف الحدود. يدخلنا عنوة إلى مجاهل أخرى ويحاصرنا من كل جانب بتلك الغرابة والقسوة والبرودة القاتلة. نشعر ونحن مدفوعين عبر هذه المشاهد كمن يستحم بكامل ملابسه الشتوية، بالمعطف الشمعي وحذاء البوردكان الثقيل. ماذا يريد أن يقول بدفعنا إلى الإحساس بهذا الاضطراب غير المريح. أمن أجل إثقالنا بنهاية مبهرجة غير ممتعة، كي نشعر بمرارة جرعة عبء عقلي من وجود لا يُحتمل؟ ناهيك عن مشهد رسمة الخنزير المتحرِّك، الذي ينزّ عنه الدُّود وهو يتبع حارس المدرسة الذي تخلص من ملابسه كما لو كانت حبالا تكبّله، ثمّ مشى عاريًا تمامًا من رأسه إلى أخمص قدميه في مشهد مُذلٍّ؛ إضافة إلى عرض آخر في ابتذالٍ مسرحي حيث يتلقى جيك في مشهد حفل الأوسكار ما افتقده طوال حياته، أي التقدير والحبّ. مُمَثَّلَان في عاصفةٍ من تصفيق جمهور مُتوَهَّمٍ، له وجوه خاضعة لتأثيرات ماكياج الشيخوخة بطريقة سخيفة وغير مُقنعة. نتساءل منزعجين: هل هي حالة مرض عقلي تستحوذ على الشاشة وتدخلنا إلى الافتراضي بكثير من التشويش أم هي ذروة النهاية التي أزفت في انتحار محسوس وغير معلن؟.
يخترق كوفمان الحدود، وينحرفُ بالكاميرا إلى سوريالية هجينة ممسرحة إلى درجة السُّخف، نفتقد الواقع والمنطق والزمن والأسلوب. يجرف فيلم “أريد إنهاء الأشياء” كل شيء وهو في زوبعة نهايته. يخترق حدود كل من السينما والمسرح والرقص إلى شخبطة في العقل تماما. العقل الذي افتقد قدرته على التماسك. والذي يؤدي بصاحبه إلى نهاية باردة محزنة. بذلك، يقدّم الفيلم في هذا الختام المربك، تعليقا بليغًا مُذهلًا عن الوحدة والألم واللاّ معنى.
كوفمان وهو يُقدِّم نفسَهُ
محطِّمًا اللُّعبة، قالبًا الطاولة
“الشيء الوحيد الذي يمكنني أن أقدمه لكم هو نفسي”. إن هذه العبارة التي أتت في سياق محاضرة ألقاها كوفمان في الأكاديمية البريطانية لفنون السّينما والتلفزيون، تختصرُ كل كلام عن رؤية صاحب “أفكر في إنهاء الأشياء”. فقبل أن يكون كوفمان مخرج هذا الفيلم هو كاتب أفلام عظيمة. حيث تحضر الكتابة بوصفها تعبيرًا عن الفكر والمشاعر الذاتية. والفيلم الذي نتناوله الآن بالقراءة هو أقرب من الكتابة إلى الصورة. لا شيء في المشاهد مشبع بالإثارة وتنوّع المفردات البصرية؛ على العكس من ذلك إننا داخل فضاء رمادي كئيب أضاءه الثلج ووسمه القلق ولفحته البرودة. الأشخاص والعناصر المرئية هي أقرب إلى المداد منها إلى ملمس بصري. لا تتحقق صور المَشاهد إلاّ كلغة تعمل على تفجير الفكرة. اللغة، لا بوصفها بلاغة قلم، بل بكونها مفعول جرعة مسمومة من عقل مريض مُعذّب يعدي كل شيء يراه ويلمسه ويتذكره. يمكن أيضًا في هذا الإطار للقطة من إحدى الزوايا أن تعكس هذه اللغة، كما هو أيضا آداء جسي باكلي المبهر، ولعب الممثلين الآخرين الذين دُعوا ليبدعوا معاناة هذا العقل البائس.
فعوض أن تكتفي بالمُشاهدة تجد نفسك في فعل القراءة، فتسلسلات المَشاهد ولقطاتها المصوّرة تتوالى كجُمل أيضا. وكما في فيلم “باترسون” لجيم جارموش (نشرته مجلّة في عددها 117) والذي سحرتني تأملاته، وشبكة خيوط أفكاره التي نسجت من قصة بسيطة إلى درجة أنها لا تُحكى، يبهرني كوفمان بضبط أوتار هذا الفيلم ليستولد شرارة نغمة فريدة ومميّزة، من بين جُلِّ ما مَوْسَقَتْهُ كل سينما طلائعية نحت نحو الابتكار والتجديد. تلك النّغمة هي في الآن ذاته تعبيرٌ عن مزاج قلق تشبّع بشعورٍ مقيتٍ: اشمئزازٌ من النّفس في هذا العالم القاسي. يقول كوفمان: “ لا أفهم أي شيء عدا هلعي واشمئزازي من ذاتي ووجودي المثير للشفقة. إن الشيء الوحيد المؤهل للكتابة عنه هو ذاتي”.
هذه الإنطوائية الشّديدة على الذات هي ما تمنح أفلامه صدقًا ورؤية وجودية خالصة. سبق وأن تحدثنا عن إعجاب كوفمان بكافكا، هذا الهلع الكافكاوي يعدّ أيضا نظرة فلسفية إلى العالم. وإن كان خارج المنهجية الفلسفية فإنه داخل النفسية الأكثر تعقيدًا وتشفيرًا للكائن البشري والتي تمنحُ الفرد رؤية وقلقًا وجوديًا خاصًا. إنها النظارة الأكثر قتامة لرؤية العالم وأشيائه من حولنا. تلك إذن، وجهة نظر فكر، لعلّها أكثر حدّة من تشاؤمية شوبنهاور، سيما في عصرٍ كل شيء فيه يوصفُ بالسّرعة والجنون.
لسرد فكرة عميقة كهذه، يجب الدخول بالسينما في متاهات جديدة. لذلك، لا يخفي كوفمان امتعاضه من السّرد السّائد؛ بل ينتقده جهرًا، كما يستهجن المشهد الهوليودي وأساسات أعمدة صناعاته. فالنتاج السينمائي في نظره بائسُ وجامد. لا يتحرّك ولا يقولُ شيئًا جديدًا أكثر ممّا يكرّر نفسه بشكل مُملّ. فأغلب كتّاب السِّيناريو في هوليود يظلون على سطح الأشياء ليعملوا على سردها بطريقة نمطية، منهكة بالكسل والعمومية ولدوافع تجارية. نوع من المحاكاة أو على الأرجح نسخ متعدّدة للسينما ذاتها. تلك السينما التي لا تملك شجاعة الغطس نحو الأعماق، والظفر بشيء فريدٍ يُغني المعنى حتى لو كان في قلب اللاّمعنى ذاته. إنها سينما فقيرة ما دامت لا تذهب أبعد لخلق رؤى جديدة تكتشف من خلالها حقيقة هويتنا الإنسانية وأبعادها المخفية في وجودها على الأرض ومواجهتها للمجهول. أو على الأقل لتعبّر في تأمل وتفكير عميقين عن مأساتنا الوجودية ومشاكلنا الفردية، علّنا ندرك يومًا الطريقة الأنسب التي ينبغي علينا الأخذ بها لمواجهة ثقل التاريخ وتثاقل هذا العالم عن الأنسنة. بدل توزيع الغرائز والطبائع البشرية الممسوسة بالأحكام المسبقة على كل شخصية من الشخصيات ودفعها إلى صراع زائف تبدي فيه بطوليتها المزعومة من حيث قدرتها على تجاوز عقبات تشبه تلك التي تنصبُ في لعبة تحدٍّ سخيفة ترشي المشاهد ببعض الإثارة والمتعة السّطحيتين لا غير.
يخلق هذا الرأي الذي يهاجم النظرة غير الواقعية والمضلّلة لرومانسية هوليود تصادمًا. ودخول مخرج مثل كوفمان إلى هذا الصراع يجعله ملعونًا بالطبع؛ يعد سيناريو فيلم “أن تكون مالكوفيتش”Being john Malkovich” بمثابة جس نبض الموقف الهوليودي بشأن أعمال كوفمان، حيث رفض النّص بعد أن قُدّرت أهميته وفرادته وقيمته كسيناريو بالغ الأصالة والذكاء والعبقرية. لكن أحيانًا لا تقدر الدّفاعات الهوليودية الطاردة لكل مُختلف على الوقوف أمام سطوة أسلوب هذا المخرج الجريء في قلب الطاولة؛ لأنه قدّم وما يزال يقدّمُ أعمالا لا يمكن تجاهلها. وقد استحقّ أحدها الأوسكار عن جدارة، فيما توّجت أعمال أخرى بمديح حماسي، وصفها بكونها أعظم إنجاز سينمائي أمكنه أن يتحقّق.
إن سينما تتقلب داخل متاهة عقل، هي سينما مميزة ومُفارقة. سينما لا تكتفي بوصف ما خلف النافذة، وإنما تفكّر وتحلّل وتتنفس، تجوع وتبرد وتعطش. تخاف وترتاب وتملؤها الهواجس. إنها أداة الفكرة، وجلد الأحاسيس. ومن خلال كل هذه التجارب والاختبارات جميعها تطرح سؤالا، وبطرق مختلفة جماليًا وفكريًا فاتحة أفقًا ومعرفة بأنفسنا وبالعالم من حولنا. يسلّط كوفمان على الشاشة الخارجية ضوءًا من دواخل المشاهد. إنها طريقة ذكية مُلغزة ومعقدة؛ تقلب أفق الانتظار مائة وثمانين درجة. تحطّم اللعبة الأولى في السّرد النمطي المُضجر، لأجل ابتكار فنيّ يدفعنا إلى المشاركة في التفكير والإحساس والتعبير أيضا. وبذلك يخرج هذا النوع من السينما عن الاستهلاكيّ السّائد. الذي يضع المتلقي في موقف سلبي، حيث يتلقى دون أن ينمو أو يتوسّع في مساحة الإدراك والوعي.
لن نخرج عن مجال صناعة الجمال أو المتعة السينمائية إذا اعتبرنا أن مثل هذه الأعمال الإبداعية هي شكل من أشكال المقاومة. مقاومة التسطيح، الإلهاء، والإغواء التي تفرض جميعها نموذجًا وحيدًا لصفات البطل/البطلة، رغباته ومواقفه التي تذكيها القيم الاستهلاكية الفارغة من أية قيمة.
نحتاج إلى وقت طويل حتى تجود الصناعة السينمائية بمثل هذا العمل المميّز. نحتاج إلى غربلة الكثير من الأفلام حتى نعثر على جوهرة واحدة وسط ذلك الحطام. فكثير من الأعمال هي مجرّد خراب أو تخريب ممنهج لأنّها موجّهة، أو معدّة وفق ما يطلبه الدّاعمون في قطاع السينما والتلفزيون؛ أو هي مثل علكة تمضغ مرارًا وتكرارًا بلا مللٍ ودون فائدة تذكر. لذلك فإخراج فيلم بهذه القيمة الإبداعية العالية من زاوية نظر مستقلة هو حدثٌ استثنائي كبير. يستحق منّا التحية برفع القبعة، بل وإلقائها بعيدًا في الهواء. فرحًا بخطوةٍ توسّع أفقًا. إنّه إنجازٌ وقد تمّ، رغم الإكراهات التي تحتشدُ لتقوّض كل مشروع بناء للفنّ المستقل في عالمنا اليوم. يكون فيه الفنان صاحب رؤية، سيّدًا فيما ينجزُ، وله الكلمة.