محمد عبيد من الشعراء الذين تبدو الكتابة عنهم غير ممكنة بعيداً عن خصوصياتهم… وسيرتهم،وتمظهرات وعيهم.. ليس في النص وحسب، ولكن في ممارسة الحياة اليومية في أصغر تفاصيلها، ذلك أن نصوصه تبدو في كل حالاتها تجليات لوجوده، وتشكلات هذا الوجود.
محمد عبيد شديد الحضور في المشهد الثقافي التسعيني في اليمن، بأسلوب حياته، وبكونه المهدر، وتاريخه المشتت، أما حضوره الشعري فهو حضور خافتٌ.. -ربما- بسبب استجاباته الشعورية غير المخططة، وكون نصوصه كلها تنفلت عند كتابتها من عالمه الشخصي حارة، وساذجة بلا ترهين لأي قصدية، ولذلك فإن دلالته واضحة، وبؤرها سطحية وسهلة المآخذ.
فهو من هذه الناحية بعيد عن أكثر مجايليه.. إلا أنه من جهة التخلي عن كل أنواع الأيديولوجيات، والكتابة الرافضة للتشكل بالهموم، والانتماءات أياً كان شكلها وطنية، أو سياسية، أو اجتماعية، يدخل في السياق الأكثر دلالة على التسعينيين.
في قصائده يبدو محمد عبيد مقطوعاً عن أي نسب أو سياق سوى قلقه الوجودي.
أنت لا تقرأ في شعر محمد عبيد أفكاراً، أنت تقرأ فيه سيرة عبرت عن نفسها بألفاظ عادية، وصور ليست مبتكرة، وشكل ومعجم تمتح جميعها من المتوفر الموجود… إلا أنك تقرأ تجربة حارة وغير مفتعلة، حتى وإن بدا أن صاحبها يقع أحياناً تحت طائلة التأثر السطحي ببعض كتابات مجايليه.
إن تيمات الطفولة، المرأة / الأم، المرأة / الحبيبة، العشق، التيه، الحنين، الوقت والمكان في قسوتهما وروائحهما، كلها تتخلق من القلق الوجودي لشاعر لا بيت له، ولا وظيفة، ولا أسرة، ولا قدرة على بناء علاقات أو تطوير علاقات مع المحيطين به، أو مع الجهات التي ارتبط معها بأعمال في أوقات متفرقة.
محمد عبيد ليس قادراً على ذلك، كما أنه ليس قادراً على اعتناق مبدأ، أو المثابرة والإخلاص لفكرة، أو الصبر على عمل. كل شيء يتم في أوانه موجهاً: في الحياة اليومية بالمنفعة الآنية ( تدبير مصاريف لوجبة غداء… سجائر… وقليل من القات، وربع قنينة شراب، أو تدبير إيجار الغرفة التي يسكنها آخر الشهر) مثلاً.
وموجهاً في حياته الإبداعية باللحظة التي تخلق نفسها وتخلق نصها، لحظة الشعور بعبث الحياة، وتعاسة المكان، وفقد البراءة، بعد يوم من الختل، والمراوغة.. الاضطرارية للحياة والناس.. والإحساس بالحرمان من كل شيء، والتيه والغربة عن كل شيء وفي كل شيء.
وموجهاً في كتاباته الأخرى بالحماس الآني لفكرة غالباً ما ترتبط بضرورة العيش، إذ ينعدم عنده الإيمان بما يفعل.. وهو يشعرك بعدم جديته حتى إزاء أكثر أعماله ريادة وإثارة للضجيج (الملف الشهير الذي نشره في المجلة الثقافية نهاية التسعينيات عن الخرافة، والذي بسببه هوجم كثيراً وكفر). مثلاً. بل هو مستعد من أجل متعة آنية وسريعة التحقق معيشياً، وإبداعياً، وفكرياً، أن يضحي بما هو أهم، وأوفر، وأرغد. إنه ابن لحظته التي تحرمه دائماً من عيش الأشياء بعمق، والتعامل معها بعمق، والتعبير عنها، أو دراستها بعمق.
ولذلك فإن نصوص محمد عبيد فنياً أميل إلى الغنائية،والتعاقب الموقع الذي يحتد في نصوص، ويخفت في نصوص أخرى.
ونصوصه التي تتراوح في طولها بين النص القصير، والنص المتوسط الطول، تظهر انحيازاً لتقنية القطعة القصيرة.. وهذا بسبب ما أسلفناه من استجابة نصوصه لحالاته الشعورية في آنيتها البعيدة عن أي قصدية أو تخطيط مسبق.. هكذا:
سهواً/ يطفح الشجن/ ترجمني الغيمة بالهمس/ فتشجُّ روحي
(أغنيات السهو ص٤٦)
وهي بسبب هذه الاستجابة الآنية لشعور اللحظة، لا تنشغل بملاعبة اللغة، أو تعتقد بضرورة مغايرتها. ليس في نص عبيد شيء ( لا متوقع)… ومع ذلك فهو نص قادر على الامساك بتلابيب روحك… وأخذك بفجيعته.. التي تضعك أمام معجم اصطفته حالته… معجم ينفتح على جحيم شاسع مسكون بـ (يكسر، وتكسر، وتنكسر، ومكسور، وانكساراتي).
و (سديم، دخان، حرائق، أشباح، وحشة، تيه، خراب، فوضى، تباريح، وجع، نشيج، طفح، سخط، سوط، غبار، شرخ، أسمال، أشلاء، بقايا، شرود).
و (النار، المجهول، الخوف، الدامي، الهذيان، التشظي).
و( مفقود، مجدور، مذبوح، مسبي، موبوء، مهترئة، منزو).
(يبحث، يتيه، يتبعثر، يجتز، يجرح، يعصف، يلهب، تنشرك، تغرق، تصادر، تتحرق، أحرقني، أبحث، أضعت، أضيع، اهتزت).
وهي ألفاظ تتكرر وتتناسل في سياقات تزيد على مائة واثنين وخمسين سياقاً تتخلق منها وفيها دلالاتها المروعة المخيفة، التي تتكشف عن حالة إنسانية معذبة… رصد الشاعر لحظاتها من داخل قلبه، بحواسه كلها، ليتلامح فيها وجه محمد عبيد (سنبلة يمضغها القيظ)، و(ولداً مفقوء القلب)، وفي النهاية إنساناً (لائذاً بعلبة موته من موته اليومي)، دون أن يلمح ( بارقة في شرخ بابه المكسور).
إن التداخل بتجربة محمد عبيد من خلال مجموعته الشعرية الأولى (أقاصي) الصادرة عن الهيئة العامة للكتاب ضمن إصداراتها للعام 2001م، هو بالضرورة تداخل بذات كاتبٍ ينشغل بكتابة ذاته في لحظاتها المسكونة بالألم المتواشج بالقسوة، حيث تتكرر رحلة الألم من طفولة بائسة… إلى حاضر مكسور… إلى مستقبل لا يعد بشيء سوى الخوف وخراب العمر.
ينظر عبيد إلى طفولته.. بقلب أكثر خفقاناً، لكأنه يرى خروجه من ذلك العالم خطأ قاتلاً ارتكبه أو أجبر عليه: (منذ الطفولة وأنا مسكون بهواجس الفقد والخيبة)، هكذا يقول في حوار أجريته معه إثر صدور مجموعته موضوع قراءتنا.
إنه يواجه الحاضر ويمضي إلى المستقبل وعينه على الماضي.. الماضي الذي هو ماضيه، ماضي طفولته بالذات:
أنا الآن أغني/ وأتيه في سديم الكأس/ أتواشج بدخاني/ صيرني الليل لفافة موت/ وحرائق/ فتسللت إلى غرفة أمي/ وسرقت أساورها/ لمحت خيال أبي المكدود/ يعارك أشباح الموت/ فزعت،/ دلفت مجرة أحلامي/ وتلحفت شهاباً كونياً/ أحرقني / عدت فغنيت/ وحيداً كنت أغني/ والليل يتيه بنافذتي
( ليل يتيه بنافذتي ص ٧-٨)
إن تموضع الإبداع الشعري لموضوع الطفولة ( طفولة الشاعر أي شاعر) بمقدار ما يدل على ارتباط الشاعر بوطنه الأول والأخير -على حد تعبير الشاعر (صلاح ستيته)-، وبمقدار ما هو أكثر دلالة على الشقاء الإنساني والقلق الوجودي للشاعر.. حيث الشعراء الذين أكثروا من الكتابة حول هذا الموضوع، كانوا يعيشون حياة بالغة التعاسة والقلق وعدم الاطمئنان – نتذكر السياب على سبيل المثال- فإنها تدل أيضاً على جانب من حداثة الرؤية، إذ لم يرتبط الشعر العربي كثيراً في تاريخه بموضوع الطفولة خاصة والخلفيات الثقافية والمرجعيات الاجتماعية، كانت دائماً تجعل الهروب إلى الطفولة يجافي ارتباط الشاعر بالرجولة، والفروسية، وبعدد من التجليات الاجتماعية التي تجعله ناطقاً باسم القبيلة أو الشعب.
الطفولة تعني النظرة الأولى للأشياء، والتعبير عنها بالطهارة الممكنة..، وهذا ما يتحقق لـ(عبيد) حين يهرب إلى الطفولة، أو إلى أمه.. التي يصبح ظهورها في نصه متلازماً شرطياً باستعادة الطفولة.. حيث الأم امرأة عطاؤها لا يحد.. وأمانها مفتوح على كل المديات، قياساً بالمرأة الأخرى التي عرفها محباً تلتهب عاطفته، وعاشقاً تتأجج رغائبه:
(١)
قولوا لأمي/ إنني في الهذيان الحميم/ أتمرغ بالقلق
وعند الليل/ أصارع ضجري/ وأمسي أناطح فرس الحزن/ على مقربة/ من انطفائي الأنيق
(٢)
قولوا لأمي/ إنني حين فتشت عني/ وجدتني مصلوباً
على خصر / الحبيبة
(٣)
قولوا لأمي/ إنني كل مساء/ أهوي/ إلى سقف البكاء
(انطفاء أنيق ص ٨٢-٠٣)
ورغم الفارق الهائل بين الصورة التي يرسمها للمرأة الأم، والمرأة الأخرى – الأنثى المحبوبة- فإن المرأة ستظل هدف رغبة الشاعر، وتوقه للاستيطان في هذا العالم، وستظل تتمظهر دائماً بوصفها امتداده الجسدي والروحي فيه.
إنها بتعبير آخر تبقى (وليُّ) استغاثاته، فهو لا يكل عن نشدانها والإنشاد لها:
شفق من تين وموت/ ينسل من أفق البلاد/ وينساب في سماء القلب/ شلالاً من الخوف/ وأنا ما أنفك أهرع
من سطوة (القات)/ وكيد العذارى/ وهذا الليل يمر من شبُّابة / قلبي/ ويوقظ زهر الرغبات/ فأدور، أدور/ قاب موتين/ وآوي إلى عينيك/ تعصمني من الليل والتيه/ ومن ( ورش) الغواني/ وألوذ/ بصوتك القروي
من صخب البلاد/ والشارع الموبوء بالهذيان/ يمد الضوء بنهديك/ ويلهمني الحب/ لأتلو بعض قلبي/ عليك
(زهر الرغبات ص٣٨-٤٠)
وبين المرأة / الأم، والمرأة / الحبيبة، بين الهروب المستمر إلى الطفولة وما تهبه من طاقات حياة وزاد يساعد على الاستمرار، يقدم الشاعر رصداً شعورياً حاداً لهواجس تمر على حواف وقته، وأطراف فضائه.
إنها هواجس قلقه الوجودي، حيث لا مكان أفضل ترحيباً به من شاطئ البحر، ولا وقت أكثر تهييجاً لنزيف مواجعه، ووجدانه مثل الليل.
الليل والبحر، وروائحهما اللزجة المالحة، هما الفضاء الذي يتخلق فيه وقت الشاعر، وتتقافز لحظاته الشعورية على صفحاته:
– ثمة نجمة تعرت/ واغتسلت بشبق الوجد/ وعلى قدميك / يرسم البحر أبجدية أخرى/ من توحشه
(أبجدية التوحش ص ٣٢)
– ربما تلقيك نشوة التوجس/ منزوياً قرب الشط/ تبعثر أشلاء ليال/ عابقة بالنشيج
( أبجدية التوحش ص ٣٣)
إن محمد عبيد إذ ينشغل بكتابة ذاته على هذا النحو من الاستجابات الشعورية الآنية.. يستجيب ربما دون وعي، ودون إيمان لمهيمنات المرحلة، وخيباتها الكبرى، منذ سقوط الأيديولوجيا عند أول تسعينيات القرن العشرين، وما صاحب ذلك من أحداث جسيمة نالت صميم المبدعين، ووجهت ذواتهم إلى نفسها، تحتفي بقضايا هذه الذات، وتتسقطها عبر دورانها اليومي في الحياة.
في أحد نصوص الشاعر إلماحٌ عرضي إلى تجلي الذات بوصفه تعبيراً عن خيبات الواقع العام الذي تكرس خيباته، خيبات الشاعر أكثر فأكثر:
في تخوم التشظي/ وكي لا يراك البحر/ فتغمرك مدارات الموج/ فلا تبصر في لجة الملح/ قلبك/ صخب يعتري حلمك/ والبلاد التي أدمت رؤاك/ بالمواويل أسلمت فخذها للريح/ وأمعنت في الخصام
( تخوم التشظي ص ١٤)
تبقى الإشارة إلى أن صوت محمد عبيد الشعري يعد نموذجاً لمجموعة من الأصوات الشعرية داخل المشهد التسعيني اليمني، تقدم إبداعها من خلال وعي، وأسلوب، وفنيات، قد تتقاطع في تمظهرات الإفضاء بما في النفس، ولكنها تتشابه إلى حد كبير في الاستجابة الآنية الحارة للحظة الشعورية، فتُعنى بقول أو كتابة ما يعتلج في النفس ويعذبها، أكثر من عنايتها بفن القول، وتطوير الوعي به.. أذكر على سبيل المثال من هؤلاء الشعراء: مختار الضبيري، الذي بدأ مثله مثل محمد عبيد منذ نهاية الثمانينيات، وتبلورت تجربته في التسعينيات، وكذلك محمد الذهب، وصلاح الشامي، اللذين ظهرا على الساحة إبان التسعينيات.
وتبقى الإشارة إلى أن مجموعة عبيد التي تقع في ثمان وخمسين صفحة من القطع الصغير، وتضم بين دفتيها واحداً وعشرين نصاً، كتب أكثرها في نهاية التسعينيات (٩٨، ٩٩، ٢٠٠٠م)، وبعض منها، خاصة التي لم تؤرخ، كتبت في منتصف التسعينيات، فيما كتبت بعض القصائد في بداية التسعينيات، أي أن المجموعة تضم نصوصاً كتبت على مدار عشر سنوات، وهو ما يشعر القارئ بوجود اختلافات ومغايرات لا بد أن تلمس بين قصائد المجموعة، إنها مجموعة تقدم نموذجاً كما أسلفت لوجه من وجوه التجربة الشعرية لجيل التسعينيات في اليمن، وهذا الوجه من هذه التجربة مهمش (غالباً) بسبب من طبيعته، وبسبب من طبيعة كتُابه أيضاً، الذين تتميز تجربتهم بالتقطع والقلق، كما يتميز حضورهم بالميزة ذاتها، وهم يشتركون جميعاً في كون إبداعاتهم تمثل سيراً ذاتية لهم، وتمثل أيضاً دفقاً شعرياً أكثر حرارة، وغنائية، وقرباً من الرو
علوان مهدي الجيلاني شاعر وكاتب من اليمن