سمير عبد الفتاح
قاص وروائي يمني
كان مثقلًا بنفسه… منشغلًا بهامش أربك عليه حياته… عرفته في ذلك الوقت وهو يحاول (استعادة ذاته)، وفي كل مرة أراه كان انسحابه للداخل أعمق، والحصار يخنقه أكثر، وفي لا وعيه كان بانتظار معجزة لم تأت لا في الوقت المناسب ولا في الوقت غير المناسب.
وفي كل مرة لا أراه فيها أتخيله مثقلًا بتحريك جسده، والانتقال به من عمله الذي لم يحبه يومًا، إلى منزله الذي يجد فيه ثقل العالم كله، إلى زقاق يريح فيه رئتيه.
كان عنوانًا عريضًا، لكن لم يستطع قراءته أحد.
لذا ابتسم بخفوت كعادته، وغادر وهو يدمدم بتلك الهمهمة حول استعادة ذاته.
في سنواته الأخيرة كان أكثر حزنه سببه تراجع قدرته على التعبير بالكتابة. حينها كان يبرر الأمر أن هناك من استلب (ذاته) وأبدلها بذات “لا تفرق بين الشِعر والشَعير”، وبين الحقيقة والخيال كان يبحث عن وسيلة لاستعادة ذاته.
كان مستغربًا من فقدانه لقدرته على الإحساس بالكلمات والتناغم بين إيقاعاتها، كان يقول إن الشعر في كل اللغات إيقاع في المقام الأول، ثم تأتي الصورة الكثيفة والإحساس. وما فقده أولًا الإحساس، وهذا أخل بتوازن إيقاعات كلماته، وانسحب هذا على التأثير الجمالي لما يكتبه. ثم لم يعد يعرف ما ينبغي كتابته، وأصبحت الكلمات جزرًا قاحلة على أوراقه بعد جفاف كل بحوره.
في بداية تعرفه على عالم الشعر كان يشعر أن الكلمات تتفجر من داخله، وعندما تعلم كيفية ترويض تدفقها اطمأن على قدرته على المضي في طريق الشعر حتى النهاية -نهايته أو نهاية عالم الشعر-، حينها، كان يظن نفسه شاعرًا أكثر من كونه إنسانًا.
لكنه اكتشف أنه كان إنسانًا أكثر مما ينبغي، والآن كل ما يستطيع عمله محاولة اصطياد الكلمات المعلقة في الفراغ عبر رميها بالأحجار لعلها تسقط على أوراقه.
كان مولعًا بالحكايات الخرافية، مشبعًا بتداخل عالم الجن والإنسان، وكان على استعداد للتحالف مع أية قوى خارقة دون شروط.
كان يعتقد أن حياته الواقعية بحاجة لأكثر من قوة خارجية لإصلاحها، لذا حاول البحث عن أي ثغرة يمكنه عبرها الوصول إلى ذاك العالم السحري الذي نستطيع فيه تغيير الأشياء التي لا نريدها في حياتنا.
تخيل أكثر من مرة أنه وجد كلمات السر، لكنه لم يستطع إيجاد باب المغارة السحرية، فأخفى الكلمات حتى لا تختفي بانتظار فرصة العمر -كما يقولون- التي تأتي لمرة واحدة.
كان أحيانًا يفكر في وضع قائمة بالأشياء التي يريد تغييرها في حياته، وفي كل ما يرتبط به، قائمة تساعده على تنظيم ما يستطيع حذفه، وما يمكنه حذفه.
بداية سيكون حريصًا على تجهيز مكانٍ يختلى فيه بعيدًا عندما تأتيه نوبات الشعر، أيضًا امتياز خاص لتناول ما يحب ورؤية ما يحب. والبحر سيعطيه النصيب الأكبر من وقته.
لم يكن يطمع بالمزيد، كثير من هدوء، وشيء من شجن، وفضاء واسع يحدق فيه بحرية.
تجربته في تكوين عائلة لم تستمر طويلًا، وتشابك علاقته مع عائلته لم تكن أقل سوءًا. فاختار في الحالة الأولى الانفصال وفي الثانية الانفصام. وزاده في الحالتين بقايا ديوان شعر كتبه قبل أن يدرك حقيقة خسارته، وأن بحورًا من الشعر لا تكفي لمحو تلك الخسارة.
ولم يستطع تحديد حجم تأثيره في هذا السوء، أو التفكير بوجود نهاية أخرى أقل سوءًا، رضي بالنتائج وتراجع أكثر داخل نفسه. كان ذلك في مسافة بعد المنتصف من حياته. حينها كان لا يزال يوازن بين ما يفقده وما يحصل عليه. وكان على بعد خطوات من تلك اللحظة التي سيتوقف فيها وينظر إلى حياته ويكتشف سلسلة المفقودات منها.
بعدها حياته أصبحت توقفًا وتأملًا أكثر منها حركة وعملًا، وفي الفترة الأخيرة أصبحت جمودًا أكثر منها تأملًا.
كان يقول إنه بحاجة إلى حلم طويل… حلم يحمله إلى زمن ومكان آخر، وهذا ليس هروبًا كما يقول، لكنه نوع من الحماية لما مضى من حياته، ولما تبقى منها أيضًا.
لكن ذاك الحلم بحاجة لذاته الأولى المفقودة.
كل خيبة يلاقيها يلصقها بفقدانه ذاته الأولى. في البداية اعتقد أن ذلك هروب من تحمل مسؤولياته، وحاول مرارًا التخلي عن فكرة الفقدان. لكن محاولاته بالنهوض فشلت، ومحاولاته الشعرية كانت مزيدًا من الجفاف على الأوراق البيضاء. لذا قرر الاستسلام لفكرة الفقدان، فربما استطاع استعادة ذاته، وحياته، أو على الأقل تخفيف مرارة الهزيمة في فمه.
كان مفرطًا بالانحناء إلى داخل نفسه… حتى في خطواته من بيته إلى عمله كان يستخدم الخط الأبعد من الرصيف، يتحاشى الوجوه ويخترق الأزقة الأقل كثافة. ويلتف حول بعض الشوارع.
وفي جلوسه على مكتبه كان يكتفي ببضع سنتيمترات أطول من مساحة طاولته كمجال لنظره، والحوار مع زملائه في المكتب لا يزيد عن بعض كلمات بين الحين والآخر كإعلان على أنه ما يزال موجودًا.
كان يحاول أولًا حل مشكلة حجم الحيز الذي يشغله، وكان يعتقد أن الحيز الأكبر يخلق مشاكل أكبر. لذا كان قراره تقليل حيزه إلى الحد الأدنى.
فقط عندما يستكين أمام البحر ينفرد جسده ويشعر أنه يعود إلى حجمه الأول، إلى حجم يماثل مساحة البحر.
كان منحدِرًا للبكاء، لكن صخرة ما أوقفته عند الحافة؛ في النقطة التي تشعر أن الدموع وصلت فيها إلى مجرى العين، لكنها وجدت المجرى مغلقًا فتجمعت بصمت بانتظار الانفجار.
كان صامتًا، مستاءً، مغمورًا بيأس كابده طوال سنواته الأخيرة.
وكلما مر العمر أكثر يهيل التراب عليه أكثر، ولم تعد يداه قادرتين على إزالة التراب، أو حتى المشاركة في توزيع التراب على باقي جسده.
يصف نفسه على أنه عجزٌ يتنقل على قدمين، وعندما تسأله عن جدوى التنقل، يقول إنه عذاب إضافي لأنه يتذكر أحيانًا أيامًا أقل شقاءً، تسأله وماذا بعد؟ فيبتسم بخفوت ويزم شفتيه، ثم يغمض عينيه. ويهمهم: “ربما… ربما”.
في فتحة زقاق تطل على البحر يجلس على جانب أحد الجدارين. يقول إن هذا المكان هو الوحيد الذي يشعر بالأمان فيه، لديه متكأ ومسند يريح عليه كاهله، والبحر في الأمام يغسله بهدوء.
البحر بالنسبة له ليس خيارًا يستطيع الذهاب إليه. البحر خلاص مما يكابده: “البحر رائعٌ، لا يسألك عن شيء، وعندما تصمت يتحدث هو، وعندما تريد المغادرة لا يلتفت إليك ولا يودعك. تقول للبحر إنك تحبه، لكنه لا يهتم، تدخل البحر وأنت تقول له إنه رائع، فيغمرك بمائه المالح ورائحة اليود المنفرة، ويدفعك بأمواجه نحو الشاطئ، مع هذا تعود إليه دومًا وأنت تتمنى أن يغير معاملته لك ويبدي إشارة بأنه يفهمك”.
“البحر كبير ومالح، كأنه يخبرنا أن نأخذ منه القليل فقط. وإذا لم نرضَ بالقليل فالملح سيقوم بالأمر، البحر يعلمنا قناعة افتقدناها مع ميلادنا”.
كان يربكه أن العالم من حوله لم يتغير، كان يشعر أن كل شيء داخله قد تغير، لذا شعر بالغرابة لأن الآخرين لم يتغيروا مثله: “الشعور بأنك غريب في الفضاء الذي تعيش فيه شعور لا يمكن تحديده بالكلمات فقط، تحتاج للغات أخرى لتستطيع التعبير عنه…”.
كان يقول إن الأمان والغربة لا يجتمعان أبدًا. وإذا أمسك بك أحدهما فعليك بالتخلي عن الآخر، لكنه لم يستطع مقايضة غربته بالأمان.
“غائرًا في نتوء…” هكذا كان يقول عن نفسه، هو -منذ زمن- غائر في نتوء، وهو لا يمانع أصلًا في هذا، لكن مشكلته أن النتوء في المكان الخطأ، أو ربما جاء في وقت لم يكن مستعدًا فيه للتكور على نفسه، هو يشعر -الآن- أنه الجزء الحاد في النتوء، ويضايقه أنه مضطر لجرح الأشياء أمامه. كان يريد أن يكون نتوؤه أملسَ، وتنحسر عنه الأشياء بهدوء، لكن الآن هو مضطر لإيذاء من يقترب منه.
كان يرى خلاصه في الوصول إلى نقطة التوازن بين ما يريد وما يوافق الآخرون على أن يأخذه. نقطة التوازن بين قدرته على العطاء، وبين ما يرغب به الآخرون منه.
“لا أحتاج لكهف أختفي داخله، فبمجرد إغماض عيني أجد نفسي داخل كهف عميق رطب، قد يكون هذا مريحًا أحيانًا، لكنه يدمرني في أغلب الأحيان، لذا أحاول الهرب من أحلامي. الأحلام هي ملجئي الأخير، وإذا خسرتها لن يعود لدي شيء. لذا أضطر لإبقاء ما تبقى مني ضمن الإطار، حتى أعثر على ذاتي المفقودة، ثم سأنحسر كما أريد”.
كان عندما يرغب بالإشارة لشيء يستخدم الجزء الأعلى من رأسه، يقول إن الاشارة باليد تحمل نية بالقتل.
لم يكن غريبًا في آرائه، كان أكثر دقة فقط. يلتقط نقاطًا لا يلتفت إليها الآخرون أو يتجاهلونها عن عمد، ويضغط على عباراته أثناء الكلام، وينفثها من فمه كأنها طلقات نارية.
يقول إن استخدامنا للمفردات يعبر عن درجة سوئنا، وتكرارنا لبعض المفردات يحدد درجة استعدادنا للحياة وللتعامل مع الآخرين، المفردات القليلة توحي بالثقة، لكنها توحي بالاستعداد للتخلي عن الآخرين. والمفردات الكثيرة هي إعلان عن توقنا للذوبان في نسيج الآخرين. هو يقول إنه لم يستطع تحديد مكانه بين المفردات، لا يزال يلوك نفسه ويحاول التعرف على أي جانب يتناسب معه، لكنه يميل إلى جانب ثالث يحاول إيجاد الإطار الذي ينظمه، وكذلك إيجاد تسمية له. وهو بانتظار عودة ذاته ليحسم إن كان يرغب بتصنيف نفسه كالآخرين، أو العزوف تمامًا عنه.
كان يقول إنه بحاجة لبكاء يبكيه، بكاء يغسل كل السواد في أعماقه، بكاء لكل الأيام التي لم يستطع فهمها، ولكل الأيام التي فهمها بشكل خاطئ، بكاء يغطي فجوات روحه التي صنعتها ثرثرة الأصدقاء، وطموح لم يكن يليق به ولا بالظروف التي أحاطت به. بكاء يفقده القدرة على رؤية الطريق الشاق بين منزله وعمله.
لكن البكاء تخلى عنه منذ زمن بعيد، ربما قبل فقدانه لذاته، لذا يُبقي أمنية البكاء في المكان الأبعد، ولا يتذكرها إلا عندما يختنق تمامًا من العالم، ويكابد نفسه قليلًا علَّ قليلًا من دمع يتفجر من مكان ما فيه.
يقينه تجاه ما يعتقد يكاد لا يتزعزع، ومهما كانت الإغراءات يلتزم بما هو مقتنع به. حتى في تفاصيل حياته العادية كان يتراجع في كثير من المعارك ولا ينتصر لنفسه، لكن الهزائم لم تكسر مبادئه، والخسارة لم تجعله يتراجع عن قناعاته.
لم يكن يحب انتزاع حقوقه بالقوة: “القوة تعطيك الحقوق التي لا تستحقها”. كان يعتبر ما يفقده حقوقًا لم يكن يستحقها، هذا اليقين لم يتزحزح رغم شعوره أن آخرين استولوا على حقوقه.
كان يضيق بالعجز، عجزه، وعجز الآخرين عن الإتيان بالبهجة. كان يقول إن لذاته المفقودة دورًا في هذا العجز. أحيانًا كان يحكي بحياد عن أيام بهجته الأولى. كان يحكي بحياد، نبرة صوته لا تحمل حنينًا أو فرحًا. كان يرى أنه أخذ حقه بالكامل في حينها، وليس من حقه الآن الحزن أو الفرح لأجلها.
عندما رحل لم يكن أحد بجواره، لذا لا أعرف ما هي كلماته الأخيرة، أو ما الذي كان يشغله في تلك اللحظة، لكنه حتمًا ابتسم بخفوت كعادته، وغادر وهو يدمدم بتلك الهمهمة حول استعادة ذاته.