تدير ظهرها للشرق
وتنهمك في رفع شراع مركبها
مرت اللقالق مودعة وحزينة, مر حشد من لاطمات الصدور, مر تابوت إنانا, يدها في الكفن تحمل سنبلة وعلى صدرها ينعقف الصليب. أغانيه جاءت من حواشي المدن.. وأغانيها سقطت في الآبار.
يخرجون الدلو من الأعماق ويرون شهقة الخواتم الذابلة, كل هذا من أجل أن تكون الأيام على مهلها. أي أناهيت إرجعي إلينا.. أجسادنا سيغادرها النور.. أثداؤنا ستذبل, صفائح النحاس لن تلمع, والجرار لن يتخمر فيها العنب.
شدت حزامها ووضعت الأبواق فيه
الدروع على صدرها.
ماالذي تشتهيه ثغورك? مركبها عند جبل (مانو) وأنا وحشودي نودع المركب المزين بالقرمز والذهب.. سيدته ترمي مراياها وقلاداتها على حافلة الجبل, تنطرح الشمس على مركبها ميتة وقربها ريحان ذابل, أمسك بيدي حبال قاربها ثم أسحبه مع ملائكة الغروب على الماء الحزين.
لم يكن دجلة بهذا الصمت, لم تكن حورياته بهذا النحيب الهادئ الطويل.. كان كل شيء ملطخا بلمسات الغياب.
تضبط أناهيت ناعور المياه المهول بسلاله الاثنتي عشرة وتضعه في (دجلة كسيا) بينما يهرب (دجلة بغرا) الى السطح.
كلنا نلهج بذكر أسمائك السرية يا أناهيت الا اسمك السادس الحق الذي يتدلى في أغوار الدوات.
ندفع مركبها وتدور هي دولاب المياه اعوره وتلوح مودعة, يأخذها مركب على أسيل الشوارع من مكاني إلى العامرية وتعود يدي تلوح لها بالوداع..
وضعت قرص الشمس في يد والجعران في يد. نفخت على شراع المركب وعدلت ساريته, ما الذي دفع كل هذه الأفاعي الى سطح المياه, إفردي لي أيتها الأفاعي سراجا أعبر به بسلام, صفقي بالأيادي يا جبال, إفردي لي معبرا في التلافيف المعتمة, طرق تشبه الأمعاء ماذا تحمل الأباريق والأكواب التي في خرجها حبر ذاك الغروب ومصوله مجففة في زجاجة تقع على سطح المياه فتتلاطم الأمواج وتشتبك.
مرت بثوري وذبحته ورشقت بدمه الحقول الملآنة قهرا. كان جناحها مبللا وكانت أقراطها تحمل التخاريف منقوشة, أما أغشيتها الأخرى فقد انتزعت وأصبحت شبه عارية, تدثرت بالفراش وعدت النجوم:
هذه النجوم أرواح موتى تكفنت في الأعالي, مركب من الفضة يمشي على بطن امرأة منحنية على الأرض.
ظهرت كلبوة مجنحة في مقدمة المركب
رنمي يا سماء الأرض بالمطر واهتفي يا بروق في يدي وأنت أيتها الشياه الهاربة في الظلام إدخلي مغاوري.
لم تكن في بيته علامات تزف المراكب نحو خلاصها, بيد أنها أمسكت بأشباح يديه تمران على جسدها وتودعها.
رماد الخليقة في كوبها الدافئ.. وسلالة أجدادها يظهرون حاملين الأعلام البتولية وجداول أنسابهم العريقة.
يده تسرح شعرها
لسانك ينبت مديحا لي ولساني ينبت صلاة ريحك تقرب خلاص مركبي
أحجار بهيئة الطيور والتماسيح في يدي.
تطش الخرز على خريطة الدوات.. ما الذي على نهر كسيا, وما الذي خلف تلك الصخور, هذه أقاليم روحي وتلك طيور روحه ترفرف, عماذا يبحث الآن في كأس خمرته الباردة.
ودع محبيه عند مفارق المدن وظل يجوب القفار, يغني خلف غاب من الشجر المر ولا يفوخ.
لسانك ينبت لي حزنا
كؤوس على المائدة في أول الليل دون خمر, طيور الليل تبدأ الغناء وأنا أرسم على الحائط ثورا مطعونا بالرماح, ما الذي جرى في الأخاديد.. ماذا هناك على رف أوهامنا غير هذه الأشرطة الرديئة الصنع.
طيور المنارات تنزل في باحة المسجد وتلقط الحب, أناهيت تمسك صحنا من الرز وتفرش عباءتها قرب الميضأة.
مر مصلون كثيرون بقلانسهم وسيوفهم.. ومرت نذور مهيأة للذبح, كانت الطيور تلقط رزا من يديها.
كانت تعبر المياه بغطاء ظهرها الصلد وأرجلها المدورة, سلحفاة بين ماء وتراب, كانت لبوة مجنحة ذات مرة, فعل الأقانيم يتعدد والسماء تمطر.
دخلت في صندوقها وعدت سنين حياتها بهدوء, إله العكاز يفتح لها الطريق
مركبها خائف بين حائطين مسننين بالحراب أرواح القمح عزفت
عجت الكروم بروائح خمر ورقص ولذات
داخت أناهيت وسقطت في منتصف الطريق
لماذا ذكروها به?
مركبها يتوسط رأس كبش, وهي تشعر تحت الغطاء ببرد فتقوم وتغلق النافذة, تشعر بلمسة يديه على ظهرها.
أخذ صينية الشموع المحلاة بآس وذهب إلى ضفة دجلة قرب مقام الخضر, وضع الصينية فوق أسيل المياه ورفع يديه:
يا الله.. إرجعها إلي وسأحميها برموشي
يا الله.. ورد ونور في طريقها
يا الله.. نحتمي بك بعد أن تمر العجلات
يا الله.. اسقط الغربان في طريقها
يا الله.. ادحر الأفاعي في طريقها.. يا الله.
كانت الشموع ليلا تضيء النهر وكانت هي تلبط في المياه وتراود الشموع.. لم ينتبه لحركاتها.
لك التجلة لأنك تثيرن النجوم في صدري والنور في دمي, أخذ كمنجاته ورماها في المياه, ونزل بدلو ناعورها إلى العالم الأسفل ليبحث عنها وعن كمنجاته بين قامات الأرواح, للتماثيل رائحة يديها.
هذه بحيرات النار محروسة بالأفاعي, ومركبها تسحبه الحوريات, تخترق بزعانفها وحوش المياه وترش على تلالهم تعاويذها.
جلس على عرش مياهه حوله أبناؤه الأربعة, كان يزن أرواح الناس, مركب أناهيت يقترب منه لكنه لا يمسك به.
رهط محبيه تحت ظل كرسيه يخيطون قلوبهم بأجسادهم, شبكات من الخيوط تربط أقدام الكائنات ببعضها على الطريق.. هكذا رنمت ساريات بعيدة, وهكذا سقط غراب على حافة المياه.. وفي كل دور فدور أسمك على لساني وأطوف بشموعك الضفاف, ناووسي منقوش باسمك.
أنت فحصتني كفحص الذهب, أنا محصتك من بين الملائكة, وجرتي تتدفق لأجلك بفرعين (دجلة اليمني والفرات اليسار)
فينزل الماء على ثوبي ليمس حاشيته ويصل إلى أقدامي..
يصل الماء إليها فتنقلب في سريرها من اليمين حولي. وأنا احتفال البحيرة بك, احتفال الآس واحتفال الشموع, أنا الصنوج تهتف والغابات تفيق والمدائح تتراشق.
غسلوا بالأقمشة ساريات السفن ولمعوا زجاج النوافذ بالورق, كانت أناهيت تطرز وشاحها بخيوط الذهب, وكان حزامها مفتوحا وسروالها متراخيا.
شهقة الشهوة تخرج من قيعان نومها, تنقلب وتحضن المخدة وتعصرها فيما تهطل أثداؤها بطلع على المغاور فتفيق الكائنات اللامعة فيها.
اخترعت الحروف الكنعانية ورسمتها على ناووس أحيرام وكتبت بها المرنمات العجيبة لـ(أدد).. حجر يحن الى أصله وأصله في يديك وفي المعابد القديمة المحطمة.
أحضر لساني لملاقاتك من جديد, وأقلل كلامي لكي أغرف من فمك.. يا من مرآك حلو, يا من اطلالتك سرد ماس وعيونك تاريخ قوة وانكشاف سلطانك بحر.
القمر يشد مدرس البذور إلى يدي, مدرس البذور يشد يدي الى العرش, عرشك الذي ضاع في كابل وعرشي الذي حجبه الرعاة عني في بابل. أنت في صحراء واسعة تعج بالثعابين المجنحة. دجلة تائه بين الصخور ومجراه عميق وشديد الانحدار وأنا أحرس مركبك المترنح.
يا من يزن جسمي بقبانه فيرضى
ويقيس طولي فينشرح ويدورق صدري فيهيم
يا من يأكل من كلامي
ويسعى لعقلي.
الماء ينفتح موجة موجة ودمي يبتهج.. دمي يزغرد وعقرب الشمس يلسع لساني فأغني, أغني لكي أتكاثر وأكفيك.
أشد يدي إلى الصولجان المعطل فتنبت لي أجنحة وتجعلني أحوم وتخرج لي أيد كثيرة تجعلني أزحف وتطلع لي حراشف تجعلني أسبح, ثم أنقلب الى أوزة لأتحد بك ولكني لا أجدك.
فعسى قرابين الطعام تجمع شتات يدي وعساني أتحول إلى صقر أجوب حقولك كل يوم. لقد أفزعت تمساح الظلام بعصاي فعساي اشعل النهار بكلمتي, كلمتي التي هي فؤادي, فؤادي الذي هو فؤاد العالم.
تشهق أناهيت في فراشها شهقة أخرى, وتنقلب على ظهرها.. يدي على صدرها تعجن الصلصال.
الصقور تتساقط مخترقة زجاج الأفق وراكسة في مياه الظلام, رذاذ المياه على أظافرها وعلى ساقها, تشيل صايتها فتنكشف حجولها وتعبر..
تتحول, هي الأخرى, الى رخمة وتحوك زخرفة السماء.
هذه البرديات لي هذه الأحجار لك, ما الذي تدفق في النهرين سوى جثث الناس والغزاة.. هل كان لابد من كل هذا?!
جيوش الأناباز تصعد إلى أربيل وتدور تحت القلاع معارك مهولة, مسرى الجيوش يشبه مسرى النمل, النمل إلى الحياة والجيوش إلى الموت.
تركوا عرباتهم ومتاعهم في حلبات الموت. كان الإغريق يسعون الى شهوات الخلود وكان العراقيون يبحثون عما يديم حياتهم من الخبز والخضار.. انقلبت المعادلة.
أنا صقرك الوحيد, فصائل البشر البيضاء والسمراء والحمراء والصفراء والسوداء واقفة أمامك تنتظر:
فكت حزام بنطلونها ورمت الأساور في دجلة وقالت:
أنتم دموع عيوني
خلقتكم من دموعي
فيوم فرحت ظهر من دموعي
البشر البيض
ويوم مرضت ظهر الصفر
ويوم اشتهيت ظهر الحمر
ويوم غضبت ظهر السود
ويوم دخلت مناجمي ظهر السمر
أعتق اليوم أرواحكم وأدخل مملكتي
سقط الغطاء من أناهيت ولسع جبينها البق.. هشت في الهواء, انحرفت ذرات الزئبق وتحولت الى قصدير.. ما هذا?
ثعبانان ملتفان على عصا.
أحفر في الجبانة لأخرج عظامي, أرى أبا الهول يحرسها وتحيط شاهدتي أفعى حمراء.
ترمين حجرا من بعيد على البحيرة فيفور الماء فيها.. هنا يدفن الخطاة وعلى حافاتها تجمعين الرموز وتصعدين السلالم.
مجدوا أسماءها وافرشوا الأرض بالسجاد..
اعطوهم كعكا لأرواحهم وهواء لأنوفهم وأعشابا لكراسيهم
رمت نفسها في البحيرة وبدأت تتحول..
هشت أناهيت الصقور عن فراشها.. كانت يدي على سرتها وهي تشهق.
خزعل الماجدي قاص من العراق