لم يكن أنسي الحاج في مقدمة ديوانه (لن) مجرد شاعر متمرد وجه صرخة شعرية في غير أوانها، لقد سلح تلك المقدمة بمفاهيم ومواقف فيها تنظيم وانسجام ومنطق حجاجي لم تضعه العبارات الهجومية والتهجمية التي تولدت من حماس شاعر مفرط في الاحتفاء بشعر جديد، وقد لا نبالغ في الحكم إذا قلنا ان تلك المقدمة ظلت متقدمة على كثير من سجالات الخطاب النقدي حول قصيدة النثر فيما بعد، ناهيك بأن كثير من المواقف التي ظهرت بعد المقدمة، ظلت متأثرة بها.
وإذا كان المنجز الشعري لأنسي الحاج يمثل تجربة مسيجة بخصوصيتها التي لم تحافظ على طليعتيها بعد ظهور منجزات نصية مغايرة فأن (المقدمة) بخلاف ذلك تضمنت وعيا مبكرا بإشكالات مازالت مستمرة.
قد يكون بعض الاقتراحات والحلول التي اقترحها أنسي الحاج، فقد جدواه، وغير منسجم حتى مع نصوصه في (لن )، لكن ذلك لا يمنع من القول بأن جل الإشكالات في حد ذاتها، مازال قائما، يكفي أن نثير أسئلة أثارها الحاج، كهذه:
– موقع قصيدة النثر بين الشعر والنثر.
– أي شعر وأي نثر؟
– ما هي قصيدة النثر؟
– قصيدة النثر والأنواع المجاورة.
– أي متلق للشعر ولقصيدة النثر بالتحديد؟
– أي دور لشاعر قصيدة النثر؟
إنها إشكالات وقضايا متعالقة ببعضها، وسنعمل على اعادة تنظيمها من خلال محاور نفك ضمنها المفاهيم التي اشتغلت في المقدمة، وهي مفاهيم يمكن ربطها بإشكال مركزي يتعلق بالخلخلة التي تعرض لها النسق الأنواعي السائد وقتذاك بفعل ظهور الحداثه الشعرية بأقطابها الثلاثة، الوعي النقدي الجديد وقصيدة الشعر الحر (قصيدة التفعيلة ) وقصيدة النثر.
ولأن أي واقعة أدبية، جديدة كانت أم قديمة، تمثل حدثا يتضمن ضمن أولوياته مقاصد تواصلية، نرى من اللازم أن نأخذ بعين الاعتبار أطراف تلك الواقعة وخاصة منها ما انتبهت اليه (المقدمة ) في تعاقب لا يفيد أي ترتيب سببي، فنبدأ بالمتلقي وسياقه، ثم الشاعر، فالنص.
1- المتلقي:
لقد كان أنسي الحاج واعيا بأن المرحلة التي ظهر فيها الخطاب النقدي حول قصيدة النثر، لم تكن مهيأة لذلك، فاقتنع بأن الماء الراكد لا تحركه حصاة، ولو حركته فلن تفلح في تحويل المويجات الى أمواج عاتية تفلق صخر التلقي السائد المترسب على بعضه لقرون عديدة.
التلقي السائد في نظر الحاج، هو تلقي المحافظين والمقلدين الراكدين، تلقي الأدوات الجاهزة البالية التي يتقدمها حصر الشعر في موسيقى الوزن والقافية. إنه تلقي التعصب والاستهزاء والرجعية والسطحية وأدلجة الخطاب الأدبي بأغلفة مثل (حاجات الشعوب العربية وظروفها السياسية والاجتماعية والروحية )(1) وتكوين (سد) أمام محاولات الاختراق. ويتمثل السد في معاداة النهضة والتحرر الفكري وإثارة التعصب والرجعة والخمول مع ممارسة الإرهاب والتجهيل وإغلاق كل المنافذ على الأصوات الجديدة الرافضة.
هذه هي الصورة التي قدمها أنسي الحاج للتلقي السائد سنة 1960 فأنى لقصيدة النثر أن تفلق الصخرة السماء لذلك التلقي لقد تبنى الحاج معادلة الأغلبية والأقلية، فذهب إلى أن التلقي الجمعي السائد وهو تلقي الأغلبية ليس منسجما تجاه منازع التجديد والافتراق، وأن البنية المهيمنة عليه تنطوي على بنية أخرى مجادلة ومنازعة للاولى في تقدير الواقعة الجمالية الناشئة والموجهة بفهم مغاير للتاريخ الفني ومنتجاته التعبيرية. فراهن الحاج على أن تكون البنية – الأقلية موطن المفزع الجديد المحمل بمسؤولية تاريخية، هي إزاحة وإقصاء البنية – الأغلبية المهيمنة والمتوارثة والمعادية. يقول الحاج: (هناك إنسان عربي غالب يرفض النهضة والتحرر النفسي والفكري من الاهتراء والعفن، وإنسان عربي أقلية،يرفض الرجعة والخمول والتعصب الديني والعنصري، ويجد نفسه بين محيطه غريبا، مقاتلا، ضحية الإرهاب وسيطرة الجهل وغوغائية ( النخبة ) والرعاع على السواد.(2)
داخل هذا التنازع الثقافي بين بنيتين في التلقي، يتساءل أنسي الحاج: (هل يمكن لمحاولة أدبية أن تتنفس؟) فيجيب بالسلب، لكنه يستدرك بالإشارة إلى أن هذه المحاولة، إن لم تختنق فستجن، ليتحول (جنون ) الشعر الجديد في خطاب أنسي الحاج إلى منفذ للتمرد والمواجهة (الحربية ) الساخنة لإسماع الصوت.
الجنون في الخطاب (الأنسي) إبداع ومقاومة، إبداع لأنه يأتي ضدا لكل ما تعارفت عليه الأغلبية وركنت اليه وسلمت به، ومقاومة، لأنه رفض للحوت اختناقا، وللكبت والاستسلام، كما أنه سلاح للعنة والنبوة وابتكار وسائل مختلفة لمواجهة الأخر، ولا بأس – في الخطاب الأنسي- أن تكون قصيدة النثر ملعونة وشاعرها ملعونا مادام الجنون هوية لها ولصاحبها.
التلقي مقولة أساسية في الجهاز المفاهيمي لأنسي الحاج، وهذا الوعي المبكر بهذا المحفل ينحل في الربط بين الظاهرة وسياقها الثقافي، بسبب ذلك، لم يأت وعي الشاعر ضيقا ومنحصرا في الخطاب الإبداعي لقصيدة النثر من حيث هي نص مغلق، بل ربطه بالعوامل والشروط التي تحيط به وتفعل سلبا وإيجابا في خنقه أو توسيع فضاء انتشاره وتداوله، وقد انتبه أنسي الحاج إلى تعدد مرجعيات ذلك السياق، ما بين مرجعيات الماضي متمثلة في التراث، ومرجعيات الحاضر متمثلة في العوامل الدينية والمذهبية والفكرية والاجتماعية والسياسية والفنية.. إنه سياق يمثل في عمومه (جبهة ) متحالفة مشتركة في الأهداف نفسها، من حيث رفض مبدأي الحرية والتقدم، ولما كانت قصيدة النثر متشبعة بهذين المبدأين، كان من الطبيعي، أن تكون هي المستهدفة الأولى من طرف وسائل الضبط والدفاع الذاتي للتلقي الجمعي السائد.
يظهر محفل التلقي في الوعي الأنسي بدءا من الصفحة الأولى من ( المقدمة ) حيث جعله مكونا ضروريا للتمايز بين الشعري والنثري، رابطا بالتالي بين خاصية النص الأنواعية وخاصية التلقي، ذاهبا إلى أن في مقدمة ما يميز الخطابين، هو نوع العلاقة التي يربطها كل واحد منهما بالمتلقي أو بـ(الأخر) كما سماه، ثم ينتقل الحاج بعد ذلك للحديث عن المتلقي من حيث هو (قارئ)، في عدة سياقات من المقدمة إذ يقدم القارئ، إما بوصفه المتلقي التقليدي (القارئ الرجعي) أو بوصفه المتلقي الطيعي المضاد للأول:
أ – التلقي السائد:
يضيف أنسي الحاج إلى مدونته الاصطلاحية الخاصة بالتلقي مصطلح (ذوق )، مقرا بأن (الأذواق) مازالت غير مستعدة لتقبل القصيدة الجديدة لأنها لم تتهيأ تهيؤها الطبيعي.(3)، بيد أن أنسي الحاج ينتبه إلى الاستثناء أو التلقي- الأقلية. وهو تقبل المتلقي الأخر، النوعي الجديد، الممثل عنده، معيار الحكم على ملاءمة الشعر للقراءة أو عدم ملاءمتها لها، فالمتلقي الجديد لم يعد في رأيه، يستجيب للأفق الذي كان يمليه عليه الشعر بمواصفاته التقليدية وفي مقدمتها الموسيقى، إن المتلقي هو الفيصل في هذه المعادلة. هو معيار الحكم على أحقية ومشروعية نمط تعبيري في البقاء أو في الفناء. والمتلقي الجديد أصبح في نظره مختلفا عن سابقه الذي كان يتلاءم مع أفق الشعر السالف، إنه متلق جديد (لاحساس جديد) أو لنقل بتعبيرنا الشائع، إنه متلق جديد لـ( حساسية جديدة ) غير حساسية الايقاع الوزني. يقول الحاج: "قارئ اليوم لم يعد يجد نفسه في هذه الزلزلة السطحية الخداعة لطبلة أذنه ". (4) لكن (قارئ
اليوم ) في قولة أنسي الحاج هو( قارئ اليوم ) الوحيد، هناك ايضا، قارئ اليوم – الأغلبية الذي لا يرى في موسيقى الشعر سوى ما زلزل طبلة الأذن.
ب – التلقي مائز بين الشعري والنثري:
للشعري والنثري عند الحاج مقومات مائزة، بعضها ينحل في النظام الداخلي وبعضها في طبيعة الاستخدام اللغوي، وينحل بعضها بالذات في العلاقة بالمتلقي، وقد شغل الحاج للإفصاح عن هذه العلاقة، مدونة من المفردات مثل: إخبار، برهان، تأثير، مخاطبة، الأخر، إقناع، وعظ،حجة،قارئ، إيحاء.. كل هذه المفردات تمثل عمليات تنطلق من النص نحو متلقيه، إنها بمعنى أخر، محافل لكمون التلقي في بنية النص، في شكل (جسر) يعبر منه كل طرف من الطرفين نحو قارئه، فجسر النثر قائم على الإقناع والإخبار والتوجيه، أما جسر الشعر فقائم على الإيحاء واستبطان النفس والتعالي على راهنية الزمن مع السعي لتحرير القارئ وامتلاكه في
الوقت نفسه، تحريره من رسوبيات التلقي السائد، وامتلاكه وجدانيا بدفعه للتفاعل النفسي العميق والمتوتر مع النص الشعري القادم نحوه عبر جسره الخاص.(5)
يتوجه أنسي الحاج بالخطاب لقارئ(المقدمة ) ليقنعه بالتمييز في الوقع الجمالي بين تلقي الشعر وتلقي النثر الموقع، في هذه النقطة، لا يركز الحاج على ( الجسر) العابر من النص نحو القارئ، بل على ما يحدث عند القارئ بعد مرور النص اليه.
يرى أنسي الحاج أن القراءة السطرية التجزيئية لقصيدة النثر كما في نصوص سان جون بيرس وهنري ميشو وأنتوان أرتو، لا تحدث في التلقي أحاسيس كالسحر أو الطرب، إنما تنشأ تلك الاحاسيس بالضرورة في التلقي،حين يكون تلقيا كليا يعامل النص بوصفه وحدة متكاملة تتسم بالتماسك والكثافة والقصر، وسيرتب الحاج على هذا النوع من التلقي، مقومات يعدها ضرورية للنص الشعري الجديد في بنيته ونصيته، نقصد بالتحديد، المقولات البرنارية (نسبة إلى بر نار)، مقولات الوحدة والتماسك والقصر.
وبقدر ما تنحل هذه المقولات في المرجعيات اللغوية والنصية، تنحل أيضا في مقومات الأفق الجديد الذي يعده الحاج مناسبا لتداول قصيدة النثر، لكن تلك المقولات هي فضلا عن ذلك، من مظاهر فاعلية المبدع، خالق النص المغاير والمسهم في خلق وتكوين أفق التوقع والتداول المستحدث، لهذا السبب مثل الشاعر عند الحاج طرفا ضروريا لسيرورة التلقي الجديد، ذلك أن قصيدة النثر في خطابه،حدث ضمن نظام تواصلي تتداخل أطرافه فاعلة منفردة ومجتمعة في السيرورة التواصلية، فإذا كان السياق الخارجي للتلقي يتمثل في جملة الشروط الفاعلة في تداول القصيدة، فان الشاعر فاعل بدوره في هذه العملية، باعتباره منتج القصيدة من جهة، وفاعلا في سياقها الخارجي من جهة أخرى.
2- الشاعر:
يختم أنسي الحاج مقدمته بفقرة يصف فيها شاعر قصيدة النثر بكونه شاعرا ملعونا، ولا يكتفي الحاج بهذه الصفة، بل يرفقها بصفات تفصيلية تؤكد لعنة ذلك الشاعر، فهو ملعون في الجسد والوجدان معا، ولعنته نوع من الإصابة والمرض الممتد للأخرين. (الجميع يعبرون على ظهر ملعون ) كما يقول، أما مصدر اللعنة فات من الشاعر ومن متلقيه معا، الشاعر ملعون بسبب (كفاحه ) لإشاعة الحرية بكل الوسائل بما فيها تلك التي لا تتطابق مع القيم المسلم بها عند الأخر (المستهدف)، والأخر ملعون لمعاكسته الشاعر ومحاربته له.
شاعر قصيدة النثر ليس ملعونا فحسب، فهو شاعر مجنون أيضا، بسبب اختلال موازين القوى بينه وبين الأخر، وكما أن اللعنة حافز له إبداع وسائل للمواجهة القصوى، فكذلك الجنون، إذ الصفتان تشتركان في إكساب صاحبهما منطقا مغايرا للمنطق السائد من حيث طبية الخطاب الإقناعي ووسائل الدفاع والمواجهة.وبموازاة هاتين الصفتين، يضيف الحاج لصورة الشاعر، صفات أخرى مفارفة للعنة والجنون أو متشاكلة معهما، منها كون الشاعر حرا، بمعنى عدم الخضوع لإكراهات النسق القيمي الفني السائد، وحتى لو أفضت الحرية بطالبها للجنون واللعنة، فلن يكون في ذلك إيقاف لها، ستصبح في هذه الحالة، مرحلة جديدة تقوي آليات إضافية لطلب مزيد من الحرية.
الشاعر هو أيضا النبي والعراف، إنهما صفتان مفارقتان للعنة والجنون، لكن في شاعر قصيدة النثر تلتقي المفارقات، فشاعرها نبي وعراف، ملعون ومجنون، فهو نبي وعراف لكونه أكثر من غيره معرفة بحقيقة الواقع الأدبي، ورائيه في عمقه بدل سطحيته، ومتوقع باله ومصيره، ولأنه كذلك، في واقع يتسم بالجهل والتحجر، فلن تختلف النظرة اليه عن النظرة السلبية للأنبياء الحقيقيين الذين وصفوا بالجنون واللعنة لمخالفتهم المعتقدات المسلم بها.
يضيف أنسي الحاج للشاعر صفة أخرى أكثر مفارقة، هي نعته بالإله، بذلك يعطيه سلطة غيبية متعالية ترفع مقامه بين المتلقين الذين عليهم في هذه الحالة، الخضوع للشاعر، لانحطاط وعيهم وحاجتهم لبصير وعليم بالأحوال الفنية.
تجتمع في صورة الشاعر الأنسي إذن عدة صفات تشتغل بواسطة المفارقة، لكنها تتأزر في وسم هذا الشاعر بالتفرد والخصوصية بين باقي الشعراء ممن يجارون الأنماط المتجاوزة ويضعون أمام حريتهم حدودا وخطوطا لا يتعدونها.
إن صورة الشاعر الأنسي ليست صورة للشاعر الرومانسي الحالم المثالي الذي يشرف من أبراج عالية على عالما الداخلي وعلى الطبيعة والمجتمع، وليست صورة للشاعر الواقعي الذي لا يرى فيما حوله سوى قيم المجتمع السلبية والايجابية، إنها صورة الشاعر الفوضوي غير العدمي، أي الشاعر الذي لا هدف له سوى الحرية في مطلقها، على أن تكون حرية ذات جبهات، حرية القصيدة وحرية الشعر وحرية العقل وحرية الشاعر وحرية المتلقي وحرية المجتمع وحرية الفن… الخ.
ولأن الشاعر ينشد الحرية، ولأن الحرية فعل تعد لأخر يفترض فيه التصدي والمواجهة، ولأن موازين القوى مختلة بين الطرفين، فإن أنسي الحاج يرفع درجة الشاعر في المعادلة التواصلية ليجعل (الشاعر يأتي قبل ). فليس القارئ هو الموجه للشاعر وفارض قيمه عليه، بل الشاعر هو الموجه الأول والمباشر لتجربته والأدري بمخاضها. إنه مسؤول (كل المسؤولية عن عطاشه )، لكن هذه المسؤولية تتطلب وعيا جديدا متحررا (يحسن ) مواجهة المتلقي- الأغلبية، ويحسن فتح أبواب الكتابة الجديدة على أغوارها اللامتناهية، يقول أنسي الحاج: (وإذ يجتاز الشاعر عقبة العالم الميت، يفر من الأقناط غير أن أبواب الشعر الصافي، عالمه الجديد الذي عاد اليه، لا تنفتح أمامه ما لم يحسن مخاطبتها، أو هي، إذا انفتحت، لابد للشاعر أن يضيع في الداخل ما لم يكن يعرف عالمه وبلورته (6).
نلاحظ في هذه القولة إلحاحا على استحضار مرجع التجربة الداخلية للشاعر، ويبدو ذلك ردا غير مباشر على رافضي قصيدة النثر بدعوى نثريتها المفارفة للشعر، وفي كون الأخير نابعا من عمق التجربة والذات، وقد يكون هذا الرد هو الذي حمل الحاج على تقديم تعريف لقصيدة النثر، مبني على ثلاث مرجعيات، اثنتان منها متصلتان بمرجعية الذات، يقول عن هذه القصيدة: (إنها الإطار أو الخطوط العامة للأعمق والأساسي: موهبة الشاعر، تجربته الداخلية وموقفه من العالم والإنسان) (7).
وهو تعريف لا يختزل مفهوم جماعة مجلة (شعر ) لقصيدة النثر فحسب، بل للشعر الحديث عامة، مما يفيد أن الحاج حاول أن يجد لقصيدة النثر مكانها العادي والطبيعي ضمن المفهوم الجديد للشعر وللحداثة الشعرية في تلك الفترة.
إن التماهي بين قصيدة النثر وبين الشاعر، يصل عند الحاج لدرجة من التوحد يعادل فيها الشاعر بالقصيدة ومن خلالها بالعالم، يقول: (القصيدة، لا الشعر، هي الشاعر، القصيدة، لا الشعر، هي العالم الذي يسعى الشاعر بشعره إلى خلقه ).(8) وهذا الحكم يفيد أن إحسان الشاعر في مخاطبة أبواب الشعر، يتوقف على تمييزه بين الشعر في عمومه، وبين القصيدة في خصوصيتها، مما يحول موضوع (مسؤولية عطائه ) إلى نظام اللغة والبنية اللذين يحول الشاعر بواسطتهما الشعر إلى قصيدة.
لكن كيف يحسن الشاعر هذه المهمة وينجح في هذه المسؤولية؟ ها هنا يستحضر الحاج الإكراهات الخارجية ونظيرتها المترسبة في طرائق القول الشعري، حيث يمكن للشاعر- وهو يواجهها- أن يقع ضحيتها. لذلك ينبغي على منجز القصيدة الجديدة أن يرجعها (لتجربة الشاعر الداخلية ). ولكونها كذلك، ينبغي على الشاعر أيضا الا يعتد بكل (القوانين ) المفروضة التي من فرط شكليتها، قد (تعطل ) طاقاته في الإبداع: (وأخطر من ذلك كله، العقد والسنن حين تكون جاهزة وذات تراث طويل، أي ذات قوة أقدر على إيقاع الشاعر في حبائلها بما لها من إغراء (إغراء الراحة ) ومن سلطان (سلطان التراث الطويل ). (9)
تفصح هذه الفقرة عن موقف صريح من التراث، فبحجة أنه يمثل (عقبة عالم ميت ) يلفه صاحبه في (أقماط ) ينبغي على الشاعر الأنسي رفضه نظريا وإبداعيا بخلق نص شعري مغاير، لا يستمد توافين مس ى من التجربة الداخلية للذات وهي تواجه لغتها وأعماقها وعالميها، الداخلي والخارجي.
ويجب وضع هذا الموقف (المتطرف ) في سياقه التاريخي الذي كانت فيه قصيدة النثر في طور التأسيس بوصفها منجزا لم تكن جذوره واضحة في التراث، وفضلا عن ذلك مثل التراث سيفا مشهرا من طرف التراثيين في وجه تلك القصيدة.
ولعل أنسي الحاج لم ينتبه، وهو في حماس هجومه، إلى أن قصيدة النثر يمكن أن تتسع لاستيعاب التراث، كما لم ينتبه إلى انه – حتى رغم تأكيده على ذاتية قوانين هذه القصيدة – استبدل (سلطان التراث الطويل ) العربي،(سلطان التراث الطويل ) لقصيدة النثر الأوروبية، حين عرض قوانينها وتبناها، وإن نعتها بالقوانين غير المطلقة.
موقف رفض التراث في الخطاب المقدماتي الأنسي ليس سوى جزء من جملة مواقف اعتبرها الحاج مهام على عاتق شاعر قصيدة النثر. وكلها مهاو متولدة من وضع النص الجديد ضمن نسق ثقافي جمعي غير مساعد وغير مهيأ لتقبل اضافات تحدث قطائع نظرية وإبداعية مع مرتكزات ذلك النسق في سكونه وتقوقعه.
وبديهي القول إن الشاعر الأنسي بعد الرفض، هو التغيير، والتغيير الأنسي ليس تغييرا يراهن على المدى الطويل ويشتغل على موضوعه في تأن. بخلاف ذلك، هذا التغيير سريع وفجائي، زاحف وصدامي. (الهدم والهدم والهدم، إثارة الفضيحة والغضب والحقد). هذا هو التغيير في لغة أنسي الحاج، الهدم والتدمير والتخريب، واجبات ومسؤوليات الشاعر الجديد إذا أراد زحزحة (الألف عام ) المتراكمة من (العبودية ): (أول الواجبات التدمير، الخلق الشعري الصافي سيتعطل أمره في هذا الجو العاصف، لكن لابد، حتى يستريح المتمرد إلى الخلق، لا يمكنه أن يقطن بركانا، سوف يضيع وقتا كثيرا، لكن التخريب حيوي ومقدس ).( 10) هل كان أنسي الحاج غير مهتم بقوانين التطور الأدبي، وهل غالى في تقدير المرحلة وطبيعة موازين القوى بين كتل المتلقين؟ قد وقفنا عند إقراره بكون متلقي قصيدة النثر (المتلقي الايجابي)، هو المتلق- الأقلية. وفي ضوء الدعوات الأنسية (الهدامة )، يمكننا القول بأن الحاج راهن على أن تغلب الفئة القليلة الفئة الكثيرة. لذلك دعا شاعره للدخول في حالة استنفار هجومية قصوى، مستندا في دعوته إلى وعيه بكون التطور قانونا حتميا للظواهر والأشياء، وأن ثباتها على وضع بعينه، ضرب من التحجر والجمود، أما تبرير المحافظة والاستقرار، فضرب من التعصب والعنصرية والمذهبية الضيقة. لابد إذن من إشاعة بذور التطور في الوعي والتلقي السائدين وتفنيد الحجج والمزا عم التي يستندان اليها لتمرير خطابهما وتثبيته، والمعيار في حتمية التطور هو تغيير إحساس الإنسان، وحاجاته، فبتغيير الإحساسات والحاجات، تنشأ حتمية التغير في الأفكار والمفاهيم أيضا، يقول أنسي الحاج: (لكن التحديد الكلاسيكي للأشياء خاضع للتطور، وما يشتقا أو يبدعه التطور ويبقى حيا أي ملبيا لحاجات الإنسان، لا محض موجة تكسرها في أثرها موجة، يحتل مكانه إما بجانب المفاهيم السابقة وإما على
انقاضها).(11)
موضوعات هذا التصور عند صاحب (لن ) تشمل الذهنيات والمواقف من العالم وماهية الشعر في لغته ونظامه وإيقاعه، فقد ألح على المستوى الايقاعي بالذات، لارتكاز التلقي السائد على فهم معين له، لذلك أوكل الحاج لشاعره مهمة نسف الفهم التقليدي للموسيقى الشعرية مستعينا في ذلك بـ(قانونه) في التطور الحتمي.
يقول في هذا الموضوع، رابطا بين النص والشعر والقارئ: (موسيقى الوزن والقافية موسيقى خارجية، ثم إنها، مهما أمعنت في التعمق، تبقى متصفة بهذه الصفة: إنها قالب صالح لشاعر كان يصلح لها، وكان في عالم يناسبها وتناسبه، لقد ظلت هذه الموسيقى كما هي ولكن في عالم تغير، لإنسان تغير ولإحساس جديد، حتى في الزمان الذي كان زمانها، لم تكن موسيقى الوزن والقافية وحدها أهم ما يزلزل القارئ).(12)
ولكي ينهض الشاعر الأنسي بهذا الدور في إبداع نص مغاير، ولكي يحسن مخاطبة ما يسميه بأبواب الشعر مع فتحها، ينبغي له أن يحدد طبيعة الأرض التي ستحتوي فعل التغيير، نقصد قصيدة النثر في موقعها بين الشعر والنثر وفي ذاتها أيضا.
3- الشعر والنثر:
صاغ أنسي الحاج سؤاله الإشكالي كالتالي: (هل يمكن أن نخرج من النثر قصيدة؟) وكان ذلك السؤال هو أول جملة في المقدمة، ويمكن القول بأنه مولد الأفكار التي وردت بعده، فبعد متوالية من الأفكار والصفحات يعود أنسي الحاج ليطرح السؤال نفسه، إحساسا منه بأن ما عرضه بعد الطرح الأول للسؤال لم يحسم في الإجابة، فبه الطرح الثاني فقط، يطلق الحاج اجابته الصريحة: (أجل ).
هل كان سؤال أنسي الحاج مغلوطا؟ إنه كذلك في تقديرنا الأن، لأن الإشكال الأكثر انتاجية ليس في السؤال بـ(هل ) بل بـ(كيف )، (كيف نخرج من النثر قصيدة؟)، إن السؤال الثاني وان كان في تقديرنا أيضا لا يقل (مغلوطية ) إلا أنه أكثر توافقا مع الطموح لخلق قصيدة نثر، فهو سؤال الكيفية والخصوصية والتفرد، بيد أن أنسي الحاج كان متعجلا للقيام برد فعل سريع مضاد لإجابة مضادة: (لا يمكن أن نخرج من النثر قصيدة ).
في صيغتي السؤال، تطل القاعدة واحدة، هي النثر، وذلك يفيد أن المبدأ القائم خلفهما هو الاعتقاد بأن النثر هو قاعدة الشعر، ومع ما في الصيغتين من انزياح عن الإشكال الحقيقي، فإن السؤال في صيغته الأنسية أو في صيغته التي عدلناها، ظل الإشكال الأول المؤرق لخطاب قصيدة النثر العربية، بما في ذلك خطاب التسعينات، إذ ظل السؤال هو: هل بالإمكان إخراج قصيدة النثر من النثر وكيف؟ أي أن قصيدة النثر بقيت مشدودة للنثر تحت تأثير سلطان النعت الأنواعي والتسمية، أما السؤال الحقيقي في رأينا، فلا يتمثل في أن نخلق قصيدة نثر قاعدتها هي النثر، بل قصيدة نثر قاعدتها هي الشعر. وبذلك نسوغ السؤال الإشكالي الحقيقي كما يلي: (كيف نخلق من الشعر قصيدة نثر وكيف نخلق الشعر من قصيدة النثر) ولن نبرر- تبعا لذلك – حضور أدوات النثر في الشعر كما ذهب الى ذلك أنسي الحاج، بل نقوم بوصف وتفسير الأليات (الأدوات ) التي حولت قصيدة النثر إلى شعر، أو خلقت الشعر في قصيدة النثر، دون ربطها بمصدر نثري، أخذا بمبدأ أساسي، هو أن الأدبية لها آليات اشتغال لا تخص نوعا بذاته إلا بالقدر الذي يخضعها فيه لقوانينه وتكويناته ومعارييره.
إن سؤال أنسي الحاج، لا يبرر مشروعيته – كما ذكرنا- سوى الشرط التاريخي الذي تولد فيه، إنه إشكال مقرون بظرفية معينة، كان صائبا نسبيا في سياقها وإن فقد صوابه بعد ذلك، ويرتد ذلك الصواب بالذات، إلى أن السؤال المطروح وقتها تمحور حول مدى معقولية وشرعية تحويل النثر إلى شعر، وكانت الإجابة المعدة هي عدم جواز ذلك بحجة أن الشعر شعر والنثر نثر، فكان رد فعل أنسي الحاج تحديا للمنطق والفهم السائدين، ورغم ان السؤال الأنسي ليس هو السؤال الحقيقي، فإن اجابته عنه مازالت مناسبة كلما وضعناها في مقابل امتدادات الفهم التقليدي الذي لا يرى بين الشعر والنثر جسورا للتلاقي والتواصل، لكنها إجابة تفقد جدواها بمجرد القول بعدم ضرورة الوزن والقافية في الشعر، أو القول بوجود جسور للتداخل والتلاقي بين الشعر والنثر، حينئذ يصبح من غير المناسب التساؤل بـ(هل ) و(كيف ) من النثر إلى الشعر؟
فالمناسب هو التساؤل بهاكيف لم من الشعر إلى الشعر؟
في محاولته الأولى للإجابة عن السؤال، لم يشكك أنسي الحاج في مقولة وحجة (الخصم )، إذ تبناها وجعلها قاعدة له، مقدما في ذلك مجموعة من الحجج والبراهين، كلها تأكيد على أن بين الشعر والنثر مسافة جمالية نصية وتعبيرية شاسعة، كما بينهما مسافة جمالية في التلقي مختلفة نوعيا وكيفيا، ولم يكن هذا الإقرار، سوى محاولة منه لإعطاء السؤال مشروعيته، إذ مادام بين الطرفين تباعد شاسع، فإن السؤال ب(هل ) في محله إذن، بل إنه السؤال المتربع على هرم الأسئلة الممكنة في ذلك الموضوع.
أنسي الحاج ينطلق من حجة الخصم لتفنيدها، ويخترقها لتفجيرها، وستظهر استراتيجيته في التحليل والاقناع، في محاولته المثانية للإجابة، ففيها سيطرح مفهوما أخر للنثر. نقصد النثر الذي تقترب فيه المسافات من الشعر، وسيجد أنسي الحاج أن السؤال ب(هل ) يتم استنزافه وتجاوزه لأنه لا يقبل سمى، إجابة واحدة بالسلب أو بالإيجاب، وكان لابد له من أن يجيب عن سؤال ضمني بـ(كيف )حتى لو خرجت تلك الإجابة من (معطف )
(هل ).
فكيف فهم أنسي الحاج النثر الذي هو قاعدة قصيدته للنثر، وكيف فهم الشعر الذي يتحول اليه النثر عبر وسيط قصيدة النثر سنجيب عن هذين السؤالين من خلال جدول بخانتين تضمان جملة الصفات والنعوت الاصطلاحية التي وسم بها الشاعر كل طرف من أطراف معادلته في الشعري والنثري:
النثر
– محلول ومرخي ومتفرق ومبسوط
– طبيعته مرسلة
– أهدافه إخبارية أو برهانية
– ذو هدف زمني
– سرد ووصف.
– يخاطب
– له بالأخر جسور المباشرة والتوسع والاستطراد
– الشرح والدوران والاجتهاد الواعي والإقناع.
– الوعظ والإخبار والحجة والبرهان.
– منفلش ومنفتح ومرسل
-خلاف النظم وما يقال ويكتب خارجه
الشعر
– القصيدة
– القصيدة شيء ضد.
– القصيدة عالم مغلق، مكثف بذاته.
– القصيدة ذآت وحدة كلية في اتأثير.
– القصيدة ليست لها غاية زمنية.
– الشعر توتر.
– القصيدة اقتصاد في جميع وسائل التعبير
– الشعر له بالآخر جسور العمق والغور في النفس.
– متعال على القيمة العابرة.
– يمتلك القارئ ويحرره وينطلق به.
– الإشراق.
– الإيحاء.
يتبين من هذا الجدول أن محاجة أنسي الحاج تبنت عدة أنواع من التعريفات والتحديدات نجملها فيما يلي:
أ – حد بالمقايسة: فالنشر والشعر، قياسا الى بعضهما، يتحددان بالاختلاف، كل طرف من الآخر، فالشعر يقصد به ما كتب خارج النثر، وبخلاف ذلك النثر.
ب -حد بوسائل التعبير وطبيعته: أي تبني الحد اللغوي الكلاسيكي: النثر مفرق ومحلول ومبسوط، والشعر مجموع ومنظم ومقتصد.
ج – حد بالسكون والتوتر: النثر سكوني والشعر متوتر.
د – حد بمرجعية الواقع: النثر زمني طرفي، قيمه عابرة، والشعر غير زمني، وغير ظرفي، وقيمه خالدة.
هـ – حد بمرجعية الذات: النثر نتاج الوعي والعقل، والشعر نتاج العمق النفسي.
و – حد بالاهداف والعلاقة بالآخر: النثر إخباري إقناعي برهاني واعظ، والشعر إشراقي إيمائي، النثر يقدم للآخر مادة تتوجه نحو فكره وعقله، والشعر يقدم له مادة تمتلكه.
وإذا كانت هذه الحدود في سطحيتها، تبدو حدودا حقيقية للتمايز بين الشعر والنثر، فإن ما قدمه أنسي الحاج للاقناع بنا، يتضمن في العمق إشكاليات لا يمكن تجاوزها ببساطة العرض الظاهري، لو أبقينا على الفهم نفسه، وحاولنا التشكيك فيه، كأن نختار ما قاله الحاج في الشعر بكونه (امتلاكا للقارئ، وتحريرا له، وانطلاقا به )، فإننا سنرى خلاف ذلك أيضا، حيث يمكن للنثر في استخدامه الأدبي أن يقوم بالأدوار نفسها، في حين، قد يرتد عنها بعض الاستخدامات الشعرية، أما صفات البرهان والحجة والاقناع، فلا يخلو منها الشعر، كما لا يخلو النثر من اقتصاد وتوتر وعمق في الغور النفسي وتعال على القيم العابرة، وإن اختلف عن الشعر في درجة هيمنة تلك المكونات والأهداف.
وليصل الحاج إلى هذه المرحلة، يلجأ بدءا، إلى التمييز بين الشعر والقصيدة، وهو تمييز يتطلب من الدارس قدرا من التسامح في التأويل لكي يحافظ له على موقع ضمن التقابلات التي وضعها الحاج للشعر والنثر. ذلك أنه لم يقدم وسائل إقناع كافية للتمييزبين المصطلحين سوى قوله بأن الشعر مادة للقصيدة، وأن القصيدة لا الشعر هي موضوع الشاعر، وقد قام الحاج بهذا التمييز لكي يبعد بالذات إشكال وجود النثر الموقع أو الشعري. فمن شأن وجود هذا النمط من التعبير، التشويش على المسافة أو الهوة التي أراد الحاج توسيعها بين الشعري والنثري. بسبب ذلك تبنى مصطلح (قصيدة ) للدلالة على الشعر في تبنيه النوعي والشكلي،حيث يكون موضوع السؤال بـ(هل ) هو خروج القصيدة لا الشعر، من النثر، يقول أنسي الحاج: (القصيدة العالم المستقل الكامل المكتفي بنفسه، هي الصعبة البناء على تراب النثر، وهو المنفلش والمنفتح والمرسل، وليس الشعر ما يتعذر على النثر تقديمه، فالنشر منذ أقدم العصور وفي مختلف اللغات يحفل بالشعر فعلا إذا قيس بشعر النظم يغلب عليه )(13).
فما حل هذه (المعضلة الأدبية )؟ يذهب أنسي الحاج إلى أن قصيدة النثر تخرج بالفعل من النثر، لكن ليس من النثر العادي المعياري بصفاته تلك، إنها تخرج من شعر يولد من ذلك النثر، بمعنى أن قصيدة النثر تتولد عبر مرحلة انتقالية يتزاوج فيها الشعر والنثر الخارجان – فيما يبدو- معا، من قاعدة نثر عادي ومعياري:
وتزكي فرضية هذه التراتبية، كون قصيدة النثر تأتي من النثر لا من الشعر، لأن شعر النثر ليس هو الشعر، ليس هو الشعر الذي يشتغل بلفة الشعر لا بلغة النثر.
وقد انتبه الحاج لذلك حين أقر بأن خروج قصيدة النثر من النثر (النثر في شاعريته )، يبقى على رواسب النثرية فيها: (هل من المعقول أن نبني على النثر قصيدة ولا نستخدم أدوات النثر؟) يجيب الحاج بأن قصيدة النثر (تلجأ إلى أدوات النثر من سرد ووصف واستطراد).
لكن كيف تكون قصيدة النثر شعرا وهي تحتفظ بأدوات النثر؟ ها هنا يستعين الحاج مرة أخرى بسوزان برنار التي ذهبت إلى أن تلك الأدوات تفقد في قصيدة النثر وظائفها الأصلية متحولة لخدمة غايات شعرية )( 14).
لكن كيف تفقد تلك الأدوات وظائفها النثرية وتبقى في الوقت نفسه نثرية، ثم هل هي وسائل نثرية بالحصر وليست وسائل
شعرية أيضا، ذلك ما قد تضيئه النقطة الموالية.
4- قصيدة النثر:
إن أهم ما يسم مقدمة أنسي الحاج بالتفرد، هو السبق في رصد ظاهرة معينة، وسواء بالنسبة لأنسي الحاج أو لأدونيس أم لجماعة مجلة اشعر لم عامة، فإن الانتباه الى قصيدة النثر، كان في حد ذاته مؤشرا على ( يقظة ) قصوى تحسست مخاضا أخر للتعبير الأدبي حقل الشعر، ويكفي الأن أن نقارن تلك (اليقظة ) بـ(النوم ) النقدي العميق الذي ما عادت فيه الظواهر ظواهر، وإنما انزياحات بعضها يتوارى وبعضها يتراكم دون وعي بذلك من طرف النقد.
لقد كانت قصيدة النثر في طور التأسيس (نقصد بقصيدة النثر في هذا السياق، التحديد الذي قدمته لها حركة (شعر) بل لم يكن – حسب تاريخ المقدمة – قد انقضى على المعرفة (الجدية بقصيدة النثر عامان ).(15) وهي مدة وجيزة مقارنة مع ظاهرة اتهمت بقلب المعادلات التاريخية والقيم السائدة، ولم تكن مدة العامين قادرة أن تجعل ( العطاء الحقيقي) لهذه القصيدة (يأخذ طريقا للناس ). وذلك ما أكده الحاج نفسه، فهل كانت المقدمة ضربا من المبالغة المفرطة التي لا أساس لها؟.
حين نبه أنسي الحاج إلى جدة وحداثة ظهور قصيدة النثر، تفيا توضيحين هما:
أ – ليس كل ما قدم ضمن قصيدة النثر يستحق أن يكون ممثلا نوعيا لها، فبحكم طابعها الإغرائي استسهلها بعض الشعراء. مما حمل الحاج على التحفظ من بعض نماذجهم، ويتحفظا هذا، خرج الحاج من مطلق حكم: (انصر أحاك ظالما أو مظلوما)، الذي تحول إلى شعار لدى بعض الفئات الشعرية خلال العقود الثلاثة الموالية. تحفظ أنسي الحاج مختلف عن تحفظ الشعراء الذين عادوا قصيدة النثر، فتحفظه مقصور على نماذج بعينها، أما تحفظهم فموجه في الأصل لـ(هوية ) تلك القصيدة ولشرعية وجودها، ويتذرع المتحفظون عادة بمبرر قلة الشعراء (الحقيقيين )، لذلك يختزل تاريخ قصيدة النثر عندهم في قصائد معدودة لشعراء معدودين، أما المعادون لتلك القصيدة، فلا يرون لها تاريخا بالطبع.
ب – ليس (انغلاقا على الذات وغرورا أحمق وموتا) أن نعجل بالدعوة لإقرار حرية قصيدة النثر. الانفلاق والغرور والحمق والموت، في رأي أنسي الحاج، هو أن يسارع المتشككون المتزمتون إلى الحكم على قصيدة النثر بالموت وهي لم تقض من عمرها سوى عامين، لابد من الانتظار حتى يتوافر- في رأيه – المتن الكافي المناسب قبل التسرع في إطلاق الأحكام السلبية.
فهل اجترحت قصيدة النثر اجتراحا قيصريا من سياقها الأدبي
والثقافي؟ لقد رأينا ان المتلقي في عمومه، لم يكن يشجع على أي تجديد بما فيه تجديد قصيدة النثر، ورأينا في مقابل ذلك أن أنسي الحاج كان مقتنعا بأن التاريخ عملية تحول وتغير وتجديد مهما كانت سلطة القوى المضادة للتطور.
وبالنسبة لأنسي الحاج، ولدت قصيدة النثر ضمن التغيرات الملازمة لأي تاريخ، فهي وإن كانت حديثا، لا يتعدى عمرها عامين، فقد وجد لها الحاج جذورا تبرر وجودها وقابليتها للتطور والاستمرار، بيد أنها جذور لا (يضرب لم بها صاحب (المقدمة )، في القدم، فانسجاما مع دعوته لفصل قصيدة النثر فصلا كليا عن التراث، يقصر أنسي الحاج تلك الجذور الأنسية:
أ – ارتفاع مستوى النثر وشيوع النثر الشعري وما جاوره، (في لبنان خاصة ).
ب -تقريب قصيدة التفعيلة للشعر من النثر، لدى الواقعيين خاصة.
ج – ترجمات الشعر الغربي.
د – تغير مواقف الشعراء بتغير العالم.
ولما كانت ثلاثة من هذه الجذور أو الممهدات،ذات شكل تعبيري، يقدم صيفا مختلفة عن قصيدة النثر، أدركنا أن هذه القصيدة، تمثل بالفعل نمطا معقدا ومتميزا من التعبير، فلا هي بنثر ثم تشعيره (الجذر الأول )، ولا بشعر موزون تم نثره موضوعاتيا (الجذر الثاني)، ناهيك بكون النص الشعري المترجم ليس نموذجا تمثيليا لقصيدة النثر. فكيف قدم أنسي الحاج هذه القصيدة إذن؟ ذلك ما سنعرض له من خلال النقط الموالية:
أ – القصيدة والأنواع المجاورة:
أن تكون قصيدة النثر نوعا شعريا متميزا عن باقي الأنواع الشعرية والأدبية، وأن تكون لها هويتها الخاصة بها ذلك ما طمح اليه أنسي الحاج في فهمه الأنواعي لتلك القصيدة.
لقد تمثلت فرضيته في هذا الموضوع، في كون الأنواع تقبل الاستقلال عن بعضها، وأن قصيدة النثر يمكن أن تخضع للفرضية نفسها، فجاء رأيه (الاستقلالي)صريحا في ذلك، يقول: (كل مرادنا اعطاء قصيدة النثر ما تستحق: صفة النوع المستقل، فكما أن هناك رواية وحكاية وقصيدة وزن تقليدي وقصيدة وزن حر، هناك قصيدة نثرا).(16)
إنها فرضية، كان من الصعب البرهنة عليها في بداية الستينات خاصة، حيث لم تكن قصيدة النثر قد قدمت تراكما نصيا مساعدا، ولم يكن ذاك خافيا على أنسي الحاج وهو الذي أكد الجدة الزمنية لهذه القصيدة، ولم يكن، بحكم ذلك، مقتنعا، فيما يبدو، بفرضيته في (الاستقلالية ). لقد تنازع في مواقفه، الفرضية والمنجز النصي، الفرضية بوصفها سلاحا لإثبات شرعية وجود قصيدة النثر ضمن النسق الأنواعي السائد، والمنجز النصي بوصفه ينطوي على كتابة في تلك الفرضية، فقد لاحظ أنسي الحاج أن المصطلح يتسع لاحتواء نصوص غير تمثيلية، بل محشورة أو مقنعة باسم قصيدة النثر مع أنها ليست منها، كما لاحظ أن السبب في هذا الإشكال ليس هو موضع الإجادة فحسب، بل طرق الإبداع والتعبير أيضا، ودفعت الملاحظتان أنسي الحاج للإقرار بأن (ثمة وجوها نسبية ظهرت وتظهر متبدلة وفقا للتطور). غير أن الوجوه النسبية المتعلقة بقصيدة النثر، ظلت خاضعة عنده، لسلطة تعينها النوعي باعتبارها متغيرات ثانوية (ضمن ما توفره قصيدة النثر من حرية شاسعة وامكانات (17).
وبذلك تبقى فرضية الاستقلالية، هي المبدأ الأساسي في تصورات الحاج، ففي مقدمة أولوياتها (تبيين النوع الجديد) وتصفيته وعزله عن كل (ما ليس قصيدة نثر). أما المتغيرات فترجع، حسب حالاتها، كل إلى مكانه، إما ضمن قصيدة النثر أو ضمن أنواع أخرى، ليصبح الحد بالمقايسة، حدا مسهما في تشكيل ماهية تلك القصيدة، حيث تقاس قصيدة النثر في الخطاب الأنسي إلى:
– نثر الشعر.
– شعر النثر.
– الشعر المنثور.
– النثر الشعري.
– النثري الشعري الموقع.
– النثر الموقع.
تمثل هذه الأشكال عنده، (سلف ) قصيدة النثر ومصدرها وهادتها، حيث تتأثر قصيدة النثر بنوعية ودرجة التعامل معها، أخذة بذلك، وضعا أنواعيا داخليا تصبح فيه متفرعة إلى أنواع صغري مثل:
– قصيدة النثر الغنائية ومصدرها النثر الشعري الموقع.
– قصيدة النثر الحكائية.
– قصيدة النثر (العادية ).
لا شك في أن هذه الاشارات جاءت سبقا لأوانها، أولا من حيث كون الدرس الأنواعي لم يكن قد ترسخ في النقد الشعري العربي، وثانيا لكون قصيدة النثر نصا إشكاليا أنواعيا، ولا غرابة أن نجد، إلى غاية التسعينات، استمرار طرح السؤال الأنواعي في قصيدة النثر بوصفه هاجسا نقديا وإبداعيا تخصص له الملتقيات والملفات النقدية والاستجوابات والشهادات.
كما لا يخفى على الناظر في هذه اللغة الاصطلاحية الأنسية،
أنها غير دقيقة وخاصة انه لم يجد ما ينعت به الصنف الثالث من أصنافه سمى، بكون قصائده ( عادية ) ومدلول ( عادية ) عنده، هو كونها غير إيقاعية، لا بسيطة وأقل أهمية، فغياب الإيقاع تم تعويضه بمجموعة من المكونات هي الممثلة أصلا، لماهية قصيدة النثر الأنسية. بمعنى أن قصيدة النثر (العادية ) هي قصيدة النثر غير
(العادية ) أو الاستثنائية أو النموذجية التي سعى أنسي الحاج لترسيخها، إنها قصيدة لا تتحدد عنده بالمقارنة بالأنواع النثرية أو بقصيدة الوزن، بل بنظامها الداخلي وبقوانينها، فهل كانت القصيدة الأنسية قد وصلت بالفعل لمرحلة فرز القوانين، بل هل يمكن إخضاعها للقوانين؟
ب – القانون والمنير:
كما تنازعت في الخطاب النقدي الأنسي فرضيتا استقلال النوع وعدم استقلاله، تنازعت فيه أيضا، فرضيتا وجود قوانين لذلك النوع وعدم وجود ذلك. ومرد التنازع الثاني بالذات، للموقف الأنسي المناهض للثوابت، الثائر على الجوامد، الجامح نحو التمرد والفوضى والهدم والتحرر.
ولما كان موضوع هذا الموقف هو قصيدة النثر، وكان لم البحث في قصيدة النثر هذيانا لم على حد تعبير أنسي الحاج، فإن مهمة وضع القوانين، تصبح مجازفة قد لا يعول على نتائجها، وحين عبر أنسي الحاج عن رفضه للتراث، برر موقفه بكون التراث قد يتحول إلى قوانين غير قابلة للتعديل والإزاحة، توقع الشاعر (في حبائلها ) وتقف ضد التطور والتجديد.
كيف يستقيم إذن، التبشير بنص يخترق القوانين مع وضع القوانين ذاتها، ينتبه أنسي الحاج إلى ذلك فيقول: (لا نهرب من القوالب الجاهزة لنجهز قوالب أخرى، ولا ننعي التصنيف الجامد لنقع بدورنا فيه ).(18)
لكن لا مغر له من ذلك الوقوع مادامت رغبته وهدفه (إعطاء قصيدة النثر ما تستحق: صفة النوع المستقل )، مع ما يقتضيه استحقاقها، من قوانين مؤسسة وضابطة لها، إذ كيف تستقل دون قوانين؟!.
حاول أنسي الحاج الخروج من مأزقه بتسمية قانون قصيدة النثر بـ( القانون الحر ) بحجة أنه قانون غير مهيأ جاهز لتقبل وصهر وتحويل أي قصيدة إلى قصيدة نثر، لكن المسار المنهجي لصياغة القوانين كما اقترحها أنسي الحاج، سليم من حيث المبدأ، ذلك أن القاعدة في صياغة القوانين تكون عادة، إما بالاستقراء أو الاستنباط وقد اختار أنسي الحاج قاعدة الاستقراء الأقرب الى معطيات النصوص، فالقانون هنا لا يوضع قبليا بالسبق، لكن يستخلص من المعطيات النصية التي تكون وحدها، كفيلة بالبرهنة على وجود قوانين أدبية، فإن اضفاء صفة الإلزامية عليها، سيجعل منها قوالب سلطوية منافية لحرية الإبداع، لهذا السبب نبه الحاج إلى أن قوانين قصيدة النثر لن تكون إلزامية، ولا قادرة في حد ذاتها، على ضمان نجاح القصيدة، يقول عن تلك القوانين: (لقد استخلصت من تجارب الذين أبدعوا قصائد نثر، ورأي بعد كل شيء، أنها عناصر لم ملازمة لم لكل قصيدة نثر نجحت، وليست عناصر مخترعة لقصيدة النثر لكي تنجح ).(19)
ومع أن الموقف المعبر عنه في هذه الفقرة موقف سليم في حد ذاته، فإن ما يحتاج المساءلة هو سياق ذلك الموقف ومصدره، وهو ما نسجل حوله ملاحظتين:
أ – ليس أنسي الحاج هو من قام بوضع القوانين المقترحة وصياغتها بناء على المشاهدة والملاحظة واستقراء المادة النصية، لقد أخذ تلك القوانين جاهزة كما وضعتها الباحثة الفرنسية سوزان برنار، وإن كان أنسي الحاج أضاف اليها الإطار العام المحين لها، دون أن يفترض صاحب المقدمة احتمال أن تكون سوزان بر نار قد أخطأت في استخلاص ووضع قوانينها.
ب – إن تلك القوانين، وإن استخلصت بالفعل من نصوص قصائد النثر، فإن التجارب التي استخلصت منها، تجارب غربية، فرنسية بالتحديد، فهي من ثم وليدة تراث معين، ولم تصل إلى ما وصلت اليه إلا بعد مراحل تطور.
لم يتسادل أنسي الحاج هنا أيضا، عما إذا كان يجب أن ننتظر تراكما في المنجز العربي لقصيدة النثر، لكي نستخلص منه (قوانين )، حيث نتبين، وقتها فقط، إن كانت هذه القوانين مماثلة لتلك التي اقترحتها سوزان برنار، أم مختلفة عنها.( 20)
ح – القانون والماهية:
لم يتخلص أنسي الحاج في حديثه عن ماهية قصيدة النثر من مقترحات سوزان برنار في الموضوع، وما كان له هو وأدونيس الخروج عن تلك الدائرة في تلك المرحلة لسببين (قاهرين )، أولهما غياب تراكم نقدي عربي في الموضوع، وثانيهما غياب تراكم إبداعي عربي لتلك القصيدة يهيئ أرضا للملاحظة والاستنتاج.
يقول الحاج: (يحتاج توضيح ماهية قصيدة النثر إلى مجال ليس متوافرا، وإنني أستعير بتلخيص كلي هذا التحديد من أحدث كتاب في الموضوع بعنوان: قصيدة النثر من بودلير إلى أيامنا للكاتبة الفرنسية سوزان برنار).( 21) ثم يضيف هامشا لهذه الفقرة يذكر فيه أن أدونيس كان أول من تناول هذا الموضوع بالعربية في مجلة (شعر) بالعدد 14/1960.
وليست قصيدة النثر في تلك الماهية قطعة نثر فنية أو مشعرنة،
بل قصيدة بفضل شروطها الضرورية الثلاثة:
أ – الإيجاز.
ب – التوهج.
ج – المجانية.
ولكي تتحقق لها هذه الشروط في عادتها النثرية، لابد لها من أن تكون موطن صراع بين نزعتين متعارضتين هما: الهدم والفوضى من جهة، والتنظيم من جهة أخرى، وستطل هذه الشروط الماهوية موطن تجاذب بين التجارب الشعرية العربية في قصيدة النثر، وسيتحول بعضها مثل مفزع (الفوضى) إلى شعار لدى بعض شعراء الأجيال الجديدة، لكن وضعها موضع التطبيق لم يكن – فيما يبدو- هدفا مباشرا للشعراء، بدليل أن أنسي الحاج نفسه لم يخضع لها، قد يكون تمثلها نسبيا في شرطيها عن المجانية والفوضى المنظمة، لكنه ظل أبعد عنها من حيث شروط التوهج والإيجاز قياسا إلى الفهم الذي قدمه لهذين الشرطين.
وإذا كانت هذه الماهية في ظاهرها ماهية نصية، فإن خاصيتها هذه، لا تقطع جذورها مع المرجعية الذاتية للتجربة ومع شرطها الخارجي حيث يوجد الشاعر في مقابل العالم، إنها- بتعبير أنسي الحاج – (الإطار أو الخطوط العامة للأعمق والأساسي، موهبة الشاعر، تجربته الداخلية، وموقفه من العالم والإنسان ).(22) ولقد كان على أنسي الحاج أن يقدم هذا التوضيح لكي يحتفظ بخيط ضمني يربط قصيدة النثر بالمفهوم الشائع وقتها للشعر والذي يمكن اختزاله في شروط الموهبة والتجربة الداخلية والموقف.
إنه المفهوم الذي احتضنته قصيدة التفعيلة بصفة خاصة دون أن يتنكر له شعراء مجددون من خارج تلك الحركة، موضع الخلاف بالذات، هو في ربط الماهية من حيث هي مرجعية خارجية وسياقية بالماهية من حيث هي معطى لنوء ونصي، فالمستمد، الثاني للماهية هو الذي يجعل قصيدة النثر تنفصل في (هويتها) الإبداعية ليس عن مبدأ التجديد الشعري عامة فحسب، بل أيضا عن مبدأ التجديد الشعري الخاص بقصيدة التفعيلة.
وكون شروط قصيدة النثر متعلقة بلغة التعبير وليس بماهيته، جعل الشاعر في مواجهة مباشرة مع النص، فموضوعه لم يعد محصورا في تسجيل الصدق العاطفي وتثبيت لحظة المعيش الاجتماعي والسياسي، أصبح موضوعه هو إشكالية التمظهر اللغوي والنصي للتعبير، وخاصة أن قصيدة النثر سعت للتخلي عن ذخيرة الأدوات التعبيرية القديمة، يقول أنسي الحاج في هذا الباب عن قصيدة النثر: (لقد خذلت كل ما لا يعني الشاعر، واستغنت عن المظاهر والانهماكات الثانوية والسطحية والمضيعة لقوة القصيدة، رفضت ما يحول الشاعر عن شعره، لتضع الشاعر أمام تجربته، مسؤولا وحده كل المسؤولية عن عطائه، فلم يبق في وسعه التذرع بقساوة النظم وتحكم القافية واستبدادها، ولا بأي حجة برانية مفروضة عليه، ومن هنا ما ندعوه القانون الحر لقصيدة النثر).(23)
ويتمثل القانون الحر في ثلاثية الإيجاز والتوهج والمجانية، المؤطرة بتنازع قوى الفوضوية والتنظيم من جهة، وبمرجع الموهبة والتجربة والموقف من جهة ثانية، وينحل ذلك القانون في تمظهرين تعبيريين موازيين يمثلان نظامه السطحي، وهما اللغة والوحدة، ولكل منهما لوازمه ومصاحباته:
أ – اللغة:
الإلحاح على تجديد اللغة وربطها بمبدأ التطور الحتمي، مثل مطلبا أساسيا في الخطاب الأنسي، فمادام الموقف يتغير، فمن البديهي أن ينشد الإنسان لفة تناسب رغبته في التعبير عن جدة الموقف، والمطلوب في اللغة الأنسية الجديدة أن تكون قادرة بدورها على الاختصار ومطاوعة الشاعر في (وثبه الخلاق ) لفة قابلة للخلق الدائم مادامت القاعدة الأنسية هي أنه (في كل شاعر مخترع لغة ).
ب – الوحدة:
مطلب الوحدة في القصيدة مطلب قديم، لكن راهنه في قصيدة النثر يقترن بباقي شروطها، وبخاصة منها شرطي القصر والتماسك، وهما شرطان يرتدان لصفتي الإيجاز والتوهج، إذ لكي تكون قصيدة النثر موجزة متوهجة لابد لها حسب برنار والحاج من القصر والوحدة والتماسك.
ويتجه هدف هذه الوحدة للتلقي، بإحداث تأثير كلي مخالف لذلك الذي يحدث جزئيا في القصائد الطويلة، قصيدة النثر القصيرة، في المرجع البر ناري المتبنى في الخطاب الأنسي، قادرة وحدها، على إحداث النوهج الفجائي المنبعث في شكل شحنة كلية قوية التأثير في متلقيها، يقول أنسي الحاج في ذلك: (التأثير الذي تبحث عنه ينتظرك عندما تكتمل فيك القصيدة، فهي وحدة، ووحدة متماسكة لا شقوق بين اضلاعها، وتأثيرها يقع ككل، لا كأجزاء، لا كأبيات وألفاظ ).(24)
قبل قصيدة النثر، كان موضوع التأثير في المتلقي موكولا في المقام الأول لموسيقى الوزن والقافية، وحتى في السجال الذي نشأ حول قصيدة النثر، أثار فيه خصومها هذا الموضوع، ناعتين إياها بعدم القدرة على التأثير في متلقيها بسبب ما وصفوه فيها من غياب للموسيقى، لذلك نعد ما ذكره أنسي الحاج في موضع التأثير الكلي والموهبة والتجربة، بمثابة رد، بل
تفنيد ضمني للحجج المضادة لتلك القصيدة.
لم يعبأ أنسي الحاج، كما فعل غير واحد من اللاحقين، بفك (عقدة ) الموسيقى في قصيدة النثر بالإقرار مثلا، بوجود (موسيقى الخلية ) خاصة بها، كان أنسي الحاج صريحا في خطابه التهميشي لمقولة الموسيقى والإيقاع في قصيدة النثر، وكان مبدأه في ذلك هو أن الشعر (لا يعرف بالوزن والقافية )، ولم يتردد في نعت موسيقى الوزن والقافية بكونها (موسيقى خارجية ) استهلكت وأصبحت (أدوات جاهزة
وبالية ).
وانسجاما مع هذا الأفق لم يقدم أنسي الحاج في محفل الإيقاع، اقتراحات كتلك التي قدمها في محفلي وحدة القصيدة وتأثيرها، لقد مثل الإيقاع عنده دورا هامشيا لم يرد اعتماده الا عرضيا وضمنيا، ضمن واحد من أنواعه المقترحة لقصيدة النثر، نقصد (قصيدة النثر الغنائية ) التي لها أصل في النثر الموقع، كما ذهب إلى ذلك صاحب (المقدمة ).
وفي مقابل هذا النوع الفرعي، يتراجع الإيقاع في قصيدة النثر (الحكائية ) ليهيمن بدله السرد، أما في الصنف الثالث من أصنافه لقصيدة النثر، صنف قصائد النثر (العادية ) التي (بلا إيقاع ). فيشتغل شعريا بواسطة التأثير الكلي أو ما سماه أنسي الحاج: (الكيان الواحد المغلق ).
د – النهائية والبديل الحقيقي:
أن يكون لقصيدة النثر كيان مغلق، هل يفيد أن لها دورة مغلقة ووضعا نهائيا لا تحول بعده؟ ثم أي دور لقصيدة النثر في دورة التحولات الأدبية التي من طبيعتها التطور والتحرر ومعاداة التحجر على حد ما ذهب إلى ذلك صاحب (المقدمة ) نفسه؟
بالنسبة للسؤال الأول، رأينا أن أنسي الحاج يجاور بين تخصيص قصيدة النثر بقوانين كلية تمنحها وضعا شبه نهائي، وبين تحميلها إمكانيات للانفتاح على متغيرات محتملة، على أن تبقى مشمولة بالنسق المهيمن بالنموذج القبلي.
أما بالنسبة للسؤال الثاني، فإجابة الحاج عنه كانت من أسباب تغذية الصراع النقدي حول قصيدة النثر، وفضلا عن ذلك مازال هذا السؤال يطرح دون حل موضوعي، فحلوله الذاتية تنطبع بوجهات النظر المناوئة أو المناصرة لقصيدة النثر، ذلك أن التساؤل عن موقع قصيدة النثر، هو تساؤل عن البديل الإبداعي وعن المجيب الحقيقي عن الحاجة الجمالية الواهنة للقول الشعري، فما الأقدر على الإجابة عن تلك الحاجة، قصيدة النثر، أم قصيدة الوزن؟
جاء جواب أنسي الحاج لفائدة قصيدة النثر بحجة أن هذه القصيدة معطى حداثي عالمي وليس عربيا فحسب (حيث تمثل أقوى
وجه للثورة الشعرية التي انفجرت منذ قرن )، أما بالنسبة للسياق الزمني العربي فيقول الحاج: (قصيدة النثر خليقة هذا الزمان، حليفته ومصيره ).
لكن موضع الشاهد النقدي ليسر في مجرد وضع قصيدة النثر في سياق الإبداع العربي وإيجاد شرعية لها بين باقي أنماط التعبير، كان طموح أنسي الحاج يتعدى هذا الحد، قصيدة النثر عنده هي البديل الحقيقي لكل إبداع شعري، وهي نهاية ما وصل اليه التحرر الإبداعي، إنها تجاوز حتى لقصيدة التفعيلة حديثة العهد بدورها، والتي كانت وقتها وما زالت في مرحلة تأصيل الاختيار وتثبيت الجذور وفرض الذات بوصفها البديل الحقيقي.
ولم يقتنع الحاج بأسلوب المهادنة، وخاصة مهادنة رفاقه من المجددين التفعيليين، لم يكن سوى (جنون ) و(لعنة ) أن يعن الحاج في ذلك الوقت بديل قصيدة النثر بقوله المتحدي: (إنها أرحب ما توصل اليه توق الشاعر الحديث على صعيد التكنيك وعلى صعيد الفحوى في أن واحد).(25)
إنه إعلان هدد، ليسر شعر الوزن عامة فحسب، بل بالتحديد، شعر التفعيلة، ولهذا السبب سيقف أغلب شعراء التفعيلة، موقف المتحفظ من قصيدة النثر، ليس في الجيل الستيني فحسب، بل منذ ذلك التاريخ إلى غاية التسعينات أيضا، فقد أعلنت قصيدة النثر عن نفسها منافسة لهم، مهددة لتصميم تجربتهم، في شعاراتها حول التحديث والتجديد بالذات.
والأن، ونحز على عتبة نهاية العقد الرابع من الإبداع الشعري الذي تلا تاريخ المقدمة، وبعد أن بدا جليا أن قصيدة التفعيلة تواجه مشاكل إبداعية حقيقية، باعتراف شعرائها، وبعد أن أصبحت قصيدة النثر بمختلف أصنافها وروافدها، أكثر شيوعا في التعبير الشعري العربي الحديث، هل نقول إذن، إن (نبوءة ) أنسي الحاج وجدت أخيرا وبلا منازع مصداقيتها؟!.
5- بعد المقدمة:
قد تخطئ المقارنة هدفها إذا تغيت المطابقة بين مقدمة أنسي الحاج وشعره، فالمقدمة سابقة لديوانه (لن ) طباعيا لا زمنيا، فهي وإن مثلت الوعي النظري لأنسي الحاج بماهية الشعر وأدواته، فليسر من المفروض أن تمثل مطابقة الوعي للإبداع، إذ توجد دائما مسافة ما بين المعطى النظري والمنجز النصي، وفي هذه المسافة توجد امتدادات وقطائع بين طرفيها، وأهم ما في تلك الإمتدادات في حالتنا هذه، مواجهة الشاعر للغة وأنسي الحاج لم يخضع لصدمة (جدار اللغة )، كما حدث لزميله يوسف الخال، لقد ظل أنسي الحاج (لن) و(الرأس المقطوع )، شاعرا صداميا تجاه جدار اللغة، ممتثلا لمبدئه في كون الشاعر (خالق لغة ). وبعد ربع قرن من ذلك التاريخ، نرى أنسي الحاج يكشف عن مصدره السريالي في مواجهة ذلك الجدار: التمرد، العبثية، الفوضى، مع تأكيد أن تجربة (لن )، (واجهت
الصنمين: صنم اللغة المحنطة وصنم الوزن التقليدي).(26)
وقد كانت خالدة سعيد من أوائل من أكد على خصوصية التجربة اللغوية (لن ) في وقوعها موقع صراع (بين اللغة واللالغة ) تقول: (هذا ما شحن شعر أنسي الحاج بالنزق والتمزق والتوتر، وكان من نتيجة هذا الصراع ما سميته منذ عشر سنوات، يوم صدور (لن ) باللعثمة، هذه (اللعثمة ) التي حجبت شعره السابق هن عامة القراء الذين اعتادوا الفكر المقولب المكبسل المنمق التفسيري، هي نفسها جعلت له في نظر قرائه جاذبية خاصة ).(27)
وفي مسعى قريب مما ذهبت اليه خالدة سعيد يقدم سامي سويدان دراسة تحليلية لديوان (لن ) يتتبع فيها مظاهر تمرد وثورة أنسي الحاج على جدار اللغة.
(28) ومن أبرزها ما يلي:
أ – تحطيم قواعد اللغة العربية في نحوها وصرفها.
ب – مزج العامي بالفصيح.
ج – قلب المألوف وإعادة تأليفه.
د – اشتقاق ألفاظ جديدة على أمس غير معهودة في العربية.
هـ- الإكثار من الصور المكثفة المتوترة.
و – تداخل الأصوات المتكلمة.
وتغدو القصيدة بتضافر هذه الاختيارات الأسلوبية، ضربا من العبثية أو المجانية التي لا يحيل مستواها السطحي سوء على اللعب اللغوي، أو ما سمته خالدة سعيد (ما يشبا الكتابة الأوتوماتيكية أو الهذيان لتيار الكلمات ذات التوالد الذاتي).(29)
بيد أن الدراسة المتأنية للنص تكشف من نسقية تماسكه، فخلف تلك العبثية تكمن دلالات أساسية ترفد بشعريتها تجربة أنسي الحاج، وقد وقف سامي سويدان عند هذه الخاصية من خلال نماذج بذاتها، حيث أكد مثلا تشغيل الحاج لمهيمنات موضوعاتية، في مقدمتها الدين والجنس والوطن، ومن أمثلتها النصية، ما سجله سويدان بخصوص قصيدة (هوية ) التي خلص بعد تحليل (عبثيتها) السطحية إلى القول: (وتظهر هذه الأخيرة وكأنها لا تسمح فقه بقرا،ات متعددة، بل إنها أيضا تستدعيها، وإذا بالنص يفضي إلى أبعاد دينية وما ورائية تتناول إشكالية الإيمان في مواجهة الوجود والعدم والعلاقة التي تنضح عز ذك بين الإنسان والله أو عزرائيل.. كما يفضي إلى أبعاد اجتماعية تطرح إشكالية التمرد والانتفاض على يباب السائد، وجميعها تتمازج في أصداء متداخلة تعلن وحدة القصيدة الكلية ).( 30)
ولم يكن أمام أنسي الحاج من سبيل مس ى خلق لفة جديدة عارية من منطق العلاقات البرهانية الظاهرة، وبخاصة أنه يرفض الخضوع للقيم السائدة في محتويات التعبير، وكيف يحافظ للغة بجدارها في نص مثل قصيدته (شارولوت ) مثلا حيث يقرن بين القصيدة والجنس السري؟ يقول سويدان عن هذه القصيدة بالذات: (وإذا كانت قصيدة (شارولوت ) هذه تتعرض لموضوع جنسي حميم نادرا جدا- كيلا نقول أبدا- ما تطرق اليه شاعر عربي قبل أنسي الحاج، فإنها تشكل في موضوعها بحد ذاتها، مروقا في الشعر ).(31)
ونقدم مثالا آخر من لم لن ) هو قصيدته (مجيد النقاب ) التي يقول في مقطعها الأول:
(جادت الصورة؟ لماذا تتأخر كلا لم تجيء لم تجيء؟ وكيف أتجنب النظر؟ من ينقذني من آلام الرحلة أ أين؟ وراء في الوراء في وراء وراء الصوت، الليفة، اللب، الصلب، هل أتخلى؟ متأخر، أرفع الجلسة، أؤجل،لم الصوت، الليفة، اللب، الصلب، هل أتخلى؟ متأخر، أرفع الجلسة، أؤجل،لم أكلف، لم أنا، فليدفعوا. فلأطمح للصورة (32)
اللغة في هذا المقطع غير محتكمة لأي مواصفات متعارف عليها، إنها أشبه بهذيان مجنون غير قادر حتى على إكمال جملة، ناهيك بربطها بباقي الجمل، تصبح اللفة موضوعا للهدم من طرف ذات تختلط عندها المواضعات المحيطة به تقوى على تحديد موقعها ضمنها، فيتحول خطابها إلى ضرب من اللغة المجانية العبثية التي لا تهدف لقول شيء، لغة تنقال ولا تقول.
بيد أنه في هذه المجانية الظاهرية، نستطيع أن نلتقط خيوطا لتماسك وغائية ضمنية، وخاصة حين نقارن بين وضعين فعليين:
أ – مجيء النقاب.
ب – مجيء الصورة.
بهذا التوازن تتحول الصورة إلى حجاب وتفقد اضاءتها وإشراقها يصبح الطموح محملا بإشكال نفيها وهدمها:
بين هذين الفعلين، أي بين الانتظار والترقب، تتوالد اللفة المتداعية للمقطع في متوالية من الأسئلة المعبرة عن القلق والتردد وعدم الاستقرار، إنها لفة بركانية تنقذف مفرداتها كشظايا الحمم دون قيد وضبط وهذا ما قاله أنسي الحاج نفسه بعد ربع قرن من ذلك التاريخ: (ما فعلته كان انفجار براكين تكونت في مست الأيام وانفجرت في صمت الكتابة ).(33)
وإذا كانت (المقدمة ) هي الإطار الذي رسم الخطوط الكبرى لانفجارات اللغة (البركانية لم، وإذا كانت القصائد تمثلت اللغة نسبيا، فإنها لم تكن بالتالي نسخة مطابقة لها، وأنسي الحاج ذاته انتبه لذلك بقوله: (المواصفات التي حددتها في المقدمة، سارعت أنا نفسي وخرجت عليها في قصائد الكتاب نفسه ).(34)
وقد كان من الصعب على أنسي الحاج أن يحقق شعريته على أنقاض هدمها، وفي مقدمتها المادة التراثية والمنطق التواصلي للغة، ولم يكن من الضروري تقنين قصيدة النثر في نموذج بعينه، وبخاصة أنه نموذج تم إمداده قبل أن تنجزه الممارسة النصية، وربما كان أدونيس أكثر عمقا من هذه الزاوية، حين وضع قصيدة النثر ضمن إطار الكتابة الجديدة عامة
دون تمجيدها وترسيمها بشروط بالغة التقنين والحصر، ذلك أن قصيدة النثر، في زمنيتها ولا زمنيتها، في إيجازها وطولها، تتسع تعبيريا للاشتغال بطاقات أخرى كامنة في اللغة والتراث مثلا.
وكان أنسي الحاج قد انزاح في لفته الشعرية عن تجربة (لن ) و(الرأس المقطوع ) في ديوانه (ماذا صنعت بالذهب، ماذا فعلت بالوردة؟ فضلا ئ أن الديوانين الأولين، لا يخلوان من بذور الغنائية التي رسخها ديوانه (ماذا صنعت بالذهب…).
كما أن أنسي الحاج سيكتب نصا طويلا بعنوان (الرسولة بشعرها الطويل حتى الينابيع لم يستثمر فيه مادة تراثية مسيحية لغة وإحالات، غارفا من الجماليات الرومانسية والغنائية، فاتحا للذاتي الحميم مجالا أوسع للتعبير.
وقد أشارت خالدة سعيد إلى هذا الخرق الذي مارسه أنسي الحاج على ذخيرته الشعرية الشخصية. ولتصل الباحثة إلى هذه النتيجة، قامت برفد تجربة (لن ) و(الرأس المقطوع ) و(ماضي الأيام الأتية ) بمعطيات استمدتها من التحليل النفسي، حيث لاحظت أن الديوانين يفصحان عن صراع بين غريزتي الموت والحياة، من حيث لجوء أنسي الحاج إلى الجنسي والأيروسي بواسطة تعبير اندفاعي استنباطي مقاوم للصمت والسكون.
أما في ديوان (ماذا صنعت بالذهب، ماذا فعلت بالوردة؟) فلاحظت أن تخلي أنسي الحاج عن لغة دواوينه السابقه، مثل نوعا من (الاغتراب ) لدرجة أن شعرية الديران أصبحت غير مقنعة في رأيها، لذلك حصرتها في كونها مجرد (لحظة استراحة تنتقم من صمت السنين ). أما اللغة التمثيلية النمو نجية عند أنسي الحاج من وجهة نظر الباحثه، فهي لغة دواوينه الأولى، وفي ذلك تقول مستحضرة مثال الديوان الرابع: (أول ما يلفت قارئ أنسي الحاج في هذه المجموعة، غنائيتها ونزعة الإفصاح فيها. بها يخاطب الشاعر المرأة في مكاشفة واثقة وإن كانت عنيفة تقل فيها البارات المخنوقة باللوعة وتغلب عليها الطلاقة، بل العذوبة، هنا يبرز سؤال: هل يضيع ذلك الشعر؟ الجواب طي ذك نسبي ولا أريد أن أخضع شعر أنسي الحاج لمقياس غير المقياس الذي رسخه شعره فيما سبق من مجموعاته، وانطلاقا من هذا المقياس، أقول إنه يضيع شعر أنسي الحاج خاصة، كما انه يبدو اغترابا من مداره، إن شاعرية أنسي الحاج قائمة أصلا على درجة من التوتر معينة، وعلى موقف أساسي من عملية الكلام وبالتالي من عملية الشعر، إنه من الذين قرنوا الشعر بالجنون واللعنة ).(35)
لم تنصت خالدة سعيد لتجربة أنسي الحاج في متغيرها، لقد وقعت في أسر أفق انتظار أقامه أنسي الحاج في (المقدمة لم وتمثله جزئيا في دواوين لاحقة بها، كما أن تأثير مجلة (شعر لم يبدو واضحا في توجيه التلقي النقدي لخالدة سعيد وهي تواجه تجربة ديوان لم يتعمد الجهر بتمرده اللغوي،
لذلك تولد ممن المقارنة بين اللاحق والسابق سبب سلبي تمثل في حجب (درجة من التوتر معينة ) و(موقف أساسي من عملية الكلام ) ليسر في الدواوين – المقياس، بل هذا الديوان أيضا.
لكن خالدة سعيد لم تكن في الواقع مقتنعة بأن شعر أنسي الحاج قدم إضافة حقيقية مستجيبة لمفهومها للشعر ولشروطه، ذلك أنها لا ترى حتى في الدواوين الثلاثة الأولى التي عدتها مقياسا، تجربة مكتملة، إنها في رأيها (بداية، مشروع، مد قاطع، يحرم القارئ نشوة المضي في الشوط حتى النهاية ).(36) وقبل عشر سنوات من تاريخ هذا الحكم، كان لخالدة سعيد حكم مماثل، حيث كتبت وقتها لأدونيس تقول: (سيكون لأنسي شأن يا أدونيس إنه صوت غريب )(37) وكان حكمها هذا دليلا على أنها رأت في (لن ) مجرد بداية مبشرة وواعدة بما سيأتي.
لم يكن أدونيس نفسه بعيدا عن هذه الدائرة التقويمية، ففي رسالته التي كتبها لأنسي الحاج سنة 1961 فقرتان لا تخلوان من دلالة، يقول في الأولى: (في مجموعتك صراخ يفتح باب الرعب، (يسرطن العافية ). صحيح أن الصراخ قلما يكون وسيلة للشعر، لكنه هذه اللحظة من تاريخنا، قدر نفسي يحكمنا، ومن يوقظ النيام المخدرين قد لا يكفيه الصراخ وحده ). أما
في الفقرة الثانية فيقول: (معك يصير شعرنا حركة طلقة، فعلا حرا، تناقضا مدهشا، أعني يقترب شعرنا معك، أن يكون شعرا). (38)
ويستفاد من الفقرتين، أن أدونيس وإن قبل بالمنطلقات التحررية والهجومية لانسي الحاج، وشجعه عليها، فان تقييمه لأدائه الشعره، لم ير فيه سوى أثر لحظي عابر، أي انه حصر أهميته في الاثارة والتنبيه، بواسطة الصراخ بالتحديد. فمقدمته وشعره صراخ، بما في الصراخ من انفعال وتمرد ومواجهة، لكن ذلك ليس كافيا في رأي أدونيس، لا لايقاظ النيام، ولا لجعل الشعر شعرا.
لكن ما قدمه أنسي الحاج لم يكن صراخا بهذا الفهم الأدونيسي، لقد كان تفكيرا بصوت مرتفع، تفكيرا عكسه الموقف المقدماتي المعزز بتمرده وحججه، وتفكيرا بالشعر المعزز بالتجريب وهوس المختلف والمغاير الشعري. ولا أدل على ذلك من تنوع الإضافات الشعرية التي قدمها أنسي الحاج في مجمل أعماله الشعرية، وإذا كان أنسي الحاج لم يحظ في الدراسات النقدية بمكانة مماثلة لتلك التي حظي بها أدونيس، فلسبب رئيسي، هو أن الدراسات النقدية العربية لم تجد طريقا بعد، ليس لقصيدة أنسي الحاج فحسب، بل لقصيدة النثر عامة.
الهوامش:
(1) أنسي الحاج ديوان (لن )- المقدمة.ط3. دار الجديد. بيروت 1994ص 13.
(2) المرجع السابق ص (13- 14).
(3) المرجع نفسه ص 18.
(4) نفسه ص 12.
(5) نفسه ص ( 9- 11).
(6) نفسه ص 22.
(7) نفسه ص 21.
(8) نفسه ص 10.
(9) نفسه ص 22.
(10) نفسه ص 15.
(11) نفسه ص11ويقول الحاج أيضا: (القاعدة القديمة: العالم لا يتغير، باطلة، ومثلها جميع المواضعات المتعلقة بالانسان، الشاعر ذو موقف من العالم، والشاعر، في عالم متغير، يضطر إلى لغة جديدة تستوعب موقفه الجديد) ص 21.
(12) مقدمة (لن ) ص 12.
(13) المرجع السابق ص 10.
( 14) المرجع نفسه ص 17، ولآجل المقارنة بسوزان برنار، ينظر كتابها قصيدة النثر من بودلير إلى أيامنا، ترجمة: زهير مجيد مغامس، دار المأمون بغداد، أو الطبعة الثانية، الهيئة العامة لقصور الثقافة، مصر 1997.
(15) مقدمة (لن ) ص 12.
(16) المرجع السابق ص 20.
(17) المرجع نفسه ص 20.
(18) نفسه ص 20.
(19) نفسه ص 21.
(20) يحصر سامي مهدي في كتابه (أفق الحداثة وحداثة النمط ) المواضع التي استقى منها أنسي الحاج مرجعيته لقصيدة النثر في صفحات معدودة من كتاب سوزان بر نار، فيحددها في صفحتي ( 14و15) من المقدمة. وصفحتي (763و765) من الاستنتاجات، ويمكن أن نضيف صفحات أخرى من فصلها الخاص بجمالية قصيدة النثر الذي حللت فيه بصفة خاصة قطبية الفوضى والتنظيم، ومفهوم مصطلح قصيدة وعلاقة قصيدة النثر بالنثر.
(21) مقدمة (لن ) ص 18.
(22) المرجع السابق ص 21.
(23) المرجع نفسه ص 21.
(24) نفسه ص 16.
(25) نفسه ص 20.
(26) أنسي الحاج (حوار معه )جريدة القدس العربي اللندنية – 29 مارس 1995.
(27) خالدة سعيد: الهوية المتحركة، مجلة مواقف، العدد 17/18)- 1971ص 131.
(28) سامي سويدان: بحث في لغة شعرية (لن ): مجلة الفكر العربي المعاصر لبنان العدد 25/1983،ص131.
(29) خالدة سعيد، مرجح مذكور ص 132.
(30) سامي سويدان، مرجح مذكور ص 134.
(31) المرجح السابق ص 136.
(32) ديوان (لن) ص55.
(33) جريدة القدس العربي اللندنية – عدد مذكور.
(34) المرجع السابق.
(35) مجلة مواقف عدد مذكور ص 133.
(36) المرجع السابق ص 132.
(37) ضمن كتاب أدونيس زمن الشعر ط. دار العودة، بيروت 1983، ص 225.
(38) أدونيس: زمن الشعر ص (226، 221)
رشيد يحياوي (ناقد وأكاديمي من المغرب)