لم يكتب انطونين أرتو إلا باسم النقاء،، ومن أجل بلوغ النقاء كان على الشاعر أن يمو بتجربة شاقة، تجربة تدمير الذات وتدمير اللغة للوصول الى اللغة الصافية. صحيح أن الكلام على تدمير اللغة صار شائعا وفارغا في معناه لكثرة ما اتخذه بعض الشعراء شعارا لهم دون أن يكون مطابقا للفعل الكتابي لكن كلامنا بخصوص أرتو ليس إلا في مكانه أصلا وحقيقة. لم يكتب أرتو ليدون كتابا أو كتبا بل كتب أرتو لينسف الكتب والكتابة وطالما رفض أرتو أن ينتمي الى "سلالة الأدباء" لأنه رفض أن يكرس نفسه شاعرا مع أنه لم ينتم إلا لشعره. كتب أرتو لغة غريبة وسرية، بل ابتكر لغة لم يكتبها أحد قبله، لأنه كتب المستحيل في لغة مستحيلة. أهمية أرتو تكمن في مواجهته المميتة مع القول في لا معقولية القول، أهميته تكمن في محاربته الدائمة لما يسمى اللغة – الأسلوب – الكتابة. مأساته تكمن في صراعه المهلك مع الكتابة داخل الكتابة. انه من الشعراء القلة، القلة جدا في العالم، الذين كتبوا ضد كتابتهم ولأجلها معا، الذين لم يكتبوا ليتركوا وراءهم "أعمالا كاملة"، إنما ليزعزعوا زعزعة كاملة الكتابة من خلال عمل سيبقى الى الأبد مخلخلا كل الأسس التي تدعى الثورة والعصيان. عمل أرتو بركان دائم الاشتعال، عمله مخيف لأنه ليس تجربة كتابية.شكلية بل تجربة تفجير حقيقي من الداخل، انه تفجير الحقيقة التي لا تشبه الا الرعب لأنها أصلية، تلك الحقيقة التي لا تقال الا في صعوبة القول، أي في إلغائه أثناء صنعه. الحقيقة تقال عند أرتو عبر تمزيق القول لذا تميز عن السورياليين الفضفاضيين والاجتماعيين والمدنيين والصاخبين "، لذا انفصل عنهم هو الباحث عن أصل الأصل، كتب أرتو كتابة لا تكتب، واذا كتبت فلكي تزعج أبدا.
مقاطع من "ميزان الأعصار"
ليتنا تنطع أن نتذوق عدمنا، ليتنا نستطيع أن نستريح في عدمنا على الا يكون هذا العدم أحد أنوع الوجود لكن الا يكون الموت تماما.
إنه لأمر قاس الا نعود موجودين،أن نكف عن الوجود في شيء ما. الألم الحقيقي هو أن نشعر بفكرنا
يتقل في داخلنا. لكن الفكر كالنقطة ليس بالتأكيد عذابا.
حتى أني لم أعد أهتم بالحياة لكني أحمل في داخلي كل شهية الكائن ودغدغته الملحين. لم أعد مشغولا الا
بأمر واحد، أن أعيد صياغة ذاتي.
………………………..
اني أبله، من خلال إلغاء الفكر، من خلال سوء تركيب الفكر اني شاغر من خلال خدر لسان.
سوء – تركيب، سوء – تكتل لعدد معين من هذه الجسيمات شبه الزجاجية والتي تستعملها بهذا المقدار من الطيش. استعمال لا تعرفه، لم تحضره يوما.
كل المفردات التي اختارها للتفكير هي بالنسبة لي مفردات في معناها الحقيقي للكلمة هي لاحقات (1) حقيقية، هي مخارج كل الحالات التي انزلتها بفكري. اني حقا محاصر من قبل مفرداتي،واذا قلت ان محاصر من قبل مفرداتي فلأن لا أعترف بها كمادة صالحة في فكري. إن حقا مشلول من خلال مفرداتي , ومن
خلال سلسلة من اللاحقات ومهما ابتعد فكري الآن لا، أستطيع إلا أن أمرره عبر هذه المفردات،المناقضة ذاتها كل هذا التناقض، المتوازية كل هذه الموازاة،الملتبسة أشد الالتباس، تحت طائلة توقفي في هذه اللحظة عن التفكير.
أثناء النوم، أعصاب متشنجة طول ساقي. كان النوم يأتي من انتقال الايمان،كان العناق يرتخي، كان العبث يحاول أن يعتدي علي.
………………………
لم أصوب إلا الى آلية ساعات روحي، لم أدون الا ألم مطابقة مخفقة.
اني هوة تامة. أولئك الذين كانوا يعتقدونني قادرا على ألم كامل،على ألم جميل،على قلق بدين ودسم، على قلق هو مزيج من الأشياء،هرس هائج للقوى وليس نقطة معلقة – لكن على الرغم من ذلك مع حركة اندفاع حادة متقلبة، مستأصلة،هذه الحركة آتية من المجابهة بين قواي وهذه الهوة، هوة المطلق المقدم،
(من مجابهة القوى ذات الحجم الجبار)
ولم يعد ثمة سوى الهوات الضخمة، الحكم،البرد، اذن أولئك الذين نسبوا لي مزيدا من الحياة،الذين افتكروني في مرتبة أقل من انهيار الذات،الذين افتكروني غاطسا في ضجة معذبة، في سواد عنيف أصارعه،- أولئك ضاعوا في غياب الانسان.
……………..
نوع من النقصان الثابت في المستوى الطبيعي للواقع.
………………
هل تعرفون ما هي الحساسية المعلقة،هذا النوع من الحيوية المذعرة والمنقسمة الى اثنين، نقطة الالتحام الضروري هذه التي لم يعد الانسان يرتقي اليها، هذا المكان المتوعد،هذا المكان الصاعق.
………………….
تكمن الصعوبة في أن نحسن ايجاد مطرحنا وأن نسترجع الاتصال مع ذاتنا. الكل مغمور في نوع من التندف للأشياء، في تجمع كل هذه الجواهر الذهنية حول نقطة
نحن فى صدد البحث عنها. وهذا ما
أفكر به بالنسبه الى الفكر:
أكيدا الوحي موجود.
وثمة نقطة فوسفورية حيث يلتقي الواقع كله, لكن متبدل, متغير- وما الذي غيره ؟ – نقطة استعمال سعري للأشياء. وأنا أؤمن بالنيازك الذهنية، بالنظريات الفردية في نشأة الكون.
…………………..
تنقصني مطابقة ما فيما بين الكلمات ودقيقة حالاتي."لكن هذا طبيعي، فالجميع تنقصهم بعض الكلمات، لكنك صعب جدا مع ذاتك، لكن هذا لا يظهر عليك عندما تقوله، لكنك تكتب جيدا الفرنسية، لكنك تعير
أهمية كبيرة لما ليس اكثر من مفردات ". انكم مغفلون من أذكاكم حتى أحمقكم،من المتبصر فيكم حتى المتيبس، انكم مغفلون،أعني أنكم كلاب،أعني أنكم تعوون خارجا، تصرون بحدة وعناد على الا تفهموا. ان أعرف نفسي، وهذا يكفينى، هذا يجب أن يكفي،أعرف نفسي لأن أحضر نفسي،أحضر انطونين أرتو.
– تعرف نفسك، لكننا نراك، نرى جيدا ماذا تفعل.
– صحيح،لكنكم لا ترون فكري.
عند كل مرحلة من مراحل آلية تفكيري،ثمة ثقوب، أحكام،لا أعني بذلك،أفهموني جيدا،في الزمان، بل أعني في نوع من أنوع المكان (ان أفهمني). لا أعني فكرا بالطول، فكرا بمدة الأفكار،أعني "فكرة " فكرة واحدة،وفكرة في الداخل. لكني لا أعني فكرة لباسكال، فكرة فلسفية،أعني التثبيت المتلوي، التصلب والنشاف لاحدي الحالات.
أحسب نفسي في دفتي، اضع اصبعي على النقطة الدقيقة للصدع، للانزلاق غير المعترف به. فالروح أكثر هامية من ذاتنا، أيها السادة،انه يتوارى كالافاعي،انه يتوارى حتى يعتري على ألسننا0أعني حتى يتركها معلقة.أني أفضل من أحس بالاضطراب المخدر والمذهل للساني في علاقاته مع الفكر.أني أفضل من كشف دقيقة انزلاقاته الأكثر حميمية، الأقل تشكيكا فيها.اني حقيقة أضيع في فكري كمن يحلم،كمن يعود فجأة الى فكره.اني هذا الذي يعرف خبايا الخسارة.
……………………
كل الكتابة قذارة.
الناس الذين يخرجون من الفراغ والابهام ليحاولوا تحديد أي شيء مما يدور في فكرهم،هم خنازير.
كل النسل الأدبي خنزير،وخصوصا نسل أيامنا هذه، كل الذين عندهم معلم في الفكر،أعني في ناحية ما من الرأس،في مواقع محددة جيدا في دماغهم، كل الذين هم أسياد لغتهم ,كل الذين يؤمنون بان للكلمات معنى،وبان ثمة ارتفاعات في الروح , وتيارات في الفكر, أولئك الذين هم روح العمر،والذين سموا هذه
التيارات الفكرية،،اني افكر بشغلهم الدقيق 0والى هذا الصرير، صرير الانسان الآلي، الذي ينثره روحهم في كل الاتجاهات انهم خنازير. (…).
مقطعان الحقبة السوريالية
نعم، ها هو الاستعمال الوحيد الذي تستطيع أن تصلح له من الأن فصاعدا اللغة، وسيلة للجنون، لالغاء الفكر، للانفصال، متاهة الهذيان، وليس قاموسا حيث مدعون سخفاء من أرباض نهر السين يجمعون
تقلصاتهم الروحية.
………..
لسنا بحاجة الى أنصار نشيطين بل الى أنصار قلقين ومضطربين.
مقطعان من "سرة أرواح الذين ماتوا قبل خلاصهم على يد المسيح "
شاعر أسود
شاعر أسود، نهد فتاة بكر
وسواس يلاحقك
شاعر ساخط ,الحياة تغلي
والمدينة تحترق,
والسماء تتقلص لتصير مطرا,
ريشتك تنقر على قلب الحياة.
– غابة، غابة، عيون تزدحم
على شجر الصنوبر المتكاثر.
شعر العاصفه، الشعراء
يمتطون أحصنة، كلابا.
– العيون تحنق، الألسن تدور
السماء، تتدفق الى المناخير
كحليب مغذ وأزرق.
اني معلق الى أفواهكن
ايتها النساء، قلوب من خل، قلوب قاسية.
حيث غيري يقترح أعمالا أنا لا أطمح الى شيء
أخر سوى أن أظهر روحي.
الحياة هي أن نحرق أسئلة.
إني لا أتصور الأعمال منفصلة عن الحياة.
لا أحب الابدع المنفصل. كما إني لا أتصور الروح منفصلة عن ذاتها. كل واحد من أعمالي، كل واحدة من خططي، خطط ذاتي، كل ازهرار مجلدي لروحي الداخلية نزيل علي.
اني أجد نفسي في رسالة مكتوبة حيث اشرح التقلص الحميم لكياني والبر الجنون لحياتي، بمقدار ما أنا موجود في دراسة خارج ذاتي، دراسة تبدو لي كخبل لا تبالي به روحي.
اني أتعذب لأن الروح ليست في الحياة والحياة ليست في الروح،أتعذب في الروح – العضو، من الروح – الترجمة، أو من الروح – تخويف – الأشياء لجعلها تدخل الى الروح.
هذا الكتاب أضعه في حال تدلية في – الحياة، أريد أن تعضه الأشياء الخارجية » وأن تعضه أولا "أكل الرجفات الخاطفة والفجائية التي هي كالمقص (…) كل هذه الصفحات متناثرة كمكعبات من الثلج في الروح. فليعذروا حريتي المطلقة. ان أرفض أن يكون ثمة فرق بين أي واحدة من دقائق ذاتي. لا أعترف بأي خطة داخل الروح. يجب أن ننتهي من الروح كما من الأدب. أقول أن الروح والحياة يتواصلان على كل المستويات. أود أن أكتب كتابا مزعجا، كتاب يكون بمثابة باب مفتوح يأخذ الانسان الى حيث كما كان أبدا قد قبل أن يذهب , باب موصول بالواقع.
ترجمة وتقديم: صباح الخراط زوين(شاعرة ومترجمة من لبنان)