أحمد المؤذّن
كاتب بحريني
القاصّة البحرينية شيماء عيسى الوطني في مجموعتها القصصية (أهرب من ظله) والصادرة عن دار الفراشة للنشر والتوزيع في طبعتها الأولى 2020، حقيقة لا تدخر جهدًا في جمع شتات شخصياتها من واقع الحياة وصدق معاناتها ومحنتها، لكنه ليس ذلك الجمع الاعتباطي المألوف مما تعودنا عليه سهلا ومكررًا، مما يمارسه أيما قاص مبتدئ لم يخبر اللعبة ويكتب كيفما اتفق بدون دراسة، إنما نحن بصدد توجه منهجي واعٍ في الأسس النفسية التي ترتكز عليها جُل الشخصيات التي تصدرت مختلف اللوحات السردية التي أبدعتها «الوطني» القاسم المشترك بينها ثيمة الهرب الذي يحاصرها في واقعها الحياتي، وهذه هي الفلسفة الواقعية التي تتوارى في مرآة العنوان تلتقط فحواها الكاتبة بإحساس حاذق لا يحيد عن بوصلة الهدف العام للمجموعة القصصية والذي يتكشف رويدًا رويدًا مع تقدمنا في القراءة.
(عائلة على الجدار)
هذه القصة في تكوينها الداخلي ثمة مضمون نفسي تعمل «الوطني» على انتشاله من عمق التكوين الإنساني المضطرب لما تتزعزع كينونة النفس البشرية في صلبها وتفقد هويتها المجتمعية، فبطل القصة يعيش كما لو كان شبحًا لا وجود له، فهو مجرد لقيط تمت تربيته وتأطر وجوده الحياتي في خانة «اليتيم» واستمر يبحث عن ذاته كمن يقاتل كيما يقف على أرض صلبة، لا يستطيع العيش بلا أصل والأسئلة تحاصره من كل الجهات!
إن تجريد شخصيتنا «البطلة» من الاسم، لم يأت من فراغ، إنما «تكنيك» منهجي مدروس تدركه «الوطني» وقد حددت مفاعيله وفق لعبتها السردية وأرادت تنمية وجعه المتواصل كإشكالية عويصة تطحن ذات البطل وتمضي به إلى طريقٍ مسدود، ولأن البحث عن الهوية قطعة من عذاب الجحيم وضرب لنواميس الحياة الطبيعية، فالطفل من حقه أن يحصل على جنسية ومنزل يؤويه وعائلة تعتني به كما تقتضي شرعة حقوق الإنسان الأممية.
إن خلفية الصراع النفسي القائم على توازن مفقود، أوجد فراغًا كبيرًا كان لابد له من أن يمتلئ بشيء «لكون الحياة لا تقبل الفراغ» هذا ما تدركه قاصتنا «الوطني» وهي هنا تركت بطلها الوحيد يدير دفة حياته كما لو أنها «كسارد عليم» متبرئ من أبويته في الخلق الكتابي.
فكان لهُ أن وجد صورًا تُباع في سوق الأشياء المستعملة، وجدها فرصة سانحة حتى يعالج حالة النقص المزمن التي تفتك براحته، فعمد إلى تثبيتها على الجدار لتصبح بمثابة عائلته التي لا يعرفها منذ ولادته من الأساس، وكان له ما أراد، حيث تمحور خلف الفكرة أو الكذبة وآمن بها ليسد فراغ الروح المعذبة ولكن… «الوطني» آثرت تعرية بطلها من غلاف الكذبة «صور العائلة» في ختام قفلة القصة، وهنا تجلت حرفية كاتبتنا في اختيار التوقيت الصاعق الذي فجر دهشة الحدث الرئيس وهو البحث عن هوية وإن كانت مزورة بغرض ترميم الذات الضائعة، فتبحث «الوطني» عن تلك الروح الحميمة القادرة على تعرية الصراع.. (المبدع في ميدان الأدب لا يأخذ من مخزون خبرته عنصرًا عامًا معروفًا، بل ينتقي عناصر خاصة وحميمة، وهي عناصر عديدة، وبذلك يكون لزامًا عليه أن يختار منها ما يريد بعناية فائقة ثم يقوم بتركيبها في سياق لغوي شديد الارتباط بتموّجات النفس1).
فهذه القصة لم تكن نهايتها قاسية في تصوري وحسب ولكنها طبيعية بالنسبة لكثير من الكذبات التي يتمرن عليها روتيننا الحياتي، فيأتي وقت من الأوقات ويباغتها نور الشمس فيتلاشى ضبابها المخادع!
(المزيد من الوحوش)
في هذه القصة التي تمتد أربع صفحات ونصف الصفحة تلعب القاصة «الوطني» من جديد على وتر البُعد النفسي ببراعة وتلجأ لسحر ومراوغة المرآة وهي بالمناسبة تلك الأداة المدهشة التي تحفظنا في ذاكرتها، تتقلب بها التحولات وتعرف ضعفنا وهشاشتنا وكذلك فرحنا وحزننا حيث تعبر الزمن من خلال حشد الوجوه التي مرت من بين ماء فضتها وتحدثت مع صراحتها أو شفافيتها.. ولأن «الوطني» تدرك ذلك بفطرتها فقد اجتهدت على فتح الاحتمالات على مصراعيها وتستنطق المرآة وظيفيًا، وتضفير حالة الحكاية في بُعدها التراثي العالمي.
أزمة نفسية تلاحق فتاة تكره وجهها القبيح ويزداد هذا الشعور فداحة مع حدث المسرحية المدرسية وكيف كان للمعلمة أبلغ الأثر في ترسيخ هذا القبح وحصار السخرية والضحك من قبل طالبات المدرسة، جلها ظروف قاهرة أنتجت وضعا نفسيا بالغ التعقيد، تفننت في رصده الكاتبة بدقة .
رصد موضوعي يستهدف الذات ومدى انعكاس حالتها المعنوية أمام سطوة المرآة التي كلنا وبلا استثناء نخضع لصراحتها ولا تمارس معنا تلك الديبلوماسية المجاملة على ألسن الأهل والأصدقاء، فهي تتبجح بصراحة وتبرز وجوهنا التي يتقدم بها السن أو تحفر فيها خطوط تعب العمر وطحن الحياة وحتى سخريتها منا! سخرية لاذعة تدوس كياننا بلا رحمة، تشكلنا وتُقَولبنا في امتحانات متواصلة من المعاناة. إن إدراك القاص لمثل هذه الأبعاد أثناء الكتابة السردية بالذات يضفي قيمة معرفية وازنة فيما يكتب، فالكتابة لا تأتي هكذا من فراغ من دون مرجعية ثقافية تتعمق في الرؤية التحليلية وتشملهُ في خلفية النص المنتج على شكل قصة قصيرة أو رواية، وهذا يعد أحد مداميك الكتابة ذات الجودة التي يمكن أن نعول على حضورها في ساحتنا المحلية. إن حركة الأدب تتمازج مع الحياة وهذا ما يدركه الكاتب الفطن المهجوس بمجتمعه .. (يُعد الأدب خير تعبيرٍ عن الحياة وأنساقها، ولا سيمّا حين يكون الأدب نتاج مواجهة حتمية مع الواقع المعيش، الواقع الذي يترك ليس ظلاله، بل آثاره محفورة في الزمان والمكان معًا، وهذا إذا كان ذلك الواقع المعيش في ظرف اعتياديّ على وفق صراع الأنساق في حياة الإنسان مشدودًا إلى عوامله الحضاريّة في السياسة والاقتصاد والاجتماع2).
ثمة نزعة لذيذة وعميقة تهيمن على المتلقي حينما يندمج في لذة النص، هنا لا أميل إلى التوغل في الإشكالية «البارتية» حول موت المؤلف وطبيعة علاقة القارئ مع نص المؤلف وكيف يتعاطى معها، فهذه المرحلة النظرية تم إشباعها تنظيرًا على نطاق الساحة الثقافية العربية طوال القرن العشرين وحتى الآن ولم نخرج بعد من حصارها المعرفي ضمن ثقافة الاخَر وعليه..
لذة النص لدى «الوطني» تحكم إطارها الموضوعي بدراية وفن تعمل على بلورة الإطار العام للقصة في بداية استهلالها ثم تنساب كالماء الرقراق في الجدول، تقدم نفسها بهدوء.
وهذه الحالة تتفاوت في حضورها من قصة إلى أخرى في المجموعة، الكاتبة وسط هذه الإيقاعات التي تموسقها على امتداد نصوصها القصصية قد أعطت لكل قصة كما أرى، أعطت ذلك التفاوت اللحني الجاذب من حيث تكثيف الحالة السردية والحفر في تفاصيلها العامة، وتعرية جانب البوح الداخلي للشخصية الإنسانية أو «البطل الشرعي» الذي نجده يتحرك ضمن الأحداث.. ( فالبطل الشرعي يقدم ويمثل مبادئ معينة للشرف والشجاعة والتحمل، وهذه المبادئ هي التي تخلق من الإنسان رجلًا في عالم يطغى عليه الحقد والألم وهي التي تساعده على أن يسلك سلوكًا مرضيًا في معركة خاسرة هي الحياة، والحياة كما يراها همنغواي معركة خاسرة لا محالة3)
وهنا نستعيد من جديد أنموذج تلك الشخصية الإنسانية الخاسرة كما جاءت في قصة (عائلة على الجدار) تفاعلات خسائرها اليومية في تصاعد متعاكس مع إشكالية البيئة الحاضنة التي أوجدت لنا ظل إنسان، منقوصة مكانته أو هو بلا هوية كما سبق وأشرنا..
(لا أنام)
من الصفحة 18 نمضي في رحلة مخيفة مع هذه القصة، فمن منا لا يحسب حسابًا للكوابيس التي تداهم نومه فجأة على غير موعد، «الوطني» تقتنص جزئية نفسية بالغة الخطورة من خبايا النفس البشرية التي لم يجد لها الطب الحديث علاجًا، هنا لا نزال مع إشكالات النفس البشرية وهذا هو الرهان الأساس لكاتبتنا في مجموعتها القصصية كما جاء في استهلال كتابها. تتوغل خطوات متمهلة وهي تسبر غور النفس تارة بما يمس هويتها وتارة أخرى بما ينغص حياتها أو يزرع فيها الرعب. وهل هناك ما هو أكثر رعبًا من تحول كابوس مزعج إلى واقع مفجع يقلب حياة المرء إلى جحيم؟!
إيقاع القصة التي نحن بصددها محصور في اللون «الفانتازي» حيث تخترق القصة من هذا النوع حاجز الواقعية المألوف لتعبر إلى مساحات اللامعقول وتصطدم متلقيها بما تطرح وفق رؤيتها الخيالية العجائبية، في هذا النوع من الكتابة غالبًا ما يكتب المؤلف من مخزونه الخاص المتراكم من قراءات سابقة ممتزجة مع خليط من أفلام سينمائية شاهدها، كل هذا الخليط يتفاعل في طنجرة الكتابة لينتج لنا إبداعًا جميلًا لكن بشرط أن لا يتحول لاحقًا في نهاية يومنا إلى كابوس يكسر إطار يومنا اللطيف ويرعبنا بفيلم سيئ الأحداث نكون مجبرين على مشاهدته حتى النهاية!
بعيدًا عن خبرة السرد أو حتى مجرد التفوه بالكلام التنظيري الأدبي في سياق الحديث عن الأحلام ومدى تأثيرها على حياة الفرد، الكوابيس تجربة غير سارة تذيق المرء طعم الألم وحيدًا، ومكابدة العناء في المحنة «كابوسك أنت ولن تفلت منه»! الكاتبة تمكنت من أدواتها بشكل يجبرنا على مسح عرق جباهنا ونحن نلهث خلف الأحداث.. إن خبرة التعامل مع الكابوس الذي يتحول إلى حقيقة، تعتبر خبرة ثرية في حياة الفرد على الصعيد الاجتماعي وهذا ما لمسته شخصيًا وعليه أدرك هنا أهمية قصة «لا أنام» وأرشحها كأروع قصة في الكتاب تحتاج دراسة وافية لوحدها كيما تأخذ حقها من الدرس النقدي، لكن بالإمكان القول بهذا الخصوص إن آلية الحلم/ الكابوس تعبر عن طاقة سلبية محبوسة بدواخلنا كبشر، تنجح في كسر حاجز الحماية الذاتية أو هي ربما تدفق من الأفكار المنفلتة العقال تتسلل إلينا خلسة (هناك جانب آخر لانتقال الأفكار من خلال الأحلام وهو عندما نلتقط أفكارًا غريبة سلبية أو أفكارًا أسوأ من ذلك موجهة بصفة خاصة ضدنا أو ضد رغبتنا. وهذا يسبب حلمًا مزعجًا أو كابوسًا، يسمى الهجمات الروحية أو الشيطانية 4)
كاتبتنا طوعت خبرة الحلم + مخزون القراءة والتحصيل المعرفي ومزجت كل ذلك ضمن خبرتها الحياتية الثرية وقدمت هذه القصة كما أشرت أعلاه.. الأكثر تشويقًا «بطل» القصة بات يخشى النوم بحد ذاته لكيلا يفقد عزيزًا، علهُ أصبح يدرك مقدار الطاقة السلبية المدمرة التي تنبعث منه، كونه بات قادرًا على «استشراف المستقبل» أو لنقل كشف كنه الغيب، وهي واحدة من كرامات الأولياء الصالحين والنبيين. بلوغ هذه المرحلة من الكشف وإبصار «الماورائيات» الروحية المتجسدة على هيئة كوابيس قد تكون أيضًا مدخلًا يتصادم فيه الواقع مع الحلم وما يصاحبه من اختلال العلاقة الطردية بين الاثنين، كفرضية مربكة تطرحها «الوطني» لها أبعادها العلمية والمعرفية كما أرى، وهو ما يتجاوز خبرتي في التحليل أو حتى مجرد استيعاب قصص عميقة الغور كهذه، تختبر فيها الكاتبة متلقيها قبل أي شيء.
(اللوحة الناقصة)
هذه القصة التي نبلغ ضفتها من الصفحة 23، تتجسد فيها قسوة ما تعانيه النفس البشرية الأنثوية بالتحديد وهي تحاول الهرب من كونها أرضًا جافة لا تنجب الأطفال، ثمة فراغ تعيشه الشخصية عملت على ملئه بتبضع الأشياء التي لا تحتاجها لكنها شرعت بالمزيد من الهروب النفسي ولم تواجه حقيقة الواقع المر والشعور بذلك الخواء حينما نفقد من عمق دواخلنا ذلك الاخضرار الذي يؤكد تبرعم الحياة بحد ذاتها. ما يلفت النظر في هذه القصة أنها تعيد تذكيرنا بقصة «عائلة على الجدار» مناخها هو الداخل النفسي المحتقن.
مؤكد أن «أهرب من ظله» كمجموعة قصصية قادرة على إرسال إشعاع فتنتها السردية لكل عشاق السرد في وطننا العربي ومن يدري فربما تجد طريقها في لغة أخَرى لما تتم ترجمتها ذات يوم، وهذا لن يكون مثار استغراب، فهي وجبات سردية تم خبزها في فرن الكتابة بخبرة وفن حفيدات «شهرزاد» اللائي سحرن الرجل بحكاياتهن، وها هُن يواصلن اللعب ويُقَولِبن هذا العالم من حولنا بكل جميل!
لذا فهي جديرة بالقراءة وبالدرس النقدي كما أرى ويمكن اعتبارها أنموذجًا قادرًا على تمثيل الساحة السردية في مملكة البحرين بمشهده الراهن وما وصل إليه من تطور وحضور .
الهوامش
ص 7 القصة القصيرة / النظرية والتقنية – إنريكي أندرسون إمبرت / ترجمة : علي إبراهيم علي منوفي- المشروع القومي للترجمة، الطبعة الأولى 1991- جمهورية مصر العربية.
ص 18 الواقعي والمتخيّل في القصة النسويّة الشابّة – د. عبد الله حبيب التميميّ / مجلة الأديب العراقي – العدد 37 – خريف 2023 الاتحاد العام للأدباء والكتاب في العراق.
ص 57 – الواقعية الفوتغرافية في أدب أرنست همنغواي / باسل الزير- مجلة البيان، العدد 452 الكويت.
ص 96 – الأحلام تفسيرها ودلالاتها، كيف تفهم أسرار لغة النوم الغامضة؟/ نيريس دي – ترجمة: د. محمد منير مرسي/ عالم الكتب، القاهرة.