رن جرس الاستراحة… صفوف الدراسة لفظت ما في جوفها من أرواح صغيرة تراكضت بفرح وشغب لتتكدس أمام فم المقصف، خرجت أنت من صفك وتبعك الانكسار والحزن.. لأنك نسيت مصروفك اليومي في البيت.. رجوت ألا تأتي أمك كعادتها قاطعة كل تلك الأميال لتوصل إليك مصروفك المنسي، مائة بيسة.. خمسون للعصير والأخرى لفطيرة الجبن، مرات عديدة كنت تراها عند باب غرفة الدراسة والعرق يتصبب منها.. يدق قلبك الصغير رأفة بها.. توبخ نفسك على ذلك النسيان.. تستأذن المعلم كي تعطيك مصروفك.. فتشاهد الارتياح يكشف عنها تعب المسافة، وحينما تذهب يطاردها حنينك، تتشوق أن تركض وراءها وتحضنها لولا وجود المعلم، ورغم ذلك تنتابك الفرحة عندما تضع المائة بيسة في جيب دشداشتك.. وتفكر في الدخول إلى معركة المقصف.. مرارا هرست نفسك بين الأجساد.. مرارا رجعت البيت دون طاقية، لتهدي أمك زهور الحزن.الآن تمشي دون نقود. تتطلع لجميع الطلبة وهم يتراكضون بدشاديشهم البيضاء وطاقياتهم الملونة، تلمح جماعة الأشبال.. تعرف انهم يقومون بتنظيم الطلبة في الطابور وفي الاستراحة، كان لكل فصل اثنان منهم، ولم تفكر يوما أن تنضم إليهم، لماذا لم تفكر؟ رأيت شبلا يركض في الممر.. قدماه مسرعتان تسابقان بعضهما.. لكن ضحكاته تسبقهما، وعندما اقترب منك، ودون سبب يذكر، مددت أحدى قدميك بسرعة واسقطته بقوة حتى اصطدم بكامل جسمه على الأرضية الاسمنتية. أخذت تركض بشدة تاركا صوت السقوط يتردد في أذنيك.. ركضت وركضت، دخلت الفصل يسقك لهاثك.. أغمضت عينيك حتى أخذت أنفاسك تهدأ تدريجيا، جلست على كرسي طاولتك الذي يشاركك فيه اثنان، رن الجرس من جديد، هذه المرة تحول الرنين إلى عصا سحرية أسكتت المدرسة، ساد الهدوء.
دخل المعلم ممسكا عصاه البغيضة. بمجرد رؤيتك لتلك العصا تتحول المدرسة في عينيك إلى كابوس، مشهد سقوط الشبل يتردد في ذهنك.. وصوت السقوط يخترق أذنيك، والخوف من فكرة العقاب يداهمك، هل رآك أحد؟ ماذا حدث لذلك الشبل؟ ما الذي جعلك تسقطه؟ حتما انك لا تعرفه ولم يبق لك أن رأيته.. ما هذه الفعلة الحمقاء، ماذا لو أصابه شي ء؟ كان معلم الحساب قد بدأ كعادته في طرح الأسئلة بعد أن رقصت الأرقام على السبررة السوداء، ثم دخل الفراش حمدون ومعه ورقة صغيرة.. قرأها المعلم ونطق اسمك: (أحمد..أنت مطلوب عند المدير..يا الله يا خويه خد شنطتك.. وروح ) إذن فهي الكارثة.. لقد كشف أمرك.. في تلك اللحظة تمنيت أن تلقي بنفسك في حضن أمك.. انه يوم العقاب.. ماذا سوف يحدث لك؟ حملت حقيبتك.. وبينما كنت تهم بالمغادرة سمعت صوت زميلك يستأذن المعلم بالذهاب إلى الحمام.. لكن المعلم كعادته يخرسه ويأمره أن يجلس في مكانه. مشيت باتجاه مكتب المدير. تنتابك وساوس عديدة، وفي نفس الوقت تفكر في زميلك الذي لم يسمح له المعلم بالذهاب إلى الحمام.. ولكنك تجزم بأنه سوف يفعلها في حقيبته أو الكيس الذي كان به السندويتش أو زجاجة الماء.. سوف يفعلها خلف ظهر المعلم.. فقط ينتهز الفرصة ويفعلها، تفكر لماذا لا يسمح لكم المعلم بالذهاب إلى الحمام؟ وصلت مكتب المدير. فجأة.. رأيت أباك جالسا هناك.. تتساءل.. أبهذه السرعة انتشر الخبر؟ هل مات ذلك الشبل؟ هل سوف تسجن وأنت ولد صغير؟ أتريد أمك فعلا في هذه اللحظة؟ هل ستفتقدك؟ بهدوء دخلت غرفة المدير وقلبك يقفز أمامك متحولا إلى كرة من نار، ابتسم المدير.. هل يهزأ منك؟ اهتزت صلعة المدير الذهبية وأمرك بالجلوس، ثم وجه كلامه لأبيك: (يا أخ راشد.. ابنك ده مؤدب وشاطر.. ليه عاوز تنقله لمدرسة ثانية ). تساقط الذهول على رأسك كالمطر.. رد عليه أبوك بعد أن لمح توترك: (والله لولا انتقالنا إلى بيت ثان ما كنت نقلته، لكن زين عشان تكون مدرسته قريبة من البيت الجديد)؟ بحثت حينها عن ذبابة كانت تقف على صلعة المدير.. لم تجدها.. فكرت ربما أنها هربت من النافذة.
يحيى بن سلام المنذري (قاص من سلطنة عمان )