روبرت أ. هاينلين-كاتب وروائي أمريكي
ترجمة: خليفة هزّاع -كاتب ومترجم قطري
وُلِد الكاتب الأمريكي روبرت هاينلين عام 1907 في مدينة بتلر بولاية ميزوري، ويعدّ أحد أكثر كتّاب الخيال العلمي تأثيرًا وإثارة للجدل، ومع ذلك فهو يُعتبر عميدًا لأدب الخيال العلميّ. وامتدّت خبرته أربعة عقود من الزمان، سطر خلالها عددًا كبيرًا من الروايات والأقاصيص التي باتت أركانًا يقوم عليها بنيان هذا الصنف من الأدب. وأكثر ما يثير العجب في أدبه هو قدرته على مزج العلوم الطبيعية الصرفة مع السرد الذي يمتاز بخصوبة الخيال، وإنّه لأمر خلّف عظيم الأثر على الأدب من جهة والثقافة العامّة من جهة أخرى.
يمتاز أدب هاينلين باستكشاف القضايا الأخلاقية والسياسية والاجتماعية المعقّدة، وكثيرًا ما كان يتحدّى القواعد العصريّة المعمول بها ويثير الأفكار والجدل. فعلى سبيل المثال، فإن روايته «غريب في بلاد غريبة» التي أصدرها عام 1961 باتت ظاهرة ثقافية حتّى إنّها أضافت كلمة Grok إلى اللغة الإنكليزيّة، وتعني أن يتعاطف المرء مع غيره إلى حد أنّه يندمج ويتمازج معه. وكذلك في رواية أخرى له بعنوان «جنود السفينة الفضائية» سرد معاني التجنيد والمواطَنة، مما يسلّط الضوء على قدرة هاينلين على التعامل مع المواضيع المثيرة للجدل.
وبصفته خرّيجًا في الأكاديمية البحرية، فقد تمكّن من استغلال خلفيته العسكريّة في تشكيل كتاباته، إلاّ إن خدمته العسكرية وصلت إلى نهايتها بسبب المرض، وقد أسهم هذا الانقلاب من تقلبات القدر في تحوّله إلى كاتب متفرغ في مسيرة مميّزة بدأها بإصدار قصته القصيرة «خط الحياة» عام 1939.
حاز هاينلين على ما لا يُعد ولا يُحصى من الجوائز في مسيرته الأدبية، من ضمنها حصوله أربع مرّات على جائزة هوغو لأحسن رواية. وبالرغم من إثارته للجدل في كتاباته إلاّ أنّه يظل رائدًا في أدب الخيال العلمي بسبب إسهاماته في توسيع حدود هذا الأدب.
توفّي روبرت هاينلين عام 1988، إلاّ إن إرثه وكتاباته لا تزال تُلهم الأجيال الجديدة من الكتاب والقرّاء إلى يومنا هذا. وقصته التي بين أيادينا تتحدث عن السفر عبر الزمن والمفارقات المنطقية الناجمة عنه، كتبها الكاتب عام 1958 وتحوّلت إلى عمل سينمائي بعنوان «الوجهة ما قبل الوجهة» عام 2014.
المترجم
الزمان: الساعة 22:17– المنطقة الزمنية الخامسة (التوقيت الشرقي)– السابع من نوفمبر عام 1970.
المكان: مدينة نيويورك– محل الأب
كنت أمسح كأسًا من كؤوس البراندي عندما دخل عليّ المدعو «الأمّ غير المتزوجة». لاحظت الوقت وكان 10:17 مساءً بتوقيت المنطقة الخامسة، أو ما يسمى بالتوقيت الشرقي، لليوم السابع من نوفمبر عام 1970. إن ضباط الوقت دائمًا ما يلاحظون الوقت والتاريخ، فهو أمر ينبغي علينا فعله.
لقد كان المدعو «الأم غير المتزوجة» رجلًا يبلغ من العمر خمسة وعشرين عامًا، لا يزيد عني في الطول، له ملامح طفولية ومزاج نَزِق. لم يَرُق لي شكله -ولم يَرُق لي قَطّ- ولكنّه كان فتًى ينبغي عليّ تجنيده.. إنّه فتاي. فواجهته بأفضل بسمة لديّ من بسمات سقاة الخمر.
قد أكون كثير الانتقاد. ولكنّه لم يكُن متخنّثًا، ذلك أن لقبه أتى نتيجة لمقولته التي لا ينفك يقولها إذا ما سأله متطفّلٌ عن عمله: «إنّني أم غير متزوجة». وإذا سُئِل وهو ليس في مزاج من يروم القتل فإنه يضيف إلى مقولته: «ولقاء أربع سنتات للكلمة، أكتب قصص اعترافات».
أما إذا كان في مزاج نَكِد، فإنّه كان يتربص بمن أمامه لكي يمطره بالجدال. لقد كان له أسلوب فتّاك في النزاع، يشبه أسلوب الشرطيّات .. وهو السبب الذي أرَدْتُه من أجله. وما هو بالسبب الوحيد.
كان سكرانَ، وبدا من وجهه أنّه يحتقر البشر أكثر من المعتاد، فصببت له جرعة مضاعفة من شراب الأولد أندروير وتركت الزجاجة قريبة منه. فشرب جرعته وصب مثلها في كأسه.
مسحت سطح منضدة الحانة وسألت:
– ما بال جعجعتكَ عن «الأم غير المتزوجة»؟
اشتدّت أصابعه على الكأس وبدا موشكًا على رميي به، فتحسست أسفل منضدة الحانة باحثًا عن الهراوة. عندما ينتمي المرء إلى إدارة التحكّم بالزمن فإنّه يحاول إيجاد حلول لكلّ موقف، ولكن ثمّة عوامل كثيرة تحتّم على المرء ألاّ يُقْدم على مجازفات لا داعي لها.
رأيته يسترخي بذلك القدر القليل الذي يعلّمنا مركز الإدارة التدريبي مراقبته فقلت له:
– إنّني آسف. كنت أقصد السؤال عن أحوال العمل وحسب، ولكن غيّر سؤالي إلى أحوال الطقس.
بدا عليه التجهّم.
– العمل على ما يرام. إنّني أكتب النصوص وهم ينشرونها ومن ثمّ آكل عيشي.
فصببت لنفسي كأسًا ومِلْتُ إليه قائلًا :
– الحقّ أنّكَ تكتب نصوصًا جيّدة. لقد قرأت عينة منها. ولكَ لمسة متمكّنة تمكّنًا مذهلًا فيما يخص المنظور النسائي.
كانت زلة لسان توجّب عليّ المجازفة بها، فهو لم يعترف قطّ بأسمائه المستعارة التي يكتب بها. غير أنّه كان على درجة من الانفعال سمحَت له بالتقاط آخر كلمتين فقط، فكرّرهما ناخرًا من أنفه:
– «المنظور النسائي»! نعم، أعرف المنظور النسائي. بل يتوجّب عليّ معرفته.
قلت في ارتياب:
– إذن؟ لديك أخوات؟
– لا. لن تصدقني لو أخبرتك.
أجبته في تلطّف:
– مهلًا، مهلًا، إن السُّقاة والأطباء النفسيين يكتشفون في عملهم أن لا شيء أغرب من الحقيقة. عجبًا، لو أنّك سمعتَ، يا ولدي، القصصَ التي سمعتُها.. لكنتَ أثريت منها. إنّه أمر لا يُصدَّق.
– أنت لا تعلم معنى العبارة «أمر لا يُصدَّق»!
– وماذا إذن؟ ليس هناك ما يمكن أن يدهشني. أيما شيء قد تقوله، سمعت ما هو أسوأ منه.
نخر ثانيةً من أنفه فأردفت:
– أترغب بالمراهنة بما بقي من زجاجة الشراب؟
– بل أراهن بزجاجة كاملة.
فوضعت زجاجة على منضدة الحانة.
– حسنٌ.
قلتها وأشرت إلى زميلي الساقي الآخر أن يتولّى أمر العمل. كنا في آخر الخمّارة، في مساحة تكفي لكرسي واحد من كراسي الحانات، حرصت على جعلها مكانًا منعزلًا بأن رصصت منضدة الحانة فيها بمرطبانات البيض المخلل وغيرها من الخردوات. وكان ثمّة بضع زبائن في الطرف الآخر من الخمارة يشاهدون مباريات الملاكمة وشخص ما يشغّل الصندوق الموسيقي .. حقًّا كان مكاننا منعزلًا كما السرير.
قال مستهلاًّ قصته:
– حسنٌ. بادئ ذي بدء، أنا نغل.
قلت:
– هذا أمر لا يحدث فارقًا في هذه الأنحاء.
اشتعل فتيله وهو يقول:
– إنّني أعني ذلك، فلم يكن أبواي متزوّجَين.
قلت في إصرار:
– ما زال الأمر لا يحدث فارقًا. لم يكن أبواي متزوّجَين بدوري.
– عندما…
قالها ثمّ أمسك، ونظر إليّ أول نظرة دافئة أراها من طرفه، وأردف:
– هل تعني ما تقول؟
– نعم، أعنيه. إنّني نغل مائة بالمائة.
وأضفت:
– في الحقيقة، لا أحد في أسرتي يتزوّج. كلّنا نغول.
ثمّ أريته ما في إصبعي:
– آه، هذا. يبدو كالدبلة. أنا أتختّم بها لكي أدفع النساء عنّي.
كانت تحفة ابتعتُها عام 1985 من زميل في الإدارة، وكان قد أحضرها من جزيرة إقريطش اليونانية قبل ميلاد المسيح.
– دودة الأوروبوروس … ثعبان العالم الذي يأكل ذيل نفسه، إلى الأبد ومن دون نهاية. إنّه رمز المفارقة اللفظية العظمى.
فاسترق إليه نظرة لا تكاد تُسمّى نظرة.
– إن كنتَ حقًّا نغلًا ، فلا بد أنّك تعرف ذلك الإحساس. عندما كنتُ صبيّة …
قلت:
– وَيْ! هل سمعتُكَ بشكل صحيح؟
– من الذي يحكي القصة؟ عندما كنت صبيّة… انظر، هل سمعت بكرستين جورغنسُن؟ أو روبيرتا كُوِيل؟
– آه، حالة تغيير جنس؟ تحاول أن تقول …
– لا تقاطعني وإلا فليشهد عليّ الله أنّني لن أتكلّم. كنت وليدة لقيطة، تُرِكت عند أعتاب ملجأ أيتام في كليفلاند عام 1945 ولمّا أتجاوز من العمر شهرًا. عندما كنت صبيّة، كنت أحسد الأطفال الذين لديهم آباء. ثم عندما اكتشفت الجنس، وصدقني، أيها الكهل، أنّكَ تكتشف هذا الأمر مبكّرًا في ملاجئ الأيتام …
– أعلم ذلك.
– أقول إنني عندما اكتشفت الجنس آليت على نفسي أَلْيَة مغلّظة أنّه لن يولد لي طفل إلّا وله أب وأم معًا. وأبقَت هذه الأَلْيَة على عفّتي، وهي مهمّة صعبة في ذلك المكان.. ذلك أنّني اضطررت للقتال في سبيلها. ثمّ كبُرت في العمر وأدركتُ أنّ فرصي في الزواج كانت ضئيلة جدًّا، لأنّني ولسبب أو لآخر لم أجد من يتبنّاني.
وعبس مضيفًا:
– كان وجهي مخروطًا،1 كأنّه خطم الحصان، وكنتُ رَوْقاء2 جدّاء3 وشعري ليس فيه جعدة.
– لستَ أسوأ شكلًا مني.
– ومن ذا يهتم بشكل ساقٍ؟ أو كاتب؟ ولكن الناس المقبلين على التبنّي يختارون الحمقى ذوي العيون الزرق والشعر الذهبي. وفي زمن لاحق، يرغب الصبية في الصدور الناتئة والوجوه المليحة والفتيات اللاتي يمجّدن الذكور.
وأضاف هازًّا منكبيه:
– لم يكُن بوسعي مباراة أقراني من البنات، فلذا قررت أن ألتحق بمنظمة W.E.N.C.H.E.S.
-هه؟
– الحروف الاستهلالية لـ «كتائب الإغاثة الوطنية النسائية، شعبة الضيافة والترفيه»،4 أو ما يسمونها بـ «ملائكة الفضاء – فريق التمريض المساعد، الرابطة الفضائية».5
عرفت المصطلحَين حالما وُضِعت الكلمات في نصابها. ونحن نستخدم اسمًا ثالثًا بعد، ألا وهو «كتائب النخبة للخدمة العسكرية، جمعية الضيافة النسائية لتسديد روّاد الفضاء وتشجيعهم».6 إن تغيّر المفردات لهو أسوأ عقبة في عملية القفز في الزمن. هل تعلم أن «محطّة الخدمات» كانت في الماضي تبيع النفط المقطّر؟ وذات مرّة وأنا في إحدى مهامّي في فترة حكم تشرتشل، طلبَت منّي امرأة أن أقابلها في محطّة الخدمات المجاورة، وهو عبارة لا تحمل المعنى الظاهر، فـ «محطّة الخدمات» في ذلك الزمان لم يكُن فيها أَسِرَّة.
قال مسترسلًا:
– كان ذلك عندما أقرّوا للمرّة الأولى بأنّه لا يمكن إرسال الرجال إلى الفضاء لأشهر من دون التسرية عنهم بتخفيف التوتّر. أتذكُر كيف تعالى صراخ دعاة الحشمة؟ ذلك أمر عزّز من فُرَصي، نظرًا لندرة المتطوّعات. كان يتوجب على الفتاة أن تكون محترمة، وحبذا لو كانت عذراء (لأنهم يفضّلون أن يدربّوهنّ من الصفر)، وتملك عقلية أكبر من المتوسّط، وتمتاز باستقرار على مستوى الانفعالات. بيد أن أكثر المتطوّعات كُنَّ عواهر في الماضي أو مصابات بالعُصاب، وسيصبن بانهيار عصبي لو تركن الأرض عشرة أيام. فلم أحتَج إلى جمال الشكل، فلو قبلوني لأصلحوا أسناني التي فيها رَوَق، ولجعّدوا شعري، ولعلّموني المشي والرقص وكيف أستمع إلى الرجل على نحو يبعث على الراحة، وخلافه.. بالإضافة إلى التدريب على الواجبات الأساسية. إنهم حتّى سيجرون جراحة تجميلية لو كان فيها الفائدة.. فلا شيء يكفي فتياننا. والأفضل أنّهم عملوا على ألاّ تحمل النساء طيلة فترة التعيين. وكان من شبه المؤكّد أن تتزوج الفتاة في نهاية خدمتها. الأمر نفسه يحدث في أيامنا هذه. فمتطوّعات A.N.G.E.L.S يتزوّجن بأبناء المستعمرات الفضائية. إنّهم على قلب واحد. عندما بلغت الثامنة عشرة عُيِّنتُ مُساعدة منزليّة لإحدى الأمّهات. هذه الأسرة أرادت ببساطة خادمة رخيصة، ولكن لم يكُن لديّ مانع لأنّني لم يكُن بإمكاني التقدّم إلى الكتائب قبل بلوغي الحادية والعشرين. فقمت بالأعمال المنزليّة وارتَدْتُ المدرسة المسائيّة، متظاهرة بأنّني بسبيل إكمال دراستي الثانوية في الطباعة والاختزال، في حين أنّني كنت أَحْضُر حصص فن التصرف واللباقة، لكيّ أُحَسِّن من فُرَصي في الالتحاق.
لكنّه اكفهرّ وهو يضيف:
– ثمّ التقيت برجل تَبِين عليه الثقافة وعنده ربطات من الأوراق المالية من فئة المائة دولار. ذلك الفاشل كان لديه بالفعل كم وفير من أوراق المائة دولار. لقد أرانيها ذات ليلة وطلب منّي أن آخذ منها ما يكفيني. ولكنّني لم أمسسها. لقد استلطفْتُه، ذلك أنّه كان الرجل الوحيد الذي عاملني بلطف من دون أن يتلاعب معي. وتركت المدرسة المسائية لكي يتسنّى لي الخروج معه أكثر. لقد كانت أسعد فترة في حياتي. ثمّ ذات ليلة بدأت الألاعيب.
وأمسك عن الحديث فقلتُ:
– ثمّ؟
– ثمّ لا شيء! لم أرَه بعد ذلك أبدًا. ماشاني إلى البيت وأخبرني بأنه يحبّني، وقبّلني قبلة وداع ليليّ ولم يعُد بعدها أبدًا.
وأضاف وقد عبس:
– لو أستطيع العثور عليه لقتلته!
قلت متعاطفًا:
– في الواقع، أنا مدرك لأحاسيسكَ. ولكنّ قتله.. لمجرد أنّه فعل فعلة كانت ستأتي بشكل طبيعيّ.. هِمْمْ. هل اعتلج صدركَ بالهموم؟
– هه؟ وما دخل ذلك بالأمر؟
– له دخل. قد يستحقّ أن تُكسَر يداه لهجره إياكَ، ولكن…
– بل يستحق ما هو أسوأ من ذلك! انتظر لتسمع ما لدي. تمكّنتُ بشكل أو بآخر من إبعاد الشكوك عني وقرّرت أن ليس في الإمكان خير مما كان. لم أحببه حقًّا، والأغلب أنّني لن أحبّ أحدًا أبدًا.. وكنت أكثر شوقًا إلى الانضمام إلى منظمة W.E.N.C.H.E.S من ذي قبل. ولم تُستَبْعد حالتي لأنّهم لا يصرّون على العذارى، فابتهجت. ولم أدرك الأمر إلاّ عندما ضاقت عليّ تنّورتي.
– حبَلْت؟
قال مسترسلًا: «لقد بلغ الحماس منّي مبلغًا! أمّا أولئك البخلاء الذين كنت أعيش معهم فتجاهلوا الأمر طالما كان في استطاعتي العمل.. ثمّ طردوني، وأبى ملجأ الأيتام قبول رجعتي إليه. وآل بي المآل إلى مستشفى خيري وبتُّ محاطة بالبطون البارزة وطاسات البول الرائحة والغادية حتّى حان موعدي.
«وذات ليلة وجدت نفسي على طاولة العمليّات وأمامي ممرّضة تقول: استرخي. والآن خذي نفسًا عميقًا.
«واستيقظتُ لأجد نفسي على السرير وجسمي مخدّر من الصدر إلى أخمص القدم. فجاء طبيبي الجرّاح وقال: كيف تشعرين؟
«قلت: أشعر كما لو كنت مومياء.
«قال: أمر طبيعيّ. إنّكِ ملفوفة بالضمادات ومبنّجّة بالكامل لكي يتخدّر جسدك. ستتحسّن حالك.. ولكنّ العمليّة القيصريّة ليست بسهولة استئصال السأف. 7
«قلت: عمليّة قيصريّة؟ أيّها الطبيب، هل فقدت الجنين؟
«قال: أوه، لا. وليدكِ على ما يرام.
«قلت: أوه. ولد أم بنت؟
«قال: بُنَيَّةٌ في كامل الصحّة. ووزنها خمسة أرطال وثلاث أونصات.
«فتراخيت. إنّ الولادة لإنجاز. قلت لنفسي إنّني سأذهب إلى إحدى الدوائر الحكومية وأضيف لقب سيّدة إلى اسمي وسأوحي إلى الطفلة بأنّ أباها قد مات.. لن تذهب طفلتي إلى أي ملجأ أيتام!
«بيد أنّ الطبيب الجرّاح كان لا يزال يتكلّم. قال وهو يتفادى ذكر اسمي: أخبريني، يا …، هل جرى في اعتقادك مسبقًا بأن في جهازك التناسليّ ما يدعو إلى الغرابة؟
«قلت: هه؟ بالطبع لا. ما الذي تحاول الوصول إليه؟
«قال متردّدًا: سأعطيكِ هذا الدواء في جرعة واحدة، ثمّ حقنة مخدّرة لكي تسمح لكِ بالنوم والتخلص من توتّرك. ستأخذينها.
«تساءلتُ: ولماذا؟
«قال: هل سمعتِ قبلًا بالطبيب الأسكتلندي الذي كان أنثى حتى سن الخامسة والثلاثين؟ ثمّ خضع لجراحة لكي يصبح رجلًا كما ينص عليه القانون والطب؟ وتزوّج. وكل أموره تمام.
«قلت: وما دخل ذلك بي؟
«قال: هو ما أقوله. أنتِ رجل.
«حاولت الاعتدال جالسًا وقلت: ماذا؟
«قال: على رسلكَ. عندما شققت بطنكَ8 وجدتُ فوضى عارمة. فأرسلت في طلب كبير الجرّاحين في أثناء إخراجي للوليد، ثمّ عقدنا جلسة استشارية وأنتَ على طاولة العمليّات .. وعملنا طيلة ساعات لاستنقاذ ما يمكن إنقاذه. لقد كان لديكَ جهازان تناسليَّان متكاملَان، كلاهما غير مكتمل النمو، لكنّ الجهاز التناسليّ الأنثويّ كان قد وصل إلى درجة من الاكتمال تسمح بتكوين جنين. وبات من الواضح أن هذا الجهاز لن يكون ذا نفع لكَ في المستقبل، فلذا قمنا باستئصاله وإعادة تشكيل الأعضاء لكي يتسنّى لكَ أن تصبح رجلًا كامل الرجولة.
«ووضع يدًا عليّ قائلًا: لا تقلق. إنّكَ صغير السنّ، وستتأقلم عظامك مع وضعها الجديد، وسنقوم بمراقبة اتّزان عضوك التناسلي.. وسنجعل منك رجلًا شابًّا وسيمًا.
«انخرطتُ في البكاء، وقلت: وماذا بخصوص رضيعتي؟
«قال: لا يمكنُكَ إرضاعها، فليس لديكَ من الحليب ما يكفي لإرضاع هُريرة. لو كنتُ مكانكَ لقطعتُ علاقتي بها. ابحث عمّن يتبنّاها.
«قلت: لا!
«هز منكبيه وقال: الخيار خياركَ. إنّكَ أمّها.. أو في الواقع، والدها. لكن لا تقلق. سنعمل على علاجك أوّلًا.
«وفي اليوم التالي سمحوا لي برؤية الرضيعة وأخذت أذهب لرؤيتها يوميًّا.. في محاولة مني للتعوّد عليها. ولم أكن قد رأيتُ قَطُّ وليدًا حديث الولادة ولم تكُن لديّ أدنى فكرة عن مدى فظاعة مظهرهم.. إذ كانت ابنتي تشبه قردًا برتقاليًّا. وتغيّرت أحاسيسي حتّى استحالت عزمًا ثابتًا من أن أقوم بالتصرف الصحيح إزاءها. ولكن بعد أربعة أسابيع لم يعُد لهذا العزم من معنًى.»
– هه؟
– لقد اختُطِفَت.
– «اختُطِفَت»؟
كاد «الأم غير المتزوّجة» أن يلقي زجاجة الرهان من على الطاولة وهو يقول مطوّحًا بجسده:
– اختُطِفَت.. سُرِقَت من جناح الحضانة في المستشفى!
وأضاف وهو يتنفس بصعوبة:
– كيف يبدو لكَ ذلك من باب سلب الرجل آخر سبب يدعوه للحياة؟
قلت موافقًا الرأي:
– أمر سيّئ. دعنا نصبّ كأسًا أخرى. أما من دلائل على ما جرى؟
– ما من أثر يمكن للشرطة اقتفاؤه. لقد جاء شخص ما لرؤيتها، وادّعى كونه خالها. وفيما كانت الممرضة توليهما ظهرها غادر الرجل وهي معه.
– ومواصفاته؟
– مجرّد رجل، وله وجه.. وجه ذو شكل هندسي، كوجهك أو وجهي.
وقطّب مردفًا:
– أظنّ أنّه كان أبا الرضيعة. وأقسمَت الممرضة على كونه رجلًا مسنًّا ولكن يغلب على الظنّ أنّه كان يستخدم مكياجًا للتنكّر. مَن غيره يخطف طفلتي؟ عادة ما تقوم الأمّهات اللاتي لا أطفال لهنّ بمثل هذه الفعلة.. ولكن من ذا سمع برجل يقوم بهذه الفعلة؟
– وماذا أحلّ بك بعدها؟
– أمضيتُ أحد عشر شهرًا بعد في ذلك المكان الموحش وخضعت لثلاث عمليّات جراحيّة. وبعد أربعة أشهر منها بدأت تنبت لي لحية. وقبل أن أخرج من المستشفى كنت أحلق ذقني بشكل منتظم.. ولم يعُد لديّ من شكّ في كوني ذَكَرًا.
وتبسّم عن ضواحكه في سخرية مضيفًا:
– كنت أحدّق النظر إلى أجياد9 الممرّضات.
قلت:
– حسنٌ، يبدو لي أنّك قد تعافَيت. وها أنت ذا، رجل عاديّ، وتجني أجرًا طيّبًا، وليست لديك مصاعب حقيقيّة. وحياة الأنثى ليست حياة سهلة.
فحملق فيَّ وقال:
– ما أكثر ما تعرف عن حياة الأنثى!
– وماذا في ذلك؟
– هل سمعت قَطُّ بالعبارة التي تقول «امرأة محطّمة»؟10
– هِمْمْ، قبل سنين. لم يعُد لها معنى في أيّامنا هذه.
– لقد سقطتُ في أسفل درك يمكن أن تسقط فيه امرأة. لقد حطّمني ذلك الصعلوك.. لم أعُد امرأة.. ولم أكُن أعرف كيف أكون رجلًا.
– أحسبه أمرًا يتطلّب تَعَوُّدًا.
– لا فكرة لديك. ولستُ أعني تعلُّم ما يُلبَس، أو اجتناب الدخول إلى الحمام الخطأ. لقد تعلّمت هذه الأشياء في المستشفى. ولكن كيف أعيش؟ وأي عمل يمكنني الحصول عليه؟ لم أكُن أستطيع حتّى قيادة السيّارة، بحقّ الجحيم. ولم أكُن أُحسِن حرفة، ولا كنتُ أقوى على العمل اليدوي.. فجسدي مليء بالندوب، وكنت أَرَقَّ من أن أقوى على ذلك. ولقد كرهتُه لأنّه بدد فرصي في الالتحاق بمنظمة W.E.N.C.H.E.S كذلك، ولكنّني لم أدرك مقدار كرهي هذا إلا عندما حاولتُ الانضمام إلى كتائب الفضاء. فبنظرة واحدة إلى بطني تقرَّر عدم لياقتي للخدمة العسكرية. ولم يُمضِ الضابط الطبيب وقته معي إلاّ من باب الفضول، ذلك أنّه كان قد قرأ عن حالتي. وهكذا غيّرتُ اسمي وأتيت إلى نيويورك. وأخذتُ أكسب قوت يومي بالعمل طبّاخًا للمقليّات، ثمّ استأجرتُ آلة كاتبة وسوّقتُ نفسي على أنّي كاتب بالاختزال للعامّة.. ويا للمهزلة! ففي خلال أربعة أشهر لم أكتب إلاّ أربعة خطابات ومخطوطة واحدة. وكانت المخطوطة لمجلة «حكايات حقيقية» وكانت مَضْيَعة للورق، ولكنّ المعتوه الذي كتبها تمكّن من أخذ أجر لقاءها. وأوحى لي هذا الأمر بفكرة، فابتعتُ حزمة من المجلاّت المتخصّصة في قصص الاعترافات وتدارستُها.
وبدا عليه التهكُّم وهو يُضيف:
– أنت تعرف الآن كيف أحصل على وجهة نظر صادقة فيما يخص قصص الأمّهات غير المتزوّجات.. وذلك من خلال النسخة الوحيدة التي لم أبِعها بمال.. النسخة الحقيقية. هل أفوز بالزجاجة؟
فدفعتُ بها إليه. وكنت عن نفسي مستاءً، غير أنّي كان لديّ عمل أقوم به. قلت:
– يا بُنيّ، أما زلتَ تريد الإمساك بذلك الكيت وكيت؟
فاضطرمت عيناه.. وكان بريقها ضاريًا، فقلت:
– مهلًا! لن تقوم بقتله؟
فأهنف هِنافًا رذيلًا وهو يقول:
– جرّبني.
– على رسلكَ. إنّني أعلم من المسألة أكثر ممّا تظن. وبإمكاني مساعدتكَ. أعرف مكانه.
فمدّ جذعه فوق منضدة الحانة وقال:
– وأين هو؟
قلت في رفق:
– دع قميصي، يا بُنيّ، وإلا فستجد نفسك في الزقاق وسنخبر الشرطة بأنّه أغمي عليك.
وأريته الهراوة، فتركني وهو يقول:
– إنّني آسف، ولكن أين هو؟
ورَنا إليّ وهو يقول:
– وكيف تعرف كل ما تعرفه؟
– ستعرف في الوقت المناسب. ثمّة كشوفات.. كشوفات مستشفيات وكشوفات ملجأ أيتام وكشوفات طبّيّة. وكانت مديرة ملجأ الأيتام الذي ترعرعتَ فيه تُدعى السيّدة فيثريج.. أليس كذلك؟ وأعقبَتها السيّدة غرُوِنستيان.. أليس كذلك؟ وكان اسمكَ، عندما كنتَ صبيةً، جَيْن.. أليس كذلك؟ ولم تخبرني أنت بأيّ من هذا.. أليس كذلك؟
تمكّنتُ من إصابته بالحيرة وبشيء من الخوف.
– ما هذا؟ أتحاول أن تتسبّب لي بالمشاكل؟
– لا. ولا أريد إلا مصلحتك من قلبي. بإمكاني الإتيان بذلك الشخص إلى عندكَ، وبإمكانكَ أن تفعل به ما تراه مناسبًا.. وأضمن لك ألا تتورّط بتهمة. ولكنّني لا أظن أنّك ستقتله. لو فعلتَ لكنتَ مجنونًا.. وما أنت بمجنون. لست مجنونًا تمام الجنون.
فنبذ كلامي جانبًا، وقال:
– كفاك جعجعة. أين هو؟
فصببتُ له جرعة قليلة من الشراب. لقد كان سكران ولكن الغضب كان قد أبطل تلك السَّكْرة.
– مهلك. إذا أسديتُ لكَ خدمة، فلا بدّ أن تسدي لي خدمة بديلة.
– أه، ماذا؟
– أنت لا تحبّ عملك. ما رأيك في راتب عالٍ، وعمل مستقر، وحساب مصروفات غير محدود، وأن تكون رئيس نفسكَ، وأن تحظى بمختلف أشكال المغامرة؟
حملق وقال:
– أقول: «أبعِد أيائلك11 عن سقف بيتي!» كفّ هراءك، يا بابا.. مثل هذا العمل لا وجود له.
– حسنٌ، فلنقل إنّني سأسلّمك ذلك الرجل، وستقوم بتسوية الأمر معه، ومن بعدها ستجرب العمل الذي عرضتُه عليك. وإن لم يكُن الأمر كما أزعم.. فلا يمكنني إرغامك على شيء.
بدت عليه علائم التردّد، وآتت آخر كأس مفعولها، فقال في تثاقل:
– متى تسلّمني إياه؟
ومدّ يده قائلًا:
– موافق.
– إن كنتَ موافقًا، فأسلمه الآن!
وأومأتُ برأسي إلى مساعدي أن يراقب مَدْخَلَي المكان، ولاحظتُ الوقت –وكانت الساعة 23:00– وإنّنا لننحني تأهّبًا للخروج من البوابة التي في سرداب الحانة إذ دوّى الصندوق الموسيقيّ بأغنية «أنا جَدُّ نفسي!». وكانت لدى عامل الصيانة تعليمات بتغذيتها بموسيقى الأمريكانا والموسيقى الكلاسيكيّة لأنّني لا أحتمل موسيقى السبعينيات، ولكنّني لم أكن أعلم أن ذلك الشريط كان من ضمنها. فرفعت عقيرتي قائلًا:
– أطفئوها! وأعيدوا إلى الزبون ماله.
وأضفت قائلًا:
– سأذهب إلى المخزن وأعود بعد هنيهة من الزمن.
وتوجّهتُ إلى هناك وفي أعقابي «الأم غير المتزوّجة».
وفي نهاية معبر على الجهة الثانية من دامجانات الشراب قام باب من الفولاذ لا يحمل له مفتاحًا إلاّي ومدير حانتي الصباحي، وفي الداخل قام باب يقود إلى غرفة داخليّة لا يحمل لها مفتاحًا إلاّي. ودلفنا إلى هناك.
قلّب عينَين عشواءَين في جدران تخلو من نوافذ وقال:
– أين هو؟
– على الفور.
قلتها وفتحت صندوقًا، وقد كان الشيءَ الوحيد الذي في الغرفة. وكان جهاز تحويل إحداثيّات ميدانيّ ذا مُعامل حجم من القياس الصغير جدًّا، من سلسلة الصناعات 1992، النموذج الثاني.. وكان آية في الجمال، بلا أجزاء متحرّكة، ويبلغ وزنه ثلاثة وعشرين كيلوغرامًا، ومشحونًا شحنًا تامًّا بالطاقة، وحجمه من الصغر بحيث يمكن أن يتخيّله من يراه أنّه حقيبة سفر. وكنت قد ضبطتُه بدقّة في وقت سابق من ذلك اليوم، ولم يكُن عليّ إلاّ أن أرفع عنه الشبكة المعدنيّة التي تحدُّ من مجال التحويل.
وذلك ما فعلت، وتساءل:
– ما هذا؟
– آلة زمن.
قلتها ورميت بالشبكة علينا.
– هيه!
صاح بها وتراجع إلى الوراء. ثمّة استراتيجيّة لتشغيل الآلة، وذلك أنّ الشبكة ينبغي أن تُرمى بحيث يقوم من يُراد تسفيره عبر الزمن بالتراجع خطوة إلى الوراء بشكل غريزيّ إلى الأحبولة المعدنيّة، ثمّ تُغطِّي الشبكة على الاثنين تغطية تامّة.. وإلاّ فقد تخلّف وراءك نعلًا من حذاء أو قطعة من قدم أو تنتزع قطعة من الأرضية. ولكن هذا كلّ ما يتطلّبه الأمر من مهارة. بعض الضبّاط يستغفلون المسافرين عبر الزمن لإدخالهم في الشبكة، ولكنّني أقول الحقيقة وأستغل لحظة الذهول العام لضغط مفتاح الجهاز. وهو ما فعلت.
الزمان: الساعة 10:30– المنطقة الزمنية السادسة– الثالث من إبريل عام 1963.
المكان: مدينة كليفلاند بولاية أوهايو– بناية إيبكس.
قال مكرّرًا قوله:
– هيه! اخلع عنّي هذا الشيء اللعين!
– آسف.
قلتها معتذرًا وفعلتُ ما طلب وحشوتُ الشبكة في الصندوق وأغلقته. وأردفتُ:
– قلتَ إنّك تريد العثور عليه.
– ولكنّك قلتَ إنّها آلة زمن!
فأشرتُ من النافذة.
– هل يبدو لك ذلك شهر نوفمبر؟ أو هل تبدو لك تلك نيويورك؟
وفيما أخذ يحدّق إلى البراعم النابتة حديثًا والجوّ الربيعيّ فتحتُ الصندوق من جديد وأخرجت منه حزمة من أوراق النقد من فئة المائة دولار، وتأكّدت من أن الأرقام المتسلسلة والتوقيع عليها متوافق مع عام 1963. إن مكتب ضبط الوقت لا يكترث كم تنفق من المال (فهو لا يكلّف شيئًا) ولكنّه لا يحبّ المفارقات التاريخيّة غير الضروريّة. إذا كثُرَت أخطاؤك فإنّ المحكمة العسكريّة العليا ستأمر بنفيك عامًا في فترة زمنيّة مقرفة، لنقل عام 1974 بحصصها التموينيّة الدقيقة والعمل الإجباريّ. وأنا لا أقترف مثل هذه الأخطاء، فالمال كان محقّقًا للشروط.
استدار إليّ وقال:
– ماذا جرى؟
– إنّه هنا. اخرج إليه وخذه. وهذا مصروفك.
ودفعت بالمال إليه مضيفًا:
– سوِّ أمرك معه ثمّ سآتي لآخذك.
إنّ للأوراق النقديّة من فئة المائة دولار مفعولها المنوّم على من هو ليس معتادًا عليها. فكان يحرّكها بين سبّابته وإبهامه في غير تصديق فيما كنت أقوم بتهدئته وأنا أقتاده إلى البهو، ومن ثمّ أوصدتُ الباب وراءه. إن القفزة التالية يسيرة، ولا تتطلّب إلاّ تغييرًا طفيفًا في الفترة الزمنية.
الزمان: الساعة 17:00– المنطقة الزمنية السادسة– العاشر من مارس عام 1964.
المكان: مدينة كليفلاند– بناية إيبكس.
كان ثمّة إشعار مدسوس من تحت الباب ينصّ على أنّ عقد إيجاري سينتهي الأسبوع القادم، أمّا فيما خلا ذلك فقد بدت الغرفة كما كانت قبل لحظة من ذلك. في الخارج كانت الأشجار جرداء والثلج مهدِّدًا. هُرِعْت ولم ألوِ على شيء غير مالِ ذلك الزمان ومعطفٍ وقبّعةٍ وبالطو كنت قد تركتهم هناك عندما استأجرتُ الغرفة. فاكتريت سيّارة وتوجّهتُ إلى المستشفى. وهناك تطلّب منّي الأمر عشرين دقيقة لإملال مسؤولة جناح الحضانة إلى الحدّ الذي سمح لي بخطف الرضيعة من دون أن يلاحظني أحد. وعُدنا إلى بناية إيبكس. أمّا هذه الإعدادات فكانت أصعب، ذلك أنّ البناية لم تكُن قد وُجِدَت بعد في عام 1945، غير أنّني كنت قد أجريت حساباتي مسبقًا.
الزمان: الساعة 01:00– المنطقة الزمنية السادسة– العشرون من سبتمبر عام 1945.
المكان: مدينة كليفلاند– نُزُل سكايفيو.
وصلنا، أنا والرضيعة والجهاز الميدانيّ إلى نُزُل في خارج المدينة. وكنت قد سجّلت فيه في وقت سابق باسم «غريغوري جونسُن، مدينة وارِن بولاية أوهايو»، فبذا وصلنا إلى غرفة ستائرها مسدلة ونوافذها مغلقة وأبوابها موصدة وأرضيّتها مفرغة من الأثاث لكي نترك مجالًا للتردد الناجم عن الآلة عندما تحلّق في مكانها. فمن الممكن أن تجرح نفسك جرحًا غائرًا من كرسيّ موجود في مكان لا ينبغي أن يكون موجودًا فيه.. والسبب ليس من الكرسي بطبيعة الحال، وإنما بسبب الحركة الارتجاعية الناجمة عن مجال القوة.
لم تكن ثمّة أي مصاعب، فقد كانت جَيْن تغط في نوم عميق. فأخرجتُها ووضعتها في صندوق من صناديق البِقالة على كرسي سيّارة كنت قد حضّرته مسبقًا، ودرجتُ بالسيارة إلى ملجأ الأيتام، فوضعتُها على الأعتاب، واجتزتُ بالسيّارة شارعَين قاصدًا «محطّة خدمات» (من ذلك النوع الذي يبيع منتجات النفط) واتّصلتُ بالملجأ هاتفيًّا، وعدتُ مسرعًا بالسيّارة لأتمكّن من رؤيتهم وهم يُدخِلون الصندوق إلى الداخل، ثمّ استمررت ماضيًا ونبذتُ السيّارة على مقربة من النُّزُل.. وسعيتُ إلى هذا راجلًا وقفزتُ في الزمن إلى الأمام حيث تكمن بناية إيبكس في عام 1963.
الزمان: الساعة 22:00– المنطقة الزمنية السادسة– الرابع والعشرون من أبريل عام 1963.
المكان: مدينة كليفلاند– بناية إيبكس.
أظنّني قد استثمرت الوقت بشكل طيّب.. إنّ الدقّة الوقتيّة تعتمد على الامتداد الزمنيّ، فيما عدا الرجوع إلى نقطة الصفر. وإن كنتُ أصبتُ فيما فعلت، فإن جَيْن على وشك أن تكتشف في الحديقة العامّة في هذه الليلة الربيعيّة العليلة أنّها ليست بدرجة الطُّهر التي ظنّتها في نفسها. وهنا اكتريتُ سيارة أجرة إلى بيت أولئك البخلاء وأشرت إلى سائق الأجرة أن ينتظر عند ناصية أحد الشوارع فيما أتربّص في الظلال.
وسرعان ما رأيتُهما وهما يمشيان في الطريق وقد انعقدت أياديهما الواحد حول جسد الآخر. وأخذَها إلى السقيفة وقبّلها قبلة وداع ليليّ.. دامت أطول مما تخيلت. ثمّ إنّها دخلَت، أمّا هو فجاء يسعى في المجاز وتولّى مغادرًا. فانسللت إليه ونشبتُ ذراعي تحت ذراعه وقلت معلنًا في هدوء:
– هذا كل شيء، يا بُنيّ. لقد عدتُ لأخذِك.
– أنت!
قالها شاهقًا والتقط أنفاسه.
– أنا. الآن بتَّ تعرفه.. وبعد أن تُمْعِن التفكير فستعرف من تكون أنت… وإذا تمعّنتَ ما فيه الكفاية فستكتشف من تكون الرضيعة… ومن أكون أنا.
لم يُحِر جوابًا، فقد هزّه الأمر بعنف. إنّه لمن الصادم أن يقدَّم إليك برهان بأنّك لا يمكنك مقاومة مراودة نفسك عن نفسها. وهكذا أخذته إلى بناية إيبكس وقفزنا من جديد.
الزمان: الساعة 23:00– المنطقة الزمنية الثامنة– الثاني عشر من أغسطس عام 1985.
المكان: القاعدة أسفل جبال روكي.
أيقظتُ الرقيب المناوب وأريتُه بطاقة هويتي، وطلبتُ منه أن يساعد صاحبي على النوم بحبّة منوّمة وأن يقوم بتجنيده صباحًا. وبدا الرقيب ممتعضًا، ولكنّ الرتبة تظل رتبة، بغضّ النظر على الحقبة الزمنيّة، فقام بفعل ما قلته له.. وهو يظنّ في نفسه ولا شكّ أنّه في المرّة القادمة التي نلتقي فيها قد يكون هو العقيد وأنا الرقيب، وهو أمر وارد الحدوث في منظّمتنا. سأل:
– ما الاسم؟
كتبتُ الاسم له فرفع حاجبَيه قائلًا:
– هكذا إذن، هه؟ هِمْمْ.
– قم بواجبك وحسب، أيّها الرقيب.
واستدرتُ إلى صاحبي قائلًا:
– يا بُنَيّ، لقد انتهت متاعبك. إنّك على وشك الولوج في أفضل عمل اشتغل به بشر.. ولتُبْلِيَنّ بلاءً حسنًا. أعلم ذلك.
فقال الرقيب موافقًا:
– ستفعل ذلك. انظر إليّ.. لقد وُلِدتُ عام 1917.. ومع ذلك ما زلتُ حيًّا، وما زلتُ شابًّا، وما زلتُ أستمتع بالحياة.
وعدتُ إلى غرفة القفز عبر الزمن وضبطتُ الإعدادات إلى نقطة صفرٍ كنت قد أعددتها مسبقًا.
الزمان: الساعة 23:01– المنطقة الزمنية الخامسة– السابع من نوفمبر عام 1970.
المكان: مدينة نيويورك– محل الأب.
خرجتُ من المخزن حاملًا معي زجاجة من خمر درامبيوي لم يبقَ منها إلا خُمس الشراب على سبيل تبرير الدقيقة التي غبتُ فيها. وكان مساعدي يجادل الزبون الذي كان قد شغّل أغنية «أنا جدّ نفسي!» فقلت:
– أوه، دعه يستمع إليها ثمّ تخلّص منها.
لقد كنت متعبًا.
إنّه عمل شاق، ولكن ينبغي على أحد أن يقوم به، وبالأخص لصعوبة تجنيد أناس من السنوات المتقدمة، بسبب الخطأ الذي وقع في عام 1972 12.هل يمكنك التفكير في مصدر أفضل من اختيار أناس أحوالهم متدهورة في زمانهم ومنحهم عملًا براتبٍ مجزٍ ويكون مثيرًا (وإن كان محفوفًا بالمخاطر) في قضيّة محتومة؟ لقد بات الناس يعلمون الآن سبب فشل ما تسمّى بالحرب الفاشلة في عام 1963. ذلك أنّ القنبلة التي كان من المفروض أن تنفجر في نيويورك لم تنفجر، ونحو مائة من الأمور الأخرى لم تتمّ كما كان مخططًا لها.. وكل ذلك بترتيب من أناس أمثالي.
ولكنّ الخطأ الذي وقع في عام 1972 لا يندرج تحت هذا البند، فذلك لم يكن خطأنا.. ولا يمكن تعديله، والسبب أنّ الخطأ لم ينجم عن مفارقة يمكن حلُّها. فالأمر إما أن يكون أو لا يكون، من الآن وإلى الأبد.. آمين. ولكن لن يحدث خطأ مماثل أبدًا، وهذا حُكْم يعود إلى عام 1992 وله أولوية في التنفيذ في أي عام من الأعوام.
أغلقتُ الحانة خمس دقائق قبل المعتاد، وتركت خطابًا على الكاشير يخبر مدير الحانة الصباحي بموافقتي على عرضه بشراء نصيبي، وأن عليه مقابلة محامِيَّ لأنّني راحل في إجازة طويلة. وقد يقوم مكتب ضبط الوقت باستلام دفعته أو لا، ولكنّهم يريدون أن تتمّ الأمور بترتيب ونظام. دلفتُ إلى الغرفة التي في ظهر المخزن وقفزت في الزمن إلى الأمام حيث يقع عام 1993.
الزمان: الساعة 22:00– المنطقة الزمنية السابعة– الثاني عشر من نوفمبر عام 1993.
المكان: الملحق أسفل جبال روكي– المقر العام لإدارة العمل في مكتب ضبط الوقت.
سجّلتُ دخولي لدى الضابط المناوب وذهبتُ إلى مخدعي بنية النوم أسبوعًا كاملًا. وكنت قد أحضرت معي الزجاجة التي راهنّا عليها (فقد فزت، على كل حال) وتجرّعت منها جرعة قبل أن أكتب تقريري. كان طعمه يثير الاشمئزاز، وتساءلتُ في نفسي لماذا أحببتُ شراب الأولد أندروير في السابق. ولكنّه كان خيرًا من لا شيء، فأنا لا أحب أن أكون صحوان، فأنا في تلك الحال أفكّر كثيرًا. ولكنّني كذلك لا أعاقر الخمرة.
سجّلتُ تقريري شفاهةً على آلة التسجيل. أربعون حالة تجنيد، كلّها وافق عليها مكتب التأهيل النفسي.. بما فيها تجنيدي لنفسي، وكنتُ أعرف أنّني سيُوافَق عليّ، فهأنذا هنا، ألستُ كذلك؟ ثمّ سجّلت طلبًا لإلحاقي بشعبة العمليّات، فقد مللتُ من التجنيد. رميتُ كلا الشريطَين في الشقّ المخصّص وتوجّهتُ إلى سريري، ووقعَت عيناي على لافتة «لوائح الزمن» فوق السرير:
لا تفعل أمس ما يتوجّب عليك فعله غدًا.
إذا نجحتَ أخيرًا فلا تحاول مرّة أخرى.
إذا خِطتَ غرزة في الزمن فقد تنقذ تسعة مليارات من الناس.
كل مفارقة يمكن جَلْوُها.
الوقت يكون مبكّرًا أكثر من المعتاد عندما تفكّر.
ما الأسلاف إلا مجموعة من الناس.
حتّى جوبيتر ينحني أحيانًا.13
لم تعُد هذه اللوائح تلهمني كما كانت عندما كنتُ مستجدًّا في الخدمة. إن ثلاثين عامًا تقديريّة في القفز عبر الزمن لقمينة بإجهاد أي شخص. خلعت ثيابي وعندما تجرّدت منها كلّها نظرت إلى بطني. إنّ الجراحة القيصريّة تخلّف ندبة كبيرة، ولكنّني الآن لديّ من الشعر الكثيف ما يجعلني لا ألحظها إلاّ إذا بحثتُ عنها.
ثمّ اختلستُ نظرة إلى الخاتم الذي في إصبعي.
الثعبان الذي يأكل ذيل نفسه، إلى أبد الآبدين. أنا أعلم من أين أتيتُ.. ولكن، أيّها المسوخ كلّكم، من أين أتيتم أنتم؟
أحسست بصداع يهدّد بالقدوم، ولكنّ دواء الصداع شيءٌ لا أقربه. جرّبته مرة، وتبخّرتم كلّكم من الوجود.
وهكذا ولجتُ في سريري وصفّرتُ في الإضاءة لكي تنطفئ.
أنتم لستم موجودين هنا في الحقيقة. لا وجود لأحد غيري.. جَيْن.. هنا وحيدة في الظلام.
كم أتحرّق شوقًا إليكِ!
الهوامش
الوجه المخروط هو الوجه الطويل من غير عرض.
الرَّوَق طول الأسنان العليا على الأسنان السفلى.
صغيرة الصدر.
تلاعب على الألفاظ. فالوجه الذي أدرجه المؤلف هو أن تُقرأ W.E.N.C.H.E.S على أنّها اختصار لعبارة “Women’s Emergency National Corps، Hospitality & Entertainment Section”، وترجمتها هو ما أدرجناه بين علامتي التنصيص. أمّا الوجه الآخر فهو قراءتها على أنها كلمة Wenches وتعني البغايا أو الميامس.
لاحظ كذلك أن «فريق التمريض المساعد، الرابطة الفضائية»، أو بصورته الإنكليزيّة، “Auxiliary Nursing Group، Extraterrestrial Legions”، يبدأ بحروف استهلالية تعطي كلمة Angel، أو بالعربية ملاك.
تلاعب ثالث على الألفاظ. «جمعية الضيافة النسائية لتسديد روّاد الفضاء وتشجيعهم»، “Women’s Hospitality Order Refortifying & Encouraging Spacemen»، تُختصر إلى W.H.O.R.E.S، وهي إيماءة إلى كلمة Whores والتي تعني عاهرات.
قطعة صغيرة ممزّقة من الجلد تنتأ من جوانب الظفر وقد يستدعي استئصالها عمليّةً بسيطة.
لا يخفى على القارئ أن المخاطَب في اللغة الإنكليزية لا يؤنث ولا يُذَكَّر، على خلاف اللغة العربية، فاضطررنا إلى التصرف في هذه المسألة. منذ بداية حديث الطبيب مع المريضة (التي أصبحت فيما بعد مريضًا) كان يخاطبها مخاطبة الأنثى، حتّى هذه النقطة، إذ أصبح يخاطبها (أو يخاطبه) مخاطبة الذكر. فأي تغيير في المخاطب هنا مقصود وليس خطأً من طرف المترجم.
واحدُها الجِيْد، وهي المنطقة بين العنق والصدر في الجسد؟
المرأة المحطّمة أو المرأة الساقطة هو تعبير قديم في الإنكليزيّة ويعني المرأة التي فقدت عفّتها.
يلمّح إلى الأيائل التي تجر عربة بابا نويل في السماء، والمغزى هنا أن «الأم غير المتزوجة» يرى أن العرض الذي قدمه الساقي خرافيّ.
هذه الجملة يبدو أن الكاتب أراد أن تكون مبهمة، وإذا ما قرنّاها بجملة سابقة قال فيها إن عام 1974 كانت حقبة مقرفة وتمتاز بحصص تموينيّة شحيحة وكونه قد كتب القصّة في عام 1958، فيمكننا الخلوص إلى أن الكاتب يحاول استشراف المستقبل من منظوره الزمنيّ، وأن هناك مصيبة زمنية قد حصلت في عام 1972 لا أكثر.
هذه العبارة مثل في الإنكليزية بمعنى أنّ كل إنسان معرّض للخطأ، وصورتها الأكثر شيوعًا هي «حتى هوميروس ينحني أحيانًا».