ريتشارد بيرن(1)
«وهكذا وقفتُ هناك أمام الحانة، مُرتديًا قبّعة الفرو الروسيّة، بينما الحشود الغفيرة تتدفّق أمامي إلى ميدان “وينسيسلاس”، وهم يهتفون رافعين اللافتات.. لم يسبق لي أن رأيت هذا العدد الكبير من الحشود الجميلة، لم يسبق لي أن رأيت مثل هذا الوقار في الشباب، كانوا يعبرون أمامي بعيون لا ترمش لها جفون، سرت معهم حتى وصلت إلى كلِّية الحقوق القديمة، حيث كانت الخوذات البيضاء تبرق متلألئة عبر الجسر، وتوقّفت في الموضع ذاته الذي رأيت فيه، قبل 50 عامًا، الجيش وقوّات الأمن الخاصة تطارد زملائي خارج الكلّية»(2).
كانت الثورة المخملية عام 1989 خامس الزلازل السياسية التي تضرب تشيكوسلوفاكيا خلال القرن العشرين، وقد شكّلت بوقائعها التاريخية التي سبقتها مسيرة بوهوميل هرابال (1914-1997)، أحد أعظم كتّاب أوروبا الوسطى في عصره.
وُلد هرابال عام 1914، قبيل بضعة أشهر فقط من مقتل الأرشيدوق فرانز فرديناند(3) بالرصاص في سراييفو. وكان عمره أربع سنوات بالكاد، حين ولدت تشيكوسلوفاكيا بعد الحرب العالمية الأولى. وكان في الرابعة والعشرين، يدرس القانون، عندما زحف الألمان إلى براغ عام 1939.
حصل هرابال على شهادته في القانون عام 1946، لكنّه لم يمارس المحاماة أبدا، ومع استيلاء الشيوعيّين على السلطة عام 1948، بدأ كتابة أعماله الأدبية التي ستجلب له الشهرة لاحقًا، وبحلول ربيع براغ عام 1968، كان هرابال قد أصبح أحد ألمع نجوم الأدب التشيكي؛ صعود أكدّه حصول الفيلم المقتبس عن روايته “قطارات تحت الحراسة المشدّدة” على جائزة أوسكار كأفضل فيلم أجنبي عام 1968، وقد شارك هرابال في كتابة سيناريو الفيلم مع المخرج التشيكي جيري مينزل.
لم يهاجر هرابال خلال الفترة المظلمة التي عرفت بـ”سنوات التّطبيع”، والتي سادت عقدي السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي، إثر الغزو الروسي لبراغ، لكنّه أيضًا لم يوقّع على بيانات الاحتجاج الكلاسيكية في تلك الحقبة، مثل “ميثاق 77″، على العكس من مئات الكتّاب والفنّانين الذين وقّعوا عليه، وبدلًا من ذلك، استمرّ هرابال في مراوغة السلطة الحاكمة في بلاده –ونفسه أيضًا- لسنوات، مواجهًا الحظر والمضايقات، وحين كان يُسمح له بالنشر، فغالبًا ما كانت أعماله الأدبية ومقابلاته الصحافية تخضع للرقابة الصارمة أو التشويه، ورغم ذلك، ظلّت روائعه الأدبية الجديدة تتدفّق من آلته الكاتبة على شكل طبعات “ساميزدات”(4) سرِّية، ما زاد من غضب السلطات الشيوعية التشيكوسلوفاكية عليه.
شكّلت الثورة المخملية عام 1989 آخر تحوّل سياسي في حياة هرابال الطويلة، وقد شارك الكاتب -البالغ من العمر آنذاك 75 عامًا- في دفقة أخيرة من التجلِّي الأدبي تفاعلًا معها؛ عبر سلسلة من المقالات والكتابات والرسائل التي غلب عليها طابع الكولاج، لذا كانت هذه النصوص التي حملت عنوان «إجمالي المخاوف: رسائل مختارة إلى دوبنكا»(5)، معقّدة من الناحية الأسلوبية، وصريحة بشكل صادم، إذ يتصارع هرابال فيها مع مشاعره المتضاربة حول الثورة والسياسة والفن، وعلاقته المشحونة والمخيفة مع الشمولية.
كتب هرابال أن رسائله إلى أبريل جيفورد كانت في جزء منها “اعترافٌ بخوفي”. خاصة أنها كتبت في الفترة التي أعقبت رحيل زوجته الحبيبة “إليشكا (بيبسي) بليفوفا”، ومع ذلك، فإن كتاب “إجمالي المخاوف” هو أيضًا عمل كاتب انتعش فجأة بأمل متجدّد في إبداعه وحياته، إذ حرّك إلهام جديد روحه الخاملة. يقول ألكسندر كاتشوروفسكي، كاتب السيرة الذاتية لبوهوميل هرابال، والتي صدرت عام 2016، إن “إجمالي المخاوف: رسائل مختارة إلى دوبنكا”: “عمل أدبي مثير للاهتمام، ليس فقط بوصفه شهادة على حقبة ما بعد الشيوعية في أوروبا الوسطى، أو باعتباره مصدرًا للمعرفة عن هرابال نفسه، ولكن أيضًا بوصفه نصًّا متفرّدًا لا مثيل له”.
يتضمن الكتاب رواية هرابال عن صداقته مع شابة أمريكية تدعى أبريل جيفورد، ولكن ماذا عن أبريل نفسها؟ لم ترو قصتها إلّا نادرًا في جمهورية التشيك، ولم يسبق لها أن تحدثت عنها مع صحفي أمريكي حتى الآن!
الفتاة والمعجم
حتى اليوم، وبعد مرور 30 عامًا على انهيار الشيوعية، يمكن أن تكون الحانات التشيكية التقليدية محميّات ذكورية مخيفة. في عام 1987، كانت حانة مشهورة في براغ مثل U Zlateho Tygra، أو “النمر الذهبي” ناديًا مُقتصرًا على الرجال، وبالرغم من هذا، أثبتت طالبة الدراسات العليا في جامعة ستانفورد أبريل جيفورد، الحاصلة على منحة فولبرايت الدراسية الرفيعة، أنها لم تتهيّب من ذلك. وبينما كانت براغ رطبة ومكبوتة وملوثة في الثمانينيات، وجدتها أبريل مدينة لا تقاوم، تقول: “لقد انفتح كياني كلّه على جمال براغ، حتى وأنا أعي كبتها التاريخي الطويل”.
وعلى الرغم من أنها كانت قد قرأت بعضًا من كتب هرابال في جامعة ستانفورد، إلّا أن جيفورد تأثرت كثيرًا بالضحك العارم الذي شهدته في العروض المسرحية المقتبسة من أعماله: “كانت ضحكات الجمهور لا تنقطع أثناء هذه العروض، وكان تفاعلهم هذا مذهلًا بالنسبة لي”.
أرادت جيفورد أن تكتب عن بوهوميل هرابال لصالح صحيفة انترناشيونال هيرالد تريبيون، وعن الضحكات غير المتوقعة التي أثارتها أعماله في بلد أطلقت عليه منظمة القلم الدولية لقب “الجمال النائم”، تقول: “بالرغم من أنني لست صحفية، لكن لأني كنت في تشيكوسلوفاكيا آنذاك، وهذا ما يحدث عادة، فقد توقعت أنهم سيهتمون، وهو ما حدث بالفعل”، نصحها أصدقاؤها التشيكيّون بالبحث عن هرابال في حانته المفضلة “النمر الذهبي”، حينها كان هرابال الكاتب الأكثر تأثيرًا في جيل ضمّ من بين أبنائه ميلان كونديرا والكاتب المسرحي فاتسلاف هافيل، المعارض السياسي البارز، الذي أصبح فيما بعد رئيسًا لجمهورية التشيك.
تقاوم أعمال بوهوميل هرابال القراءات السهلة، وإن كانت تعتمد في بنائها على أسلوبين فنّيين أصيلين في التشيك: الأول هو استخدام هرابال للغة المقاهي الشعبية التقليدية في بلاده، وهو التقليد نفسه الذي كتب به ياروسلاف هاشيك روايته الأشهر “الجندي الطيب شفيك”(6) عام 1922، أما التقليد الثاني فهو طريقة السرد الحداثية التي ابتكرها كتّاب وشعراء في عشرينيات القرن الماضي، ومن بينهم الشاعر ياروسلاف سيفرت والكاتب كاريل تشابيك، الذي صاغ كلمة “روبوت”، واستلهمتها منه التيارات الفنية لحركات التكعيبية والسريالية والدادائية.
كان هرابال مبتكرًا أدبيًا لا يهدأ أو يكل، فروايته “دروس في الرقص للمسنّين” عبارة عن قصة مكتوبة في جملة واحدة لاهثة، ومع ذلك فإن أعماله غارقة في رغوة الجعة والهواء الدخاني للحانات التشيكية، إنها كتابة تقدم أعماقًا غير مألوفة بلمسة كوميدية هزلية. كانت طاولته المعتادة في الجزء الخلفي من حانة “النمر الذهبي”، ويعلوها زوج كبير من قرون الوعل معلّق على الحائط. بقليل من الصبر، وتحمّل المضايقات اللطيفة من أصدقاء هرابال، التقت أبريل جيفورد أخيرًا بالكاتب.
في تلك الأيام، كانت جيفورد تصطحب معها دائمًا قاموسًا كبيرًا باللغتين التشيكية والإنجليزية، حريصة على استيعاب أكبر قدر ممكن من اللغة، تقول: “السبب الذي جعلني أحمله معي هو أنني كنت آخذ دراسة اللغة التشيكية على محمل الجد”. بالأحرى، كانت طبيعة جيفورد الطيبة وخفة دمها -وليس قاموسها- هي التي جعلت هرابال وأصدقاءه يعجبون بها، حتى أن أحدهم أطلق عليها اسم “دوبنكا”، تيمنًا بالكلمة التشيكية “دوبن” والتي تعني “أبريل”، وقد التصق اللقب بها.
تقول جيفورد إنها كانت تستمتع بالجلوس إلى الطاولة تحت قرني الوعل في الحانة، وتتذكر: “كان لديّ أصدقاء أحبّوا تعليمي كلمات وعبارات لا يصح أن تقولها امرأة من خلفيتي الثقافية عادةً، علّمني هؤلاء الأصدقاء هذه العبارات لأجرّبها على السيد هرابال، ولكن في النهاية كان أصدقاء هرابال هم من كانوا يضايقونني أكثر منه، لكنه كان يضحك، وكان ينصت إليّ”.
تتذكّر جيفورد تأثّرها بشكل خاص بصوت هرابال: “يكون التشديد في اللغة التشيكية دائمًا على المقطع الأول، وهذا يعطيها طابعًا موسيقيًا معينًا، لكن الطريقة التي كان يتحدّث ويقرأ بها هرابال كانت موسيقية بشكل خاص، كانت رقيقة جدًا، عندما كان يبدأ في القراءة كان الناس يلاحظون ذلك، لا يزال بإمكاني سماعه حتى يومنا هذا، كان يملك صوتًا رائعًا”. تتأمّل جيفورد حتى اليوم في ما تسميه “عدم التماثل” بين امتيازات عالمها الأمريكي، وتشيكوسلوفاكيا التي وجدت نفسها منغمسة فيها عام 1987: “من ذا الذي يقرّر لنا المكان أو الزمان الذي نولد أو نوجد فيه؟ ومن أنا حتى أقابل مثل هذا الكاتب الشهير”؟
تعمّقت صداقة جيفورد وهرابال، ولم يقتصر الأمر على الترحيب بها في حانة “النمر الذهبي” فحسب، بل تمّت دعوتها إلى بيت الكاتب الريفي في ضاحية كيرسكو المحاطة بغابة ضخمة شمال شرق براغ، لكن المغامرة العاصفة بين الكاتب وطالبة الدراسات العليا وصلت إلى نهايتها حين انتهت زمالة جيفورد الدراسية، لتعود إلى ستانفورد مجددًا لإنهاء أطروحتها الجامعية.
الولايات المبتهجة
من بين أكثر أجزاء التلاعب بالألفاظ سحرًا في “إجمالي المخاوف: رسائل مختارة إلى دوبنكا”، تحويل هرابال كلمة “الولايات المتحدة” “Spojené státy americké” إلى “الولايات المبتهجة” “Spokojene staty”، تتذكر جيفورد أنها وقعت في هذه الزلة اللغوية في حانة “النمر الذهبي”، وقد ادّعى هرابال بمودّة أنها من ابتكاره، وبينما كان الكاتب يحلم بكاليفورنيا في براغ، كانت جيفورد تفكر في جولة قراءة أمريكية لهرابال أوائل عام 1989.
كان من الصعب ترتيب لوجستيات أي جولة من هذا القبيل، وكون تشيكوسلوفاكيا كانت لا تزال تحت الحكم الشيوعي جعل الأمر أكثر صعوبة، وربما مستحيلًا؛ هل سيُمنح هرابال تأشيرة دخول إلى أمريكا؟ هل سيسمح للكاتب بمغادرة البلاد؟ كان إصرار جيفورد المطلق على إنجاح الجولة سببًا حقيقيًا في أن تتم، فقد تعاملت مع السفارة التشيكوسلوفاكية، ورتّبت محادثات الكاتب مع الصحافة، وتدخلت في جميع تفاصيل الرحلة العابرة للقارات، حتى أنها أنشأت منظمة طلّابية غير ربحية في جامعة ستانفورد للمساعدة في إدارة الشؤون المالية للجولة، وجاء أوّل تبرّع مادي من المخرج التشيكي ميلوش فورمان الحائز على جائزة الأوسكار مرّتين، وقد حذا حذوه العديد من المهاجرين والمؤسسات والمنظمات الأخرى. يستحضر هرابال الأساطير الإغريقية لوصف الجولة، مخاطبًا جيفورد عن دورها في تنظيمها: “أنتِ أريادني وأنا ثيسيوس، أنتِ تفكّين خيطًا طوله عدة آلاف من الكيلومترات… ليقودنا في النهاية إلى جامعة ستانفورد، وقراءة أخيرة في 25 أبريل 1989”.
وقع اختيار ناشر هرابال في الولايات المتحدة على الناقدة والمترجمة السويسرية سوزانا روث لترافق هرابال خلال جولته الأمريكية، لكن بداية الجولة كانت متعثّرة، حتى قبل أن يصعد هرابال إلى الطائرة، فقد كان قلقه بشأن تأشيرته وترتيبات سفره شديدًا، لدرجة أنه سقط بعد نوبة من الشراب قبل الرحلة في براغ، وكان لا يزال في حالة يُرثى لها في أول ظهور له في الولايات المتحدة، كان ذلك خلال لقاء عقد(7) يوم 22 مارس 1989 في مركز وودرو ويلسون الثقافي، حيث قدّمه الروائي التشيكي أرنوشت لوستيغ، واستمرت الجولة في نيويورك، حيث لعب هرابال “كرة الطاولة الأدبية بينج بونج” مع سوزان سونتاغ: “قالت هي فيليب روث.. وقلت أنا يوزف روت، مدافن الكابوشيّين”.
تأرجحت رحلة الكاتب غربًا إلى شيكاغو ونبراسكا ومحطات أخرى، ثم إلى كاليفورنيا. في “إجمالي المخاوف: رسائل مختارة إلى دوبنكا”، تستمر لعبة البينج بونج الأدبية على قدم وساق، يتأمل هرابال في ديلان توماس في نيويورك، والشاعر كارل ساندبرغ، وكاتب “جيل البيت” جاك كيرواك الذي قام برحلات بعيدة مماثلة عبر المشهد الأمريكي في “على الطريق”.
قدّمت جيفورد الكاتب بمقدمة موجزة ومرتبكة بعض الشيء، ثم قرأ هرابال وتحدث، مع ترجمة فورية قدمها مايكل هنري هايم، الأستاذ في جامعة كاليفورنيا في لوس أنجلوس، والذي نقل بعضًا من أعظم أعمال هرابال، ومن بينها “عزلة صاخبة جدًا” و”موت السيد بالتيسبرغر” للقراء الناطقين بالإنجليزية.
افترق هرابال وجيفورد مرة أخرى بعد انتهاء الجولة، وقد أنهت هي أطروحتها عام 1993، ولكن ليس قبل أن تعاني من انتكاسة اكتئاب شديد، تترك على إثرها مجال عملها الأكاديمي، أسست جيفورد عائلة في الولايات المتحدة الأمريكية، ولم تعد إلى براغ إلّا بعد فترة طويلة من وفاة الكاتب، وتحديدًا عام 2005.
قهر المخاوف
على الرغم من تباعد مساراتهما في الحياة، إلّا أن قصّة هرابال وأبريل الأدبية لم تنتهِ بعد. بدأ هرابال في كتابة رسائله إلى أبريل بعد جولة الولايات المتحدة، ولكن في وقت مبكر من يناير 1989، كان قد بدأ بالفعل في استكشاف الأشكال الكتابية التي تجمع بين التأملات الشخصية والتلميحات الأدبية والملاحظات السياسية، إحدى هذه المقطوعات التي كُتبت قبل الجولة كانت قصة “الناي السحري”، والتي استبقت العديد من أحداث ذلك العام الميمون، ومع ذلك، كان التدهور السريع وانهيار الشيوعية التشيكية هو ما دفع هرابال إلى كتابة سلسلة كاملة من الرسائل الشبيهة بالكولاج الموجه إلى جيفورد، بدءًا من أغسطس 1989 وحتى عام 1990.
“إجمالي المخاوف: رسائل مختارة إلى دوبنكا” أرجوحة أدبية، تقفز لتربط بين الماضي والحاضر، بين الشخصي والعام. في إحدى الرسائل يقفز هرابال برشاقة من البلغار الذين يغطون تماثيل جوزيف ستالين “حتى لا يصاب بالبرد” إلى طفل براغ الشهير، وهو “دمية الطفل يسوع الشمعي الذي تُلبسه الراهبات كل يوم ملابس جديدة في كنيسة في حي مالا سترانا في المدينة”، ويهبط أخيرًا على صانعي الثورة المخملية الذين يسميهم: “الملايين من اليسوعيين الصغار، الذين يرتدون ملابس الطلاب والممثلين والمهرجين والشباب، الذين أعطوا الأسبقية على المعرفة الصارمة لميول قلوبهم”. يقول ألكسندر كاتشوروفسكي: “أعتقد أن زيارة أمريكا والثورة المخملية قد أطالا من عمر هرابال عدّة سنوات، لقد حفّزتا بالتأكيد إلهامه الإبداعي؛ وبفضل هذه الأحداث كان نشطًا ككاتب حتى منتصف التسعينيات”.
لم يرسل هرابال “رسائله” قط إلى جيفورد بريديًا، إلّا أنه قام بنشرها سريعًا، ظهر المجلد الأول بعنوان “إعصار نوفمبر” في أوائل عام 1990، ونستطيع ملاحظة نبرة من الإلحاح في هذا المجلد، تُظهر لقطات وثائقية من تلك الحقبة في فيلم أنتجه أرشيف “فن المنفى التشيكي”(8) عام 2015 بعنوان Na přelomu časů، بائعي الكتب وهم يفتحون نسخًا من “إعصار نوفمبر” ويبيعونها في الشارع وسط براغ بينما يراقب هرابال ويوقع نسخًا من أحدث أعماله، وفي النهاية، وصلت هذه النسخ من الرسائل إلى المرسل إليه، تتذكر جيفورد: “كنت في حالة من الصدمة، لأنني شديدة الحرص على خصوصيتي، ولكنني فهمت أن هرابال كان يعنيها كهدية، وأن صدورها في كتاب كان شرفًا لي”.
يوثق “إجمالي المخاوف: رسائل مختارة إلى دوبنكا” أيضًا ازدواجية هرابال المدروسة حول السياسة في الأدب، فقد كان أكثر نشاطًا في المعارضة أكثر مما هو معترف به عمومًا خلال ربيع براغ، وسرعان ما تم منعه من النشر من قبل المتشددين الصاعدين بعد أن زحفت الدبابات السوفيتية إلى براغ، ومع ذلك، لم يوقّع هرابال على بيانات المعارضة السياسية التشيكوسلوفاكية ضد الشيوعية بعد عام 1968، وقد سُمح له بالنشر والتعاون في صناعة الأفلام مرة أخرى، بعد نشر حوار في مجلة تفوربا Tvorba عام 1975، وهو حوار تم تغييره بشكل كامل من قبل المحرر، وعزّز بمقاطع مؤيدة للنظام لم ينطق بها هرابال نفسه.
وقد زاد من تعقيد الخلافات حول سياسة هرابال الموحلة خلال السبعينيات، دوره كشخصية مزعجة باستمرار لنفس السلطات التي كانت قد سحبت أعماله وحظرت نشرها، وتم تهريب بعض من أفضل كتاباته النثرية في السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي إلى خارج تشيكوسلوفاكيا ونشرها (دون رقابة) في طبعات ساميزدات.
ويلاحظ ألكسندر كاتشوروفسكي أن هرابال “كان يكره الصراعات الأيديولوجية والسياسية التي عانى منها طوال حياته، وليس فقط من قبل الشيوعيين. في الواقع، كان هرابال لا يعترف إلّا بالمعايير الجمالية؛ فـ: “الجمال وحده هو الذي يبرّر العالم ووجود الإنسان والكاتب، ويمكن للجميع أن يصنعوا الجمال، حتى الرجال الجالسون في حانات البيرة”، وبالرغم من رأيه هذا، إلّا أن السياسة غالبًا ما كانت تتدخّل في تقييم أعمال وشخصية هرابال، في كتابه “إعصار نوفمبر”، يتذكر جلسة حوارية خلال جولته بالولايات المتحدة، بينما كانت الشيوعية لا تزال مسيطرة في تشيكوسلوفاكيا، يقول: “مرّة أخرى كان لدينا فاتسلاف هافيل، بالطبع، وماذا كان لديّ كي أقوله عن الرقابة والملاحقين والمضطهدين ظلمًا.. أجبت على كل هذه الأسئلة الصادقة والجارحة، محاولًا أن أقول إنني هنا لمناقشة الأدب، لكنهم قالوا إن الأدب يجب أن يعكس الحياة، وقد تحمّلت مسؤوليتي عندما قلت إن الحقيقة يجب أن تقال مهما كان الثمن”.
في الأجواء الجديدة من الحرية والانفتاح بعد نوفمبر 1989، أعاد المثقفون التشيكيّون إحياء هذه الأسئلة، وطالبوا هرابال بإجابات صريحة وواضحة عليها، والواقع أن أكثر اعترافات هرابال الذاتية صراحةً كانت في رسالة بعنوان “إجمالي المخاوف”، كان ذلك المقال، الذي جاء في جزء منه ردًا على مقال آخر بعنوان “الهرابالان”، نشره الروائي التشيكي إيفان كليما في صحيفة Literární noviny عام 1990. كتب هرابال فيه متذكرًا أسئلة صحفية دنماركية عن تجاربه بعد عام 1968: “سيدتي الدنماركية العزيزة، تلك هي بداية «جلجثتي» الصغيرة، ما تسمّينه الشمولية، الشمولية… والآن عودي إلى البيت، شكرًا لكِ على جعلي أتجاوز كل تلك المخاوف والرهبة من تلك الشمولية الصغيرة، التي كادت أن تفقدني صوابي لولا هذه الثورة المخملية”.
يفتح هرابال في كتابه “إجمالي المخاوف: رسائل مختارة إلى دوبنكا” نافذة على لعبة الشرطي الصالح/ السيئ الرديئة التي لعبتها السلطات في تلك السنوات، ويصف بالتفاصيل الموجعة الإغراءات والفخاخ التافهة التي كان يقدّمها إليه أصحاب السلطة، كاشفًا النقاب عن الخداع غير المجدي الذي يقف وراءها، من تهديدات وضغوط للتعاون ومصادرة كتب وإلغاء مشاريع سينمائية. إن استعداد هرابال لاستكشاف الإهانات والإخفاقات المطلقة لكاتب كبير متورّط في أسوأ ما في التاريخ هو ما يجعل من “إجمالي المخاوف: رسائل مختارة إلى دوبنكا” وثيقة مهمة، فهي ليست قصة شجاعة، وهذا هو بيت القصيد. وبالفعل، يختتم هرابال المقال بملاحظة مفادها أن “هذه الأمة لديها في جيناتها ما لديّ في جيناتي؛ الميل إلى الخمر والشيوعية”.
ومع ذلك، هناك شجاعة هائلة في “إجمالي المخاوف”، إنها آخر حساب كبير لهرابال مع سرديته الخاصة، يرويها بعبقريته الأدبية بعيوبها وحسناتها، وهي أيضًا رسالة ينتصر فيها الفن على الخوف علنًا.
الخاتمة
لا تزال حانة “النمر الذهبي” تفتح أبوابها يوميًا في الساعة الثالثة عصرًا بمدينة براغ القديمة، وتضم الآن أيضًا تمثالًا نصفيًا لهرابال، حيث يجد السائحون دائمًا صعوبة في حجز مقعد. في أول رحلة لها إلى براغ عام 2005، زارت جيفورد الحانة الشهيرة من جديد، ورأت صورة بالحجم الطبيعي لهرابال معلّقة على الحائط تظهر عند دخول الزبائن، تقول: “كان الأمر كما لو كان لا يزال هناك، ما زلت أسمع صوته وأتذكر إيماءاته”.
بعد سنوات قليلة من انتهاء هرابال من كتابة “رسائل إلى أبريل”، اصطحب الرئيس التشيكي فاتسلاف هافيل نظيره الأمريكي بيل كلينتون إلى “النمر الذهبي” خلال زيارته الرسمية إلى براغ في يناير 1994، وهناك شرب كلينتون الجعة وأكل شنيتزل في الحانة بعد السير على جسر تشارلز في أمسية باردة، وقد حرص فاتسلاف هافيل على أن يكون هرابال هناك أيضًا، وفي النهاية دعا الكاتب إلى طاولتهما، وقد تضمن تقرير وكالة الأنباء التشيكية CTK عن هذا اللقاء الرمزي ملاحظة هرابال لكلينتون بأن: “براغ مدينة النوبات القلبية المفاجئة، وصانعي الملابس الحنونين”.
تعترف جيفورد وهي تشرب كوبًا من الشاي بأنها لم تتقبّل دورها في هذه الدراما الأدبية بسهولة، تقول: “إنه حقًا جزء خفي من حياتي، لديّ ابنان ناضجان ولا يعرفان إلا القليل عن هذا الأمر، فهما لا يهتمان كثيرًا بوالدتهما التي تعرف اللغة الروسية. لقد أهداني هرابال مجلدًا كبير الحجم عن أعمال الفنانة جورجيا أوكيفي ولوحاتها الشهيرة للزهور(9)، وأهداه لي بكلمة: “إلى ملهمتي”، وكما نعرف يملك الفنانون ملهمات مختلفات من وقت إلى آخر، ربما كنتُ ملهمته لفترة ما، أو ربما كنت أعني له شيئًا”.
الهوامش
ريتشارد بيرن Richard Byrne: محرر مجلة ويلسون الفصلية.
بوهوميل هرابال: «إعصار نوفمبر»، 21 نوفمبر 1989.
فرانز فرديناند كارل لودفيغ جوزيف ماريا Franz Ferdinand Carl Ludwig Joseph Maria (1863 – 1914): كان الوريث المفترض لعرش النمسا والمجر، إذ كان الابن الأكبر لأرشيدوق النمسا كارل لودفيغ، والأخ الأصغر لإمبراطورها اللاحق فرانز جوزيف الأول، تسبّب اغتياله في اندلاع الحرب العالمية الأولى. بعد وفاة ولي العهد الأمير رودولف عام 1889، ووفاة كارل لودفيغ عام 1896، أصبح فرانز فرديناند الوريث المفترض للعرش النمساوي المجري. تسببت مغازلته لصوفي تشوتيك، وصيفة الملك، في نشوب صراع داخل الأسرة الإمبراطورية، ولم يُسمح بزواجهما العرفي عام 1900 إلّا بعد أن تخلّى عن حقوق نسله في العرش. كان لفرانز فرديناند نفوذ كبير على الجيش، وفي عام 1913 عُيِّن مفتشًا عامًا للقوات المسلحة النمساوية المجرية، ليتم اغتياله بعد عام واحد، وتحديدًا في 28 يونيو 1914.
ساميزدات Samizdat: نظام سرّي لتداول الكتابات المنشقة في الاتحاد السوفييتي ودول الكتلة الشرقية، بعيدًا عن رقابة المؤسّسات الرسمية المسؤولة عن النشر، وقد شكّلت طبعات ساميزدات شكلًا من أشكال الاعتراض السياسي في زمن الرقابة السوفيتية الرسمية الصارمة، في مواجهة النشر الرسمي العام والخاضع لرقابة السلطات الحاكمة. علمًا أن جميع الوثائق التي كانت تُنشر وتوزّع بشكل قانوني في الاتحاد السوفيتي كان يجب أن تتم الموافقة عليها مسبقًا من قبل الرقباء، وكانت مسؤولية الرقابة تقع على عاتق «غلافليت»، وهي هيئة الرقابة الرئيسة في الاتحاد السوفيتي، والتي أنشئت عام 1922، وقد تغير اسمها عدّة مرات، لكن الاسم المختصر «غلافليت» لا يزال اسمها الحالي شبه الرّسمي، وهو اختصار لـ «المديرية العامة للآداب والنشر»، الاسم الرسمي للهيئة عام 1922، ومنذ عام 1931 أوكلت مهمّة الرقابة إلى «لجنة الصحافة الحكومية»، كما كان ممنوعًا أيضًا الحصول على أي وثيقة أو حيازتها أو نقلها بأي وسيلة من وسائل النسخ (آلة تصوير، مطبعة، إلخ)، ولم يُسمح سوى بالآلات الكاتبة فقط، وكانت آلات التصوير وجميع وسائل الاستنساخ ملكًا للدولة، ويحرسها ضباط أمن ويخضع استخدامها لإشراف صارم.
Bohumil Hrabal: ‘Total Fears: Selected Letters to Dubenka’, Translate: James Naughton, Twisted Spoon Press, Prague 2014.
ياروسلاف هاشيك: «الجندي الطيّب شفيك»، ترجمة: توفيق الأسدي، منشورات وزارة الثقافة السورية، 1986.
«جورجيا أوكيفي» Georgia O›Keeffe (1887-1986) فنانة أمريكية امتدت مسيرتها المهنية لسبعة عقود وظلت أعمالها مستقلة إلى حد كبير عن الحركات الفنية الرئيسة. اكتسبت أوكيفي، التي أُطلق عليها لقب «أم الحداثة الأمريكية»، شهرة عالمية بفضل لوحاتها الدقيقة للمناظر الطبيعية، وخاصة الزهور والطبيعة المستوحاة من الصحراء، والتي غالبًا ما كانت مستمدة من الأماكن والبيئات التي عاشت فيها الفنانة وارتبطت بها.