"إنني سأبقى ابنا لهذه الأرض. وسأظل على اعتقادي بأن الإنسان، مهما يكن ومهما تعده أنت ملوثا، عليه أن يجيد اللعب بما قسم له الحظ من ورق ".
اندريه جيد
(من روايته ثيسيوس)
الى أي مدى يمكننا أن نحكي حكاية ؟ ربما للمدى الذي لا نعرفه، والذي يجب الا نعرفه (البقعة) أحد مخيمات اللاجئين الفلسطينيين في مدينة عمان العاصمة، وتحديدا فيما بعد مدينة صويلح بقليل. في المخيمات تكمن تفاصيل الحياة المختلفة، المرغوبة واللامرغوبة وتظهر من بين زقاق شوارع المخيمات غير المسفلتة، رائحة مختلفة لكل شيء، حتى القاذورات تكتسب رائحة يصعب تحديدها، انما خليط مباشر وغير مباشر لكل الكائنات الشريدة والضالة والمستوحشة والمسالمة والمتجانسة.
"علياء" أحد تلك الكائنات التي يصعب تحديد ملامحها بشكل ثابت ومستقر، إنها خليط من نتابج البذرة الأولى للممارسة الجسدية الشرعية، وهي خليط من نتاج تلوث السحاق الشاذ والبشع، وخليط من نتاج النفايات العربية، إنها ذلك اللابلازما، اللازلال، اللاتحديد.
الكائنات حين ترحل بعيدا عن الأرض، تكتسب على الأقل اعترافا من نوع ما، تكتسب الموجودية وهي تودع دار الكينونة الجسدية والروحية تكتسب وجودا ينظر اليه بعضهم على أنه شهادة، وطرف آخر قصي يراه تضحية، وطرف آخر يراه وجودا بقرب نجمة الله، وآخرون لا يشبهوننا في شيء يرونه نطفة البراز الأخيرة.
أوقفنا الحافلة الوطنية، كنا مجموعة غير كبيرة من نتاج خليط الجسد، من بيننا كانت علياء أقلتنا الركوبة نحو الهدف غير الواضح بالنسبة لي على الأقل، توقفت الحافلة الوطنية وترجلناها كلنا، لنصعد ركوبة أقل لتقودنا الى حيث المحطة الأخيرة. تعرفنا على ملامح المحطة، إنها كل التكدس لكل النفايات البشرية.بدأنا الانطلاقة نحو الهدف الذي بدأ يتضح قليلا بالقياس العددي. من محطة باصات البقعة مشينا ما مسافته على الأقدام 3 كيلومترات وربما بزيادة قليلة. المارة ينظرون الينا مندهشين، كنا جماعة تسير بخطوات شبه عسكرية وأجسادنا متلاصقة ببعضها، والنية كما تبدو كانت معقودة لدى بعضنا بالحسنى إلا علياء.
فلافل أبو شاكر مطعم كل واشكر، بوتيك البقعة يرحب بكم، كل هذه اللافتات ترحب بنا فعلا، وكانت بمثابة علامات بارزة تألمنا على الطريق اذا ما دخل علينا الليل أو إذا ما تهنا، وطفل في الثانية عشرة ظل يتبعنا من بداية الوصول وهو ينادي بأعلى صوته (علكة أبو سهم اشتري حبة الله يخليك، الله يرضى عليك، اشتري حبة، والله العلكة حلوة في تم النسوان الله ينجحكم اشتروا) قال هذه الرغبة الأخيرة بغضب شديد، رمقته علياء بنظرة حادة ء لكمته بكوعها فسقط على الأرض، وتناثرت كل كرتونة العلكة المهربة على التراب اللزج، أخذ يصرخ (الله يأخذك).
(لماذا فعلت ذلك مع الصبي): ضحكت علياء ونحن مازلنا نسير، "نادر! تقصدين الصغير نادر! لا أعرف، ربما انتقاما من صديقه سلطي، يبدو لي أن كل الذكور يستأهلون الضرب، مسكين نادر". وواصلت ضحكتها الفقيرة، وعلى أية حال سيبقى موقف علياء مع نادر علامة بارزة ووحشية تدلنا على طريق العودة التي ربما قد تكون متأخرة.
أخذت كل واحدة منا مكانها في بيت قارئة الفنجان الصبية ضحى. البيت متواضع لدرجة أن ملامحه باهتة. دخلت والصينية معا، وزعت الفناجين، أخذت مقعدها المناسب وبدأت في ممارسة شعوذتها. أخبرتها أنني أشرب القهوة بدون سكر، اندهشت مصطنعة وقالت: " يبدو أنك لا تريدين أن أقرأ لك فنجانك ". أصرت الصبية ضحى على إحضار فنجان قهوة جديد بدون سكر. «لا أعرف هل سيتأثر الحظ إذا كانت القهوة حلوة أو مرة » قالت علياء ذلك وبدأت تلاعب خصلات شعرها الفقير.
من بعض ملامح علياء أنها تجيد التحدث عن كل شيء إلا الأغنياء، فهم شيء آخر وغير مجرب. "عجلي يا ضحى قبل أن يدركنا المغرب، يجب أن تكون الصبايا في عمان قبل تسكيرة السكن" القت اخت ضحى اوامرها في شيء من الاستعلاء، واخذت تقص لنا حكاية الجني الذي تلبس اختها، وكيف التقى بأبيها واشترط عليه الاب ان يدخل ولكن بدون ايذاء ابنته وكيف اخذت ضحى على نفسها عهدا ان تكون قارئة فنجان مسالمة.
"بدأت الحكاية عندما مرضت ضحى وشعرت بآلام حادة في مفاصلها ورأسها، وكيف توقفت عن المدرسة، وكيف خدمت الناس عن طريق قراءة فناجين شقيقاتها وجاراتها وكل نساء البقعة، فيما بعد في يوم من الأيام قرأت ضحى فنجان صديقتها المطلقة، وأذن المغرب، اللهم أحفظنا تلك الليلة ما رأيت مثلها، لقد عذبها الجني عذابا شديدا، ومن يومها اشترطت أن تقرأ حتى قبل الآذان فقط. هؤلاء الفقراء لديهم اعتقادات غريبة لدرجة الهبل، يؤمنون بوجود قوة غريبة تسيطر عليهم، وأنها قادرة على نفعهم وضرهم، اذا كان الله قد أكد على أن النفع والضر من عنده فلماذا يؤمنون بهذه الكائنات وبأن لديها قدرة عجيبة على إتيان الفعل ؟ على أية حال لا أحب التحدث في مثل هذه الأمور، لأن ثقتي في الله كبيرة وعظيمة، غريبون حقا هؤلاء الفقراء، هل تعرفون اذا عجز الله يوما عن قبض أرواحنا في ميعادها، وعن إظهار الشمس والقمر والمطر ربما سألجأ لضحى" ظلت علياه تتحدث وتقذفنا بفلسفتها حتى وصولنا محطة باصات البقعة الأخيرة وبدأت من خلال تلك الفلسفة تبرز بوضوح يشي بالصعوبة.
صعدنا الباص، كنا الفتيات الوحيدات في ذلك الليل، حجزنا الصف الخلفي، أستشعر شوفير الباص أننا نختلف كثيرا عن كل الراكبين ني هيئتنا وأشكالنا في ثيابنا ووجوهنا في "ميكاجنا" واستجابة لذلك الاختلاف أخذ صوت طلال مداح يغني مرمر زماني، وصار الكل ينظر الينا إذ أخذنا نبتسم لسرعة الاستجابة، كانت علياء بجوار النافذة تنظر الى غابة أشجار الليل والمارة فقالت في شيء من الشرود:"مرمر زماني ليست لطيفة، يا ريت لو نسمع فيروز".
هطل المطر بشدة، وكان علينا أن نذهب فالسكن سوف يغلق. "لا يمكنكن الذهاب في مثل هذا الجو. تريثن حتى يهدأ المطر" ولمكننا أصررنا، وأصر العم أبو خالد أن نجلس فمازال الوقت مبكرا، فجلسنا نحتسي القهوة. عند العم أبو خالد لا نشرب القهوة، ولا نأكل إلا المكسرات، ولا نسمع إلا ماجدة الرومي وهي تغني بحبك،بحبك. أوشكت الساعة على التاسعة إلا ربعا، وأصر العم أبو خالد القاطن بيته في أحد مرتفعات ضاحية الرشيد أن ترتدي كل واحدة منا «بوتا» رياضيا بدلا من أحذيتنا الأنيقة، كما أصر على منحنا شالات تقي رؤوسنا قوة المطر والبرد. في الطريق تمر الحافلات الوطنية دون أن تتوقف، أدركنا بعدها أننا كنا نقف في الموقف الخطأ. «من فضلك أوصلنا الى سكن الطالبات المقابل للجامعة» دلفنا بأجسادنا وثيابنا المبللة نتذمر من شدة المفاجأة إلا علياء فقد ظلت مستمعة الطقس وفجائيته علقت قائلة: " أريد أن أتوحد مع المطر" رغبتان ملحتان تقرباننا بشدة من علياء: فيروز والمطر، أضف الى ذلك الحنين الذي تتركه فيروز في كل أغانيها، هو الحنين الى الطفولة الأولى قبل انفضاض بكارة القرية، هو الحنين الى الفصول الأربعة اليي تتوحد عند الإتيان، وهو الحنين الى منجزات الطبيعة الجميلة، هو الحنين الى الرغبة في التوحد مع كل الأشياء بتفاصيلها الدقيقة: الثلج، ابريق الشاي، السوسنة العرس، الرحيل الى كحملون، الخروج عن كحلون، المقعد الصغير، ومعاطف الشتاء.
"علياء عرق أخضر" هذا هو عنوان المقال الذي قررت أن أكتبه عن علياء على أثر حادث وفاتها المفاجيء. كانت تحدثني في أيام الصيف عن الكتابة بشكل مستفز: "الكتابة أعظم فكاهة في العالم، أنها أكثر الأفكار صبيانية ومسخرة، لذلك اذا قررت الكتابة عني فلن يكون ما سوف تكتبينه جديرا بالتقدير، والاحترام، لأنك ستكتبين ساعتها عن الموت، نعم الكتابة تقود الى الموت والحزن ". الموت درس خصوصي لتعلم الفلسفة. الفلسفة هي تعلم الموت هكذا أنهى الدكتور سلمان البدور درس الفلسفة وابتهجنا بأن الطقس مازال صحوا، رغم أن الوقت يشير الى الرابعة. عدنا للبيت هكذا أسمي السكن الخارجي للطالبات، ارتدينا معاطف أثقل تجنب لمنخفض جوي مفاجيء، وجلسنا ننتظر قدوم علياء التي وعدتنا بزيارة لمخيم آخر. طال الوقت ولم تأت. هل نذهب بدونها؟ لا نعرف لها عنوانا ثابتا، فكل الأكواخ والمخيمات والحدائق هي بيوت لها. هل تعرضت لخناقة مع أحد المتسولين، أو الشوفيرية كما حدث غير مرة ؟ في أثناء العودة من مجمع رغدان، حيث تجتمع كل باصات النقل الوطني والتجاري وبائعي منتجات البلد صعدنا مع علياء الباص، وجلسنا في الصف الخلفي كانت الأجساد متلاصقة لدرجة تشي بالنفور "اسمعني جيدا إذا نظرت للخلف مرة ثانية فسوف أفقأ عينيك بشمسيتي هذه " ألتفت الرجل ذو الشارب الكث محاولا الدفاع عن موقفه قائلا:"ايش فيك يا اختي حدي طالع عليك هلا، Li والحمد لله مكتفي، عندي خطيبتي والعرس بده يكون الشهر الجاي ليش أطالع عليك ؟" علياء حين تستفز تعرف كيف تتكلم وكيف تشتم، انها تفعل ذلك بالفصحى. هي المرة الأولى التي تشعر فيها علياء بأنها غير مرغوب فيها إذ لم تكن تبتدع طريقة ثابتة وجيدة في اللباس كان الرمادي والأخضر اللونين اللذين ابتهج أنا بهما عليها، أما حي فكانا يمثلان لها الكفن والفقر المدقع "كل شيء يا آمنة يرتبط معي بالبؤس، نعلاي القديمتان ومشطي التافه ومكياجي الرخيص وطلاء أظافري المستهلك" انفجرت علياء في وجه الرجل "يا أخي أنا لا يعنيني اذا كنت خاطبا أم لا، فلتذهب للجحيم، أتمني أن أعيش لليوم الذي أحضر فيه نعشك، فلتلعن الظروف التي جعلتنا نركب فيها هذا الباص وكل باصات الليل.
"يموت الانسان إذا لم يصرخ، وربما ستنقرض البشرية لعدم ممارسة هذه اللذة. الإنسانية بدأت تعود للبربرية الأولى، إننا لا نعرف كيف نحب أو نغار على من نحب، أو نتحاور عن الحب، كل الظن أن الشيخوخة بدأت تزحف نحو الكتابة وصحفنا العربية دليل على ذلك، هناك كثير من الكتاب يصورون بدايات الحب وكأنه زهرة يانعة ويافعة، المحب ليس هو ذلك البرعم إنه أكبر من ذلك ".
توقفت علياء عن طرح فلسفتها عندما أحضر النادل أطباق الهامبورجر، مع رقائق البطاطا المغموسة في الكاتشاب، بدأنا الأكل وشربنا الكولا الباردة، رغم برودة الطقس. انتبهت علياء الى أنها كانت حادة المزاج على أثر الموقف الذي حدث في الباص " لا أعرف، لقد استفزني بكلامه، كان يجب أن أصرخ والا سأنقرض، هل تعرفون، هناك شيئان يقللان من غضبي الماء
والاكل".
قررت علياء أن تذهب للضفة، لذلك غابت عن عيوننا أسبوعا كاملا، كنا نبحث عنها دون جدوى وفجأة وفي اثناء خروجنا من بوابة الجامعة الرئيسية اصطدمنا بها تحاول تسلق الباص "هناك في الضفة تدور الكتابة عن الخراب والأمل والموت، تحديدا لم أفقد في مذبحة الحرم الابراهيمي أحدا أعرفه على وجه الخصوص، لقد فقدت الجميع، فقدت الرجل الذي كان يمكنني أن أتزوج منه يوما من الأيام، كنت أريده رجلا معجونا بالطين والزعتر".
توقف الباص في مجمع العبدلي، وترجلناه لنسير سويا على الأقدام حتى وسط البلد وتحديدا عند جامع الحسين، اختلطنا وامتزجنا برائحة قديمة عندما بدأنا نتفقد الكتب في مكتبة دار الفكر وقررنا العودة الى البداية، الى حيث الفن والملح والأسطورة، بحث عن دواوين الشعراء وعدنا وعاد معنا محمود درويش والمتنبي وكان انتشاؤنا بهما تلك الليلة أكثر توحدا من أية ليلة سابقة. في ذلك المساء أخذ الكلام شكلا آخر لتعبيرات الجسد، بدأت ختام الحديث عن الثابت والمتحول وبدأت علياء الكلام عن الناس في المخيمات والشوارع والأزقة التي «يتضرط » فيها الانسان قبل الحيوان، صارت تتحدث عن الفقراء والطقس والحب، وبدأت منال تتحدث عن تجربتها مع السجن وكيف كان التعذيب وكيف قامت بإرسال قصائدها عبر نافذة السجن الى كل أبناء النكبة.
شعرنا بالجوع، والتحمنا كالجسد الواحد في غرفة صغيرة تزدحم بسريرين قديمين، وموكيت لا وجه له، وتسريحة خشبية فقدت ألوانها، وخزانة حفظ الثياب التي نذهب بها للجامعة والحفلات، والمعارض، والندوات، والسينما، والمخيمات والزيارات الأسرية لبعض الأساتذة، كانت الخزانة مزدحمة ومضغوطة لدرجة الانفجار.. توسط التحام أجسادنا مقلاة البيض بالطماطم وزيت الزيتون والخبز، والقليل من رقائق لحمة المرتديلا وسمك التونة والكثير من الزعتر البلدي والزيتون الأسود الذي كانت تحضره لنا أم الجميع من جنين وبالجوار كان ابريق الشاي يصفر معلنا انتشاءه بصوت فيروز المنبعث من جهاز الراديو القديم.
بدأت حبائل الدخان تعطي الجو طقسا آخر " خذيني يا أرضي واستولي علي " صرخت علياء وهي تقف بجانب النافذة تنظر للعربات الواقفة على أثر الثلج البائت وبائع الذرة المصري أحمد يهم بالانصراف. بدأنا الغناء والرقص. رقصنا الدبكة معا، تداخلت الأشعار الشعبية ولأنني أختلف عن الجميع غنت علياء…
طلعت ما ما حلى نورها شمس الشموسة
يا لله بنا نملي ونحلب لبن الحاموسة
آعد عالشط ياخلي اسمر وحليوه
جاب الطاقية وقالي غني غنيوه
انتشى الجو بالحنين الى فيروز والدخان وانتشينا ونحن نغني "قديش كان في ناس" وانتشت علياء في نشوتها ان ترقص رقصة الجلوة (1)، بحثنا عن الشموع دون فائدة، وبرقت الفكرة مشتعلة فاشعلت المزيد من السجائر، وبدأت علياء الرقص حتى الغفوة مع سحابات الدخان المهرب عبر حدود السعودية.
أجساد تسد الطريق نحو الضفة الاخرى
لا شيء امامها الا الانتظار
انتظار تذكرة الصفر والبطاقة الخضراء
اجساد تسد الطريق نحو التذكرة
تتدافع الاجساد الضخمة ببعضها
بعضها يندفع ببعضها
وبعضها ينتظر التذكرة
"هذه المرة لن احمل معي شيئا سوى فرشاة الاسنان والمعجون الاخضر والبشكير وديوان محمود درويش وغليون عمو ابو خالد"… وكتبك؟
" الفستق، والبابونج، والزهورات، والزيتون والزعتر، سأتركها لك مع الكتب، بالمناسبة سآخذ بخورك الظفاري ايضا ربما سأحرق به نفسي واحرق به فيما بعد كل الضفة (ضحكنا) لكنني اخشى عند التفتيش ان يأخذوا كل هذه التفاصيل".
هدأت الاوضاع بعد المذبحة الابراهيمية، كما هدأت احتجاجات الطلبة واخذت المحاضرات جانب العادية الاكادمية. علياء لم تهدأ ولكنها ايضا لم تثر، فقط اكدت رغبتها في السفر الى الضفة "خذيني يا أرض واستول علي" كررتها علياء للمرة الثانية ونحن نحتسي القهوة الأمريكية في مقهى صالة الأندلس "لن يتغير الوضع، الأسرائيليون يريدون لنا أن نهدأ حتى تسير المفاوضات في صالحهم، لن يتغير شيء سأعيش في عالم آخر من العزلة والشحاتة والثياب المهترئة اذا بقيت هنا سأتوافق مع المخيم بكل تناقضاته التي تعرفونها، ولكنني لن أقبل أن يكون هو منفاي الأخير" كان ذلك الكلام آخر ما قالته علياء قبل السفر وموعده المفاجيء، إذ ذهبنا لزيارتها فأخبرتنا احداهن أنها سافرت، وعندما بدأنا السؤال عنها عبثت المحاولات كلها. أخبرنا عصفور النار في حدود السادسة مساء أن علياء قد رحلت حين أرادت صعود الجسر، اغتيلت غدرا برصاصات الفراع العربي وشراذمة السائقين وراكبي حافلات الأتوبيس.
" كانت علياء عرقا أخضر، كان جسدها عذبا جدا، باردا جدا، نحيلا جدا، عديم القوة على إتيان الفعل جدا جدا، كانت تمتليء عذوبة المزين يرحلون الى منازل القمر الأخيرة" تدافقت الكلمات الى صدري تدفقا نزيها وأنا أنظر الى جثتها الباردة، تساءلت بخبث: هل تتألم "موجة البرد الفائت أتعبتني كثيرا، جيوبي الأنفية تزداد ألما ووجعا. الطبيب أصر على إزالة اللحمة الزائدة، أخبرته أن ما أكسبه من قوت يومي أصرفه على أمي وتعليم اخواتي حتى لا يكن مثلي متسولات" ما عادت علياء تتألم، او تتوجع، يبدو لي أنها لا تشعر بضغط الذين يغسلونها بماء وبرد، لقد حققت علياء توحدها مع المطر.
أمام أحد المقاهي الحديثة (فارنا) وقنت علياء تنتظر قدوم أحد الطلاب الأثرياء لتتسول منه ثمن دواء لرأس أمها الست خضرة التي لا تشبه الإخضرار في شيء إلا عندما تدخل المطبخ إذ تنتفخ من روحها الطيبة في الطبيخ". اليوم راح نذوقكم المنسف (2).
كنا نفضل أوراق العنب والمقلوبة يا خالة خضرة.
دخلنا المطبخ واعتركنا فيه، جهزنا لوازم السلطة ونظفنا اللحم البلدي. المطبخ ضيق جدا لدرجة ضيقة، لا شيء ينقصه وكل شيء ينقصه. المسقف الذي أفسدته الأمطار، والأرضية التي تنبعث منها رائحة يصعب تمييزها إنها رائحة كل المخيم. أفترشنا الدرب وعلى مسافة أربعة أمتار كانت زريبة الصيصان تشاركنا المنسف الذي كان لذيذا.
حصلت علياء على القليل من الدنانير وأسرعت تبحث عن مكان آخر تتسول منه، أرشدها بعضهم أن تتوجه الى السفارات الخليجية، ذهبت ولم تحصل إلا على القليل.
أرعبتها فكرة الموت للحظة، أدهشتها سرعة الدفنء حدث ذلك يوم ماتت جارتهم. " جارتنا صبحية أم فاضلة، ماتت فقيرة ومريضة، يا إلهي ما أبشع الموت" كان ذلك المساء من أواخر المساءات التي تتحدث فيها علياء عن الموت والفقراء، لكن الامر لا يخلو من هواجس كانت تنتابها وتجعلها تستيقظ آخر كل ليل لتواصل هذيانها المخيف "هؤلاء الفقراء يا عزيزتي يحبون أن يعيشوا ويموتوا مع بعضهم. ليس لأنهم فقراء" بل لأنهم يستمتعون بمشهدية طقس لا يحفل به سواهم" علقت أحدنا: لذلك هم يتشبثون بالزعتر والجبن والزيتون.هذه الليلة وتحديدا في الليل ابتهجنا بالرقص ونحن نستمع لمقطوعة كلاسيكية راقية Roses from the South وفجأة وقعت علياء تبكي "أعتقد أنني أشعر برغبة مبهمة في الموت، لماذا لا نكشف القناع عن الحقيقة ؟".
ستتوقف كل التفاصيل بعد رحيل علياء: لا يسعد صباحك، لا ايش علومك لا كيف الصحة لا أشوفك بكرة يا ملعونة، لا راح اكتلك كتلة يا وائعة، لا شيء من هذا كله بعد الآن.
كانا فكاها يصطكان اصطكاكا مرعبا وخفيفا، اليدان ممددتان دون عبث بخصلات شعرها الفقير، كانت العينان غابتين من التمور والزيتون، انها لحظة ما قبل الدفن الكئيبة.
كان علينا ان ندرك لماذا تتألم علياء، لماذا اصرت على الرحيل المفاجيء الى الضفة، لماذا كانت تتسول حتى اخر الليل وتعمل حتى أولى النهار. "كانت السمراء الوحيدة بين كل البيضاوات إذ كان هناك الشركسيات وبنات العاصمة الجديدات القادمات من حرب الخليج القذرة، بعد انتهاء الحفل قمنا بتنظيف المكان، وأوصلني الشوفير حتى محطة المخيم، هناك فقط تألمت عندما شاهدني عبدالرحمن أنزل من الباص، شتمني وضربني لتأخري. لم أعرف كيف أقنعه أنني كنت في العمل لدرجة الليل، لا أعرف أن أتحدث عن هؤلاء الأغنياء.
يا ابن العم، يا ثوب الحرير
لحطك بين جنحاني واطير
وأهدي بك على برج الخليل
يا بان العم.. (3)
كشفت لنا علياء عن ملمح آخر من أقنعتها على اثر الضرب الذي لاقته في طريق آخر الليل "أريد أن أتزوج من عبدالرحمن. أخبرتني خالتي ذهبية انني يجب أن أتزوج وبسرعة قبل فوات الأوان. طلبت من عبدالرحمن ذلك، أخبرته أن أهلي ينتظرون أن تطلب الزواج مني. مناف ابن خالتي ذهبية قال يوما لعبدالرحمن أنت انسان ضائع في عيون كل العائلة، نحن فلسطينيون وأنت أردني. زيارته الخامسة للبيت كانت يجب أن تضع حدا لألسنة الفأس الفقراء" فار إبريق الشاي، أدركنا ذلك مع سماعنا الصفير، أشعلت سيجارها القريب وانتشت برائحة الدخان. بدأت تنفخ بقوة في الدخان، وكأنها تقذف غلا مكبوتا في صدرها المريض "انني أضيع على مهل، لقد ضيعني كل الذين هم حولي، يخرب بيت الشمال والجنوب، ويخرب بيت الجنوب والجنوب"
في صندوق الأمانات حيث تودع أشياء الضحايا، كان آخر ما تبقى من صاحبة الجسد الحليبي غير الناضج لبنا وزبدة التنورة القديمة التي ذهبت موضتها، الحذاء الأسود الذي أنهكه تسول الليل، الساعة الواقفة عقاربها منذ أول لقاء معها، المنديل الذي كانت تضعه على رأسها في بعض الأيام. لن يعمل أحد على تذكيرنا بها وقد لا يتذكرها في يوم ما أحد، لا البرد، ولا الفقر، ولا رصاصة الفراغ العربي، ولا توقف الحرب في بلاد الحرب، ولا رنين جرس الهاتف عند مشرفة السكن رجاء. لقد أصابتنا الغرابة، وأقلقنا البط ء العربي في عدم الحفاظ على تفاصيل الاشياء القديمة، والجميلة، وأرعبتنا بكائية الحوار التائهة، لقد أرهبنا طول الانتظار.
"الحقيبة جاهزة، سأنطلق في أقرب فرصة، انا سأعود للضفة، سأكون قريبة من أبي وزوجته الجديدة، ارغب ان اتجاوز الضياع".
.. ربما تعودين أليس كذلك؟
"إذا وعدتني التفاصيل أن تنتظرني فسأعود، أنا سأذهب لهناك لأن هذا هو الجديد الذي صرت أتذوقه، أريد نسيان البكاء بحزن، أرغب في نسيان الرغبة وفي عناق جسد ما".
هذا النهار الأخير كان طويلا جدا. العربات والحافلات كانت تسير بسرعة مذهلة، ثمة شيء كان يرغب في تجاوز. العادية، العصفور الذي أخبرني بوفاة علياء جاءني بعدها بأسبوع ليبعث في الجنون حين أخبرني للمرة الثانية أنها قد ماتت.
السماء بلونها الأزرق المخدوع، كانت بعيدة عن أعين الله والناس وكان كوسي العرش الالهي بداخل كل الكثافات الزرقاء، يقبض على روح علياء وروح البحر الميت بين اصبعين عظيمين ! هناك في مخيم البقعة، حيث تناقض الكائنات، ثمة حكاية أخرى جديدة ستروي عن المدحورين الفقراء، والبسطاء السذج، والأذكياء، هناك كانت علياء تجيد التحدث عن أولئك الذين تصفهم مرات بالآخرين، والخارجين، الشاذين، والنخاسين، واغلب المرات كانت تقول عنهم: المساكين.
إشارات
1- الجلوة: رقصة ترقصها العروص يوم دخلتها اما عريسها، ويكون الرقص هادئا بدون هز الارداف، وتعتمد العروس في رقصها على حركات الجذع واليدين اللتين تحملان الشموع الموقدة.
2- المنسف: من اكلات البادية الاردنية الشعبية.
3- الابيات الشعرية: ابيات مقطفة من الفلكلور الفلسطيني.
آمنة بنت ربيع سالمين ( كاتبة من سلطنة عمان)