عبد المنعم حسن محمد
كاتب وشاعر مالي
أصابعك ليست ريشة مأخوذة من الجناح الأيسر لبومة في فصل الربيع، وإذن لا حاجة لكَ إلى المحبرة أو البَردي لتُدوِّن رواية أبيك وهي تصب جدولًا في أذنك:
“اجلس هنا وشاهد كيف يفعلون”. أمرَني ديكو، وراح يراقب المحصول وأكوامَ الثمرات الصفراء الذهبية والبرتقالية الساطعة التي جناها عُمال المزرعة، كانوا متفاوتين في الأعمار والأطوال، ومعظمهم قصار القامة، معهم أعوادٌ من الخيزران تنتهي بمَجزّات حادة هِلالية الشكل، يَفصلون بها ثمار الكاكاو الناضجة عن جذوع الأشجار، وبعضهم يمتشقون فؤوس الأدغال ويُنجزون بها المهمة ذاتها، سُرعةٌ ماهرة مثل محاربين ماتت قلوبهم في معركةٍ تَتساقط فيها الرؤوس وتتدحرج تحت أرجلهم. أما البنات فمهمتهن تَتَبُّع الثمار وجمعها في سلال من اللحاء، ثم تكويمها في الساحة الخالية من المزرعة. جلستُ قريبًا من تلّة الثمار، أول مرة أشاهد فيها هذه الثمرة، كنتُ أعرف القرع، والبابايا، غير أن القرون البيضاوية التي أراها الآن أصغر حجمًا وأكثر صلابة، أخذْتُ واحدة وشممتها ثم أدنيتها من أذني وهززتها، فعُدتُ خاسئًا دون فهم. ديكو أرسل نظرات متفرقة إلى سَير العمل والعمّال، وهؤلاء توقفوا برهة يردون على تحياته ثم عاودوا القطف بطريقة آلية. كان وهج الشمس موزَّعًا في الغابة يتساقط خلال الأشجار، والظلال أكثف رغم صيرورة ظِلِّ كلِّ شيء مثلَه كما يظهر من ظل فأس يستند إلى جدار كوخ غارق في الشمس. تناولتُمقبضه الخشبي وطعنتُ الجدار مَرَّاتٍ أتأكد من متانته، ثم بدأتُ أفصل الثمار الغريبة أُسوةً بالبقية، كانوا بضربة واحدة يُسقطون جراب الكاكاو، بينما كنتُ أُجرِّح لحاء الشجرة قبل أن تتدلى الثمرة، وبإصرارٍ أعمى أصبتُ واحدة في طرفها فسقطَت منبعجة، ورأيت ما تحتوي عليه من بذور محميَّة بقشرة بيضاء رقيقة.
إدراكي للوجود لا يختلف عن إدراك ثمار الكاكاو لوجودها الفسيح في بال الشجر، تعطش فيرويها النسغ، تجوع فيلقمها لقاح البرغش وهو يتنقل عرَضا بين الجذوع، وكذلك وجداني، يمتح من التفاصيل التي تمر بي عرضا دون انتباه، مع أنني دقيق الحس أثناء استعمال الفأس لأتقي إتلاف كائن مغلوب على أمره، لم أنشأ نشأة قاطع أشجار، حاشاي، كأنني إن أفعل فسأحكم على كينونتي بالهلاك، لا يضيع حق أحد سدى، حتى الكلب الذي زجرته آنفا دون قصد الإيذاء، رآني وأنا أجني الجزاء، وأعرف أنه عرف بشعوري المؤلم لحظة إخفاقي في فصل الثمرة عن الشجرة، أوه! الشجرة المسكينة التي جرحتها دون قصد، بكت مرتين، لجرحها ولهدر نتاجها.
أعرف أنني لن أزِلَّ ما دمت لم أمس شيئا بسوء، وإذا أصابتني جائحةٌ ما فالذنب ذنبي. هل ثم حق ضائع؟!
في تمبكتو، أو حين كنت طفلا في تمبكتو، كانت نظرات الأشياء تنبهني إلى محاسبة الذات، مثلا، كلما شربت من النهر كنت أربت على رأس طفل يتيم، هذه بتلك، لا أدري لم كنت أعتبر النهر يتيما؟! وكلما أكلت خبزا وشعرت بالشبع سعيت إلى سنابل الذرة آن نموها، وقرأت المعوذات لأرقيها من شر الذبول، حينها لم أكن أعرف أن الطحين لا يأتي من الذرة، وأن شراب الدخن لا ينتمي للنباتات التي تحس مثلي.
الكائنات في عقلي كلها تعي ارتباطها بوعيي، وأنا مدين لها دوما بتعويض، أتذكر مما كان شيخي ألفا حسيني يغرسه في أرواحنا:
“أيها الناس: أربعة عناصر، مبثوثة في كل روع، الماء والتراب والشمس والهواء…” كنا ندوّن دروسه في الألواح فتحتفظ ذاكراتنا ببعضها، نتبرك بالصدق الذي تنضح نبرة الألفا به، ونلتمس الامتثال في مشينا علىالأرض، كان يرتل: “فامشوا في مناكبها” ويشرح الفرق بين الآية وبين قوله سبحانه: “يمشون على الأرض”..
التفتُّ وجِلًا من أن يلمحني ديكو الذي خرج توًّا من الكوخ واتجه نحو غِربالٍ كبير مشدود بأطراف خشب مُضلّع مثل سرير، عليه حبوب كاكاو منشورة، دَفن فيها كفَّه وتَناول منها قبضةً يتفحصها، ثم نثرها مرة أخرى وحرك يده يتخلص من الغبار، أسرعتُ أخفي الثمرة المشجوجة قبل أن يستدير ديكو، وإذ وجدني أعمل أعجبَتْه مبادرتي كما يبدو، لاحظ خطئي لكنه تغاضى، وعاد إلى الكوخ مرة أخرى.
بكاء طيور يندلع شجيًّا مثل مواويل متشابكة، تُشكّل لغطًا مستعذبًا دون انقطاع، يقتحمه بين الفينة والأخرى نباحٌ غليظ للكلب الذي لا يبارح حدود ظل الكوخ، حين تفلت سحلية من مطارداته، وتهرب خلال الأحجار والأغصان. كنتُ أقطع عملي وأتابع الكلب كلما نبح، وأرفع المنجل كأنني سأقذفه به فيرتد ويصمت. بعد ساعة رأيت الصِّبْية يضعون فؤوسهم ويستريحون، والفتيات انضممن إلى حلقة في ساحة الغابة، كانوا جميعا منهكين، يرتع حولهم الذباب مستغلا عدم رغبتهم في القيام بأدنى حركة، حان وقت الراحة، فتاتان غابتا في الكوخ لحظةً، وخرجتا تحملان جرة كبيرة ممتلئة بماء للشرب، تبعَتْهما أخرى تحمل جفنةً بلاستيكية تحوي أرزًا أبيض وصوص الفول السوداني المطبوخ بالسمك، وطرَحَتْه وسط الحلقة، جاء ديكو وأكلنا معًا بعد أن غسلنا أيدينا، كنا تقريبا تسعة ذكور، وكانت الفتيات سبعًا تحلقن بجوارنا حول جفنة أخرى. “ألم يحن وضعُ الحبوب في الأكياس يا أفي؟” قال ديكو، فردت فتاة غير أفي: “بقي يومان (مون باترون)، هذا هو اليوم الخامس”. فَمُ أفي كان مكورًا بلقمة لم تبتلعها بعد، قالت بعد أن نزلَت اللقمة في جوفها: “والولد الجديد قطع نفسه، مثلما حدث ليوشا (مون باترون)”. توقف الجميع عن المضغ ونظروا نحوي، فقال ديكو بعد أن دفع لقمةً في فمه: “يا ولد تمبكتو! جرحتَ نفسك؟!” فأنزلتُ وجهي مرتبكًا، وواصل: “أرِني الجرح”. ما حدث هو أنني كنت أحاول توخّي الدقة في فصل الثمرة عن الجذع، فجذبتها بإحدى يدي ليتسنى لي قطعها بالفأس، لكن الضربة أخطأت الغصن وأصابت ذراعي، ودون أن أفكر في الجرح المدمى خلعتُ قميصي وضمدت به الموضع، كان جميع الصبية بلا أردية. “عليك أن تحذر بشدة، وإلا سوف تقطع أشياءك في المرة القادمة”. استلقوا ضاحكين من تعليق ديكو، والفتيات وضعن أكفهن على أفواههن، ثم واصل الجميع الأكل.
لعقنا أصابعنا قبل غسلها في بِركةٍ تكونتْ من تلقاء نفسها في وَهْدةٍ قريبة من الأشجار، وأكملنا حصة اليوم من العمل، معظم أشجار المحيط عريت من الثمار، والباقي سيتولاه ثلاثة أو أربعة، وقلَّت كمية الثمار في أكياس الفتيات. أدار ديكو هندول دراجته وأشار إليَّ بالركوب، وفي طريق عودتنا حدثني عما يجب علي فعله مع الفتيان.
في اليوم التالي ديكو ذهب إلى المزرعة، كان يظن أن المحصول الذي تم نشره ليجف تحت الشمس قد حان أوان جمعه في الأكياس ليوزَن ويُشحن إلى المخزن، في العادة هو من يشرف بنفسه على هذه الخطوة ليطْمئن على الأوضاع ويحُول دون غش العمال وإهمالهم. على حبوب الكاكاو أن تمكث سبعة أيام تحت الشمس قبل أن تعبأ في أكياس الخيش، ولأن المسافة بين المزرعة وبين البيت بعيدة فقد اكتفى ديكو بالذهاب مرتين كل أسبوع حيث تكون الحبوب جاهزة للتعبئة والشحن، وقضاء باقي الأيام في أنشطة أخرى لا أعرفها، أحيانًا أرى رجلا أبيض أو امرأة بيضاء يأتون إلى رؤيته في البيت، وقد يمتلئ الصالون بأشخاص يتحدثون بأصوات عالية ويُكثرون من إيراد موضوع الكاكاو والشحن والمردود.
ديكو يملك شاحنة بحوض كبير، تقف بين أشجار المزرعة، وسيارة بيجو صغيرة، أخذني فيها مع آجارا قبيل إطلالة الشمس، إلى الحقل، العمال والفتيات بدأوا يتقاطرون إلى العمل، والمهمة المطلوب إنجازها -إضافة إلى جني المحصول بالمناجل- كانت تنقية الحبوب التي جفت من الشوائب والحصى ووضعها في الأخياش. دخل ديكو وآجارا الكوخ بينما رحت أنضم إلى أصحاب المناجل الذين استهلوا القطف في جهة أخرى من المزرعة غير تلك التي كانوا يعملون فيها قبل أمس، وبين فترة وأخرى كنت أضع المنجل وأذهب إلى حيث أعمال التعبئة لأشاهد. بعد ساعة جاء شبان ورجال مفتولون، أحدهم أدار محرك الشاحنة والآخرون يحملون الأخياش الكبيرة ويَصُفّونها في الحوض بأداء آلي وسريع، عشرة أكياس كانت كل الكمية التي أنتجتها المزرعة اليوم، عدَّها ديكو وأمر الرجال بالانطلاق إلى مزرعة (بكايوكو) ومزرعة عائلة (مايجيتي) قبل الاتجاه إلى منطقة (أبوبو)، حيث تقع محطة التصدير المحلية. “والأجر من يدفعه؟” سأل شاب تستلقي سيجارة بين غضروف أذنه وبين رأسه، فوَجّه ديكو الكلام لهم، وقد كانوا خمسة: “كل مرة تسألونني نفس السؤال، الأسبوع الماضي كم أعطيتكم؟” رد الشاب وهو يضع السيجارة بين أصابعه: “ألف وخمسمائة”، فأدخل ديكو يده في جيب بنطاله وأخرج المبلغ، كأنه كان جاهزًا مسبقًا، ثم هتف: “آجارا!”، كانت في الكوخ ترتب وتنظف، وجاء صوتها من هناك تجيب، أمَرَها ديكو بجلب الكتاب الذي فوق الكرسي، فجاءت راكضة تحمل دفتر مذكرات محاطًا بمطاط، شكرها وأخرج من جيب القميص قلمًا وسجّل شيئا في المذكرة ثم مد المال إلى الشاب.
فتيات الحقل كنّ اليوم يحملن فوق رؤوسهن صحونًا كبيرة من الألمونيوم ويتمشين خلال الأحراش، يسبقهن صبي يحمل فأسًا طويلة ويضرب المسافة الفاصلة بين الأشجار فتصدر أصوات قوية من الأغصان التي ينظف الصبي منها الطريق، وتفرّ الزرازير فزِعة، كان الجو رطبًا، وحشرات البرغش مهووسة تنهش آباط وأذرع الفتيات وتعوم في عرق الصبي السائل على رأسه ورقبته وسرواله، وحين يمررن بين الأشجار ينحني الصبي ليلتقط الثمار البيضاوية التي سقطت جراء الرياح، ويضعها في الطسوت المحمولة على رؤوسهن. “املأ صحني أولًا” تقول فتاة، فتقول أخرى: “بل صحني أنا أولًا، أريد أن أعود بسرعة لأبول”، ثالثة: “بولي في سروالك، تلك عادتك، وإلا ما ذهب رجُلُك وتركك وأنت حامل” ترد: “على الأقل كان عندي رجل رغب في الاقتراب مني، أما أنت فمجرد قملة، حتى فأر الحقل لا يريدك” فتصمت هذه وتحاول التوازن تحت ثقل الثمار المتراكمة في صحنها من يد الصبي الذي قال: “اثبتي لا تُسقطي الصحن، كلكنّ عاهرات”، فتجيبه الأولى: “وأنت لا تعرف مَن أمّك”. يهم بالبطش بها فتتوسل إليه أخرى قائلة: “دعك من هذه المجنونة واملأ لي صحني!”
بعد قليل تراكمَت أكوام من الجراب البرتقالية الساطعة أمام الكوخ المسقوف بالقش، وتوافد الصِّبية من خلال الأشجار يجُرُّون أقدامهم منهَكين، أحدهم حمل ثمرة وقطعها بالفأس ثم اقتلع بسبابته بذرة بيضاء مخملية وألقى بها في فمه، مشيتُ نحوه وأخذت منه بِذرتين ووضعتهما في فمي، كان طعم القشرة اللؤلؤية التي تغطي الحبوب حلوا، ولكن سرعان ما تذوب الحلاوة ولا يبقى في الفم سوى بذرة قاسية لا طعم لها، ابتلعتها ولم أتفلها كما فعل صاحبي، وجلست بجانب آجارا أنتظر الغداء، وفي المساء داهمتني نوبة إسهال، وإلى اليوم لم أعلم أسبابها.
لسان أبيك ينضح باللغتين، إحداهما لم تزَل نيئةً ترقع الثغرات اللفظية التي لا يستوعبها تلقِّيك المُحدَث، هناك معانٍ كان يسوقها في درَج الكلام يصدمُك جرسها؛ فلا تريد أن تمرَّ بك دون ترجمان، كان أبوك الراوي والترجمان، وكان إطناب الرواية يترك لكَ مُرُوجًا للتأمل في المغزى، لعل المسرود خلوٌ من أي داع لتأمُّلاتك تلك، مجرد أب ينثر في نطاف الخلَف المأمولةِ بذورًا لنتاجٍ مُحتمل.