يَبْدُو هؤُلَاءِ النَّاسُ عَادِيِّينَ فِي بَلْدَتِنَا الْعَادِيَّةِ، وَيَعِيشُونَ حَيَاةً عَادِيَّةً بِشَكْلٍ خَاطِئٍ، وَيَعْتَقِدُونَ أَنَّهُمْ عَادِيُّونَ. لِمَاذَا يَجِبُ أَنْ أَسْتَمِرَّ فِي التَّفْكِيرِ- المَعْرِفَةِ- أَنَّهُمْ لَيْسُوا عَادِيِّينَ عَلَى الْإِطْلَاقِ؟
مَا الَّذِي وَرَاءَ ذلِكَ؟ أَقُولُ هُنَاكَ فِي الْوَرَاءِ، كَمَا لَوْ كَانَ المَاضِي مَوْقِعًا جَغْرَافِيًّا أَكْثَرَ مِنْهُ زَمَانًا ضَائِعًا فِي عُطْلَاتِ «سَانْتْ بُولْ الْقَدِيمَة»، وَكَيْفَ تُصْبُحُ «سَانْتْ بُولْ الْقَدِيمَة» الطَّرِيقَةَ المُعْتَادَةَ الَّتِي أُفَكِّرُ فِيهَا الْآنَ، كَمَا لَوْ كَانَتْ فِي حَيَاتِي عَاصِمَةَ مُقَاطَعَاتِ الْغَرْبِ الْأَوْسَطِ قَدْ رَفَعَتِ الْكَوْكَبَ، وَتُصْبِحَ نَسِيجًا لِتَارِيخٍ، وَمِنْ هُنَاكَ لَمْ يَعُدْ لَهَا وُجُودٌ إِلَّا كَاخْتِرَاعِ لِلذَّاكِرَةِ، وَأَكْثَرُ كُلُّ الْإِمْكَانَاتِ لِذلِكَ هِيَ طَرِيقَةُ حَيَاتِنَا الَّتِي تُصْبِحُ مُتَخَيَّلَةً عِنْدَمَا نُحَاوِلُ بِنَشَاطٍ أَكْثَرَ لِعَمَلِ مَعْنًى لَهَا.
لَقَدْ كَانَتْ «سَانْتْ بُولْ الْقَدِيمَة» عَالماً، وَذَهَبَتِ الْآنَ، لكِنِّي لَا أَزَالُ أَعِيشُ فِيهَا.
شَخْصٌ مَا سَيَقُولُ: إِنَّهُ حَنِينٌ إِلَى المَاضِي. إِنَّهُ ابْتِسَامٌ بِاسْتِخْفَافٍ يُرَافِقُ كَلِمَةً، مَا يَعْنِي أَنَّهُ يَكُونُ مَفْتُونًا بِمَا رَحَلَ وَضَاعَ لِيَكُونَ مِنَ السَّهْلِ إِغْوَاؤُهُ بٍالْعَاطِفَةِ. إِنَّهُ الْتِزَامٌ مُخْجِلٌ، لكِنَّ الْحَنِينَ إِلَى المَاضِي يَشْتَرِكُ بِخِزْيٍ مَعَ الذُّنُوبِ الْأُخْرَى الْجَيِّدَةِ، وَأُسْلُوبِ الشَّهْوَةِ المُخْزِي، أَوِ الشَّرَابِ، أَوِ الشَّرَاهَةِ أَوِ الْكَسَلِ. إِنَّها لَا تَنْتَمِي إِلَى خَطَايَا الرُّوحِ المُتَنَاثِرَةِ- الْفَخْرِ، وَالْحَسَدِ، وَإِلَى خَطَايَا الْجَسَدِ الْحُلْوَةِ، وَأَضِفِ الْحَنِينَ إِلَى المَاضِي؛ خَطِيئَةِ الذَّاكِرَةِ.
الْحَنِينَ إِلَى المَاضِي هُوَ فِي الْوَاقِعِ نَوْعٌ مِنَ الْوَلَاءِ – أَيْضًا هُوَ خَطِيئَةٌ عِنْدَمَا يُسَاءُ تَطْبِيقُهُ، كَمَا أَنَّهُ كَثِيرًا مَا هُوَ عَادَةٌ. لكِنَّهُ المُحَرِّكُ، وَلَيْسَ الْعَدُوُّ لِلتَّارِيخِ. إِنَّهُ يَتَغَذَّى عَلَى التَّفْصِيلِ، وَالْبُروتِينِ مِنَ الدِّقَّةِ. أَوْ رُبَّمَا الْحَنِينَ إِلَى المَاضِي شَكْلٌ مِنْ أَشْكَالِ الاشْتِيَاقِ. إِنَّهُ يَتَأَلَّمُ لِلتَّارِيخِ، وَإِنَّ الْحَنِينَ إِلَى المَاضِي فِي اسْتِيَائِهِ الْغَائِمِ، يُشْعِلُ شُعْلَةَ الْأَهَمِيَّةِ، وَمَكَانِي، وَأُنَاسِي.
ثَمَّةَ طَرِيقَةُ تَفْكِيرٍ أُخْرَى لِسَانْتْ بُولْ الْقَدِيمَةِ: أُمٌّ تَتَحَدَّثُ عَنْ شَعْبِهَا، إِنَّهَا لَيْسَتْ تَعْنِي الْأُمَّةَ، لكِنَّ قَبْضَةَ الْعَائِلَةِ الْقَوِيَّةِ تَعُودُ إلى كِلْكِنِّي الْأُمِيَّةِ، فَجَدُّهَا الْأَيْرْلَنْدِي لَمْ يَسْحَبَ مُسَدَّسَهُ أَثْنَاءَ «الانْتِفَاضَةِ الْهِنْدِيَّةِ» (لَمْ أَسْتَطِعْ إِطْلَاقَ النَّارِ. لَقَدْ لَعِبْتُ مَعَ هؤُلَاءِ الفِتْيَانِ)، وَوَالِدَتُهَا وَاحِدَةٌ مِنْ «أَجْمَلِ الْفَتَيَاتِ السَّبْعِ مِنْ عَائِلَةِ سْمِيثْ، طَوِيلَةٌ كَالرِّجَالِ»، وَشقِيقُهُمُ الْوَحِيدُ، ضَعِيفُ الْعَقْلِ، وَيَتَجَوَّلُ فِي الشَّارِعِ مَعْ طَبِلَةٍ صَغِيرَةٍ مِنَ الصَّفِيحِ، وَهُوَ أَوْسَمُهُمْ جَمِيعًا. يَا لَلشَّفَقَةِ، يَا لَلشَّفَقَةِ.
أَوْ أَنَّهَا سَتَقُولُ: أَهْلِي، ذلِكَ الْغَرْبُ الْأَوْسَطُ المُوصَفُ بِالاعْتِدَالِ. أُنَاسِي، وَأَهْلِي، وَأُمِّي وَأَبِي- M&D فِي اللَّهْجَةِ الْعَامِيَّةِ الْخَاصَّةِ لِلْمَجَلَّاتِ الْعَاطِفِيَّةِ الَّتِي احْتَفَظْتُ بِهَا كُلَّ تِلْكَ السَّنَوَاتِ، وَكَأَنِّي كُنْتُ أُعِدُّ بَحْثًا لِرِوَايَةٍ تَارِيخِيَّةٍ لَا تَكْتَمِلُ إلَى الْأَبَدِ لِأَنَّ الْبَحْثَ يَبَقَى مُمْتَدًّا طَوَالَ الْحَيَاةِ حَتَّى الْآنَ. الْبَحْثُ الْآنَ تَقْرِيبًا مُكْتَمِلٌ.
إِنَّ كُلَّ هذِهِ المُقْتَطَفَاتِ المُبَعْثَرَةِ الَّتِي جَمَعْتُهَا انْتَظَرَتْ بِصَبْرٍ، وَبِاسْتِعْدَادٍ تَامٍّ لِأَنْ تَكُونَ مُتَجَاهَلَةً، وَهذَا مَا يَحْدُثُ فِي سَانْتْ بُولْ، وَهذَا سَيَكُونُ أَهِلِي.
لكِنْ لَيْسَ هُنَاكَ كُلُّ هذَا التَّجَاهُلِ الْآنَ. لَا مَزِيدَ مِنَ التَّشَبُّثِ بِالْوَاجِبِ فِي الْعَالَمِ الْقَدِيمِ مَعْ مَطَابِخِهِ الرَّطْبَةِ وَالْأَحْيَاءِ الَّتِي تُحِبُّ حَدِيثَ الْإِشَاعَاتِ، وَضَغَائِنَهَا المُثَارَة، وَصَمْتَهَا الْفَخُورَ. لَقَدِ انْتَهَى الْوَقْتُ، وَأُجُورُ مَرْحَلَةِ الْبُنُوَّةِ تَكَادُ تَنْتَهِي.
لكِنِّي لَا أَزَالُ عَالِقَةً، وَمُحَدِّقَةً فِي وُجُوِهِهِمُ الَّتِي تُحَدِّقُ بِي، صَامِتَةً وَمُطَالِبَةً، مِنْ أَلْبُومِ الزَّفَافِ، وَمِنِ الْبِيَانُو حَيْثُ كُنْتُ أَبْدُو مُتَمَرِّنَةً عَلَى مُوسِيقَى شُوبَانْ(1) فَقَطْ، وَمُحَدِّقَةً إِلَى الْوَرَاءِ فِي وُجُوهِهِمُ الْغَامِضَةِ الِّتِي كَانَ يَنْبِغِي أَنْ تَكُونَ وُجُوهًا مَأْلُوفَةً بِالنِّسْبَةِ لِعَالَمِي.
لَيْسَ هُنَاكَ مَا هُوَ أَصْعَبُ لِلْفَهْمِ أَكْثَرَ مِنْ حَيَاةِ التَّوَاضُعِ المُسْتَمِرَّةِ.
لَقَدْ أَنْجَزْتُ بَحْثِي، وَحَصَلْتُ عَلَى الدَّلِيلِ. اخْتَرْ أَيًّا مِنَ دَفَاتِرِ المُلَاحَظَاتِ عَنِ الرَّفِّ- كُلُّ وَاحِدٍ مُنْقَلِبٌ إِلَى غُبَارٍ كَمَا يَحْدُثُ لِلْكُتُبِ وَالفَسَاتِينِ الْقَدِيمَةِ. ثَمَّةَ لَحَظَاتٌ، وَحَوَادِثُ عَرَضِيَّةٌ، وَإِحْبَاطٌ، وَظُلْمٌ مُقَدَّمٌ بِشَكْلٍ رَائِعٍ، وَشَخْصِيَّةُ الْمِبْضَعِ الْحَادِّ تَدْرُسُ قَطْرَةَ الدَّمِ المُنْسَابَةِ عَلَى طُولِ خَطِّ الْفَقْرَةِ- كَانَتْ عُبِّئَتْ بَعِيدًا فِي مَجَلَّاتٍ قَدِيمَةٍ، وَتُرِكَتْ فِي خَزَانَتِي فَارِغةِ الْهَوَاءِ كَمَا لَوْ أَنَّهَا رُبِطَتْ فِي مِنْدِيلٍ وَرَقِيٍّ أَزْرَق.
سَنَفْعَلُ هذَا فِي الْأَوِّلِ مِنْ نَيْسَان/ إِبْرِيلْ 1981. نَسِيرُ هِيَ وَأَنَا أَمَامَ مَحَلِّ بَيْعِ الزُّهُورِ فِي المَرْكَزِ التِّجَارِي وَسَطَ الْبَلْدَةِ. رُبَّمَا كُنَّا لِنَتَوَقَّفَ لِنَقُولَ مَرْحَبًا لِأَبِي. لَا أَسْتَطِيعُ تَذَكُّرَ هذَا وَلَمْ أُسَجِّلْهُ. نُرِيدُ تَنَاوُلَ الغَدَاءِ فِي غُرْفَةِ النَّهْرِ فِي مَحَلِّ دَايْتُونْ التِّجَارِي .
حَالِيًّا أَنَا فِي الثَّلَاثِين، لكِنَّنَا ذَهِبْنَا إِلَى غُرْفَةِ النَّهْرِ مُنْذُ أَنْ كُنْتُ فِي السَّادِسَةِ عِنْدَمَا نَصَحَتْنِي: عَزِيزَتِي، أُطْلُبِي السَّلَطَةَ الرُّوسِيَّةَ. السَّلَطَةُ الرُّوسِيَّةُ بِهَا سَمَكَتَا بَلَمٍ(2) تُوْضَعُ عَلَيْهَا بِارْتِخَاءٍ، وَمَالِحَةٌ كَثِيرًا X . يَجِبُ عَلَيْكِ أَنْ تَعْرِفِي مَا هِيَ سَمَكَةُ الْبَلَمِ. إِنَّ لَدَيْهَا، أَيْضًا، غَرِيزَةٌ لِلْعَالَمِ الْأَكْبَرِ حَيْثُ سَمَكُ الْبَلَمِ يُمْكِنُ أَنْ تُوَاجَهَ مِنْ وَقْتٍ لِآخَرَ. عَلَى الرَّغْمِ مِنْ إلْزَامِي (… بنت البنت…)، لَمْ تَتَوَقَّعْ أَنَّنِي كُنْتُ مَقْطُوعَةً مِنَ المَالِ فِي هذِهِ الْبَلْدَةِ الْكَاثُولِيكِيَّةِ الْفَخُورَةِ بِعِصِيِّ الْأَسْمَاكِ وَ»قَوَائِمِ الْجُمْعَةِ» الَّتِي نُشِرَتْ فِي مَطَاعِمِ جْرَانْدْ أَفِينْيُو. نَقْرَأُ بِإِذْلَالٍ ِبدُونِ مِينِّيَابُولِيسْ، مَاذَا سَيَكُونُ؟ أُومَاهَا بَارِدَةٌ.
لكِنْ بِحُلُولِ 1981 حَتَّى سَانْتْ بُولْ قَدْ دَخَلَتِ النِّظَامَ الْعَالَمِيَّ الْجَدِيدَ لِلْكِيشِ quiche وَالْكَعْكَةِ الْهِلَالِيَّةِ.إِنَّ السَّلَطَةَ الرُّوسِيَّةَ لَمْ تَكُنْ ضِمْنَ قَائِمَةِ الطَّعَامِ فِي سَنَوَاتِ جُوْ مَاكَّارْثِي، آخِذًا مَعَهَا خَطَرَ بَهْجَةِ الْغِذَاءِ الْيَسَارِيِّ، وَإِنَّ المَطْبَخَ الْفَرَنْسِيَّ الَجَدِيدَ لَا يَمْلِكُ جَاذِبِيَّةً غَيْرَ مَشْرُوعَةٍ، وَسَانْتْ بُولْ تَأْخُذُ اللَّيْلَ وَأَكْثَرَ. ثَمَّةَ كُوبٌ مِنَ النَّبِيذِ، أَيْضًا، وَلمَسَةُ طَهْيٍ أُخْرَى. قَالَ أَبِي فِي ذلِكَ الْوَقْتِ: «خُذِي أُمَّكِ إِلَى الْغَدَاءِ، إِنَّهَا تَشْعُرُ بِالْوَحْدَةِ». كِلَاهُمَا بَدَءَا بالذَّهَابِ لِـ«طَبِيبٍ»، كَمَا قَالَتْ أُمِّي، إِنَّهُ بِدَايَةُ نِهَايَاتِهِمَا الطَّوِيلَةِ.
رُبَّمَا تَنَاوَلَتْ كَأْسَ نَبِيذٍ. حَسَنًا، اثْنَتَيْنِ. رُبَّمَا ضَعْفُهَا الْجَدِيدُ. كَانَتْ عَلَى الرَّصِيفِ، وَسَقَطَتْ إِلَى حَدٍّ مَا فَجْأَةً. انْهَارَتْ فَقَطْ. أَصَابَهَا أَلَمٌ مِعَوِيٌّ. مَسَكَتْ ذِرَاعَهَا. كَانَتْ مَكْسُورَةً. كَثِيرٌ مِنَ العِظَامِ سَوْفَ تَنْكَسِرُ قَبْلَ النِّهَايَةِ.
فِي دَفْتَرِي أَفَدْتُ لِنَفْسِي: ثُمَّ إِنَّهَا بَدَأَتْ تَنْشُجُ، «أَتَمَنَّى أَنَّنِي مِتُّ، أَتَمَنَّى أَنَّنِي مِتُّ»، تَمَامًا هُنَاكَ عَلَى الرَّصِيفِ. سَارَ النَّاسُ حَوْلَنَا. بَعْدَ ذلِكَ، عِنْدَمَا جَاءَ (د) إِلَى مَشْفَى سَانْتْ جُو الَّذِي نَقَلَتْهَا إِلَيْهِ، نَظَرْ إِلَيْهَا وَمَسَحَ مِفْصَلَهُ المَرْضُوضَ. لَقَدْ أَضَرَّهُ عِنْدَمَا حَرَّكَ نَخْلَةَ عُرْسٍ فِي الدَّفِيئَةِ الزُّجَاجِيَّة. لَقَدْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْشُجَ- لِأَنَّهُ أَضَرَّ مِفْصَلَهُ. بِالنِّسْبَةِ لَهَا شَعَرْتُ- مَاذَا أَشْعُرُ؟ لَا شَيْءَ، فَقَطْ لَا شَيْءَ. لَمْ يَكُنْ صَحِيحًا أَنْ لَا تَشْعُرَ بِشَيْءٍ عِنْدَمَا تَبْكِي هِيَ أَنَّهَا تُرِيدُ أَنْ تَمُوتَ. لَا، لَقَدْ شَعَرْتُ بِشَيْءٍ مَا، اعْتَقَدْتُ: أَنَّهَا تَكْذِبُ، وَأَنَّهَا لَا تُرِيدُ أَنْ تَمُوتَ. إِنَّهُ شُعُورٌ بَارِدٌ، كَأَنَّهُ كَانَ عَلَيْهَا أَنْ تَعْنِيهَا.
بِعِبَارَةٍ أُخْرَى، هِيَ أُسْرَةٌ عَادِيَّةٌ مِنَ الطَّبَقَةِ الْوُسْطَى الْغَرْبِ أَوْسَطِي. إِقَامَةٌ حَمِيمَةٌ لِلْقَسْوَةِ.
مِثْلُ هؤُلَاءِ النَّاسِ، مُتَواضِعُونَ لِلْخَطَأِ، فَنَحْنُ نَفْتَرِضُ أَنَّهُمْ غَيْرُ لَافِتِينَ لِلنَّظَرِ حَتَّى فِي عَاطِفَتِهِمْ، حَتَّى كَمَا لَوْ أَنَّهُمْ يَخْتَفُونَ فِي لَعَقَاتِ لَهَبٍ. إِنَّهُمْ يَعْتَقِدُونَ أَنَّهُمْ يَتْرُكُونَ أَنْفُسَهُمْ لِلصَّمْتِ وَالنِّسْيَانِ. هذَا جَيِّدٌ، إِنَّهُمْ لَا يَهْتَمُّونَ. أَلَيْسَ هذَا مَا هُوَ المَوْتُ؟ أَلَيْسَ هذَا مَا هُوَ عَادِيٌّ، وَحَيَاةٌ كَرِيمَةٌ؟
إِنَّهُمْ يَتَوَقَّعُونَ أَنْ يَكُونُوا مَنْسِيِّينَ.
لكِنَّهُمْ لَيْسُوا مَنْسِيِّينَ. هُمُ الْآنَ أَقَلُّ ذَهَابًا مِمَّا كَانُوا عَلَيْهِ فِي بِدَايَتِهِمْ. لَقَدْ ذَهَبَ هذَا الْآنَ، وَهِيَ بِالْكَادِ بَاقِيَةٌ، إِنَّهُمْ فِي كُلِّ مَكَانٍ أَجْزَاءُ مَيْكَةٍ(3) تُومِضُ قِبَالَةَ جِرَانِيتِ الْكَاتِدْرَائِيَّةِ.
مِنْ وَقْتٍ لِآخَرَ شَخْصُ مَا يَسْأَلُ: أَيْنَ أَعِيشُ؟ «فِي ظِلِّ الْكَاتِدْرَائِيَّةِ»، أَقُولُ تَلْقَائِيًّا، كَمَا لَوْ أَنَّنِي أَقُولُ: «بِالْقُرْبِ مِنَ الْكَاتِدْرَائِيَّةِ» وَهذَا لَنْ يُعْطِي المَوْقِعَ بِالضَّبْطِ. فِي ظِلِّ الْكَاتِدْرَائِيَّةِ، الظِّلُ لِحَيَاتِهُمُ الطَّوِيلَةِ.
سِتَّةُ أَجْرَاسٍ، طَوِيلَةٌ كَأَشْخَاصٍ، أُسْكِنَتْ فِي بُرْجٍ ضَخْمٍ. تُدَوِّي كُلَّ رُبْعِ سَاعَةٍ، وَتُدَوِّي أَكْثَرَ بَعْدَ كُلِّ سَاعَةٍ. إِنَّهَا تَعِيشُ كُتْلَةً بَعِيدًا، وَمِنَ المُسْتَحِيلِ نِسْيَانُ الْكَاتِدْرَائِيَّةِ. إِنَّهَا تُشِيرُ إِلَى نَفْسِهَا دَائِمًا.
ضَوْءُ شُمُوعٍ دَاخِلَ النَّاسِ، وَغَالِبًا بِوَسَاطَةِ مَذْبَحِ الْأُمِّ المُبَارِكَةِ. بَعْدَ ظَهِيرَاتِ كُلِّ يَوْمٍ مِنْ أَيَّامِ الْأُسْبُوعِ مَا عَدَا الْأَحِدِ، يَحْصُلُ طَالِبُ جَوْقَةِ الْأُرْغُنِ أَحْيَانًا عَلَى إِذْنٍ لِيَتَدَرَّبَ فِي الْغُرْفَةِ الْعُلْوِيَّةِ، وَيُمْكِنُكَ أَنْ تَشْعُرَ بِالنَّغَمَاتِ المُوسِيقِيَّةِ الْجَهِيرَةِ فِي جَسَدِكَ. ثَمَّةَ كَثِيرٌ مِنْ مُوسِيقَى بَاخْ(4)، وَبَعْضٌ مِن مُوسِيقَى بُوكْسْتِيهُودِه(5)، لَقَدْ أَصَرَّ عَلَى تَكْرَارِ التَّعْبِيرِ الصَّعْبِ، وَالمُضَاعَفَاتِ النَّاجِمَةِ عَنْ فُقْدَانِ الذَّاكِرَةِ المَهْجُورَةِ، وَثَنْيَةِ الْكُرْسِيِّ الَّتِي تَقْشُطُ حَجَرَ الْأَرْضِيَّةِ.
بِالمُنَاسَبَةِ شَخْصٌ مَا سَيُرَكِّبُ مِسْنَدًا لِقِمَاشِ التَّطْرِيزِ، وَيُحَاوِلُ أَنْ يَكْتَسِبَ مَعْرِفَةً عَنْ لَوْحَاتِ التَّطْرِيزِ المَوْجُودَةِ عَلَى النَّافِذَةِ، أَوْ عَنِ التَّعْقِيدِ الْفَنِّي الانْطِبَاعِي لِلْمَكَانِ. لَقَدْ رَأَيْتُ أُنَاسًا اسْتَوْطَنُوا مَقَاعِدَ كَمَا لَوْ كَانُوا عَلَى أَرَائِكَ فِي الْبَيْتِ، يَقْرَؤُونَ رِوَايَاتِ- جُودِيثْ كْرَانْتزْ، وَإِلمُورْ لِيُونَاردْ.
هُنَا وَهُنَاكَ، تَبَعْثَرتْ أَشْخَاصٌ، تَنْزَلِقُ بِأَصَابِعِهِمْ خَرَزَاتُ سُبُحَاتِهِمْ، وَعَدَدٌ مِنَ الْأَشْخَاصِ المُشَرَّدِينَ تَأْخُذُهُمْ غَفْوَةٌ فِي مَقَاعِدَ جَانِبِيَّةٍ اخْتِيرَتْ بِحَذَرٍ.
لكنْ فِي سَاعَاتِ الْفَرَاغِ هذِهِ، فَإِنَّ مُعْظَمَ النَّاسِ يَتَجَوَّلُونَ مُتَمَهِّلِينَ عَبْرَ المَكَانِ فَقَطْ، وَرُؤوسٌ تُلْقَى وَرَاءً لِتُحَدِّقَ فِي السَّقْفِ المُقَبَّبِ لِلْقُبَّةِ المُذْهِلَةِ. إِنَّهَا تَنْصَبُّ عَلَى نِقَاطِ الْبَوْصَلَةِ مَعَ الْفَضَائِلِ الْأَرْبعِ الرَّئِيسَةِ، وَالمُبَيَّنَةِ فِي خِطَابَاتٍ مُذَهَّبَةٍ هَائِلَةٍ كَمَا لَوْ أَنَّهَا تُعَرْقِلُ كَامِلَ المَشْرُوعِ: الثَّبَاتُ، وَالتَّسَامُحُ، والْحِكْمَةُ، وَالْعَدْلُ. إِنَّهَا فَضَائِلُ الْغَرْبِ الْأَوْسَطِ، خُصُوصًا الثَّلَاثُ الْأُولَى، وَالرَّابِعَةُ هِيَ مَاذَا نُحِبُّ أَنْ نَعْتَقِدَ أَنَّنَا قَادِرُونَ عَلَيْهِ. إِنَّ المُعْتَقِدِينَ الْحَقِيقِييِّنَ كَأَبِي، يَعْتَقِدُونَ أَنَّ الْعَدَالَةَ هِيَ مَا تَقِفُ عِنْدَهُ الْحَيَاةُ، إِنَّهُ غِطَاءُ الْكِتَابِ التَّمْهِيدِيِّ الَّذِي لَا يُمْكِنُ اخْتِرَاقُهُ عَلَى الْوُجُودِ وَالَّذِي يَحْمِي الْحَيَاةَ مِنَ الصَّدَأِ وَالانْحِطَاطِ بِلَا اهْتِمَامٍ، مِنَ السُّخْرِيَّةِ وَالْجَشَعِ.
لَوْحَةٌ تَذْكَارِيَّةٌ مِنَ الْبُرُونْزِ مُلْتَصِقَةٌ تَمَامًا بِمِقْعَدٍ أَسْفَلَ المَنْبَرِ المُرْتَفِعِ، فِي هذَا المِقْعَدِ، نَقْرَأُ: جَلَسَ جُونْ ف. كِينِيدِي، رَئِيسُ الْوِلَايَاتِ المُتَّحِدَةِ الْأَمْرِيكِيَّةِ، عِنْدَمَا حَضَرَتْ جُمُوعُ السَّاعَةِ الْحَادِيَةِ عَشْرَةَ، فِي 7 تَشْرِينِ الْأوَّلِ/ أُكْتُوبَرْ، 1962. بَعْضٌ مِنَ المَقَاعِدِ الْأَمَامِيَّةِ فِي الْوَسَطِ، مَا زَالَتْ تَحْمِلُ لَوْحَاتٍ مَعْدَنِيَّةً صَغِيرَةً. هذِهِ الْأَقْدَمُ، وَقَدْ تُرِكَتْ عَلَيْهَا مُنْذُ عَهْدِ اسْتِئْجَارِ المَقْعَدِ؛ عَصْرِ جَدَّي الْأَيرْلَنْدِي، وَالنُّصْبُ التَّذْكَارِيُّ هُوَ الَّذِي دَامَتْ فِي عُرْوَتِهِ قُرُنْفُلَةٌ بَيْضَاءُ حَيْثُ تَنْشُرُ رَائِحَةً حَادَّةً لِكَبْشِ قُرُنْفُلٍ، كُلَّمَا تَحَرَّكَ فِي المَمَرِّ مَعَ لَوْحَةِ الْقَطِيفَةِ- المُبَطَّنَةِ الْحَمْرَاء المَجْمُوعَةِ عَلَى حَامِلٍ خَشَبِيٍّ طَوِيلٍ.
قَالَتْ أُمِّي: «بِالطَّبْعِ نَحْنُ لَا نَسْتَطِيعُ أَنْ نُعْطِيَ هذَا النَّوْعَ مِنَ النُّقُودِ»، وَلَمْ نَمْلِكْ لَوْحَةً كَهذِهِ. هِيَ حَرِيصَةٌ دَائِمًا لِتُؤَكِّدَ لِي تَوَاضُعَنَا، وَسَلَامَتَنَا المُتَوَسِّطَةَ فِي وَسَطِ الْقَارَّةِ فِي مُنْتَصَفِ هذَا الْقَرْنِ. «لَقَدْ وُلِدْتِ بَعْدَ الْحَرْبِ، أَنْتِ طِفْلَةُ سَلَامٍ»، كَانَتْ تَقُولُهَا مُؤَمِّنَةً عَلَى وُجُودِي، لَيْسَ فَقَطْ فِي الْحَيَاةِ، وَلكِنْ فِي التَّارِيخِ، بَلْ إِنَّهَا تُرِيدُ مِنِّي أَنْ أَفْهَمَ ذلِكَ، بِالنِّسْبَةِ لِمُعَلِّمَتِي فِي الصَّفِّ الثَّالِثِ، لَمْ أَكُنْ عَبْقَرِيَّةً وَلَا غَبِيَّةً. قَالَتْ بِإِغَاثَةِ وَاضِحَةٍ: «كُنْتُ فِي الْوَسَطِ». أَفْضَلُ مَكَانٍ لِتَكُونِي: الْوَسَطُ. لَا أَلَمَ هُنَاكَ. نَحْنُ هكَذَا: أَذْكِيَاءٌ بِمَا فِيهِ الْكِفَايَةُ، وَمِنْ طَبَقَةٍ مُتَوَسِّطَةٍ، وَمِنَ غَرْبٍ أَوْسَطٍ، فِي مُنْتَصَفِ قَرْنٍ- كُلُّ شَيءٍ وَسَطٌ. أَمَانٌ، أَمَانٌ.
المَقَاعِدُ المُفَضَّلَةُ لِلطَّبَقَاتِ الْعُلْيَا لَا تَعُودُ لِأَحَدٍ الْآنَ. مَا عَدَا الذَّاكِرَةِ- فَإِنَّ أَيَّ قِطْعَةٍ مَعْدَنِيَّةٍ تَحْمِلُ اسْمًا، فَذَاكَ لَا يَجْعَلُ أَيَّ أَحَدٍ أَبَدًا يَهْتَمُّ أَنَّهَا الذَّاكِرَةُ.
كِلَاهُمَا تَرَكَا تَوَاضُعَهُمَا- كَمَا اعْتَقَدَا- لِلطِّفْلِ المَعْشُوقِ. لَقَدْ تَأَكُّدُوا حَتَّى الْآنَ لِتَعْلِيمِي خَارِجَ الصَّمْتِ، وَلِيَحِثُّونَنِي عَلَى المَاضِي الْأَوْسَطِ الْجَمِيلِ المُتَعَلِّقَيْنِ بِهِ. إِنَّ عَلَيْكِ أَنْ تَصِلِي النُّجُومَ- وَابْقَيْ، حَبِيبَتِي- ابْقَيْ هُنَا تَمَامًا.
كُنْتُ مُنْذُ وَقْتٍ طَوِيلٍ اسْتَكْشَفْتُ سَمَكَةَ الْبَلَمِ الْأَجْنَبِيَّةَ، وَكُنْتُ مُسْتَعِدَّةً لِلتُّخْمَةِ عِنْدَمَا كَانَتْ تَتَعَجَّلُ لِتَقَدْيِمِ الْكَعْكَةِ الْهِلَالِيَّةِ خِلَالَ ظُهُورِهَا أَوَّلَ مَرَةٍ عَلَى نَهْرِ الْغُرْفَةِ.
كَانَتْ بِدَايَةُ المُحَاوَلَةِ لِلْحُصُولِ عَلَى القِصَّةِ المُسْتَقِيمَةِ الْيَوْمَ الَّذِي اعْتَرَفَتْ وَتَمَنَّتْ أَنْ تَكُونَ مَيِّتَةً، وَالْيَوْمَ الَّذِي كَشَفَتْ لِي قَلْبِيَ الْبَارِدَ.
الهوامش
* بَاتْرِيشْيَا هَامْبلْ (كَاتِبَةُ مُذَكَّرَاتٍ وَشَاعِرَةٌ مِنَ الْوِلاَيَاتِ المُتَّحِدَةِ) هِيَ أُسْتَاذَةُ اللُّغَةِ الْإِنْكِلِيزِيَّةِ فِي بَرْنَامَجِ مَاجِسْتِيرِ الْفُنُونِ الْجَمِيلَةِ فِي جَامِعَةِ مِينِّيِسُوتَا. نَشَرَتْ كِتَابَيْ مُذَكَّرَاتٍ، وَكِتَابَيْ شِعْرٍ، وَعِدَّةَ مُجَلَّدَاتٍ غَيْرَ خَيَالِيَّةٍ، بِمَا فِيهَا «ابْنَةُ بَائِعَةِ الزُّهُورِ وَالْأَرَابِيسْكِ الْأَزْرَقِ». ظَهَرَ عَمَلُهَا فِي:
The New Yorker, Paris Review, New York Times Book Review, Ploughshares, Antaeus, Granta, American Poetry Review, Iowa Review, Ironwood, Ms., Best American Short Stories, Best American Essays, Los Angeles Times, The Sophisticated Traveller, and Kenyon Review.
تَلَقَّتْ زَمَالاَتٍ دِرَاسِيَّةً مِنْ مُؤَسَّسَةِ غُوغِنْهَايْم، وَمُؤَسَّسَةِ بُوشْ، وَالْمِنْحَةَ الْوَطَنِيَّةَ لِلْفُنُونِ مَرَّتَيْنِ، فُولْبْرَايْت، وَزَمَالَةَ مَاكْ آرْثُر. وَقَدْ حَصَلَتْ عَلَى جَائِزَةِ بُوشْ كَارْت فِي الْكِتَابَةِ الْخَيَالِيَّةِ، وَلَهَا أَرْبَعَةٌ كُتُبٍ وَرَدَتْ أَسْمَاؤُهَا فِي الْكُتُبِ الْبَارِزَةِ فِي السَّنَةِ مِنْ قِبَلِ صَحِيفَةِ نْيُويُورُك تَايْمْز.
(1) فْرِيدْرِيكْ فْرَانْسْوَا شُوبَان (1810-1849) مُؤَلِّفٌ مُوسِيقِيٌّ وَعَازِفُ بْيَانُو بُولَنْدِي، تَتَمَيَّزُ آثَارُهُ بِنَبْرَةٍ رُومَانْسِيَّةٍ سَاحِرَةٍ. [المُتَرْجِمُ].
(2) بَلَمٌ أَوْ أَنْشُوفَةٌ هُوَ نَوْعٌ مِنَ السَّمَكِ الصَّغِيرِ يُشْبِهُ الرِّنْكَةَ. [م].
(3) مَادَّةٌ شِبْهٌ زُجَاجِيَّةٍ يُمْكِنُ أَنْ تُشْطَرَ إِلَى رُقَاقَاتٍ تُسْتَعْمَلُ عَازِلًا كَهْرَبَائيًّا. [م].
(4) جُوهَانْ سْيِبَاسْتْيَانْ بَاخْ (1685-1750) مُؤَلِّفٌ مُوسِيقِيٌّ أَلمَانِيٌّ عُرِفَ بِغَزَارَةِ الْإِنْتَاجِ. [م].
(5) دِيتْرِيشْ بُوكْسْتِيهُودِه (1637-1707) عَازِفُ أُرْغُنٍ أَلمَانِيٌّ– دَانِمَرْكِيٌّ. [م].
بَاتْرِيشْيَا هَامْبِلْ محمد حلمي الريشة
شاعر من فلسطين