يتميز الوسط الثقافي العراقي، باتساع حجمه وبهامشه الاجتماعي الصاخب، الذي يعج بالآراء والتصريحات الرنانة والأحكام الشفافية الصارمة، التي تقسو كثيرا على أفراده. واذ يمكن اعتبار ذلك من النتائج، فإن ضيق مساحة المنبر، بالإضافة للتهميش والاقصاء، اللذين وجد الوسط الثقافي نفسا مقذوفا فيهما، طوال عقود طويلة، بالإضافة للقائمة الطويلة من الممنوعات، أدت به لابتكار وسائل تواصل بديلة غلبت عليها الشفافية، التي جاءت على خلفية النزق المتأصل في الشخصية العراقية الذي فاقمته ظروف الحرب القاسية، وما أسسه الآخر في دواخلها من خيبة.
هكذا أخذت الثقافة الشفافية حيزا واسعا، لدى قطاعات واسعة من الوسط الثقافي، ووجدت في المقهى والحانة فضاء مقنعا، عززه حجم الوسط الكبير الذي وفر جمهور نخبة جيدا، لا يمكن مقاومة إغرائه في ظل عدم وجود البديل. مما كرس حلقة مفرغة من النشاطات والطقوس، التي وفرت للكثير من المبدعين متعة إلغاء كافة الحدود (بتجاهلها) والتحليق الحالم في حوارات مفعمة بالنوايا المطلقة، بالاضافة لما تشكله من مهرب ومتنفس من ضغوط كثيرة، فأخذت تستقطب الكثير من الفراشات الحالمة بالضوء الى نارها ودوامتها السيزيفية القاتلة، التي تبدأ بالمقهى وتنتهي بإغلاق آخر الحانات في الصباح المبكر، لتعاود رحلتها من جديد، فأسست تقاليدها وأصبح لها نجومها وصعاليكها المتميزون، الذين لا تستقيم الطقوس الا بحضورهم.
لقد استهلكت تلك الدوامة العديد من الأسماء، التي كانت واعدة بالكثير قبل أن تسقط في متاهة دهاليزها التي يصعب الخروج منها بعد ذلك، ويعتبر جان دمو من أبرز نجوم تلك الفضاءات الخلفية، فهو الشاعر المعترف بشا عريته من قبل كافة الأجيال، وبغض النظر عن حجم وقيمة إنجازه، إذ يكفي حضوره المميز في اجتماعيات الوسط ليزيل أي غبار عن شاعريته.
على أن نشر مجموعة شعرية لجان دمو، وفي هذا الوقت بالذات، يعد مفاجأة كبيرة، لم يكن يتوقعها أحد. فبعد ما يزيد على ربع قرن من حضور شعري غائم، أثار الكثير من التقولات والآراء، ولم يعلن ملامحه حتى صدورها، وحضور آخر، أكثر حظا من الاول بقليل، كمترجم لنصوص إبداعية عن الانجليزية في مقابل حضوره المختلف والمثير في اجتماعيات الوسط الثقافي، فهو الشاعر الصعلوك العبثي المتمرد الذي لا يتورع عن التهجم والسخرية من كل شيء، والمشرد الذي لا يعرف أين ستلقي به الطرقات في المساء، المحفوف دائما بعدد من الشعراء الشبان والصعاليك.
بدأ جان دمو مشواره الشعري كأحد أصوات "جماعة كركوك" الذين جاءوا الى بغداد من مدينة كركوك، وشكلوا تجربة متفردة ورائدة في الشعر العراقي، مازال لأسمائها حضور مميز في الخارطة الشعرية حيث "ضمت الى جانب جان دمو، سركون بولص وفاضل العزاوي وصلاح فائق وأنور الغساني ومؤيد الراوي، كتبوا نمطا خاصا من الشعر، ربما يشبه أنماطا أخرى في العالم، الا أنه جاء جديدا في العراق"، فقدموا تجربة مستقلة عمادها قصيدة النثر واسترخاء الجملة الشعرية وابتعادها عن معايير البلاغة المتوارثة، بالاضافة الى إدخال القاموس اليومي الى نسيج القصيدة، مما لم يكن مألوفا آنذاك، والتقاط الصور الشعرية من الواقع أو محاكاته في التقاطها، وجعل المشهد اليومي الأليف من دعامات النص الأساسية، كما أنها اقتربت كثيرا وتأثرت بالشعر المترجم أكثر من تأثرها بالتجارب المحلية. على أن تلك التجربة لم تحظ بنصيبها من النقد والتنظير والدراسة فبقيت غير واضحة المعالم بدرجة كافية.
ورغم غزارة إنتاج جان دمو إلا أنه "لم ينشر الا القليل من قصائده في صحف ومجلات مختلفة كانت أغلبها "تجريبية " فأطفئت، لأن كتابة قصيدة النثر، في تلك الفترة، كانت تمثل محنة لشاعرها، الذي عليه أن ينتظر تحول الذائقة الشعرية اليه وبالتالي يكون مستساغا بين الصفحات الثقافية التي تمثل الشائع من الأدب، عدا مجلات وصحف قليلة تمكنت من إدراك ذلك، ومنها مجلة "شعر 69" في العراق ".
ولا يمكن قراءة "أسمال " جان دمو، التي حذف المضاف اليها "الملوك " (كما يطلق عليها هو في أحاديثه). وكما هو عنوان إحدى قصائد المجموعة "أسمال الملوك"، دون استحضار ملامح سيرته الذاتية وقصة صدور المجموعة، فهو الشاعر، الذي قست عليه الحياة فلم يستطع الانسجام مع ايقاعها، وحين تمرد شردته فوجد في الخمر أمنه ومأواه، فلم يصح منذ سنين طويلة إلا نادرا، لكنه رغم ذلك ظل متصلا بكتبه وقاموسه وأوراقه، التي خبأها في الزوايا التي يلجأ اليها آخر الليل، بعد أن تفلق الحانات أبوابها، فتطايرت وتبعثرت قصائده هنا وهناك واستقر بعضها لدى أصدقائه، من الشعراء الشبان والأدباء والصعاليك.
يقول الناشر في مقدمته إن استدراج الشاعر الى النشر تم "تحت إغراءات "نفسية " يعرفها هو وحده مع مجموعة الصعاليك المحيطين به، فوعد بزيارة الدار ودراسة أمر نشر مجموعته الشعرية (التي لا يدري أين سيعثر على قصائدها) ولم يتحقق الموعد إلا بمعجزة ! سمع الأصدقاء.. فتطوعوا لإحضاره مع مجموعة من القصائد التي استلوها منه بطريقة أو بأخرى.. (وأغلب هذه الطرق نوادر لا يمكن إغفالها)… قصائد جلبها الشاعر نصيف الناصري وأخرى جلبها الشاعر حسين علي وأخرى جلبها القاص علي السوداني وأخرى جلبها القاص يوسف الحيدري وقصيدة مسجلة بصوت الشاعر سلام كاظم.. وأخرى منشورة في مجلة قديمة و،و،و.. حتى جمعت قصائد المجموعة… وحين علم بالأمر طلب مراجعتها لتجنب الأخطاء… وحين طالعها "زمجر" بألفاظه المعروفة وقرر إعادة كتابة بعض القصائد مع إعطائه فترة زمنية لانجاز مشروعه الشعري الذي يلح عليه منذ زمن، هكذا جمعت القصائد و«كعادته» أغفل المشروع «الكبير» الذي ينام في رأسه!".
تلقي تلك الخلفية بظلال واضحة على الملامح العامة للمجموعة، فهي تغطي فترة زمنية طويلة تصل الى ثلاثة عقود، وهي إذ لا تمثل سوى نسبة ضئيلة من نصوصه، ولا تتميز إلا بكونها هي فقط ما تم العثور عليه منها، فهي بالتأكيد لا تمثل أفضل ما كتبه. إن ظروف حياة جان دمو القاسية جدا وتشرده بلا مأوى في حر الصيف وبرد الشتاء، بالاضافة الى إدمانه وعبث حياته ويأسه وشعوره باللاجدوى، أدت الى تباين كبير في مستوى قصائده بحسب حالته النفسية وقدرته على التركيز في حينها.
وكمدخل الى المجموعة يمكن للنص التالي أن يفصح من الكثير من ملامحها:
"بالسر يتركز النوم
في أشد المناطق ناء، اقذف بغنائك
أنا أيضا كنت يوما فريسة حاجة في عضة.
ولكنني كنت على وفاق مع متطلبات الربيع.
تعلمت أن أكون أنا.
وأن أترك للواقع، أن يتكفل ما فسد.
المسافة تقصر، والحقيقة تتآكل.
أتعجل مقدم الفجر
سقوطي يمتع
جوهر الروح
لم أتعلم أن أتغيب طويلا"
يفصح هذا النص الذي يمكن أن يمثل المناخ العام في معنى نصوص المجموعة، عن نبرة منخفضة وجملة شعرية مسترخية تنأى عن أي مكياج للبلاغة، وتستند الى اكتناز وجداني واضح. كما يفصح عن صراع وجودي محتدم، وذات ترزح تحت وطأة تساؤلاتها الشاقة ورهبتها وانشغالها في البحث عن ردها الوجودي الخاص، مترفعة في ذلك عن التفصيلات الحياتية، ومنسحبة الى عالمها الباطني، لتمارس سيرورتها السرية.
واذ يميل الشاعر الى التصورات الذهنية، فان تفكيره يجيء شعريا حتى لا يمكن إيجاد مقابل موضوعي له، بل ان الاسئلة التي تزدحم بها نصوصه لا تكاد تفصح عن فضائها ومراميها، حين تتخلى عن البحث عن أجوبتها، مكتفية بتأشير فداحة المواجهة وانغلاق أسرارها:
"ماالذي يمكن أن يفصلني عن المستقبل
سوى مقصلة النوم والارتخاء؟ "
او:
"هل بالرماد وحده يضاء القلب ؟"
أو:
"كيف تركوا ظلهم في
فجوات الكلمات ؟"
أو
"أيكون الموت غياب الذاكرة ؟
أم صفا من طيور البطريق
تنتظر مخلصا ما
تحت شمس بنفسجية ؟ "
او:
" أية حكاية
لا تصدأ فيها انهيارات الزمن ؟ "
ولا نكاد نفارق في كل نصوص المجموعة تلك النبرة الدفينة من الحزن الوجودي والاحساس باللاجدوى وعب الحياة والشعور بفداحة مواجهة الانسان لمصيره، التي تتمظهر عبر سخرية تراجيدية مرة يبطنها عميقا أحيانا وتتحول الى موقف دراماتيكي من الحياة في أحيان أخرى: "يتعين وضع بعض الأسلاك
حول وقت الأطباء
والبغاة والسفاحين.
ولكن أينما أجلت النظر
ماذا يمكن أن تبصر
غير ميكانزمات الفراغ،
تعمل لأجل أن تثبت
أن مفاتن البحر
ودخان المصانع
وطقطقة أحذية الغانيات
لا فرق بينها.
وربما كان في هذا بعض الحكمة
أو قد يكون هو أصل العلة."
ويمكن ملاحظة أثر كون الشاعر مترجما للشعر، واطلاعه الواسع على منجز الشعر العالمي، واضحا على شعره بل إن ذلك الأثر يمتد الى طريقة تركيب الجملة وبنائها.
وينبغي العودة الى تأثير الخلفية الحياتية للشاعر على نصوصه وكذلك أثر طريقة جمع النصوص، عندما نقرأ بعض المقاطع التي لا تنسجم مع المناخ العام للمجموعة وخصوصا تلك الصور التي تحيلنا الى «مستهكات السريالية»، وقد نجد تفسير ذلك في شيوع وتناقل تعليقاته الساخرة وعباراته اللاذعة وامكانية اختلاطها بقصائده، خصوصا أنه لم يكن مسؤولا عن تدوينها واعتبارها نصا من عدمه، لأن الأمر سيان عنده، وخير مثال على ذلك مقدمة المجموعة التي ربما كان حضورها الطويل على ألسنة المحيطين به وراء اختيارها:
"حبيبتي
فمك حمار كهربائي
حيث أسناني تسافر مع الريح ! "
تضمنت المجموعة 27 قصيدة قصيرة أغلبها بلا عناوين، وصدرت عن دار الأمد في بغداد 1993 بالقطع الصغير، ويجري الترتيب لاصدارها في طبعة ثانية خارج العراق.
سلام سرحان ( كاتب من العراق)