التطلع الى بلوغ المرتبة التي بلغها ادوارد سعيد، نازع، في حسبي، لا يقاوم بالنسبة للعديد من الكتاب العرب، وخاصة الفلسطينيين ممن حالهم حال كاتب هذه السطور.
فلقد ظفر الرجل باعتراف دولي لم يسبق ان ظفر به كاتب فلسطيني أو عربي، وهو الى كونه استاذ أدب ناجحا في احدى كبريات الجامعات في امريكا. فان أوسع أعماله تداولا لهي تلك التي تخرج عن مضمار تخصصه، والتي هي حصيلة ما يسميه بجهد ((الهاوى)) غير المقيد الى اجراءات مؤسسية او نظم راسخة، بل المناوئ لمثل هذه النظم وتلك الاجراءات. هو أيضا الناقد الأدبي المدهش في افلاحه، في زمن شيوع النظريات الأدبية، وابتكار ضروب قراءة لا تعزل النص الأدبي عن عالمه (بالمعنى السعيدي للعبارة)،(1) ولا تلحقه من ثم بالتمارين التطبيقية المثقلة بعبء المنهجية، الى ذلك فإنه المنظر العلماني الذي نادرا ما يخالط علمانيته جنوح غير عقلاني أو خرافي، الرائد الجدالي لما يسمى بدراسات ((ما بعد الكولونيالية)) وضمن هذا الاطار مؤلف ((الاستشراق)) و((الثقافة والامبريالية)). مما نال من أعماله احتفاء استثنائيا وأثار جدلا لم ينقطع بعد، هو أيضا المثقف الملتزم الذي طوال ثلاثة عقود، وفي مدينة مثل مدينة نيويورك، حيث يعمل ويقيم، وحيث الى عهد قريب كان انتقاد اسرائيل والتكلم لصالح الفلسطينيين يحمل على كونه عداء صريحا للسامية (وهو من اقذع التهم، وان لم يكن كذلك في بلاد العرب ومحاباة للارهاب، لم يبرح ناطقا شجاعا في سبيل حق الفلسطينيين بتمثيل أنفسهم وتقرير مصيرهم.(2)
لا عجب، اذن، ان الناس ممن تحط بهم اقدارهم حيث يوسمون بكونهم لاجئين ومنفيين، ومقبولين على مضض، وفي أحسن تقدير مدعاة لاثارة الرأفة، ان يتطلعوا الى سعيد كمثال وسبيل للخلاص مما يوصمون به كـ((آخرين)) من الهامشية وضآلة الشأن بما يبرر اسقاطهم من الحسبان.
بيد ان سعيدا كلما اقترب منا، تراءى لناظرينا خلافا لصورة المثال التي نصبو اليها، ففرادة سعيد كمثقف فلسطيني افلح في التغلب على الهامشية لا تصدر عن احتضانه هوية واحدة من الهويات المتعددة التي تنطبق عليه، ولا من خلال الجمع بين هذه الهويات على وجه منفصل، واستخدام الواحدة منها أو الاخرى، تاليا، تبعا لما ينتضيه المقام، وانما من خلال احتضانها جميعها بما ينجم عن ولادة هوية متعددة الابعاد، كذا فإنه لمن المثير لخيبة قارئ كتاب له، أو حتى مراجعة كتاب، صدور ما يقرأه عن منظور واحد بعينه، قل منظور الاكاديمي أو منظور الناقد الأدبي أو المثقف الملتزم التزاما سياسيا، ذلك أن سلطة سعيد انما تبلغ مقصدها من خلال فلاحه في الاعراب من ارادة تكرس هوية متعددة الأبعاد لمثقف كوني، لا يعدم في الآن نفسه، صلة وثيقة بما هو محلي وشخصي تاريخيا.
لكن، ولسوء الحظ، فان في كتابات سعيد السياسية، لا سيما تلك التي أقبل على تدبيجها بهمة لا تعرف الكلل في غضون الأعوام القليلة الماضية، ما يدل على اخفاق في تمثيل هذه الهوية مستجيبا لهوى هوية أحادية بما ينجلي عن صورة مثقف محلي ينتمي الى عالم واحد دون العوالم الأخرى التـي لها عليه فضل وحق. فإذا ما قرأنا الكتابات المشار اليها في ضوء مذكراته الصادرة حديثا (3) تبين بأنه أقرب الى القومي الفلسطيني منه الى المثقف الكوني ( 4) ذي السلطة الموثوق بها.
ولا ريب في أن ربط ((في غير محله))، وهذا عنوان المذكرات، بالكتابات السياسية المعنية سيبدو بمثابة ذريعة لسرق محاججة ضد أشد آرائه مدعاة للجدل، غير أن من يوافق بأن كتابات سعيد عموما لهي مصب أكثر من رافد فكري واهتمام، لن يخفق في تبين وثوق صلة هذا الكتاب بجل أعماله، لاسيما السياسية منها، ان من خلال المنهجية التي يتبعها، أو من خلال منظور الغرض السياسي الذي ترمي الى بلوغه.
((ادوارد)) كمشروع
((في غير محلة)) وكما يمكن للمرء أن يتوقع من كاتب بكفاءة ادوارد معيد، ليس محض إخبار لمجمل الحوادث المكونة لطفولة المؤلف ويفاعته، ولا شك بأن سعيدا يروي، وغالبا ما يروي بقسط وافر من التفاعيل، معظم الحوادث التي شكلت وجدان حياته الباكرة، غير أن السرد، الذي يتوسله ليس بذلك السرد الخيطي البسيط الذي ينحو إلى انشاء ما هو معهود من أمر إنشاء استعادة الماضي، وانما هو سرد التقصي أو التحري الذي نادرا ما تمر شخصية من بين خيوط شبكته، أو حادثة من دون أن تخضع لفحص وتحليل، أو يصارعن خلالها الى استنباط تناقضات ومفارقات مثيرة للحيرة في سياق تقصي أصل ذلك الاحساس بأنه في غير محله.
((في غير محله)) يقول ادوارد سعيد، هو ((سجل لعالم منسي بالأساس أو مفقود))، غير اننا سرعان ما نتبين بأن الدلالة الغنية لهذا السجل لا تصدر عن ادعاء الوقوف على أحداث سياسية بالغة الشأن، ولا على غرضه تزويدنا بصورة حية لما كان عليه العالم المنسى ذاك، ولكن ما أتيح لسعيد معرفته، وهو على ما تشي به المذكرات، خاصة النصف الأول منها، النذر اليسير مما كان يجري، ذلك ان سعيدا كان محروما من اكتشاف العالم لنفسه، ان في بعده الخاص أو العام.
مصانا في بيت في القاهرة آمنا ماديا واجتماعيا، كان سعيد معفى من معاناة، بل مشهود، ما كان يتعرض له جل الفلسطينيين من أبناء جيله في ذلك الوقت، ولا غرابة اذن، انه ابان الأحداث الكارثية لعام 1948، وحينما اقتلع آلاف الاطفال الفلسطينيين من ميدان طفولتهم، وجروا بصحبة ذويهم ممن ارغموا على الفرار طلبا لملجأ في البلدان المجاورة، لم يسمع سعيد الا صدى المحنة الفلسطينية.
فما عدا رؤية طابور اللاجئين الذين كانوا يترددون في ذلك الوقت على شقة عمته نبيهة في القاهرة – وعمته نفسا كانت قد أضحت لاجئة، غير انها عقدت العزم علي تقديم كل ما في وسعها في سبيل غوث اللاجئين الذين تمكنوا من الفرار الى مصر- فما عدا ذلك. فإن ما أخبر به لم يزد كثيرا على اشارات عابرة، وأحسب أن ادوارد يحس بالذنب تجده ذلك، غير انني لا أجد في الأمر ما يستدعي إحساسا كهذا.
((لقد فقدنا كل شيء.. فلسطين)) كان قصارى ما أفضى به وديع سعيد ((والده المؤلف)) الى ابنه المستطلع جلية الامر، وهذا والحق يقال، ليس بالشيء الكثير، غيران صدوره عن رجل كتوم كتمانا مثيرا للفضول، فضلا عن افتخاره بكونه مواطنا امريكيا، ما يفصح بما كان يخدع وديع من مشاعر شاء أن يبقيها سرا عن ابنه.
ان سجل سعيد، بمعنى عميق وذي دلالة هامة، لهو محاولة لاستجلاء سر الحيلولة دونه ومعرفة ما كان مهيأ لفهمه فهما تاما، أما جلاء هذا السر فهو ما يحرص الكاب على افتراضه منذ البداية: ان ((ادوارد) كما يحيلنا الى نفسه من خلال ضمير الغائب، كان مشروعا يتوجب ادارته ادارة اخلاقية وبدنية، ((كان والداي)) يقول سعيد، ((في قلب الجهاز الاداري الذي كان يقرر وقتي دقيقة اثر دقيقة. ولم يكن هذا الجهاز يبيع لي سوى الدقائق الأقل من الارتياح يمكنني أن أخلد اليها وأحس بأنني كنت متحررا من براثنه)).
وعلى المنوال نفسه انبرى له معلموه في مدارس أجنبية (بريطانية وأمريكية) ذائعة الصيت بنظمها المتصلبة وسبل تعليم لا تعرف الهوادة أو اللين. ولعل ما زاد من اعتبار((ادوارد)) بمثابة مشروع بدني وأخلاقي، انه نادرا ما أظهر استعدادا للامتثال والطاعة، فلم يكن عنده حس بذاته، فضلا على افتقاره الى المقدرة على الاستنساخ الاوتوماتيكي لما كان يتوجب عليه استنساخه بما دعا احدى مدرساته في ((مدرسة القاهرة للأطفال الامريكيين)) مرة الى مخاطبته قائلة: ((انني لم ار أحدا كذا غير قادر على التركيز، عديم الاعتبار مهملا وسايطا)). وفي مرة ثانية انقض عليا أحد المدرسين في ((كلية فيكتوريا))، وكاد أن يطرده من المدرسة لولا شفعة ذكائه الذي ما كان في وسع ادارة المدرسة إلا الاقرار به.
وما لا يمكن للمرء أن يخفق في استخلاصه، هو أن المؤلف يرى الى مشروع ادارة ((ادوارد)) كبيان خطاب مهيمن يصار فيه الى تطبيق سبل المراقبة والقسر، ولا يختلف كثيرا عن ذلك النمط من الخطب التي لم يأل سعيد في حياته الفكرية جهدا في الكشف عنها وانتقادها، وفحوى قوله انه لم يكن يعامل على الوجه الذي عومل به لكي يقوم بأفضل ما في وسعه، على ما برح والده يحثه، وانما لكي يصير الموضوع عديم القوة لذلك الخطاب، اذ انه حتى حينما كان يظهر نبوغا في الدراسة، فانه نادرا ما كان يكافأ على الوجه الذي يستحق.
يخبرنا سعيد بأنه ولوقت طويل لم يكن قادرا على فهم سر هذه المعاملة الى ان أيقن بأن ذلك من خواص سلطة هدفها الرئيسي أن تصيرك كما تريدك أن تكون. ((بمرور الأيام)) يقول سعيد ((شرعت في كفاح حياة مديد، وحاولت ان أميط اللثام عن نزوية وادعاء سلطة تستند استنادا مطلقا على صورتها الذاتية الايديولوجية كوكيل أخلاقي يعمل بنوايا حسنة وبمقاصد لا يرقى الشك الى نزاهتها)).
الشخصي والسياسي
ثمة لا حياة خاصة مستقلة عن السياسة عند فرد ينتمي الى أمة او جماعة تحسب بأن وجودها نفسه مهدد بثكل متواصل، وان هويتها منكرة أو مدانة كدلالة ظاهرة دونية وخطيرة فحيث تنعدم أبسط الضمانات التي تكفل بقاء المرء حيث يقيم، أو أنها تكفل بقاءه أصلا، فان حياة الفرد لتبدو أقرب الى مشروع مؤقت معلق المصير، ويكاد الا يكون هناك شيء من حياته الخاصة مما يمكن اخباره من دون أن يكون وثيق الصلة بهذه الحقيقة الحاسمة، أكثر فأكثر يوقن الشخص ممن عنده خبرة كهذه كم من السير أن يتكلم عن حياته من دون أن يلامس ما هو سياسي. بل أن محض الاجابة على سؤال ((من أين أنت؟)) مما يمكن أن سأل المرء من قبل شخص غريب في لقاء عابر، ليتطلب جهدا مضنيا في سبيل استجلائه جلاء وافيا.
ومثل هذا الأمر نستشفه من قصة ادوارد سعيد، فحيث أن الكاتب عضو في جماعة كهذه، فان سيرته الذاتية ليست بأقل مثال على صعوبة فصل الشخصي عن السياسي. من الصحيح أن الحوادث السياسية لم تكن ذات أثر عظيم في حياة الكاتب الباكرة، وخلافا لما كان الأمر عليه بالنسبة لغالبية الفلسطينيين، غير أن الاحساس بنه في غير محله حيثما حدث أن كان، لهو احساس أصلي يشاطر الفلسطينيين فيه وعموم من ابتلوا ببلاء المرحلين، وفي حين أن جل المرحلين يعون، أو غالبا ما يعون، مصدر هذا الاحساس، فانه لم يكن لدى ادوارد سعيد جواب شاف، والمشكلة ان سؤال الهوية في حالة شخص مثل ادوارد سعيد أمر لا يمكن البت به بالبساطة التي يمكن أن يبت بها في حالة غيره من الناس، من هو ادوارد سعيد؟ ولمن ينبغي أن ينتمي؟ وأن يكون انتماؤه؟ لهي بعض الأسئلة التي يحاول سعيد الاجابة عليها، واعيا وعيا ذاتيا لما يسعى الى ارسائه من خلال كتاباته، لا سيما تلك ذات الاهتمام السياسي.
يقول سعيد بأنه عاش جل حياته مصحوبا باحساس تعدد هويات، غالبا ما كانت على نزاع ما بعضها البعض، بما يدعو الى القلق، وانه لطالما راودته الرغبة بأن يكونوا جميعا، هو وعائلته: ((جميعا عربا أو جميعا أوروبيين وأمريكيين، أو جميعا مسيحيين وارثوذكس، أو جميعا مسلمين، أو جميعا مصريين.. وهلم جرا)).
والصعوبة في احتضان كافة هذه الهويات، التي تنطبق عليه بدرجة او اخري، مردها الى حقيقة ان سعيدا أقام في أماكن كثيرا ما كانت هناك هوية غالبة، يصار في ضوئها الى تصنيف أصحاب الهويات الاخرى بكونهم ((آخرين))، وكم ألفى نفسه تلقاء خيارين، فاما أن يكابد الاحساس بأنه في غير محله مكابدة لا نهاية ملموسة لها، وأما أن يتبنى هوية واحدة دون الهويات الأخرى، مجازفا بمواجهة شكوك حول حقيقة كونه ((أمريكيا فعلا)) أو ((عربيا حقا)).
بيد إن الالتزام بهوية واحدة لم يكن خيارا سهلا لشخص أقام في بيئات مختلفة حيث يكون المظهر الذي يظهر عليه المرء والثياب التي يرتدي واللهجة التي ينطق بها من العوامل الحاسمة في تعريف من يكون بقدر مكافئ، ان لم نقل أشد حسما، من الوثائق الرسمية التي يحمل، فلا ريب بأن سعيدا كان قادرا على الاحتذاء بوالده الذي كان فخورا بأن يعرف نفسه بكونه مواطنا أمريكيا، ولكن بما أن والده كان ((مصلحه)) الرئيسي، فان ذلك ما كان بالخيار المرغوب، ولعل ما هو أشد أهمية أن سعيد الابن، أيقن خلال السنين بأن أمريكية والده لم تكن في الحقيقة أشد رسوخا من ((وطنية نظرية)).
وكان وديع سعيد عاش في الولايات المتحدة لعقد من الأعوام، تمكن ابانه من الحصول على جنسية أمريكية، ثم انه انضوى في الجيش الأمريكي وحارب في صفوفه خلال الحرب العالمية الأولى، فضلا عن اكتسابه شهية جيدة للطعام الأمريكي لاسيما ((فطيرة التفاح)) الشهيرة، ويخبرنا ادوارد سعيد بأن والده كان يصر على ضرورة تناول وجبة ديك حبش في مناسبة ((عيد الشكر)) جريا على احتفال الأمريكيين، وذلك لـ((أسباب تتعلق بالتقاليد))، غير أن ذلك، على ما ادرك ادوارد، ليس بكاف لكي تكون أمريكيا، بل وأقل بكثير من أن يجعلك تحس بأنك أمريكي، ذلك ان شعورا عميقا، وغير مرير، لن يفتأ أن يساورك ويفضي بك الى الاقرار بأنك لست في الحقيقة ما تتظاهر به.
ويلاحظ ادوارد سعيد في احدى المناسبات ان والده، وعلى رغم جنسيته الأمريكية مصدر الافتخار ووطنيته المستمدة من ذلك، إلا أنه في دخيلة نفسه لم يكن غافلا عن حقيقة انه كان يعتبر كمجرد ((عربي)) أو ببساطة كآخر، لا ينتمي بالفعل، رغم انه مضى ناكرا الأمر، أو ربما محتفظا به سرا عن ابنه كما كان دأبه حيال أمور هامة كثيرة.
ان استنكاف سعيد تبني موقف والده لهو مما يمكن تأويله أيضا كتدبير لمقاومة أن يكون اختلاق والدين كانا هما نفسهما بمثابة ((اختلاق ذاتي))، أو على ما يعبر في موضع ثان محض ((عائلة مصممة على ان تجعل نفسها فريقا مقلدا صغيرا من الأوروبيين))، وما يبدوان سعيدا أحسه على نحو باكر، والتمس فيه موضوعا للاحتجاج، في هيئة والديه، هو. ما يصفه في سياق مختلف، وان لم يعدم صلة بالسياق الراهن، بـ((الفراغ)) الذي يحب الماضي، ففي عزوفهما عن الاقرار بأنهما فلسطينيان بالأصل، فلقد ظهر وديع وهيلدا سعيد وكأنهما شخصان منقطعا الجذور وقادمان من غير مكان، وكان أن حدثت تلك التقلبات الحاسة والشاملة في سياسات المنطقة بما برهن فعليا للابن الحائر من أمر هويته، انهما كانا في غير محلهما، تماما كما مشرع يحي منذ وعى امتحان الهوية الذي ما انفك يواجها.
فضياع فلسطين ونشوء الدولة العبرية وصعود القومية العربية والاستيلاء العسكري على الحكم في مصر، بما جعل الحياة تدريجيا أقل يسرا للمقيمين الأوروبيين الذين حتى ذلك الوقت كانوا يتمتعون بامتيازات حرم منها أكثرية المصريين، والقلق السياسي الذي ما فتئ يتهدد لبنان منذ أواخر الخمسينات، ومن ثم اندلع أخيرا، عام 1975، على صورة عقد ونصف من حرب ((أهلية)) داعية، هذه وغيرها من الحوادث السياسية بالغة الخطورة، جعلت المنطقة مكانا غير مضياف لعن كانوا مثل أهل سعيد الذين ألفوا الاقامة في مجتمع كوزموبولتي في القاهرة في ظل الانتداب البريطاني، واعتادوا القيام بزيارات منتظمة الى فلسطين، وقضاء عطلة الصيف في ((ضهور الشوير)) في لبنان، وبدلا مما كانت عليه المنطقة من مكان يسهل التنقل فيه، أمست في غضون عقود قليلة ساحة كثيرة الجبهات يتقرر بموجب الهوية التي يحملها المرء أين يمكنه البقاء والى أين يمكنه الرحيل، وانه لفي وقت عصيب كهذا جعل الفراغ الذي ما انفك يكدر صفو سعيد، يتعاظم أثرا في حياة أهله.
يكثف ادوارد سعيد في ((التجربة الفلسطينية))(5) احدى مقالاته السياسية الابكر والأجود، بأنه حتى وقوع حرب الخامس من يونيو عام 1967، وفي المناسبات التي كانت تتعرض فيها هويته الى المواجهة، كان يسارع الى الرد بأنه كان ((من)) لبنان، فتبدو هذه الإجابة وكأنها الاجابة الملائمة لفرد يرغب في إعفاء نغمه من سوء عاقبة الشعبية المتدنية للعرب في الأوساط الغربية – الأمريكية للدقة، حث أقام الكاتب منذ سن السادسة عشرة بما يكفل له الحصول على الجنسية الأمريكية طبقا لما نصت عليه قوانين البلد في حينه – وذلك منذ نشوء دولة اسرائيل، إلا أنها تبدو أيضا بمثابة محاولة لملء الفراغ الذي ما انفك الإحساس به يتنامى في نفسه على وجه مثير للقلق. غير انه في أغوار نفسه كان يدرك بأن ذلك لم يكن السبيل القويم للفكاك من أسر هذا الإرث. (وهو في الحقيقة يعتبر رده بأنه ((من)) لبنان بمثابة رد ((جبان جبن عدم قول ايما شيء على الاطلاق، طالما انه كان يرمي الى قول ما تعمد بالا يكون استفزازيا))).
ويظهر لمن يتبع القصة على الوجه الذي تبعناها عليه ان سعيدا قد أفلح في النهاية في التغلب على هذه العقبة بالطريقة نفسها التي تغلب فيها الفلسطينيون عموما عليها، وهذا ما يقودنا إلى مصدر ممطلح ((الفراغ)). فمعلقا على سرعة ((الكرامة)) التي دارت رحاها ما بين قوة من الجيش الاسرائيلي مؤللة ومجموعة من المقاومة الفلسطينية بالقرب من مخيم الكرامة بالاردن، في مارس عام 1968، يخلص ادوارد سعيد، في المقالة المشار اليها سابقا، إلى القول:
((تقسم الكرامة التجربة الفلسطينية الى قبل، كان قد رفض اللقاء، بما عنى القبول بأمر استعادي معلن ضد الماضي العربي الفلسطيني، والى بعد، نجد فيه الفلسطيني وقد حل محله، متلائما، محاربا في سبيل مسرحة الانقطاع ما بين تاريخه في فلسطين ما قبل عام 1948، وتاريخه على الأطراف منذ عام 1948، وبهذا المعنى، إذن، فإن الفراغ الذي كان يحسه كل فلسطيني قد استحال بفضل حادثة واحدة الى انقطاع، والفارق ما بين الفراغ والانقطاع فارق حاسم: فالأول هو غياب هامد، أما الآخر فانقطاع يطالب باعادة اتصال)).
لا أعلم مقدار انطباق تحليل كهذا على عموم تاريخ الفلسطينيين، غير انني أحسب انه ينطبق بدقة أشد على تاريخ سعيد الشخصي، فمنذ ما بعد حرب عام 1967 لم يعد في ومع ادوارد سعيد اختزال ماضيه بعبارة من قبيل تلك التي تفيد بأنه ((من)) لبنان، أو بأية عبارة مراوغة أخرى، ((فلقد هزمتم)) على ما علق أكثر من زميل لها ومن ثم كانت بداية انضواء سعيد في سياسة الشرق الأوسط وبداية لعبه دورا ناطقا في سبيل القضية الفلسطينية وهذا دور صير من خلاله الى حلول الانقطاع ما بين الماضي، خاصة انه كفلسطيني لم ينكشف له هذا الماضي، وما بين الحاضر، محل الفراغ الذي يشمل ماضيه وماضي أهله.
ان الحافز الرئيسي لهذه المذكرات، على ما يزعم ادوارد سعيد، هو الحاجة الى مد جسر ما بين المسافة الزمانية والمكانية الفاعلة ما بين حياته اليوم وحياته في ذلك الوقت، أي ما قبل عام 67، بيد أن المتمهل في قراءة هذا الكتاب سيدرك بأن هذا وصف مفرط في براءته لما يسعي سعيد الى القيام به فـ((وصل ما هو منفصل)) لهو مثال ما نحن حياله هنا. فيبدو ادوارد سعيد وكأنه يرمي الى استعادة ماض كان قد أهمله، عمدا أو عفوا، منذ توليه دور الناشط السياسي، فان يكون ناشطا سياسيا في سبيل قضية يزعم بأنها قضيته، فان الزعم المعرف ليس بكاف إلا إذا توافر برهان على انه قادر على اخبار الحكاية بحيث ان الانقطاع، أو التفاوت في حالة سعيد، ما بين الماضي والحاضر، لا يجعل الأول عديم الصلة بالآخر، فوصل المنفصل، أو حتى محاولة فعل ذلك، لهو المثال الذي اعتمده سعيد في فهمه للتاريخ الفلسطيني، والعبارة الدليلة في سياق كهذا هي تولي حق السرد. وهذا ضرب من التطبيق النقدي انبرى له سعيد منذ اقباله على العمل السياسي وطوره لاحقا لكي يصير الاطار النظري لجل أعماله، وكان ادوارد سعيد قد عمد غداة حرب يونيو إلى وضع مقالة حول كيفية تصوير الاعلام الأمريكي للعرب، كانت بمثابة ارهاص كتابه الأهم ((الاستشراق)).
سرد القصة الفلسطينية
ان كتاب ((في غير محله)) لهو تمرين جيد في تكريس حق السرد، أي حق أن تخبر القصة الذي، بحسب سعيد، غالبا ما يحرم منه المطرودون والمرحلون والمهشمون جميعا.
وفي توليه حق السرد، فان ادوارد سعيد انما يقاوم خطابا مسيطرا كان قد شخص انعدام قدرته على الامتثال من قبيل الجنوح، ولكن ان تقاوم لا يعني ببساطة ان تتهم طرفا بكونه الفريق المسيطر الذي يعمد الى اساءة تمثيل المسيطر عليهم عن قصد، وانما ان تبين كيف تفلح السلطة، بالمعنى الذي ذهب اليه نيتشه وفوكو من بعده. في احتكار حق تمثيل الذات والآخرين احتكارا يكون من حصيلته بطلان أي تصوير أو تمثيل ذاتي آخر باعتباره غير شرعي أو ليس بذي صلة، أو غير مفهوم، أو متطرف أو الى ما سوى ذلك من اعتبارات، وانه لفي نقد من هذا القبيل يمكن للمرء، أو بالضرورة للجماعة، استعادة حق إخبار قصتها بنفسها.
هذا على أية حال نمط المنهجية التي وظفها ادوارد سعيد في الكثير من أعماله السابقة ومنها كتبه المعنية بالمسألة الفلسطينية، ففي ((المسألة الفلسطينية)) و((ما بعد المساء الأخيرة)) و((لوم الضحايا)) و((سياسات الطرد))، يعمد ادوارد سعيد الى ابانة الآلية التي يصار بموجبها إلى إنكار حق، الفلسطينيين في تمثيل أنفسهم وتقرير مصيرهم، ومن ثم فانه يعمد إلى العمل على مرد القصة من منظور الضحية.
ففي مواجهة تصورات سائدة في العالم الغربي واساءات تصوير تبدو فوق الشبهات، فان مهمة التوكيد على الهوية القومية للفلسطينيين، على أنهم أمة مظلومة وان كفاحها لهو كفاح في سبيل استقلال قومي، وليس ارهابا، ليس مما يمكن استيفاؤه ببساطة من خلال مرد قصة أخرى يصار فيها إلى سوق حقائق أو التشديد على اثباتات غالبا ما صير إلى كبتها أو الحط من شأنها في الخطاب المهيمن، وانما من خلال تقديم سرد مضاد يهدف الى زعزعة ((الموضوعية)) المزعومة للقمة السائدة بما يفسح حيزا لقصة أخرى.
فلا يرمي سعيد في كتاب ((المسألة الفلسطينية))، على سبيل المثال، إلى دحض المزاعم الصهيونية المتعلقة بفلسطين والفلسطينيين على أساس حقائق لا تقبل الجدل، ولكن من خلال ابانة كيف ولماذا قبلت هذه المزاعم من قبل العالم الغربي، من دون تساؤل، وعوضا عن اللجوء الى تفسير يعزو أمر نجاح الصهيونية في كسب التأييد الغربي، الى نجاح دعائي في خديعة الغرب، على ما انفك صحفيون وسياسيون عرب يزعمون، فإن سعيدا يتبع سبيلا يقيض لنا من خلاله تبين موقع المزاعم الصهيونية في السياق الثقافي والسياسي الأشمل للاستشراق الغربي. وبما ان التصوير الصهيوني للعرب والفلسطينيين مشتق من هذا الخطاب الأرسخ، فإن السعي الصهيوني يمسي مقبولا، بل وجديرا بالتأييد، اما الاختزال اللاحق للواقع الفلسطيني الى محض ((مشكلة لاجئين)) او ((مشكلة المناطق المحتلة)) فإنه يجعل هذه الصورة الوحيدة المقبولة والمسموح بها.
تأميم الواقع الفلسطيني
ليس هناك في كتابات سعيد ما تبدو عليه محاولته فيها الى كثف هويته الفلسطينية كـ((وثبة ايمان)) كما تبدو عليه في كتاب ((في غير محله))، فنحن نبصر هنا على وجه محدد كيف أن سعيدا الذي لم يكد في حياته الباكرة يحس بأنه عربي وفلسطيني، أمسى على وجه مفاجئ مدركا لهذه الهوية ادراكا صاحبه فعل سياسي. فما ان اندلعت حرب 67، حتى بدا وأن هوية ادوارد قد ظهرت على الملأ كمحض بيان سياسي. وهذه حقيقة يمكن استنتاجها من تعريفه لما يسميه بـ((الفلسطينية)) وهو مصطلح بالمطلق ((سعيدي)).
و((الفلسطينية)) بحسب مقالة ادوارد سعيد التي تعود الى عام 1969 هي ((حركة سياسية قيض البناء من خلال التشديد على تاريخ فلسطين متعددة الأديان والاعراق، وهدف الفلسطينية هو الاندماج التام للعرب الفلسطينيين بالأرض، والأهم، بالعملية السياسية التي لواحد وعشرين عاما، اما انها استبعدتهم أو جعلتهم أكثر فأكثر سجناء لا خلاص لهم)).
انه لفي هذا السياق كان اعلان ادوارد سعيد لهويته، وانطلاقا منه شرع في أداء دوره السياسي، ((منذ اللحظة التي شرعت فيها بالكتابة باسم حق الفلسطينيين في تقرير مصيرهم)) يقول ادوارد سعيد بعد خمسة وعشرين عاما على تقديمه المصطلح المذكور، فان ((حقيقة اننا كشعب لم نزل بعد من دون سيادة على اية قطعة من الأرض، ما انفكت هاجسا يسيطر على جهودي)).(6)
بكلمات أخرى قليلة، فان ظهور ادوارد سعيد كفلسطيني، كان ظهور مثقف قومي ملتزم بالكفاح الفلسطيني الذي تجلى في عنفوانا الأصفى غداة حرب يونيو. غير أن ((قومية)) ادوارد سعيد، جدير بالاضافة، ليست بأية حال من الأحوال قومية من يؤكد على وجود هوية جوهرية تميز شعبا عن آخر، وتجعل اختلاطهما وبالتالي اندماجهما، مستحيلا، واما هي، وكما يجادل الكاتب البريطاني توم نيزن، أشبه بتدبير الى مقاومة الزوال الذي بدا لوقت غير قصير وكأنه مصير الفلسطينيين لا مهرب منه.(7)
الى ذلك فانه لمن الممكن اقتفاء أثر انتقال تدريجي في فكر سعيد من الظن بان الاستقلال القومي لهو الهدف النهائي لكفاح الفلسطينيين، الى الكلام عن تحرر شامل ليس الاستقلال الا أحد أطواره المتعددة. وبذا فان ادوارد سعيد ليبدو أقرب الى المثقف القومي تبعا لما يقول به فرانز فانون، صاحب كتاب ((معذبو الأرض)) الذي سرعان ما أضحى أحد مراجع سعيد السياسية الهامة في قراءته اللاحقة للخطاب ما بعد الكولونيا لي تحديدا كتابه ((الثقافة والامبريالية)). او على ما يذهب نيرن فهو المثقف المنذور للفرار والنجاح في اطار الاندماج المتروبولي، الا انه عاد محاولا تولي عبء اولئك الذين لبثوا خلفه.
ولا شك بأن سعيدا في مشايعته القومية الفلسطينية قد تولى عبء اولئك الذين بقوا هناك، ولكن ليس كل من بقي هناك، فلكي يكون للمشروع القومي الفلسطيني الذي تبناه ادوارد سعيد هدف قابل للتحقق، كان لابد من تهميش حقوق ومصالح اكثرية اللاجئين الفلسطينيين، تحديدا اولئك الذين ينتمون الى ما بات يعرف بدولة اسرائيل، نيرن نفسه الذي يتحدث عن اولئك الذين بقوا هناك، فانه يعني ابناء المناطق المحتلة عام 61، وعند هذه النقطة يجد الفلسطينيون ممن حالهم مثل حال كاتب هذه السطور في ادوارد سعيد خيبة طموح لم يتحقق.
فلمن ولد منا ونشأ في مخيمات اللاجئين، وعانى شتى صنوف التمييز الاجتماعي والسياسي في البلدان المضيفة، فان الحصول على قيادة سياسية تمثل حقوقنا ومصالحنا وطموحاتنا، ان التاريخية منها او الواهنة كان الامل المضمر في الخروج من اسر الهامشية، ولكن لخيبتنا، فان الممثل السياسي الوحيد (او الشرعي والوحيد، على ما كان يصف نفسه) الذي امكننا الحصول عليه قد اخفق في الاحاطة بالواقع المعقد للفلسطينيين من حيث انهم جاليات او جماعات متباينة ذات مصالح وآمال متفاوتة، ان لم نقل متضاربة في بعض الاحيان، ومما لا يمكن احتواؤها في اطار مشروع قومي هدفه الوحيد القابل للتحقق، على ما برهنت الأيام، هو ابرام اتفاقية مع اسرائيل يكون من نتيجتها قيام كيان فلسطيني، او في احس الأحوال دولة فلسطينية في الضفة الغربية وقطاع غرة. فما أغفله الممثل السياسي هو أن الضفة الغربية وقطاع غرة ليسا بفلسطين، ولا يمكن أن يكونا الوطن القومي لسائر الفلسطينيين حتى لو نشأت عليهما دولة فلسطينية ذات سيادة تامة، وعلى هذا فان ((تأميم)) الشعب الفلسطيني، أي صوغه كأمة واحدة، على الوجه الذي أممته عليه منظمة التحرير، انما عنى تهميش من لا يمكن اخذ حقوقهم ومصالحهم بعين الحسبان، بل الأدهى من ذلك الحاق مصيرهم بالهدف ((القومي)) الذي اذا ما تحقق، في أحسن الأحوال فانه خليق بأن يهجرهم كما كانوا على الدوام، ((مشكلة لاجئين)).
ففي تبني ادوارد سعيد قضية المشروع القومي الفلسطيني، ما يدل على ان كتاباته السياسية تصادق على استثناء شطر عظيم من الفلسطينيين، ومن ثم فانه عوضا عن أن يكون المثقف الكوني ممن يعول عليه في سرد القصة الفلسطينية بكافة تفرعاتها، فانه ينتهي الى أن يكون المثقف القومي الذي وظف جهوده في سبيل حل سياسي اقليمي.
ان دور ادوارد سعيد في منح الفلسطينيين صوتا مسموعا على مستوي عالمي دور لا ينكر، في الحقيقة فان اسهامه في هذا الخصوص ليبدو أشد تأثيرا من جل محاولات المؤسسة ((الرسمية)) الفلسطينية، غير أن السؤال يبقي، هل اضطر سعيد أن يكتفي بدور المثقف القومي؟
ارادة المثقف
ثمة في مذكرات سعيد، كما في الكثير من مقالاته السياسية، ما يرجح الظن بأن مشايعة الكاتب للقومية الفلسطينية حل لما انفك يتنازعه من حيرة تعدد الهويات المصطرعة، وهو حل انجلى عن ارادة ان يكون فلسطينيا وعلى ما يسرق القصة فلقد كانت حرب يونيو، وما تلاها من حوادث، بمثابة فرصة سانحة له لكي يحسم أمره ويعلن ولاءه السياسي للهوية الفلسطينية دون أية من الهويات الأخرى فيما ان سعيدا يؤمن، جريا على مقولات نيتشه وفوكو واضرابهما ممن يدين سعيد لمناهجهم في القراءة والتحليل بدين كبير، بأن الهوية لهي بناء ثقافي، ومثلها في ذلك مثل أي بناء ثقافي آخر، لهي اعراب عن ارادة قوة ما، فانه يرى بأن للمثقف ارادة واعية (هنا نجده يفترق عن أسلافه النيتشويين) يمكن الاعراب عنها من خلال الدور الذي يلعبه، فهو كمثقف شاء أن يكون فلسطيني الهوية والولاء، ومن ثم فانه، وخلافا للخبير المحترف أو مهندس الرأي العام أو صانع الاجماع، انما يتبوأ موقعا يتيح له مناوءة المؤسسات القائمة والسيطرة من خلال مناهج وسنن، أو على ما يلخص الأمر، وعلى وجه مباشر يتلاءم مع ما تقتضيه مخاطبة جمهور مستمعي المذياع، ان يدفع ((قضية الحرية والعدل)). (8)
ولكن كما أسلفنا القول فان مناصرة سعيد للهدف القومي الفلسطيني انما تقوم على استثناء الشطر الأكبر من الفلسطينيين، وذلك من خلال ادراجهم في سياق، ما هم مدرجون فيه أصلا: ((مشكلة اللاجئين))، وهذا ان دل على شيء، فانه لمن الواضح أن الوجه العملي لـ((قضية الحرية والعدل)) التي يعمل في سبيلها، ليست من السعة بحيث تشمل كافة الفلسطينيين، وهذا قصور مرده الى اتخاذ السياسة سبيلا للتخلص من حيرة تعدد الهويات الشخصية، بيد أن تفسيرا كهذا لا يبدو كافيا طالما أن في مقالات ادوارد سعيد ما يشي بأن ثمة عوامل خارجية تتجلى من خلال ذلك التفاوت ما بين الايمان بقضية كونية وما بين محدودية ارادة المثقف في تقديم هذه القضية الى الجمهور، لا سيما ذاك الذي يخاطبه سعيد عادة، وشرحها مشرحا عمليا معقولا.
فلا جدال في أن الكاتب الفلسطيني لا يحمل ((قضية الحرية والعدل)) على كونها قضية مجردة مطلقة، لكن بما هي قضية شعب موجود فعليا في واقع قائم على هذا فانه اذا ما شاء ايصال ما يؤمن ويظن فيما يتصل بحقوق الفلسطينيين الى جمهور كالجمهور الامريكي والغربي عموما، فثمة لا مناص من تنازل مبدئي يحد من ارادة المثقف في أن يقول كل ما يشاء قوله، أو ما يقتضيه تحليله من قوله، فالجمهور الذي يخاطب لهو عامل حاسم في تعيين كيفية سوق آرائه وشرحها، وبالنتيجة، فحوى ما يسوق ويشرح، فلكي يكون في وسعه التعبير عن شرعية نضال الفلسطينيين في سبيل حقوقهم، والذي الى عهد قريب كان ينظر اليه كمحاباة للارهاب، كان لابد لسعيد أن يسلم بحق اسرائيل في الوجود كتسليم بأمر بديهي، ومن هنا يصدر التنازل.
ليس المقصود انه ما كان ينبغي أن يقر بحق اسرائيل في الوجود، لكن ما لا يمكن اغفاله هنا، هو الهوة التي يخلقها مثل هذا التسليم في تفكيره السياسي، فتحليل سعيد للمزاعم الصهيونية كوليدة خطاب الاستشراق، وتصويره المشروع الصهيوني كصورة مصغرة ((للمغامرة)) الكولونيالية يجعل شرعية وجود الدولة العبرية موضع التساؤل، وفي افضل تقدير لا يبرر الانتقال الى موقع القبول به، وأقله قبولا بديهيا كذلك الذي يأخذ به الكاتب، صحيح ان ادوارد سعيد يصدع بحقيقة ان نشره اسرائيل كان بمثابة حل للمسألة اليهودية لا مناص منه طالما ان الهيود كأمة تعرضت لبعض أفظع ما تعرضت له أمة من اضطهاد جمعي في التاريخ الحديث، بما يبرر سعيها للحصول على ملجأ آمن، وانه الى ذلك لا ينكر حقيقة أن المشروع الصهيوني قد تمخض عن ولادة دولة ومجتمع فعليين (وليسا مجرد اكذوبتين، على ما يمر بعض العرب) غير انه في الوقت نفسه لا ينفك ينظر الى السياسة الاسرائيلية، لا سيما فيما يتعلق بحقوق الفلسطينيين والعرب، كصورة سياسة استعمارية.
انه لمن المستبعد أن يكون مرد هذا التفاوت ما بين تحليل ادوارد سعيد للصهيونية، وموقفه السياسي ((الواقعي)) من حق اسرائيل في الوجود الى انعدام الاخلاص أو الرؤية الواضحة، والأرجح ان في المهمة المسبة التي تولاها ما يفضي الى مثل هذا الخلل، فهو من حيث اتباعه نهج النقد ما بعد الكولونيالية، من وجه، معني عناية رئيسية بارث الحقبة الكولونيالية، الثقافية والسياسية، ودوره في تكوين العالم الحاضر، ولا يمكنه تجاهل مسؤولية هذا الارث، لكنه، من وجه آخر، يره الى نفسه بمثابة المثقف الذي يؤمن بالتصالح ما بين ثقافات وهويات متباينة على أساس نقد المسيطر والمهيمن والعدواني والانتصاري النزعة ايما كان مصدره أو موقعه، وعلى هذا يكون رهانه على امكانية مواجهة الشعب الاسرائيلي، في يوم ما، لتاريخه وحاضره.
لقد أراد سعيد ان يكون فلسطينيا، وللان في مسألة الهوية، كما في أية مسألة أخرى مما تلعب فيها العوامل اللاارادية دورا هاما، فأن تريد ما تكون لا يعني بأنك ستفلح في أن تكون ما تريد مهما كنت مجدا في الأمر، وقصارى ما انجلت عنه ارادة سعيد هو ربط نفسه بمشروع سياسي محدد لقاء القبول بمساومة الانتقال من الكوني الى القومي.
وقد يقال بأن سعيدا ما كان في وسعه الا ان يصير المثقف الذي صاره، فهو ما أن تبين حقيقة هويته الفلسطينية في الاطار السياسي الذي أمكنه الاحاطة به والتعبير عنه، لم يعد لديه أي خيار آخر الا أن يتولى الدور الذي تولاه، غير أن قولا كهذا كان من الممكن أن يكون صحيحا لو أن ادوارد سعيد هجر عالم ((المتروبول)) الذي ينتمي اليه وانضوى بأولي: الذين يحس بصلة أوثق بهم، ففي النهاية لا يبدو أن الهوية الفلسطينية لهي الهوية الغالبة عنده فعلا والا لكان سلك مسلكا موافقا لذلك، لفعل على سبيل المثال ما فعله زميله وصديقه الراحل حنا ميخائيل الذي استقال من عمله الأكاديمي وغادر أمريكا ملتحقا بالفدائيين في الأردن.(9)
وقد يقال [نه ليس في الامر مساومة أو تنازل، ان سعيدا لم يبلغ منزلة المثقف الكون من دون تبني قضية ما هو محلي وشخصي على نحو وثيق الصلة به، وعلى ما يبين هو نفسه في تعريفه لمهمته كمثقف، فإن ((هناك ذاك المزج المعقد ما بين العالمين الخاص والعام، فمن جهة. هناك تاريخي قيمي كتاباتي ومواقفي المشتقة من خبراتي، وكيف تدخل هذه جميعا، من جهة أخرى الى العالم الاجتماعي حيث يتنافس الناس ويتخذون قرارات بصدد الحرب والحرية والعدل)).
ان نرى إلى الأمر من هذا المنظور، فمما لا شك فيه بأن كتابات سعيد لا تفصح عن أي تنازل، المشكلة ان تورط ادوارد سعيد في المتاعب ((المحلية)) للسياسة الفلسطينية، مما هو ظاهر للعيان، لا يستوي مع دوره بحسب تعريفه هو نفسه، ونحن لا نعني هنا ان تبنيه الباكر لحل سلمي للقضية الفلسطينية على أساس اعتراف متبادل وقيام دولتين على قدر متكافئ من حق الوجود- وهو تبن أغضب الرافضين من أصحاب الشعبية الواسعة في حينه – كان خطأ، ولا نعني بأن انحيازه الى جانب قيادة ياسر عرفات ضد المنشقين المتحالفين مع النظام السوري، كان قرارا غير حكيم، ولا انقلابه اللاحق ضد عرفات وهجومه المتواصل عليه منذ توقيع اتفاق أوسلو كان جائرا جورا عظيما فما نعنيه بالتورط في ((المتاعب المحلية) هو ما تنم منه كتاباته من ادعاء مبيل مخاطبة يجعله يبدو ولانه واحد من أولئك الدعائيين الفلسطينيين ممن يعمل في هذه المؤسسة الاعلامية او تلك، مهاجما هذا الأمر أو مدافعا عن تلك السياسة وفتا لما تتطلبه الجهة التي يعمل لصالحها.
ان هذه النبرة لتتجلى على وجه انصع في مقالات الأعوام القليلة الماضية ( 10)، فهو اختار مخاطبة الجمهور العربي من خلال مقالات لا تختلف كثيرا في مضمونها أو نهجها عن تلك التي اعتاد التوجه بها الى جمهوره ((الغربي))، ولكن في حين أن نقده للعملية السلمية، لاسرائيل، للإدارة الأمريكية، للقيادة الفلسطينية المتفاوضة مع اسرائيل، للاعلام الأمريكي… اله ان نقده هؤلاء أمام جمهور غربي ليبدو أمرا مفهوما بالنسبة لمثقف في موقعه، بما انه يلقي الضوء على ما هناك من إجحاف وقصور وإساءة تصوير، فانه في سوق الانتقادات ذاتها أمام جمهور عربي انما ينتهي غالبا الى تعزيز التحاملات العربية السائدة، لا سيما تلك التي تصدر عن رافضين، قوميين وأصوليين، بلغ عداؤهم للغرب واسرائيل مبلغ الرفض المطلق لأي حل سلمي، فألا يسلط الضوء أمام قارئ إو مستمع عربي، لا يرى في اسرائيل والولايات المتحدة والإعلام الغربي إلا أعداء، وفي القيادة الفلسطينية والعربية الساعية الى السلام الا مقصرة ومتنازلة، إلا على الوجوه السلبية لسياسة هذه الأطراف، دون ايجابياتها، فإن هذا ليعزز عداء هذا القارئ او ذلك المستمع.
والأدهى من ذلك انه يبرر وتيرة تمييز الذات عن الآخر، الراسخة بين الجمهور العربي، على أساس ثنائية من ((معنا)) ومن ((ضدنا))، ((حلفاؤنا)) و((اعداؤنا))، ((الاخيار)) و((الاشرار)) أو بحسب ثنائية الحكاية المأثورة، فنحن ((الحمل الوديع)) وهم ((الذئب المفترس))، وما يجعل هذا الأمر أدهى ان وتيرة النظر هذه لا تحكم نظرتنا الى اسرائيل والولايات المتحدة والغرب عموما، وانما تحكم نظرتنا الى بعضنا البعض، مل نظرة جماعات البلد الواحد، واحدتها تجاه الأخرى،. وغيرها من الجماعات بما يكرس عداءها لبعضها البعض ويجعل حالة الاقتتال هي الحالة القائمة أبدا.
هكذا فان تقرأ بعض كتابات ادوارد سعيد السياسية، لاسيما كتابات الأعوام القليلة الماضية، في ضوء مذكراته، ((في غير محله))، فانك لن تعدم الاحساس بالأسف لهذا الانحدار الهائل في موقف مثقف علماني، ومتعدد الهويات وكوني التوجه، من ناقد للتحامل ضد الآخرين على اساس اساءة تصويرهم واختزال وجودهم الى وجه دور الوجوه الأخرى، الى عازف على وتيرة اولئك العاجزين عن سماع ايما صوت غير صوتهم.
الهوامش
1- ((عالمية)) النص عند ادوارد سعيد هي من قبيل التأكيد على أمور مثل مادية أصل وانتاج وتلقي النص، فضلا على الخطابات المتوافرة التي يكون من خلالها الكاتب نفسه موضوع عملية الكتابة.
2- ثمة دراسة شاملة حديثة الصدور تتناول الأوجه المختلفة انتاج سعيد واهتماماته تحمل عنوان ((ادوارد سعيد: اشكالية الهوية) وهي من عمل الكاتبين بيل اشكروفت وبال أهلوالي، وقد صدرت عن رتدلج بلندن 1999.
3- ((في غير محله))، جرانتا بوكس، لندن 1999.
4- المقصود بمفهوم الكونية هنا هو الاخذ بقيم ومعايير تتجاوز الحدود المحلية لثقافة الاهلية للمؤلف تنزع الى بلوغ ما يؤسس مرجعية صالحة الأكثر من مجتمع من المجتمعات المتباينة ثقافيا.
5- تعود هذه المقالة الى عامي 1969و1970وهي متضمنة في مجموعة مقالاته السياسية الصادرة في لندن عام 1994 بعنوان ((سياسات الفقدان: الكفاح في سبيل تقرير المصير الذاتي الفلسطيني 1969- 1994) فنتاج. لندن 1994
6- من مقدمة الكتاب الآنف الذكر.
7- انظر مراجعته للكتاب الآنف الذكر في ((لندن ريفير أوف بوكس))، 8 ايلول، ((سبتمبر)) 1994.
8- على ما أتي في مجموعة محاضرات ((ريث)) الصادرة في لندن عام 1994بعنوان ((صور المثقف)) فنتاج، لندن، 1994.
9- انظر تقديمه لكتاب حنا ميخائيل، ((السياسة والوحي: الماوردي وما بعده))، دار الطيعة، بيروت، 1997.
10- لا سيما تلك التي تم جمع بعضها في كتاب ((سياسات السخط)) فنتاج، لندن، 1996.
سمير اليوسف (كاتب من فلسطين يقيم في لندن)