القسم الأول _ و فضاء الكتاب والمؤلف
قليلة هي الكتب التي تستحق أن توصف بأنها عظيمة، بين هذه الكتب، دون ريب كتاب ادوارد سعيد "الثقافة والامبريالية ": إنه عظيم أولا في مداه ورحابة آفاقه وعلمه. وهو عظيم ثانيا في منظوره. بالمقارنة مع جلال المنظور والقضايا التي يناقشها سعيد في فكره عامة، يبدو بضعة المفكرين الكبار في العالم اليوم، الذين يقترن اسمه باسمائهم كاعلام معاصرين، من جاك دريدا الى يورغن هابر ماس، محدودي الأفق والمكان والمنظور، ضامري الاحساس بعظمة الانسان والانشغال بقضاياه وهمومه، وبدنيوية العالم وحميمية انخراطنا الشبقي فيه كل لحظة وآن… وقد يكون ذلك بين ما يفسر الاقبال الهائل على قراءة سعيد، وتأثير عمله، وازدحام محاضراته العامة، حيثما ذهب، وفي أي بلد تحدث، في محاضرتين دعوته لالقائهما في جامعة لندن وكان لي شرف تقديمه فيهما، في تشرين الثاني (نوفمبر) عام 1993، بعد صدور الثقافة والامبريالية في انجلترا بأشهر قليلة، غصت القاعة الكبيرة حتى كان عدد من انتظروا خارجها، مع انهم مدعوون رسميا، أكثر من الذين وجدوا لهم أماكن للجلوس أو الوقوف المتراص داخلها. رغم أن المحاضرتين كانتا في امسيتين متعاقبتين وعن موضوعين متباعدين، أحدهما تخصص. وهو "التجربة التاريخية ودراسة الأدب " والثاني سياسي خالص وهو "اتفاق أوسلو واحتمالات السلام ". وكار ذلك كله بعد محاضرة مختلفة تماما كان قد ألقاها قبلها بليلة. قدمه فيها رئيس جامعة لندن، غصت بالمستمعين في أكبر قاعة للمحاضرات في الجامعة.
ثم إن هذا الكتاب عظيم في طبيعة الموقف الاخلاقي والفكري الذي ينطلق منه ادوارد سعيد فيه: ايمانه بالانسان، والحرية، وضرورة التواصل، والتفاعل، والاثراء المتبادل بين الثقافات والمجتمعات، والصراع ضد الاستعلائية والاستعمار والامبريالية والو يمنة والتسلط والتمركزية الغربية وضد نقائضها من قوميات ضيقة، وهويات متشرنقة، وتمركزيات اسلامية أو عربية أو هندية أو افريقية. وهو عظيم في اللغة الجليلة التي بها يكتب ادوارد سعيد، وفي قوة فكره، والشبوب العاطفي الذي يتوهج هن جمله وعباراته، متجاوزا حدود الجامعية الجامدة، لكنه محتفظ بصرامتها المعرفية وشروط تكوينها. وهو منيم أيضا في تأويلا- الجديدة ونظرياته المتعلقة بالعالم، وحركة المجتمعات الانسانية، وحركة التاريخ. والثقافة والأدب، والروائي منه خاصة. في تأويلاته الجديدة في هذا الكتاب يطرح سعيد مثلا، نظرية ثالثة تضاف الى اثنتين مشهورتين في نشأة الرواية وتاريخها: ويفسر انتشار الرواية الملازم لانتشار الامبريالية وفكرة الامبراطورية بطريقة تجل عن أن تقارن بنظرة باختين أو ايان واط مع انها تتمثلهما. فهو يربط بين تجاوز الفضاء الجغرافي والرواية، وبين حركة التوسع الامبراطوري وازدهار الرواية، لا ربطا آليا جامدا، بل ربطا حيويا خلاقا، يجلو كيف تتجسد الوشائج في بنية الرواية ذاتها وآليات تشكيلها، مما لا يفعله واط أو باختين. وهو يعيد قراءة انتاج الفكر الغربي عبر مئتي عام بأذكى ما عرفت من تحليل وسفسطة فكرية ونفاذ بصيرة وألمعية. إن قراءاته لكامو لأخطر ما عرفته من قراءات تسلخ عن كامو سريته وسحر ما لفعه به القاريء من ولع بالشرط الانساني: بل ان سعيد يحيل هذا التعبير الى مصدر للسخرية اللاذعة اذ يكشف أن في الجوهر من عمل كامو الدفاع عن الامبريالية الفرنسية والغاء التاريخ الجزائري السابق على استعمار فرنسا؟ وهو يفسر المكونات الأساسية لعمل كامو في إطار اشكاليات معرفية مرتبطة بمنظوره الامبريالي وفي قراءته لفيردي وجين أو ستن وغيرهما،، يسلخ عن عمالقة الفكر الغربي الاهاب المفتعل الذي تلفعوا به ويكشف منظورهم الحاقد، المتعالي، اللاإنساني، المشبع بروح العنصرية والتفوقية والاستغلال الاقتصادي والعرقي ولا عجب بعد كل ذلك أن يثير عمل سعيد زوابع في الفكر الغربي لا تهدأ، ويتدفق مريدوه وتلامذة فكره الشباب عبر جامعات العالم يقوضون بأسلحته تراث الامبريالية الغربية وعمالقتها من مبدعين الى تربويين الى سياسيين الى عساكر. إن في كل شيء يمسه ادوارد سعيد بفكره لفوحا من عظمة الانسان، وشيئا من روح إبائه ووعيه النقدي الضدي المتفجر اللامهادن.
غير أن عظمته لا تقف عند حد القراءة والتأويل على مستوى المضمون، بل إنها لتتجلى في أخطر أشكالها، واذكاها وأكثرها تفردا وأصالة (رغم موقف سعيد المعروف نقديا من مشكلة الاصالة / في طريقة قراءته التي تكشف تجليات العمليات والهواجس التي يناقشها في ابداعات الفكر الغربي على مستوى تشكيلها النصي، كما سأفصل بعد قليل. ولعل قراءته لـ"قلب الظلام " لجوزيف كونراد ومغناه "عائدة " لفيردي و "روضة مانسفيلد" لجين أو ستن و"كيم" لرديارد كبلنغ أن تكون بين أبرع ما أنتجه الفكر النقدي الضدي، المشبع بمنطلقات فكرية ناضجة، من تأويلات للعسل الفني في أي من اشكاله وأنواعه وأجناسه، في علاقاته المعقدة بذات مبدعه وبالعالم الرحب الذي يعيش فيه هو ذد مقطع ختامي من هذه القراءة الفذة لمغناة "عائدة "، مثلا.
تتطلب خصائص عائدة الشاذة _ موضوعها واطارها المشهدي، وفخامتها النسبية، ومؤثراتها البصرية والموسيقية الخالية حتى الغرابة من التأثير الشعوري وموسيقاها المنعاة بشكل فائض ووضعها الداخلي (المتعلق بايطاليا) المقيد المكبوح، وموقعها الشذاذ في مهنة فردي الفنية – ما اسميته تأويلا طباقيا غير قابل للتمثل لا في وجهة النظر السوائية السائدة الى المغناة الايطالية ولا بشكل عام في وجهات النظر السائدة الى روائع الحضارة الأوروبية في القرن التاسع عشر. إن عائدة، كشكل المغناة ذاته، عمل هجين، مشوب عكر جذريا (راديكاليا) ينتمي سواء بسواء الى تاريخ الثقافة والى التجربة التاريخية للسيطرة الماورابحارية. إذنها عمى مركب، مبني حول تفاوتات وتباينات وتعاوضات لما تزل.إما متجاهلة أو غير مكتنهة، لكنها قابلة للاستعادة والمسح الخرائطي مسحا وصفيا ؟ وهي شيقة في ذاتها ومن أجل ذاتها، وقادرة على تقديم تفسير لاختلال المستويات في عائدة، ولشذوذياتها، ولكوابحها وصموتاتها، أفضل مما تقدمه التحليلات التي تركز بصورة حصرية على ايطاليا والثقافة الأوروبية.
سوف أضع أمام القاريء مادة لا يمكن تجاهلها لكنها بمفارقة ضدية، تجوهلت بانتظام واطراد حتى الآن. والسبب الغالب في ذلك هو أن المحرج في "عائدة " في نهاية المطاف ليس كونها تدور حول السيطرة الامبريالية بل كونها (بعضا) من هذه السيطرة. وستنبثق تشابهات من عمل جين أو ستن _الذي (يبدو) بقدر مساو بعيدا عن احتمال أن يكون فنا سنشبكا متلبسا بالامبراطورية واذا ما أول المرء "عائدة " من هذا المنظور، بوعي لكونها كتبت من أجل، وانتجت للمرة الأول في بلد افريقي لم يكن لفيردي من صلة به فإن عددا من الملامح الجديدة لها ستبرز بجلاء.
وماهي مقاطع من تأويلاته لكامو وكبلنغ:
1- 1 "لكي يموضع المرء كامو طباقيا في معظم (نقيضا لجزء صغير من ) تاريخه الفعلي ينبغي أن يكون متيقظا بالغ التنبه لأسلافه الفرنسيين الحقيقيين، إضافة الى أعمال الروائيين والمؤرخين، وعلماء الاجتماع، وعلماء السياسة، الجزائريين ما بعد الاستقلال. ما يزال ثمة اليوم تراث أوروبي التمركز قابل لحل رموزه (وملحاح ) من السد التأويلي لما قام كامو (وميتران ) بسده حول الجزائر، وما قام هو وشخصيات مختلقاته بسده. حين وقف كامو في سنواته الأخيرة علنيا بل وبحدة متشبثة معارضا لمطالب الوطنيين الجزائريين بالاستقلال، فقد فعل ذلك بالطريقة ذاتها التي كان قد مثل بها الجزائر منذ بداية حياته الفنية، مع أن كلماته الآن كانت تحمل بشكل يثير الاكتئاب رنين نبرات البلاغة الا نجلو _ فرنسية الرسمية التي تشكلت ابان غزو قناة السويس. إن تعليقاته على "العقيد ناصر"، وعلى الامبريالية العربية والاسلامية، مألوفة لنا، بيد أن التصريح السياسي الوحيد الصارم الذي لا مهادنة فيه الذي يعلنه حول الجزائر في النص يظهر كخلاصة سياسية خالية من التزويق لكتاباته السابقة :
فيما يتعلق بالجزائر، إن الاستقلال القومي صيغة من العاطفة المشبوهة الخالصة. لم يكن ثمة أمة جزائرية أبدا. وان من حق اليهود، والاتراك، واليونانيين، والايطاليين، والبربر أن يدعوا لأنفسهم حق قيادة هذه الأمة الكامنة. في الواقع الفعلي، لا يشكل العرب وحدهم الجزائر كلها. وان أهمية الاستيطان الفرنسي والزمن الذي مضى عليه، بشكل خاص لكافيان لخلق مشكلة لا تقارن بها أية مشكلة أخرى في التاريخ. إن فرنسيي الجزائر هم أيضا، بأشد معاني الكلمة قوة اصلانيون. وعلاوة، فإن جزائر عربية محضا تعجز عن تحقيق ذلك الاستقلال الاقتصادي الذي
لا يعدو الاستقلال السياسي من دونه أن يكون وهما وأيا كانت درجة نقص كفاءة الجهد الفرنسي، فلقد كان هذا الجهد من رحابة المدى بحيث أن أية دولة أخرى (سوى فرنسا) لن توافق اليوم على تحمل ذلك العبء."
تكمن المفارقة اللاذعة في أن كامو حيثما يسرد قصة في رواياته أو في مقطوعاته الوصفية يسوغ الحضور الفرنسي في الجزائر إما كسردية خارجية، جوهرا لا يخضع للزمان أو التأويل (كما هي جانين ) أو بوصفه التاريخ الوحيد الجدير بأن يسرد كتاريخ… إن عناد كامو وتشبثه لتفسر الفراغ والغياب في خلفية العربي الذي قتله سيرسو، ومن هنا أيضا الاحساس بالدمار في وهرأن الذي يراد له بشكل ضمني أن يعبر لا عن موت العرب بشكل رئيسي (وهو بعد كل حساب مكمن الأهمية من وجهة نظر سكانية) بل عن الوعي الفرنسي.
من الدقيق أن يقال لذلك إن سرديات كامو قد أرست مطالب صارمة وسابقة وجوديا على جغرافية الجزائر. فبالنسبة لأي امري، يملك درجة عابرة من المعرفة بالمغامرة الاستعمارية الفرنسية المديدة فيها، ان هذه المطالب والمزا عم من الشذوذية المكشوفة المخالفة للعقل بقدر ما كأنه الاعلان الفرنسي عام 1938 من قبل الوزير الفرنسي شوتوم إن العربية "لغة أجنبية " في الجزائر. وليست هذه بمزاعم كامو وحده، مع أنه منحها شيوعا وانتشارا شبه شفافين وباقيين. إن كامو يرث ويقبل بصورة لا نقدية تلك المزاعم كتقاليد وأعراف شكلها تراث طويل من الكتابة الاستعمارية عن الجزائر، أصبح اليوم منسيا أو غير معترف به من قبل قرائه ونقاده الذين يجد معظمهم تأويل عمله بوصفه يدور حول "الشرط الانساني" أمرا أكثر سهولة عليهم.
إن أسلوبه النظيف والمعضلات الأخلاقية المبرحة التي يعريها والمصائر الفردية المعذبة لشخصياته التي يعالجها بقدر عال من الرهافة والمفارقة اللاذعة المقننة – هذه الخصائص كلها تمتدح من تاريخ السيطرة الفرنسية على الجزائر، بل تعيد في الواقع إحياءه بدقة محتاطة وبغياب لافت للندامة والرأفة والتعاطف الشعوري.
من جديد، ينبغي أن يعاد نفح العلاقة المتداخلة بين الجغرافيا والنزاع السياسي بالحياة بالضبط حيث يغطيها كامو، في رواياته، ببنية فوقية احتفى بها سارتر لأنها تقدم "مناخا للعبثي اللامعقول " إن كلتا "الغريب و الطاعون " تدوران حول موت عرب، وهو موت يبرز ويفعم بصمت مصاعب الضمير والتأمل التي تعانيها الشخصيات الفرنسية.وعلاوة فإن بنية المجتمع المدني التي تقدم بنصاعة بارزة – بلدية المدينة، الجهاز القضائي والمستشفيات، المطاعم، النوادي، أماكن التسلية ووسائلها، المدارس _ هي بنية فرنسية، رغم أنها بشكل غالب تقوم بإدارة (شؤون) السكان غير الفرنسيين. إن التطابق بين الطريقة التي يكتب بها كامو عن ذلك كله وبين تصويره في الكتب المدرسية الفرنسية لتطابق أسر : فالروايات والقصص القصيرة تروي نتيجة انتصار تحقق ضد شعب مسلم محيد، ممزق، انتصبت حقوقه في امتلاك أرضه اغتصابا حادا. وكامو بتأكيدا وتعزيزا بهذه الطريقة للأولوية الفرنسية، لا يشكك ولا يخرج على الحملة من أجل السيادة التي شنت ضد مسلمي الجزائر لما ينون على مئة عام.
1- 2 "لكم هو مختلف (هذا العالم بأسره ) عز العالم القاتم للطبقوسطية (البورجوازية ) الأوروبية، الذي يقوم جوه، كما يسوغه كل روائي زي شأن، بإعادة تأكيد انحطاط الحياة المعاصرة وانقراض جميع أحلام الشبوب العاطفي، والنجاح، والمغامرة الغرائبية. إن عمل كبلنغ الاختلاقي ليشكل طباقا: فعالمه لأنه مموضع في هند تسيطر عليها بريطانيا، لا يضن بشيء على الأوروبي المغترب. وتجلو كيم كيف يستطيع صاحب أبيض أن يتمتع بالحياة في هذا (الفضاء) المعقد الخصيب الفضيل : وبودي أن أطرح منظومة أن غياب المقاومة للتدخل الأوروبي فيه _هرمزا اليه بمقدرات " كيم " على التنقل عبر الهند دون أن يمسه خدش نسبيا _يعود الى رؤياه الامبريالية. ذلك أن ما يعجز المرء عن تحقيقه في بيشته الغربية الخاصة -حيث تعني محاولته لأن يحيا الحلم الجليل لبحث مثمر مجابهة عادية مقدراته وفساد العالم وانحطاطه – يغدو قابلا لأن يحققا في الخارج. أو ليس بوسع المرء في الهند أن يفعل كل شيء؟ ويكون أي شيء؟ ويذهب الى كل مكان بأمان من أية عواقب ؟
تأمل نسق طواف "كيم " وتنقلاته من حيث تأثيرا على بنية الرواية. تتحرك معظم رحلاته ضمن البنجاب، على المحور الذي تشكله لاهور واومبالا،… يقوم كيم برحلات قصيرة الى سيملا، ولكنو، وقيما بعد الى وادي كولو؟ ومع محبوب يمضي موغلا حتى بومبي جنوبا و حتى كراتشي غربا بيد أن الانطباع الكلي الذي تتركه هذه الرحلات هو انطباع بالتجوال المتمعج الحر الطليق.. هنا ليس ثمة مرابون يكيدون المكائد، أو قرويون زميتون، أو لوك ألسنة وشائعات أثيمة، أو محدثو نعمة منفرون غلاظ الأكباد، مما يجده المرء في روايات معاصري كبلنغ الأوروبيين الكبار.
والآن قارن بين بنية "كيم " المحلولة الرخية، القائمة على رحابة جغرافية وفضائية مترفة وبين البنى المحكمة الضيقة. الزمانية بصرامة لا تسامح فيها، للروايات الأوروبية المعاصرة لها يقول لوكاش في نظرية الرواية إن الزمن هو صانع المفارقة اللاذعة العظمي، وهو يكاد يكون شخصية من شخصيات هذا الروايات، إذ يولج البطل (أو البطلة ) في مزيد من انقشاع الوهم والاختبال، كما يجلو كون أوهامه أو أوهامها لا أساس لها. جوفاه، عقيمة الى حد المرارة في "كيم "، يتشكل لديك انطباع بأن الزمن الى جانبك. لأن الجغرافيا ملكك ورهن مشيئتك لتتحرك فيها كما تشاء بحرية شبه تامة ".
2- تتبطن منظومات ادوارد سعيد مما مجموعة من التصورات والأسس النظرية التي تتأصل في ثورة مستمرة في العلوم الانسانية تترك آثارها على كل شيء، كما أن الامبريالية تركت آثارها على كل شيء تستمر هنا فاعلية المنطلقات التي تبطنت " الاستشراق "، حيث نبعت تحليلاته من معطيات مثل القوة، والسلطة وسلطة الانشاء والنصوص، والتمثيلات ورؤية الآخر وتنميطه، وقوة الانشاء والنصوص المولودة لذاتها وترابط المعرفة بالقوة، والاستعراض والمعجبة..الخ، لكن مفاهيم طارئة تقفز لتحتل المكانة المركزية في التحليل، وفي تكوين المنظور الذي يعاين منه الثقافة، والتاريخ، والمجتمع،والأدب، والرواية خاصة. بين هذه المفاهيم ماله خطورة هائلة بحق، تخصيصا بالنسبة لمجتمعات كالمجتمع العربي الآن، ولقضايا سياسية، تاريخية ثقافية وأعراقية قومية كقضاياه، وأهمها على الاطلاق مفهوم التلاحم بين التاريخ، السرديات والتكوين الاستيهامي الخالص للمجتمع المتخيل، كما يسميه هو وغيره من الدارسين الآن، وتشابك المخيلة بالتاريخ، والواقع بالسحر، بل انتفاء امكانية تحديد الواقع خارج إطار التخيل، والتاريخ خارج إطار السرد. وستبدو كلمة السرد ومشتقاتها، السردية والسرديات والاختلافات السردية، ملغزة للقاريء العربي _ وهي ما تزال بحق ملغزة للقاريء في أمريكا وأوروبا غير المتخصص بمثل هذه الدراسات. ذلك أن وراء معناها المباشر، وهو حكي حكاية، يختفي مدلولها الخطير المتخصص الطاريء. السرد، في السياق الجديد هو تشكيل عالم متماسك متخيل، تحاك ضمنه صور الذات عن ماضيها، وتناغم فيه أهواء وتميزات، وافتراضات تكتسب طبيعة البديهيات، ونزوعات وتكوينات عقائدية يسوغها الحاضر بتعقيداته بقدر ما يسوغها الماضي بمتجلياته وخفاياه، كما يسوغها بقوة وفعالية خاصتين، فهم الحاضر للماضي وانهاج تأويله له. ومن هذا الخليط العجيب. تنسج حكاية هي تاريخ الذات لنفسها وللعالم، تمنح طبيعة الحقيقة التاريخية، وتمارس فعلها في نفوس الجماعة وتوجيه سلوكهم وتصورهم لأنفسهم وللآخرين، بوصفهم حقيقة ثابتة تاريخيا. وتدخل في هذه الحكاية، أو السردية، مكونات الدين، واللغة والعرق والأساطير والخبرة الشعبية، وكل ما تهتز له جوانب النفس المتخيلة. غير أن ما هو الآن حقيقة تاريخية يمثل الأمة وتاريخها، في وعي الذات الجماعية، لا يخرج بهذا المعنى عن كونه "متخيلا" إن تكوين هوية يهودية، وخلق اسرائيل، هو بهذا المعنى تنام لسر دية قومية دينية علاقتها بالتاريخ "الحقيقي" _.اذ كان لهذه الكلمة الآن من معنى، وذلك أمر مريب مشكوك فيه _ملتبسة، مبهمة، وعويصة عصية على البحث و:لتحديد، غير أن ذلك كله ليس بذي قيمة حقيقية، لأن الذات الجماعية، تعتبر _بل تؤمن دون وعي لأي انشراخ _إن ما تعيشه هو "تاريخها وتراثها وذاتها " وبهذا المعنى يمكن القول أن القوميات عموما – والقومية العربية مثلا على ذلك -هي سرديات لا أكثر، ولقد صاغ هومي بابا هذه العلاقة صياغة ممتازة في عنوان لكتاب حرره يضع الأمة
والسردية مقترنتين معا هو "الأمة والسرد" (Nation and (Narration)).
هو ذا ادوارد سعيد يحدد بإيجاز أهمية السرد ومعناه كما يبرزان في هذا الكتاب :
"لقد ركز قدر كبير من النقد الحديث على السرد الروائي، غير أن موقع هذا السرد في تاريخ الامبراطورية وعالمها لم يول إلا قدرا ضئيلا من الاهتمام. وسر عان ما سيكتشف قراء هذا الكتاب أن السرد حاسم الأهمية بالنسبة لمنظوماتي هنا، إذ أن نقطتي !لأساسية هي أن القصص تكمن في اللباب مما يقوله المكتشفون والروائيون عن الأقاليم الغريبة في العالم : كما أن لقصص أيضا تغدو الوسيلة التي تستخدمها الشعوب المستعمرة لتأكيد هويتها الخاصة ووجود تاريخها الخاص. لا شك أن المعركة الرئيسية في (العملية ) الامبريالية تدور طبعا، من أجل الأرض : لكن حين آل الأمر الى مسألة من كان يملك الأرض، ويملك حق استيطانها والعمل عليها، ومن ضمن استمرارها وبقائها، ومن استعادها ومن يرسم الآن مستقبلها _ فإن هذه القضايا قد انعكست، ودار حولها الجدال، بل حسمت أيضا لزمن ما، في السرد الروائي. إن الأمم،كما اقترح أحد النقاد هي ذاتها سرديات ومرويات. وان القوة على ممارسة السرد. أو على منع سرديات أخرى من أن تتكون وتبزغ، لكبيرة الأهمية بالنسبة للثقافة وللامبريالية، وهي تشكل إحدى الروابط الرئيسية بينهما. والأكثر أهمية هو أن السر ديات الجليلة الكبرى للتحرر والتنوير قد جندت الشعوب في العالم المستعمر وحفزتها على الانتفاض وخلع نير الامبريالية، وخلال هذه العملية، هزت تلك القصص وأبطالها العديد من الأوروبيين والأمريكيين، أيضا فقاموا هم بدورهم بالصراع من أجل سرديات جديدة للمساواة و(الروح ) المجتمعية الانسانية ".
ويبلور سعيد وجها خطيرا للسرديات يتمثل في تشكل سرديات وسوية لتاريخ معين ثم سعيها الدائب الى منع سرديات مغايرة من الظهور، كما يبلور الصراع ضد هذه السر ديات والسعي الى تقويضها:
والفكرة التي تختفي وراء هذه الأعمال هي أن نساخات التاريخ التي تكون سفنية، وقومية، ومؤسساتية بطريقة سلطوية تنزع بشكل رئيسي الى أن تجمد نساخات للتاريخ مؤقتة ومعرضة للتنازع عليها في صيغة هويات رسمية. وهكذا فإن النساخة الرسمية للتاريخ البريطاني المدفونة في، لنقل المحافل التي أقيمت لنائب الملكة فيكتوريا الهندي عام 1876 تتظاهر بأن الحكم البريطاني للهند كان ذا امتداد اسطوري تقريبا : وقد أدرجت تقاليد الخدمة، والاجلال والخضوع، الهندية في هذه الاحتفالات من أجل خلق صورة لهوية عبر تاريخية لقارة بأكملها مضغوطة في قالب من الانصياع أمام صورة لبريطانيا تتمثل هويتها، وهي بدورها هوية مشكلة مبتناة في أنها حكمت ويجب أن تظل أبدا تحكم كلا الأمواج والهند. وقيما تحاول هذه النساخات الرسمية للتاريخ أن تفعل ذلك من أجل السلطة الهوياتية (بمصطلحات أدور نية ) – كالخلاقة، والدولة، وسننية الفئة المفكرة، والمؤسسة _ فإن الاكتناهات المستريبة باطراد، وانقشا عات الوهم، والسجالات الماثلة في الأعمال المبتكرة التي اقتبستها تخضع هذه الهويات المركبة الهجينة لجدلية سلبية تقوم بحلها الى مكونات مشلكة مبتناة بطرق شتى، فما هو أكثر أهمية بكثير من الهوية المستقرة التي يحافظ على رواجها في الانشاء الرسمي هي القوة التساجلية لطريقة تأويلية تتكون عادتها من المسارات المتفاوتة لكن المتواشجة ومتبادلة الاعتماد، فوق كل شيء المتقاطعة للتجربة التاريخية.
ينقل سعيد هذا النهج في التحليل الى سياق الكتابة الابداعية الغربية، ليصف أعمال كبار منتجيها في المرحلة التي شهدت عصر الاستعمار وما مهد له،، من جين اوستن الى البير كامو، ويحلل أعمالهم بوصفها سرديات تتشابك فيها كل هذه المكونات. لكن براعة عمله تتمثل في التحليل الفذ، الذي يتفرد به بين معا هويه، للشكل الروائي وبنية النصوص الاختلاقية والفنية عامة، من هذا المنظور فهو يكشف دلالات اكتمال السردية في مكان ما، وانقطاعها، واستحالة اكتمالها في مكان آخر، ويكشف دلالات الاتصال والانقطاع فيها، واللولبة وفجوات الريبة والمتاهة، وحركة التعاقب والاتصال الخطية، وانكسارات الخطوط السردية، بل وامتناع تشكل السردية في مكان أو آخر، أو انفصام سرديتين متباينتين ضمن السردية الواحدة، وهو يمارس هذا النوع من التحليل خارج نطاق العمل الاختلاقي الروائي، فيقدم دراسة ألمعية للمناهج المختلفة التي يعمل بها باحثون من العالم غير الأوروبي في دراساتهم للعلاقة بين الامبريالية وبلدانهم على مستوى تكوين السر ديات التاريخية التي ينتجونها، فيجلو الفرق الجذري بين منهج انطونيوس وجيس مثلا، وبين دراستي غوها والعطاس، من منظور استخدامهم لنمط معين من المنهج والسرد في دراساتهم ودلالات هذا الاستخدام على طبيعة علاقتهم بالامبريالية واستجاباتهم لها.
3- وبين المفاهيم الجديدة نسبيا في طريقة استخدام سعيد لها، مع أنها ليست طارئة على عمله، مفهوم المصادرة ودلالاتها الحاسمة في تكوين أدب العالم الثالث، ذلك أن سعيد يؤول رواية العالم الثالث تأويلا طباقيا، بمصطلحاته، أي في سياق العلاقة بين طرفي المزدوجة الاستعمارية، لا في سياق تاريخ منفصل معزول للثقافة أو المجتمع. وهو يطبق ذلك على الثقافة العربية فيرى فعلة الطيب صالح في "موسم الهجرة الى الشمال "، مصادرة لشكر روائي غربي استخدمه الغربيون للقيام باكتساح الفضاء الجغرافي للعالم الآخر، واستعماره، وامتصاصه، واستغلالا له لتشكيل حركة مضادة، تقتحم الفضاء الامبريالي نفسه، وتغزوه وتقلب الأدوار فيه، بلغة جديدة، وأبطال منتقمين، وبنية روائية محولة ومعدلة الآن لكي تخدم أهداف كتاب العالم الثالث ذاتها وتنقض الأصل المركزي الحواضري.
4- وبين مفاهيم سعيد المنماة هنا أيضا مفهوم الاصلاني الصامت الذي لا صوت له، والذي مثله الغرب نيابة عنه وهو الآن يستعيد صوته وينطق ليمثل نفسه. وفي عملية التمثيل للذات هذه يكتشف واقع جديد، وتاريخ جديد، بدقة، سردية جديدة تكافح من أجل أن تسمع وتحتل مكانة لها الى جانب السر ديات الحواضرية. هكذا تبرز أصوات الأفارقة والافارقة الامريكيين، والعرب، وكتاب جنوبي أمريكا، والآسيويين الآخرين،وخصوصا الهنود ويغدو الراهن صراعا على الفضاء بين سرديات متنازعة. هاهما نصان يبلوران فكرة المستعمر الصامت الذي يمثله المستعمر، وفكرة استعادة الصوت أو الافصاح والاسماع يقوم بهما الصامتون :
4- 1 "(يفترض أن ) يكون المستعمر بصورة تنميطية سلبيا ويتم النطق عنه فى لا يسيطر على تمثيله الخاص بل يمثل تبعا لهاجس هيمنة يتم عن طريقه استبناؤه وتركيبه كذات وحدانية ومستقرة ثابتة." وما حدث في ايرلندة حدث في البنغال أيضا، كما حدث على يد الفرنسيين في الجزائر.
4- 2 "لذلك يحمل كتاب العالم الثالث في مرحلة ما بعد الامبريالية ماضيهم في أعماقهم _ ندوبا لجراح مذلة، وتحريضا على (خلق ) ممارسات مختلفة ورؤى للماضي منقحة من حيث الطاقة، تنزع نحو مستقبل ما بعد استعماري، وتجارب قابلة بالحاح لاعادة التأويل والتوزيع والمركزة، فيها ينطق الاصلاني الذي كان سابقا صامتا ويمارس الفعل على أرض استعادها كجزء من حركة مقاومة شاملة من المستعمر المستوطن."
5- وآخر مكونات الجهاز التصوري التحليلي التي تتبرعم في الاستشراق وتتبلور حادة الوضوح هنا مفهوم الدنيوية. وكثير من عمل سعيد النقدي منخرط في هذا الاطار، ومبني على هذا المفهوم، وهو يبرز منذ عنوان كتابه النقدي "العالم، النص، والناقد" (1983)، الذي يلفت النظر بتقديمه لـ "العالم " على كلا النص والناقد، بقدر ما يتميز باختفاء المؤلف الخالق للنص منه. العالم ذو أولوية، ودنيوية العالم هي جوهر كينونته. رغم البعد الروحي في لهجة سعيد التي تضمخ المقاطع الأخيرة التي اقتبستها قبل قليل، والتي تشكل خاتمة "الثقافة والامبريالية "، وهو أمر دال بحق، فإن إصراره لا يهن ولا يلين على أن العالم الذي نعيش فيه يجب أن يعاش، ويفهم، ويدرس، في دنيويته، لا في آخريته، وأن الأدب وكل أشكال النشاط الانساني منخرطة في هذه الدنيوية. وقد يبدو هذا المفهوم من جانب أو آخر منتميا الى التأويل المادي للتاريخ، لكنه أكثر نبلا، وجاذبية، ويسمح بقدر أعلى من الادراج لما هو غير مادي تحديدا، وبصورة مباشرة. ولعل المقطعين اللذين يكتبهما سعيد عن هذا الانخراط الدنيوي أن يجسدا بعض رؤيته لهذا التكوين الجوهري لوجودنا الانساني، من جهة وللثقافة والمنتجات الابداعية، بما فيها العمل النقدي، وعمله هو جزء منه، من جهة أخرى هاهما:
5- 1 "أوان هذا لحله لتحديد باتر مغال لما تعلمناه عن الثقافة _ عن إنتاجيتها،وتنوع مكوناتها، وطاقاتها النقدية التي كثيرا ما تكون متناقضة، وعن خصائصها الضدية جذريا، وفوق كل شيء دنيويتها الثرية وتواطؤها مع كلا الفتح الامبريالي والتحرير".
5-2- "ترى ما هو النمط الجديد أو الأكثر جدة من السياسات الفكرية والثقافية الذي تقتضيه هذه العالمية ؟ وما هي التحولات والتشخصنات المغيرة الهامة التي ينبغي أن تطرأ على أفكارنا المحددة تحديدا تقليديا ومتجذرا في التمركزية الأوروبية عن الكاتب والمثقف والناقد؟ إن الانجليزية والفرنسية لفتان عالميتان، وان منطق الحدود والجواهر المتحاربة منطق شمولي مكل،ولذلك ينبغي أن نبدأ بالاقرار بأن خريطة العالم ليس فيها فضاءات أو جواهر، أو امتيازات مكرسة إلهيا أو مذهبيا. ومع ذلك فان بوسعنا أن نتحدث عن فضاء طماني دنيوي، وعن تواريخ مشكلة مبتناة من قبل الانسان ومتبادلة الاعتماد،قابلة في الاساس لان تعرف، وان لم يكن ذلك من خلال النظريات الجليلة الكبرى والتكلية (التحويل الى كليات ) المنتظمة المطردة. عبر هذا الكتاب كله، مازلت أردد أن التجربة الانسانية منسوجة بدقة، ومكثفة وقابلة للوصول اليها الى درجة تفنيها عن قوى فاعلة ذا_ تاريخية أو ذا – دنيوية لاضاءتها وايضاحها. وأنا أتحدث عن طريقة لاعتبار عالمنا قابلا بسلاسة للاكتنأه والإستنطاق دون مفاتيح سحرية، أو معاضلات مصطلحية وأدوات خاصة، أو ممارسات محجبة.
نحن بحاجة الى منسق مختلف وابتكاري للبحث في الانسانيات، إن بوسع الباحثين أن ينخرطوا فواحة في سياسات الحاضر ومشاغله _بعيون مفتوحة وحيوية تحليلية صارمة و(حاملين ) القيم الاجتماعية اللائقة لأولئك المعنيين لا ببقاء إقطاعية في حقل دراسي معين أو بقاء نقابة، و لابقاء هوية تحكمية متلاعبة مثل "الهند" أو "امريكا" بل بتحسين الحياة وتنميقها الخالية من الاكراه في مجتمع يكافح من أجل أن ـ بين مجتمعات أخرى. ولا ينبغي على المرء أن يقلل من صعوبة أو قدر الحفريات الخلاقة المطلوبة في عمل من هذا النوع. إن المرء لا يبحث عن جواهر فذة الأصالة، إما لترميمها أو موضعتها في مكان زي شرف لا يرقى اليه التجريح.
ولقد أغراني تركيز سعيد الحاد على مفهوم الدنيوية بأن أعيد ترجمة المصطلح" Secular” الذي يشيع الحديث عنه في العربية باستخدام "العلمانية "، واستخدام مصطلح "الدنيوية " بدلا من "العلمانية "، خصوصا في عنوان القسم الخامس من الفصل الأول من هذا الكتاب، ذلك أن كلمة العلمانية سيئة الصياغة، وملتبسة الدلالات، ومعظم الناس يظنونها "العلمانية " فتختلط في أذهانهم علاقات أساسية مثل علاقة "العلم " ـ "الدين "، وتكون لها عقايبل مؤذية بحق.
6- لكن المفهوم المركزي في منهج سعيد تحليليا على مستوى ما يريد طرحه فكريا عن العلاقة بين المجتمعات والثقافات، هو دون ريب مفهوم القراءة الطباقية، والتأويل الطباقي، من سوء الحظ إن مصطلح "الطباق " المستخدم في العربية لترجمة الـ " Contrapuntal"،(Counterpoint ) ـ مصطلح سعيد المأخوذ من الموسيقى (وهو موسيقي ممتاز يقدم عروضا عامة، وبين كتبه الهامة كتاب في الموسيقى هو (Musical E;aborations) _مصطلح التباسي من جهة، ومتخصص جدا موسيقيا بحيث يغيب مدلوله عن القاريء العادي، من جهة أخرى في النقد العربي القديم استخدم ابن المعتز الطباق ليشير الى علاقة تضاد دلالي بين الكلمات، مثل ضحك، بكى : أبيض، أسود: طويل، قصير (ومن الشيق أنه اعتبره من مكونات البديع الخمسة ). وجاء بعده نقاد آخرون ليستعملوا مصطلحات مثل المقابلة والمطابقة لوصف حالات مختلفة من علاقة التضاد بين الكلمات أو الأفكار والمعاني. لكن جذر الفعل يعني أيضا التماثل والتشابه والتراسل، كما في طبق، وطابق وتطابق الأمران. ولقد شعرت برغبة حادة في إعادة ترجمة الـ Contrapuntal "´´ بمصطلح جديد لكي يزول الالتباس منه، فيتضح مفهوم سعيد الجوهري بالنسبة لمنهجه وعمله بأسرهما. غير أنني حتى الآن لم أوفق الى ايجاد مصطلح بديل واف ولذلك استخدمت عبارة "القراءة الطباقية "آملا أن تكون تعليقاتي عليها كافية لتوضيح المصطلح والمفهوم. وليس بوسعي أن أشرح المفهوم بأفضل من شرح المؤلف له، مسبوقا بتحديد موسيقي مأخوذ من قاموس ´´Penguin´ الجديد للموسيقى:
"الاستعمال المتزامن للحنين (ميلودي) أو أكثر لانتاج المعنى الموسيقي، بما يسمح بالقول عن أحد الألحان إنه النقطة المضادة ل، أو في حالة تضاد مع لحن آخر. وهكذا فان التضاد المزدوج هو أن يكون لحنان، أحدهما فوق الآخر، قابلين لتبادل موقعيهما، ومثل ذلك التضاد الثلاثي والرباعي الخ.."
ومن الواضح أن كلمة "تضاد" هنا يمكن أن تبدل في العربية بالمصطلح المحدد "طباق " وها هو ذد شرح سعيد للمفهوم في مكانين من هذا الكتاب :
6- 1 "حين نعود بالنظر الى سجل المحفوظات الامبريالي، نأخذ بتراءته لا واحديا،بل طباقيا، بوعي متأين لكلا التاريخ الحواضري الذي يتم سرده وتلك التواريخ الأخرى التي يعمل غمدها (ومعها "أيضا") الانشاء المسيطر في النقطة الطباقية للموسيقى العريقة "الكلاسيكية " الغربية، تتبارى وتتصادم موضوعات متنوعة أحدها مع الأخرى، دون أن يكون لأي منها دور امتيازي إلا بصورة مشروطة مؤقتة ؛ ومع ذلك يكون في لتعدد النغمي الناتج تلاؤم ونظام، تفاعل منظم يشتق من لموضوعات (ذاتها ) لا من مبدأ لحني "ميلودي" صارم أو شكلي يقع خارج العمل. وفي اعتقادي أننا نستطيع، بالطريقة ذاتها، أن نقرأ الروايات الانجليزية، مثلا التي يتشكل تعالقها (المقموع عادة الى درجة غالبة ) مع، لنقل، جزر الهند الغربية أو الهند، بل لعله أيضا يتحتم ويتقرر، بالتاريخ المحدد للاستعمار، والمقاومة، وأخيرا القومية الأصلانية عندئذ تنبثق سرديات بديلة أو جديدة، وتصبح ذواتا مؤسسة أو مستقرة إنشائيا".
6- 2بمصطلحات عملية تعني القراءة الطباقية كما أسميتها قراءة النص بفهم لما هو مشبوك حين يظهر مؤلف ما، مثلا، أن مزرعة استعمارية لقصب السكر تعاين بوصفها هامة بالنسبة لعملية الحفاظ على أسلوب معين للحياة في انجلترا. وعلاوة، فإن هذه (1)، مثل جميع النصوص الأدبية، ليست مقيدة ببداياتها ونهاياتها التاريخية الشكلية. إن الاحالات الى أستراليا في "دافيد كوبرفيلد" والى الهند في "جين اير" لتصاغ لأنها يمكن أن تصاغ، لأن قوة بريطانيا ( لا وهم الروائي فقط ) جعلت الاحالة العابرة الى هذه المصادرات الضخمة ممكنة ؛ غير أن الدروس الأخرى الأبعد من ذلك لا تقل سلامة وصدقا: أن هذه المستعمرات قد تم تحريره لاحقا من الحكم المباشر وغير المباشر، وهي عملية بدأت وانتشرت حين كان البريطانيون (أو الفرنسيون أو البرتغاليون أو الألمان الخ ) ما يزالون هناك، مع أنها كجزء من السعي لقمع القوميات الاصلانية لم تلق الا اهتماما عابرا بها من آن لآخر. والنقطة (التي أثيرها) هي أن القراءة الطباقية ينبغي أن تدخل في حسابها كلتا العمليتين العملية الامبريالية، وعملية المقاومة لها، ويمكن أن يتم ذلك بتوسيع قراءتنا للنصوص لتشمل ما تم ذات يوم إقصاؤه بالقوة _ (وهو) دني (رواية ) الغريب، مثلا، التاريخ السابق بأسره لاستعمار فرنسا وتدميرها للدولة الجزائرية ثم الظهور اللاحق لجزائر مستقلة (اتخذ منها كامو موقف المعارض ).
7- كل هذه المنطلقات التصورية تدخل في تكوين منهج سعيد في فهم العلاقة بين الامبريالية والاستعمار وضحاياهما، أي فهم العالم الذي نعيش فيه، لأنه عالم صنعته الامبريالية التي "لم ينج منها شيء"، بعبارة سعيد. وتنصهر هذه المقومات أيضا لتشكل منهجه في التعامل مع النص الأدبي، تعاملا مثيرا، يتجاوز المنهج الاستئوالي الصومعي المغلق، وما يرده فكرا هزيلا فيما بعد البنيوية وما بعد الحداثة، كما يتجاوز ما هو متأصل في التراث الفني للفكر الاجتماعي وللماركسية بشكل خاص، من مفاهيم ساذجة، وربط انعكاسي للعسل الأدبي بسياقه الاجتماعي، ومن جهة، من نضج في >لتعامل لكنه قصور صاعق في تحديد السياق الفعلي للعسل الثقافي، كما هو الحال لدى نقاد يجلهم سعيد مثل ريموند وليمز، وماركسيي النهج، لكنهم _صررن مجال فهم الأدب في سياق محلي مباشر ويخفقون في إدراك أهمية التجربة الامبريالية والاستعمارية في تكوين السياق الفعلي للعمل الأدبي _ والرواية الأوروبية خاصة مز، جهة أخرى وسعيد متفرد في هذا النهج الذي يشكل علامة مائزة لحضوره النقدي في العالم، لا في النقد الأدبي فقط، بل في النقد الاجتماعي، السياسي، النقد أيضا.وتدخل في تكوين هذا المنهج، كما أشرت، درجة عالية من الوعي لخصوصية النتاج الأدبي وعبقرية كل عمل فرد، ولأهمية التقنية، واللغة والتشكيل البنيوي الكلي. ولا أجد طريقة أوف لايضاح ما أصفه في عمله من اقتباس واحد من الاقسام اللبابية في هذا الكتاب يشرح للقاريء بدقة على مستوى نظري هذا المنهج الجديد هوذا يقول :
7- 1 "لكل نص عبقريته الخاصة، كما أن لكل إقليم جغرافي في العالم عبقريته، بتجاربه المتقاطعة الخاصة، وبتواريخ النزاع المتداخلة الخاصة فيه. ويمكن إقامة تمييز مفيد، فيما يخص العمل الثقاف، بين الخصوصية والسيادة (أو الحصرية التنسكية ). ومن الجلي أنه لا ينبغي لأي قراءة أن تعمم الى درجة إلغاء هوية نص ما، أو كاتب ما، أو حركة ما. لكن بالمعيار نفسه، ينبغي أن تدخل القراءة في الاعتبار أن ما كان مؤكدا، أو بدا أنه مؤكد بالنسبة لعمل ما أو مؤلف ما، قد يكون أصبح عرضة للخلاف. إن هند كبلنغ، في "كيم "، لها خصيمة من الديمومة والحتمية تنتمي لا الى تلك الرواية المدهشة وحسب بل الى الهند البريطانية، تاريخها، وادارييها، والمنافحين عنها، والى ما لا يقل أهمية وهو الهند التي حارب من أجلها القو سيرن الهنوا لأنها وطنهم الذي ينبغي أن يستعاد، وبتقديم مسرد لهذه السلسلة من الضغوط والضغوط المضادة في هند كبلنغ، نفهم العملية الامبريالية نفسها كما يتعالق معها العمل الفني العظيم. كما نفهم عملية المقاومة اللاحقة للامبريالية. في قراءة نص ما ينبغي على المرء أن يفتحه لكل ما اندرج فيه وما أقصده مؤلفه عنه. إن كل عمل ثقافي هو رؤيا للحظة ما، وعلينا أن نقحم هذه الرؤيا تجاوريا مع الرؤى التنقيحية المتنوعة التي استثارتها فيما بعد _ في هذه الحالة، التجارب القومية لهند ما بعد الاستقلال.
واضافة، فإن عل المرء أن يربط بنيات القصة المسرودة بالأفكار، والتصورات والتجارب التي منها تمتدح الدعم، إن أفارقة كونراد، مثلا يطلعون من مكتبة ضخمة لـ الافريقانية، بوجه من الكلام، كما من تجارب كونراد الشخصية. ليس ثمة من شي ء اسمه التجربة المباشرة، أو الانعكاس، للعالم في لفة نص. لقد تأثرت انطباعات كونراد عن افريقيا بشكل حتمي بمخزون المأثورات الشعبية وبالكتابات عن افريقيا، التي يلمح اليها في (كتابه ) "سجل شخص " ؛ وما
يقدمه في قلب الظلام " هو حصيلة انطباعاته عن تلك النصوص متفاعلة تفاعلا خلاقا الى جانب مقتضايات السرد وأعرافه، وعبقريته وتاريخه الخاصين المتميزين. وأن يقال عن هذا المزيج خارق الثراء إنه "يعكس " افريقيا أو حتى إنه يعكس تجربة لافريقيا، هو قول نوعا ما جبان، وبالتأكيد مضلل. فما لدينا في " قلب الظلام " _ وهو عمل ذو تأثير ضخم، إذ إنه قد استفز العديد من القراءات والصور ـ هو افريقيا مسيسة، ومشبعة عقائديا، كانت لنوديا وأغراض ما المكان المؤبرط (imperialized)، بكل تلك المصالح والأفكار الفاعلة فيها بشراسة لا مجرد "انعكاس " تصويري (فوتوغرافي ) أدبي لافريقيا.
قد يكون ما أقوله صياغة متطرفة للمسألة، لكنني أريد أن أقر النقطة (الهامة لم وهي أن "قلب الظلام " والصورة التي تبلورها لافريقيا ليست فقط أبعد ما يمكن عن كونها مجرد "أدب، بل هي الى درجة خارقة متعالقة منشبكة في، وجزء عضوي بحق من "التزاحم بالمناكب على افريقيا" الذي كان معا هوا لتأليف كونراد. صحيح أن جمهور كونراد كان صفيرا جدا، وصحيح أيضا أنه كان حاد النقد للاستعمار البلجيكي، لكن بالنسبة لمعظم الأوروبيين، كانت قراءة نص متشيء نوعا مثل " قلب الظلام " في الكثير من الحالات أشد النقاط التي يبلغونها قربا من افريقيا، ويهذا المعنى المحدود فقد كانت جزءا من السعي الأوروبي للتشبث بافريقيا، والتفكير بها، والتخطيط لها. أن يمثل (المرء) افريقيا يعني أن يدخل (حلبة ) الصراع على افريقيا، المرتبطة بصورة حتمية بما حدث فيما بعد من مقاومة وفكفكة للاستعمار وما اليهما.
إن الأعمال الأدبية، خصوصا تلك التي يكون موضوعها الصريح الامبراطورية، لها طبعيا، جانب مشوش بل حتى عصي على التناول في إطار مشهدي سياسي محفوف بـ (المشكلات ؟) ومشحون (عاطفيا؟) الى درجة عالية من الكثافة لكن أعمالا أدبية مثل قلب الظلام هي، رغم ما فيها من التعقيد البالغ، تقطير وتبسيط أو طقم من الخيارات التي اختاره مؤلف ما، أقل تشوشا واختلاطا بكثير من الواقع. ولن يكون عادلا أن نفكر بها كتجريدات، رغم أن مفتريات (2) : مثل "قلب الظلام " قد صاغها مؤلفوها بدرجة من الإحكام، وتأملها قراؤها بقدر من القلق جعلاها تلائم ضرورات السرد الذي يمارس، نتيجة لذلك كما ينبغي أن نضيف دخولا عالي التخصص الى (حلبة )الصراع من أجل افريقيا.
إن نصا على هذه الدرجة من الهجنة والعكرة، والتعقيد ليتطلب انتباها يقظا في (عملية ) تأويله. لقد كانت الامبريالية الحديثة من الكونية والشمولية بحيث لم ينج فعليا منها شيء! والى جانب ذلك، فإن تنافس القرن التاسع عشر حول الامبراطورية كما قلت سابقا، ما يزال مستمرا اليوم. ولذلك فإن النظر أو عدم النظر الى الروابط بين النصوص الثقافية والامبريالية يعني اتخاذ موقف هو في حقيقة الأمر متخذ _ إما أن ندرس الصلة من أجل نقدها والتفكير ببدائل لها، أو الا ندرسها من أجل أن نتركها ماثلة، غير ممحصة على افتراض، دونما تغيير. وأحد أسباب كتابتي لهذا الكتاب هو أن أظهر الى أي مدى اتسع البحث عن، والانشغال _، والوعي _ السيطرة على ما وراء البحار _ لا في (أعمال ) كونراد فقط بل لدى أشخاص لا نفكر بهم عمليا في هذا المعرض على الاطلاق،مثل شاكري أو ستن _ وكم هو مثار وهام للناقد التنبه لهذه المادة لا للأسباب السياسية الواضحة فحسب بل أيضا لأن هذا النوع المحدد من الاهتمام كما مازلت أحتج، يتيح للقاريء. أن يؤول الأعمال المكنونة للقرنين التاسع عشر والعشرين باهتمام مشبوك منخرط من جديد".
7- 2 "إن طريقتي هي أن أركز بقدر المستطاع على أعمال فردية، أن أقرأها أولا كنتاج عظيم للخيال الخلاق أو التأويلي، ثم ´ن أجلو كونها جزءا من العلاقة بين الثقافة والامبراطورية. أنا لا أومن أن المؤلفين يتحددون بصورة آلية (ميكانيكية ) بالعقائدية (الأيديولوجيا )، أو الطبقة أو التاريخ الاقتصادي بيد أن المؤلفين، كما أؤمن، كائنون الى حد بعيد في تاريخ مجتمعاتهم، يشكلون.يتشكلون بذلك التاريخ وبتجربتهم الاجتماعية بدرجات متفاوتة. إن الثقافة والأشكال الجمالاتية التي تنطوي عليها تشتق من التجربة التاريخية،وهي في واقع الأمر أحد المواضيع لرئيسية لهذا الكتاب ".
8- أما أبعد المنطلقات التصورية الجديدة في عمل سعيد خطورة وخلافية، في تقديري، فهو مفهوم الهجنة /التوليد،.العلاقة بينه وبين الهوية المتصلبة ء وسياسات الهوية،.اللاانتماء والروح المرتحلة،وتجربة المنفى، التي تنفح كتاباته لآن بشي ء لم يكن قد تبرعم أو بزغ في "الاستشراق " وكتاباته لتالية له مباشرة إنه هنا مناويء شرس للهويات المتصلبة، لانفصالية التي تصنف نفسها نقيضا للآخر، وتقيم الحواجز بينها وبين العالم، سواء أكانت هذه الهويات تتحدد في سياسات لهوية عند المرأة، أو الذكر، أو الغربي، أو العربي، أو الاسلامي و المسيحي أو اليهودي، فهو يرى مفهوم الهوية سكونيا، ويبحث من الطاقات التي تحرر النفس والثقافة منه :
"… مبدأ الهوية، وهو مبدأ سكوني أساسا يشكل لباب الفكر لثقافي خلال العهد الامبريالي. إن الفكرة الوحيدة التي لم يكد بمسها التغير إطلاقا، عبر التبادلات التي بدأت بانتظام قبل نصف لف من الزمن بين الأوروبيين و" آخريهم " هي أن ثمة شيئا (جوهرانيا ) هو " نحن " وشيئا هو "هم "، وكل منهما مستقر تماما، جلي، مبين لذاته وشاهد على ذاته بشكل حصين منيع. وهو انقسام يعود (تاريخيا) كما ناقشته في "الاستشراق "، الى الفكر ليوناني عن البرابرة ؛ لكن أيا كان من ابتكر هذا النوع من فكر " الهوية " فانه مع حلول القرن التاسع عشر كان قد أصبح العلامة لمميزة للثقافات الامبريالية إضافة الى تلك الثقافات التي كانت نسعي الى مقاومة التطاولات العدولانية الأوروبية عليها.
نحن ما نزال ورثة الأسلوب الذي يتحدد المرء تبعا له بالأمة، لأمة التي تستقي، هي بدورها، سلطتها من تراث يفترض أنه ستمر دونما انقطاع. ولقد أفرز هذا الانشغال بالهوية الثقافية في اولايات المتحدة، النزاع حول الكتب والثقافات والسلطات التي شكل تراث "انا". إن محاولة قول إن هذا الكتاب أو ذاك هو (أو ما هو) جزء من تراثـ "انا" هي، بصورة عامة، إحدى أكثر ما يمكن نخيله من ممارسات إنضابا للحيوية. واضافة، فإن ما تؤدي اليه من تجاوزات وافراط أكثر تواترا بكثير مما تسهم به من دقة تاريخية. فلأعلن اذن من أجل التاريخ انني لا أطيق الموقف الذي يقول "نحن " ينبغي أن ننشغل فقط أو بشكل رئيسي بما هو "لنا"، بأكثر مما أقر ردود الفعل ضد هذا الموقف التي تقتني من العرب (مثلا)، أن يقرأوا الكتب العربية ويستخدموا الطرق العربية، وما الى ذلك. إن بيتهوفن، كما اعتاد سي.ال.آر. جيمس أن يقول، ينتمي الى أهل جزر الهند الغربية بقدر ما ينتمي الى الألمان، لأن موسيقاه الآن جزء من الميراث الانساني.
بيد أن الانشغال العقائدي بالهوية متشابك ومتعا لق، بصورة يتفهمها المرء تماما، بمصالح وبرامج أهداف لفئات عديدة _ ليست كلها أقليات مضطهدة _تود أن ترتب أولوياتها بما يعكس هذه المصالح. ولأن قدرا كبيرا من هذا الكتاب يدور حول ما ينبغي أن نقرأه من التاريخ قريب العهد وكيف نقرأه، فإنني سأوجز ما لدي من أفكار هنا إيجازا سريعا قبل أن يكون بوسعنا أن نتفق على ما تتألف منه الهوية الأمريكية، ينبغي أن نسلم بأن الهوية الأمريكية، من حيث هي مجتمع من الهجرات الاستيطانية المروكبة على خر ائب حضور أصلاني كبير القدر، هي هوية متنوعة الى درجة يستحيل معها أن تكون شيئا موحدا واحديا متجانسا: وبالفعل فإن المعركة (القائمة ) داخلها تدور بين دعاة الهوية الو احدية وأولئك الذين يرون الكل كلا متشابكا معقدا لكنا ليس موحدا تفصيليا. وتنطوي هذه الضدية على منظور ين متباينين. وعلمين للتأريخ متباينين. أحدهما خطي واضوائي التهامي، والآخر طباقي وكثيرا ما يكون لا مستقرا قلقا رحلا.
ومنظومتي (هنا) هي أن المنظور الثاني فقط ذو حساسية تامة لحقيقة التجربة التاريخية. إن جميع الثقافات، جزئيا بسبب (تجربة ) الامبراطورية، منشبكة احداها في الاخريات ليس بينها ثقافة منفردة ونقية محض، بل كلها مهجنة مولدة متخالطة متمايزة الى درجة فائقة وغير واحدية وان هذا ليصدق على الولايات المتحدة المعاصرة بقدر ما يصدق على العالم العربي الحديث، حيث قيل الكثير، عل التوالي في كل حالة، عن أخطار "اللاأمريكانية " وعن التهديدات (الموجهة ) لـ "العروبة ".إن القومية الاستدفاعية، القائمة على رد الفعل، بل حتى الارتيابية (المصابة بخبل الريبة ) كثيرا ماتحاك، للأسف، في صلب نسيج التعليم والتربية،حيث يلقن الأطفال،كما يلقن من يكبرونهم في السن من الطلبة، أن يجلوا ويحتفوا بفذاذة تراثـ "هم " (عادة وبطريقة بغيضة على حساب تراثات الآخرين ). وان هذا الكتاب لموجه الى مثل هذه الأشكال من التعليم والفكر المفرغة من النقد والتفكير كتصحيح وتقويم، وكبديل صبور، وكإمكانية استكشافية صراحة."
9- وفي موقعه الانساني المشبوب،يرى سعيد بعينين نسريتين الانفصامات التي تنشأ والحواجز التي تنصب، والهريات والسر ديات التي تخترع، وكلها معمق للتنافر والنزاع.الصراعات الاحتدامية بين الانسان والانسان، والمجتمع والثقافة.غيرهما. ويرى ذلك كلا نتيجة للامبريالية والاستعمار، ثم يرده متجسدا بوضوح جارح في المنتجات الاختلاقية الفنية والابداعية كلا الطرفين، على جانبي ما يسميه، " الفالق الامبريالي ". هوذا يرسم بعض خطوطا العامة.
"إن هذا النظام العالمي، الذي ينتج ويفصح عن الثقافة،.الاقتصاد والقوة السياسية جنبا الى جنب مع معاملاتها ( Coefficients) (3)العسكرية والسكانية ليملك ميلا مؤسساتيا لانتاج صور عبر قومية خارجة على المقياس تمارس الآن إعادة توجيه كلا الانشاء الاجتماعي والعملية الاجتماعية العالميين. خذ على سبيل المثال ظهور "الارهاب " و"الأصولية " مصطلحين مفتاحين في الـ1980ات. أولا، لا يكاد يكون بوسعك أن تبدأ (في لفضاء العام الذي يشكله الانشاء العالمي) في تحليل النزاعات السياسية بين السنة والشيعة، أو الأكراد والعراقيين، أو التاميل والسنهاليين أو السيخ والهندوسيين _والقائمة طويلة _دون أن تضطر في نهاية المطاف للجوء الى فصلات وصور "الارهاب " و"الأصولية " التي اشتقت كليا من الشواغل والمصانع الفكرية في المراكز الحواضرية مثل واشنطن ولندن، وانها لصور مخيفة تفتقر الى المحتوى التمييزي والتحديد، بيد أنها تدل على القوة.الاستحسان الاخلاقيين لكل من يستخدمها، وعلى الاستدفاعية والتجريم الاخلاقيين لكل من تشير اليه وتخصصا. ولقد قام هذان التقليصان العملاقان باستنفار الجيوش وتعبئتها كما استنفرا وعبآ المجتمعات المتبعثرة. وليس بالامكان، في رأيي، فهم.دة فعل ايران الرسمية لرواية رشدي، أو الحماسة غير الرسمية له في المنجمعات الاسلامية في الفوب، أو التعبير الخاص والعام عن السخط العنيف في الغرب ضد الفتوى، دون الاشارة الى المنطق العام والافصاحات وردود الفعل الجزئية الصغيرة التي أطلقها من عتالها النظام الطاغي الذي مازلت أسعي الى وصفه.
وهكذا يكون أنه في مجتمعات القراء المنفتحة والمعنية، مثلا، بظهور أدب انكلوفوني أو فرانكوفوني في مرحلة ما بعد الاستعمار، لا توجه الشخصات المتبطنة وتتحكم بها الاكتنا هات الاستئوالية، أو الحدس المتعاطف المثقف، أو القراءة التي تستند الى اطلاع واسع، بل عمليات أكثر خشونة وأشد أدواتية هدفها تعبئة الموافقة والاقرار، واجتثاث الانشقاق والمروق، وتشجيع حمية وطنية تكاد تكون، حرفيا، عمياه وبو سائل كهذه تضمن إمكانية حكم اعداد كبيرة من البشر تقمع (أو تخدر) طموحاتها الى الديمقراطية والتعبير، وهي طموحات تملك طاقة التعويق والتعطيل في مجتمعات الجماهير بما في ذلك طبعا، الغربية منها.
إن الخوف والرعب اللذين تولدهما الصور الضخمة بمقياس مفرط لـ "الارهاب " و"الأصولية " – ولتسمها شخوصا لمتخيل عالمي أو عبر قومي مكون من شياطين أجانب – ليسرعان انضواء الفرد وخضوعه للمعايير المهيمنة في اللحظة الواهنة. ويصدق هذا على المجتمعات ما بعد الاستعمارية الجديدة بقدر ما يصدق على الغرب عامة والولايات المتحدة بشكل خاص. وهكذا فأن يعارض المرء الشذوذية والتطرف المتأصلين في الارهاب والأصولية _ والمثل الذي أقدمه لا ينطوي إلا على قدر ضئيل من المحاكاة الساخرة _يعني أيضا تعضيا الاعتدال، والعقلانية والمركزية التنفيذية لروحية جمعية غامضة التحديد "غربية " (أو فيما عدا ذلك محلية ومفترضة بحمية وطنية ). والمفارقة اللاذعة هي أن هذا المحرك الحيوي، بدلا من أن يمنح الروحية الغربية الثقة بالنفس والشعور بالسوائية الآمنة اللذين يرتبطان في أذهاننا _ (امتلاك ) الامتيازات والاستقامة، فإنه ينفحـ"نا،" بغضب وروح استدفاعية حقانيين يبدو من خلالها "الآخرون " في النهاية أعداء، عاقدي العزم على تدمير حضارتنا ونهجنا في الحياة.
إن ما قدمته لا يعدو أن يكو دن خطاطة (اسكتش ) سريعة للكيفية التي تقوم بها هذه الأنساق من السننية الاكراهية وتعظيم الذات بمزيد من التدعيم لقوة الاقرار غير الممحص والمذهب غير القابل للتحدي. ولأن هذين يرهفان ويوصل بهما الى درجة الكمال ببط ء مع مرور الزمن وعبر قدر كبير من التكرار، فإن الرد عليهما من قبل الأعداء المخصومين يأتي، للأسف بنهائية مطابقة. وهكذا يقوم المسلمون، والافارقة، والهنود واليابانيون بمصطلحاتهم الجاهزة الخاصة، ومن داخل أمكنتهم المحلية المهددة، بمهاجمة الغرب، أو الأمركة أو الامبريالية بقدر من العناية بالتفاصيل، والتفريق النقدي، والتمييز والامتياز، لا يربو على ما كان الغرب قد أسبغا عليهم، والأمر ذاته ينطبق على الأمريكيين، الذين تقارب الحمية الوطنية بالنسبة اليهم درجة الألوهية. وان هذا في نهاية المطاف لمحرك حيوي عبثي لا عقلانية فيه فأيا كانت الأهداف التي تسعي اليها حروب الحدود "فإن هذه الحروب منقرة موهنة. ينبغي على المرء أن ينضم الى الفئة البدئية أو المكونة؛ أو يقبل باعتباره آخر تابعا ومنضويا، مقاما دونيا؛ أو ينبغي عليه أن يحارب حتى الموت.
وان هذه الحروب الحدودية لتعبير عن عمليات خلق الجواهر _ أفرقة الافريقي، شرقنة الشرقي، غربنة الغربي، أمركة الأمريكي، لزمن غير محدود ودون أن يكون ثمة من بديل (إذ أن الجوهر الافريقي والشرقي والغربي، لا يمكن إلا أن يظل جوهرا) _ وذلك نسق ما يزال ينقل محمولا من عهد الامبريالية التقليدية (الكلاسيكية ) وأنظمتها.
10- ونقيضا لهذه الهويات العزلوية المتشبثة بتاريخ متخيل، وذات متوهمة، وسر ديات مختلفة، يؤسس سعيد روح الهيام بالانسان، والتهيام والترحال، والانسراب الى العالم دون قيود أو حدود، روح الانخلاع من نقطة ثابتة، وانتماء واحد متحجر وتاريخ متناسق عضوي يتصور له الكمال، ويرحل في تناقضات العالم ولا تجانسية الثقافات والمجتمعات، ويتلمس تبرعم الطاقات والقوى الجديدة التي تعد بثقافات مغايرة، وروح أعظم ثراء في نزوعها الانساني ولعل في المقاطع التالية ما يكفي اتجسيد هذه الروح الجديدة في عمله :
"كل هذه الطاقات _ المضادة الهجينة، الفاعلة في العديد من لميادين، والأفراد، واللحظات توفر منجمعا أو ثقافة تتكون من إشارات وممارسات معادية للنظام لا حصر لها، لوجود إنساني جماعي (لا مذاهب ولا نظريات مكتملة ) غير قائم على الإرغام.السيطرة ولقد كانت (هذه الطاقات ) وقودا لانتفاضات الـ980اات، التي تحدثت عنها سابقا، إن الصورة السلطوية، الا رغامية، للامبراطورية، التي تسللت الى، وسيطرت على الكثير عن اجراءات الاتقان المتميز الفكري التي تحتل مكانة مركزية في لثقافة الحديثة، لتجد نقيضها في الانقطاعات القابلة للتجديد، التي تكاد تكون رياضية الروح، للمشوبات الفكرية والدنيوية _ لاجناس الخليطة، الجمع غير المتوقع بين التقليد والجدة، لتجارب السياسية القائمة على منجمعات من الجهد والتأويل إبالمعنى الأوسع للكلمة) بدلا من الطبقات أو شركات الملكية.المصادرة والقوة.
إنني لأجد نفسي أعود مرة بعد مرة الى مقطع شابح الجمال لهو غوأف سان فكتور، وهو راهب ساكسوني عاش في القرن لثاني عشر:
"انه لذلك لمصدر فضيلة عظيمة للعقل المجرب أن يتعلم، شيئا فشيئا، أولا أن يتغير في الأمور المرئية والزائلة، من أجل أن بكون قادرا بعد ذلك على أن يخلفها وراءه تماما. إن المرء الذي بجد وطنه حلوا ما يزال مبتدئا غضا: أما من يكون له كل ثرى مثل بلده الاصلاني فلقد اشتد عوده ؟ لكن الكامل هو الذي يكون لعالم كله بالنسبة له مكانا اجنبيا وان الروح اليافع قد ركز حبه على بقعة واحدة من العالم ؟ والشخص القوي قد نشر حبه على لأمكنة كلها : أما الرجل الكامل فقد أطفأ شعلة حبه ".
يقتبس إريك أويرباخ، الباحث الألماني العظيم الذي قضى سنوات الحرب العالمية الثانية منفيا في تركيا، هذا المقطع أنموذجا كل من يرغب _ رجلا أو امرأة _ في تجاوز مقيدات الحدود لامبريالية، أو القومية، أو الاقاليمية. عبر هذا الموقف وحسب بقدر المؤرخ، مثلا، أن يشرع في فهم التجربة الانسانية مدوناتها المكتوبة بكل تنوعها وخصوصيتها ؟ ومن غير ذلك ببقى المرء ملتزما بالاقصاءات وردود الفعل المتحيزة أكثر مما هو ملتزم بالحرية السلبية للمعرفة الحقيقية. لكن لاحظ أن هوغو بوضح مرتين أن الشخص "القوي" أو "الكامل " يحقق استقلاله تجرده بالعمل من خلال الالتصاقات والتعالقات لا برفضها، إن لمنفى مسند الى وجود موطن المرء الاصلاني وحبه له، ووجود.شائج حقيقية معه ؛ والحقيقة الكونية للمنفى لا تكمن في كون لمرء قد فقد ذلك الحب أو الموطن، بل في أن في كل منهما طبعيا قدانا غير متوقع وغير مستحب. تأمل التجارب إذن وكأنها على هبة أن تختفي: ترى أي شي ء فيها هو ذلك الذي يرسوبها ويجذرها في الواقع ؟ ما الذي ستحفظه منها، ما الذي ستتخل عنه، ما الذي ستستنقذه ؟ من أجل أن تجيب عل أسئلة كهذه ينبغي أن تتحلى بالاستقلالية والتجرد اللذين يتحلى بهما من كان وطنه "حلوا" لكن وضعه الفعلي يجعل مستحيلا عليه أن يقبض من جديد عل تلك الحلاوة، ويجعل حتى أكثر استحالة أن يستطيع أن يمتدح الرضا والاكتفاء من بدائل يوفرها الوهم أو المذهب الجامد، سواء أعانت مشتقة من الاعتزار بالموروث الخاص للمرء أو من اليقينية حول من نكون "نحن ".
لا "يشكل " أحد اليوم شيئا واحدا محضا. إن لاصقات مثل هندي أو إمرأة، أو مسلم، أو امريكي ليست بأكثر من نقاط انطلاق سرعان ما تخلف وراءنا اذا ما تم اتباعها للحظة واحدة الى (مجال ) التجربة الفعلية لقد أدت الامبريالية الى تعزيز خليط الثقافات والهويات على مستوى كوني. غير أن أسوأ هباتها وأكثرها اتساما بالمفارقة الضدية هي أنها جعلت الناس يعتقدون أنهم فقط، أو رئيسيا أو حصريا، بيض أو سود، أو غربيون، أو شرقيون. لكن بالضبط كما أن البشر يصنعون تاريخهم الخاص، فإنهم أيضا يصنعون ثقافتهم وهوياتهم الا عراقية. ليس بوسع أحد أن ينكر الاستمراريات الملحة للتراثات العريقة، والسكني المقززة المتصلة، واللفات القومية والجغرافيات الثقافية، لكن لا يبدو أن ثمة من سبب سوى الخوف والتحيز للمني في الالحاح على انفصاليتها وتمايزها، كأنما ذلك هو كل ما تدور عليه الحياة الانسانية، إن البقاء في الواقع ليدور حول العلائق بين الأشياء وبعبارة اليوت فإن الواقع لا يمكن أن يحرم من الأصداء الأخرى (التي) تقطن الحديقة ". إنه الأعظم نفعا وارواء – وأكثر صعوبة – أن نفكر بمحسوسية وتعاطف، طباقيا، بالآخرين من أن نفكر بـ "نا" فقط. بيد أن ذلك يعني أيضا الا نحاول أن نحكم الآخرين، الا نحاول أن نصنفهم أو نضعهم في تراتبيات، و، فوق كل شيء، الا نكرر باستمرار أن ثقافتـ "نا" أو بلادنا هي الأولى (أو ليست الأول، في هذا الخصوص ). إن أمام المفكر لقدرا كافيا مما هو قيم ليفعله من دون ذلك ".
11- غير أن امتياز موقف ادوارد سعيد و.وعته من منظور المقاومة الانسانية، والفكر النقدي التثويري، يكمنان بالضبط أنه في عصر اللايقين وانهيار السرديات الجليلة الكبرى، كما يسميها ليوتار، وما بعد الحداثة، وما بعد البنيوية، يتألق بإيمان راسخ ويقين كلي بأن الروح الانسانية لم تسحق بعد، ويرفض خرافة نهاية التاريخ التي ابتكرها فوكوياما ترسيخا للعقائدية الامريكية ( كما يرفض في عمل تال للثقافة والامبريالية، منظومة حتمية الصراع العدواني بين الثقافات والحضارات، كما صاغها صامول منتينفتن )، ويمني باحثا عن نبضات الروح الخلاقة في كل مكان يقدر أن يتلمس قبسا منها فيه، وانه بما يشبه المعجزة في هذا القرن الذي انهارت فيه إمكانية المعجزات، ليجد بعضا من هذه القوى المتبرعمة البازغة، ويبلورها بقوة تمنح الشعور بالأمل، دون أن تخلق التفاؤل الاعتباطي الطوباوي الساذج، هو ذد يحدد بعضها:
"وذلك نسق ما يزال ينقل محمولا من عهد الامبريالية التقليدية (الكلاسيكية ) وأنظمتها. ما الذي يقاومه ؟ ثمة مثل راضه يكشف عنه إيما نويل فالرشتاين ويسميه الحركات المضادة للنظم التي ظهرت كإحدى عقابيل الامبريالية التاريخية ويوجد في الآونة الأخيرة عدد كاف من هذه الحركات المتأخرة في مجيئها لمنح قوة العزيمة حتى لأشد المتشائمين تصلبا: الحركات الديمقراطية على ضفاف فالق الاشتراكية كلها، والانتفاضة الفلسطينية، وحركات شتى اجتماعية وبيئية وثقافية، عبر أمريكا الشمالية والجنوبية، والحركة النسائية ومع ذلك، فمن الصعب عل هذه الحركات أن تتولى اهتماما للعالم فيما وراء حدودها الخاصة، :و أن تمتلك المقدرة والحرية لاصدار التعميمات عليه. فإذا كنت تنتمي ال حركة معارضة فلبينية، أو فلسطينية، أو برازيلية فإن عليك أن تتعامل مع المتطلبات الأخطوطية والتنقيلية (التكتيكية واللوجيستيكية لم للكفاح اليومي. ورغم ذلك فإنني لاعتقد أن جهودا من هذا :لنمط تقوم بتطوير استعداد إنشائي مشترك، أو لأعبر عن الفكرة بلفة جغرافية أرضية، خريطة للعالم ستبطنة، إن لم يكن نظرية عامة، وقد يكون بوسعنا أن نبدأ الأن بالحديث عن هذه الحالة المراوغة بعض الشي ء من المعارضة وعن استخطاطياتها (استراتيجياتها) الآخذة بالبزوغ بوصفها إفصاحا مضادا عالميا.
تعاين دراسة التاريخ الهندي في دراسات سنضوية، مثلا بوصفها سجالا مستمرا بين الطبقات وبين نظمها المعرفية المتنازع عليها، و"الانجليزانية " في نظر المسهمين في العمل زي المجلدات الثلاثة الذي حرره رافائيل صامول (بعنوان ) الوطنية، لا تعطي أولوية على التاريخ، إلا بقدر ما تسخر "الحضارة الآتيكية (الآثينية ) " في (كتاب ) برنال أثينا السوداء ببساطة لتعمل كأنموذج لي – تاريخي لحضارة متفوقة.
إن الاكتناهات المستريبة باطراد، وانقشا عات الوهم، والسجالات الماثلة في الأعمال المبتكرة التي اقتبستها تخضع هذا الهويات المركبة الهجينة لجدلية سلبية تقوم بحلها الى مكونات مشكلة بطرق شتى. فما هو أكثر أهمية بكثير من الهوية المستقرة التي يحافظ على رواجها في الانشاء الرسمي هي القوة التساجلية لطريقة تأويلية تتكون عادتها من المسارات المتفاوتة، لكن المتواشجة ومتبادلة الاعتماد، وفوق كل شيء، المتقاطعة، للتجربة التاريخية.
نجد مثلا لهذه القوة جرينا بصورة فائقة في تأويلات يجيء بها أكبر شاعر عربي معاصر، هو أدونيس، الاسم المستعار لعلي أحمد سعيد، للتراث الأدبي والثقافي العربي. منذ صدور كتابه الثابت والمتحول في ثلاثة مجلدات بين عامي 1974و1978، ما يزال أدونيس، وحيدا دون عون تقريبا، يتحدى الاستمرار الملحار لما يعتبره الموروث المتحجر، المقيد بالتقاليد العربية –
الاسلامية العالق لا في الماضي وحسب بل في إعادات قراءة متصلبة صارمة وسلطوية للماضي، يقول أدونيس إن الغرض من إعادات القراءة هذه هو منع العرب من مواجهة الحداثة مواجهة حقة. ويربط أدونيس فيز كتابه عن الشعريات العربية (الشعرية العربية ) بين القراءة الحرفية المتصلبة الجامدة لشعر عربي عظيم بالحكام، فيما تجلو القراءة التخيلية الخلاقة أنه في قلب التراث التليد (الكلاسيكي) _ ثمة تيار احتجاجي رافض تخريبي يجابه السننية الظاهرية التي تعلنها وتتبناها السلطات الزمنية ويكشف أدونيس كيف أن حكم القانون (الشريعة ) في المجتمع العربي يفصل السلطة عن التنفيذ والتقليد عن الابتكار، حاموا التاريخ بذلك في مرمزة (نظام ترميز) مضنية من السوابق التي تكرر الى ما لا نهاية. ويضع نقيضا لهذا النظام قوى الحداثة النقدية التي تتحلى بالقدرة على الحل والإذابة ".
ويمضي سعيد في تقصيه، ليشير الى قوى أخرى، وحركات ومبدعين بعينهم في أمكنة متباينة من العالم تشكل هذا المحور الجديد لفكر ما يزال قادرا على الكشف، والصراع، والطموح الى مستقبل أبهي خارج أسر الخصلات المرعبة التي تولدت من الامبريالية والسننيات وانفصاليتهما ومن لا يقينية "نهاية الحداثة ":
11-1 "ومع الاستنفاد والانهاك الفعلي للأنظمة الكبرى والنظريات الكلية (الحرب الباردة، تفاهم بريتون وودز، الاقتصاد السوفييتي والصيني الجماعيين، قومية العالم الثالث المناهضة
للامبريالية )، ندخل مرحلة جديدية تمتاز باللايقينية الهائلة. وذلك ما مثله بقوة ميخائيل غورباتشوف قبل أن يخلفه ذلك الأقل لا يقينية بكثير بور يس يلتسين. فلقد عبرت البريسترويكا والغلاسنوست (إعادة البناء، والانفتاح )، الكلمتان _ المفتا حيتان المرتبطتان بإصلاحات غورباتشوف عن عدم الرضا عن الماضي وعن، في حد أقصى، آمال مبهمة حول المستقبل لكنهما لم تكونا نظريات ولا رؤى، وكشفت أسفاره الغلقات بالتدريج خريطة جديدة للعالم، ومعظمه الى حد يكاد يكون مخيفا، متداخلا متبادل الاعتماد، ومعظمه غير مخطط بعد فكريا، وفلسفيا وأعراقيا بل حتى تخيليا. جماهير غفيرة من البشر، أعظم عددا وآمالا من أي وقت مضى، تريد أن تأكل بشكل أفضل ويتواتر أكبر؛ وأعداد كبيرة أيضا تريد أن تتحرك، وتتحدث وتفني، وتلبس. ولنن كانت الأنظمة القديمة عاجزة عن الاستجابة لهذه المطالب،إن الصور العملاقة التي أسرعت في تشكيلها الاعلاميات والتي تستفز العنف المدبر والاستجنابية المسعورة لن تجدي أيضا. إن من الممكن الاعتماد على فعاليتها للحظة عابرة، غير أنها سرمحان ما تفقد قدرتها على الاستنفار والتحريك. ثمة تناقضات كثيرة جدا بين الخطط التقليصية والبواعث والدوافع الجامحة الكاسحة.
إن التواريخ والتراثات والجهود، القديمة المخترعة من أجل الحكم تفسح المجال الآن لنظريات أجد وأكثر مرونة واسترخاء حول ما هو متفاوت وبالغ التوتر والحدة في اللحظة المعاصرة. في الغرب، استغلت ما بعد الحداثة ما يتسم به النظام الجديد من انعدام للوزن لي – تاريخي، واستهلاكية، ومعجبية، وترتبط معها في ذلك أفكار أخرى مثل ما بعد الماركسية وما بعد البنيوية، وهي متنوعات مما يصفه الفيلسوف الايطالي جيدني فاتيمو بـ "الفكر الهزيل " لزمن "نهاية الحداثة " ورغم ذلك ففي العالم العربي والاسلامي ما يزال كثير من الفنانين والمفكرين مثل أدونيس، والياس خوري، وكمال أبو ديب، ومحمد أركون، وجمال بن شيخ معنيين ب الحداثة ذاتها، وما يزالون بعيدين عن أن يكونوا مستنفدين أو منهكين، وما يزالون (يشكلون ) تحديا رئيسيا بارزا في ثقافة يسيطر عليها التراث والسننية. وهذه هي الحال أيضا في الكاريبي، وأوروبا الشرقية وأمريكا اللاتينية وافريقيا، وشبه القارة الهندية : وان هذه الحركات لتتقاطع ثقافيا في فضاء عوالمي (كوزموبوليتاني) ساحر ينفحه بالحياة كتاب ذوو شهرة عالمية مثل سلمان رشدي، وكارلوس فيونتس، وغابرييل غارسيا ماركيز، وميلان كونديرا، الذين يتدخلون بقوة لا كروائيين فقط بل كمعلقين وكتاب مقالات. وينضم الى مناظر تهم حول ما هو حديث أو ما بعد حديث السؤال القلق الملح : كيف ينبغي لنا أن نقوم بالتحديث، في أوضاع الغليان الزلزالي الذي يعانيه العالم اليوم وهو يتجه نحو نهاية القرن، أي، كدف لنا أن نحفظ الحياة عينها في حين أن المطالب اليومية المبتذلة للزمن الحاضر تهدد بأن تبز الحضور الانساني وتسبقه :؟".
11- 2"ولقد اندثرت الآن الثنائيات الضدية العزيزة على قلوب المشروعين الامبريالي والقومي، وبدلا من ذلك فقد أخذنا نحس الآن بأن السلطة القديمة لا يمكن ببساطة أن تستبدل بسلطة جديدة، بل إن تحالفات وتموضعات واصطفا فات جديدة عصوغة عبر الحدود، والأنماط والأمم والجواهر، أخذت تظهر للعيان بسرعة، وأن هذه التموضعات الجديدة هي الآن ما يستفز ىيتحدى مبدأ الهوية وهو مبدأ سكوني.."
12- بين ما يستحق تأملا خاصا من تأويل سعيد لازدهار لرواية الغربية، وازدهار الرواية في العالم المستعمر، تصوره الفضائي الجغرافي. الرواية بل السرد عامة، من هذا المنظور، حركة في الفضاء، تجاوز لحدود الذات الثقافية الى فضاءات تقع خارجها، وذلك يتم في أوروبا في صيغة الاستعمار والغزو والفتح لعوالم خارجية، ويتم في العالم المستعمر بحركة معاكسة يعظها في نموذج جيد يدرسه سعيد، ما يقوم به الطيب صالح في "موسم الهجرة الى الشمال ". وأحد وجوه امتياز تصور سعيد أنه يسمح بإدراج منظومتي ايان واط وباختين في آن واحد ضمنه، لكن امتيازه الضمني الأكبر هو أنه يسمح بتأمل تاريخ الكتابة السر دية من منظور جديد، وتفسير ظواهر قديمة خارج النزاعات لواهنة. لقد نشأ السرد العربي، مثلا في الفترة الأولى من الاسلام والعصر الأموي على أيدي القصاصين، ولقد ارتبط فنهم بالضبط بالفتوحات وتجاوز الفضاء المحلي العربي ولم يكن أدب المغازي والسير إلا تجسيدا واحدا لنشوء فن السرد في هذه الأطر. بهذا المعنى يمكن أن نرى أن منظومة سعيد تصدق خارج الاطار التاريخي والجغرافي الذي طورها من أجل دراسته، وهو أوروبا ابان المد الاستعماري والامبريالي. واذا كان ذلك، فإن مقولة النشأة الحديثة للسرد العربي تصبح باطلة، ويبدو الأمر مسارا تاريخيا تنامى فيه فن السرد العربي في أطر تاريخية معينة، واتخذ أشكالا قادرة على تجسيد البنى القائمة تاريخيا في السياقين المكاني والزماني المحددين. وجاءت ألف ليلة وليلة ذروة من ذرى تطوره وتناميه. لكن تقلص الفضاء اللاحق قلص مدى الخيال السردي كذلك، وأعاده الى شرنقة مغلقة. بهذا المعنى أيضا، لا يكون ظهور الرواية في أوروبا بشكلها التقليدي الا إحدى حلقات تحولات فن السرد أي أنه تحقق لامكانية واحدة بين امكانيات لا حصر لها. ومن الدال، والمفارقة الضدية أن الرواية الأوروبية في عصر اتساع الفضاء الامبريالي، طورت بنية سردية مغلقة اختلاقية صرفا، متمايزة عن الواقع منفصلة عنه، وأن الرواية الحديثة مع تقلص المد الامبريالي واحتلال الفضاء الخارجي، وضمور دور الطبقسطية (البورجوازية ) الأوروبية، تتحول الآن باتجاه الأشكال الروائية التي سبقتها، وتخلع عنها إهاب المقومات التي اتخذتها ابان العصر الامبريالي التقليدي، وتقترب من الأشكال السر دية التي عرفتها الثقافة العربية سابقا والتي يمكن وصفها بأنها بنى سردية مفتوحة، ومختلطة، وغير قابلة للتصنيف الاجناسي السهل المؤطر الدقيق، ومزيجة على مستوى الواقع والخيال، والمعقول والسحري، والشعر والنثر واللغات والأصوات، والأمكنة والمواقع والمشهديات، وعلى مستوى الطبقات الاجتماعية التي تجسد عوالمها، والتي تتوجه اليها، وحضور الرجل وحضور المرأة في المجتمع، وعلى سترى تعدد الرواة، والانماط السردية والدوائرية الحكائية. ومن المنظور نفسه نفهم ظهور شكل روائي في العربية مرتبط بقاعدة اجتماعية معينة، وتصور معين للقضاء، وببنية سردية محددة.إن نشوء فن المقامة من فن الافتراء، كما وصفه " بديع الزمان الهمذاني" الذي قدم أول تحب يد أعرفه يقوم على التمييز بين التاريخي والافترائي كنقيض للسرد التاريخي وبروز أنهاج السرد العجائبي كأشكال تجاوز فضائية تنتقل من فضاء الدنيا والعالم الحسي المحدود الى الماورائي اللانهائي عبر الخيال، أو اللا موجود، عبر الحلم، ثم تجديد شكل المقامة، وظهور شكل الرواية المغلقة الافترائية تماما (الصيغة القريبة من الرواية الأوروبية ) مرتبطة بالفضاء الأوروبي، والرحيل اليه ثم شكل النص المفتوح واختلاط العوالم القابلة الآن للمعاينة من منظور جديد في ضوء اطروحات ادوارد سعيد.
13- لكتابة ادوارد سعيد سمات أسلوبية ولغوية يتفرد بها مجموعة بين كبار كتاب النثر الانجليز اليوم، واذا كانت قولة " الاسلوب هو الرجل " صحيحة أحيانا – وهي في كثير من :حيان خاطئة، لأن الأسلوب أيضا ما قناع الرجل، وحجابه عن العالم – فهي صحيحة صحة لذيذة بالاشارة الى سعيد، من هنا مكن وصف كتابته بالشفافية، بمعنى أنها تشف عن ذاته لا معنى الرقة والعذوبة والليونة.
أول هذه المؤشرات، جلال في اللغة والتركيب، وجزالة وشدة سر – بلفغ نقادنا القدماء – ودرجة باهرة من الجدية في اللهجة التناول نادرا ما تشف جملته عن سخرية، أو كلبية، أو متخفاف. وهو حين يكتب منتقدا لأحد بحدة، فإنه يسوغ ما هو عملا لهجة ساخرة بصيغة تخرجه من السخرية الى المفارقة لاذعة. كأنه لا يعرف كيف يضحك أو يلهو أو يلعب أو يستخف ثاني سماته ألق وتوهج، وجيشان عاطفي، وشبوب وشبق حياة والجدال والتفنيد والاقناع، ثم إنه منتق معان ودلالات لا غما رع، يدير النقطة الواحدة في محاجته في أمر ما دورات تكاد ستنفد كل ما يمكن أن تسمح به من إمكانيات، وفي الكثير مما يستخرجه منها يستخرج نادرا ما كانت العين لتراه بسهولة لولا ن قام هو بكشفه، ويؤدي ذلك الى طول في الجملة واسهاب في لناقشة، وتفريع لعبارة الى عبارات سنضوية وإدراج بين أقواس نقاط جزئية تزيد منظومته اكتمالا، وتقدم عليها الأدلة، لكنها ريا حبك نسيجه، وتشابك خيوطه، وتعقيد منظوره، وبين ؤشرات كتابته الباهرة، احتشاد بالصيغ الصرفية التي تشع تتوهج تضخيما أو تحسينا أو تطويرا. من نمط ما يفعله المفعول نطلق في العربية. وأكثر هذه الصيغ تكرارا وتخللا لكتابته صيغة ظرفية بالانجليزية التي تحدد درجة حدوث أو هيئته أو قدره، ما تتعكر في اضافة ال لاحقة ´´ly ´´ الى الصفة : beautiful= beautiful full= fully ويندر أن تخلو جملة من جمل سعيد طويلة من هذه الصيغة، وهي بجلاء تخرج الجملة الوصفية حبرية المحايدة الى جملة موقفية، تحدد شعور الناطق لها مما قوله، ولذلك دلالة عميقة سأفصلها بعد قليل. والسمة الثالثة تي ترفد هذه السمة استخدام الكلمات ذات الحقول الدلالية هائلة، فهي تكثر في كتابته كثرة لا أعرف مثيلا لها في الانجليزية، ويندر ما يماثلها في العربية.يندر أن ترد جملة طويلة سبيا دون كلمة من هذا المعجم التالي : هائلة، ضخمة كبيرة رموقة، صاعقة، مدوخة، صادمة، كاسحة، مجتاحة، فائقة، ثارقة، باهرة، لا تحصى، لا تنسى، وكل هذا المعجم تفجر ففعالي، وشبوب، وشبق، وموقف متأزم حاد، عاطفي مخص، لا حيادي فيه من الأشياء والعالم، وار جانب هذا لعجم هناك نظيره السلبي في دلالاته، فالأشياء عند سعيد في سلبيتها، مروعة، قبيحة، بشعة، مهولة، مفزعة، مخيفة، دنيئة، خسيسة.
أي أننا هنا مع كاتب يتألق متوهجا مشعا من داخل ذاته عبر عضائه كلها، لا حجاب بينه وبين الأشياء، والأفكار والثقافات والمفكرين، والعالم، بل هو على احتكاك وتعارك وتلاحم مع كل شيء. وكل ذلك مفصح بقوة عن، ومتساوق متناغم بجمال مع، جوهر موقفه الفكري ومنهجه النقدي وهو استحالة أن يكون الانسان محايدا متجردا، وأن انخراطنا في دنيوية العالم الذي نعيش فيه معنى وجودنا.وهو في هذا الكتاب أكثر من غيره يحمل حملة صادمة باهرة كاسحة (لاستعير مصطلحاته ) على ادعائيات المعرفة الغربية بالموضوعية، ويكرر مع فانون ان الموضوعية للاصلاني هي دائما ضده. لكن سعيد حقق من الشهرة والمكانة المرموقة جامعيا وعالميا ما يجعل تخليه عن الموضوعية والتجرد منهجا فكريا لا نقطة ضعف وكعب أخيل.
تتوحد هذه السمات وتنصهر طها في بنية جملة فريدة بين الكتاب بالانجليزية اليوم، هي الجملة التي تنسج نسقا ثلاثيا غالبا، ورباعيا أحيانا، اما على مستوى الصفات، فهو غالبا ما يصف شيئا بثلاث صفات، كأن الأشياء لا يمكن أن تكون لها سمة واحدة، أو بعطف ما يقول ثلاث مرات. (مذكرا الى حد ما بأسلوب طه حسين، لكن بروحية مغايرة تولد الحركية بدل الثبات ). والدلالة العمقية لهذه البنية هي الشبوب العاطفي، والتفريغ، والولوج الى تلوينات الفكرة، والأشياء، والمعاني وقوة الحضور وشموخه، كأن نفسا هادرة تندفع في طريقها بشهوة لامتلاك العالم كله، ووصفه، وتحديده، ورسمه بحيث تتملكه تملكا لا فكاك له منه.
وان ذلك كله لهو ادوارد سعيد، الذي أعرفه، صديقا حميما، وباحثا شاهقا، ومفكرا ساميا، ومشتعلا، في ذلك كله، بشبق وشهوة لا يضاهيان. هو هو القوى في صداقاته وعداواته، في اوجاعه واغتباطا ته، المتفجر في قطعة موسيقية يعزفها لاصدقاء يتسامرون في دف ء بيته، وفي مقالة يكتبها لنيويورك تايمز دفاعا عن فلسطين. إنه لأكبر من الحياة، هذا الذي تنضب شيئا فشيئا في عروقه الحياة، وسرطان الدم يمتص نسفه، وهو يهدر عبر العالم بفكره وحيويته وشبوبه ومعر فته، التي لا تحصى ولا تنسي ولا تضاهي. أقول له أحيانا، بشفقة المحب، ادوارد، لماذا لا تهدأ قليلا، وترتاح قليلا، وأنت على ما أنت عليه، فتقعد عن السفر، وقبول الدعوات، والتناثر في العالم، وما أنت بحاجة الى شي ء من ذد كله، فلقد بلفت ما بلفت. فتزوغ في عينيه ومضة مترددة قبل أن تأتي الكلمات مزيجا من الجرح والعزيمة، وفيها رعشة لا تتلمسها الا نفس الصديق الصدوق : لا أريد أن أهدأ، سأمضي الى نهاية الشوط، الى أن أسقط، أريد أن أفعل كل ما أريد أن أفعله، اذا هدأت، كأنني أعترف للمرض بالقهر. وما أنا بقادر على ذلك.
ثم إن بين سماته المذهلة بحق ثراء لفته الفاحش، لا أعرف باحثا في الانجليزية اليوم يتنوع معجمه الشخصي تنوع معجم ادوارد سعيد. في كلامه ما لا تجده إلا في القواميس الكبيرة، وفيه ما لا تجده حتى فيها. هذا الثراء اللغوي ليس عقدة الأجنبي بازاء اللغة يدلل على اتقانه لها بكونه ملكيا أكثر من الملك،كما يمضي التعبير، بل هو جزء من الانسحار باللغة، والافتتان بالكلمات، ومن الثراء الفكري، والنهم للعالم، والشبق للاتساع والرحابة والاحتواء والاحتجان.
وبينها أيضا تلويناته الاسلوبية، وتغييره لصيغ العبارات، داخل الجملة الواحدة، وتقطيعه لها بالفواصل، والعبارات الاصطلاحية الجاهزة، وخلط التركيب النظمي لها وقلبه وعكسه كاشفا ذلك عن هذا القلق واللااستقرار الفذ الذي يتموج ويضطرب في حناياه وفي فكره وفي علاقته بالعالم وبالثقافة وبالكتابة.
إن ادوارد سعيد يكتب، في النهاية، وقد تمثل التراث البحثي حتى الثمالة، من موقع الفنان الذي يتجاوز البحثية والمجمعية وهو يفعل ذلك على مستوى اللغة والروح والموقف، كما يبرز جميلا ساحرا، حديثه عن الالتصاق والتوا شج والمنفى والرحيل والهجرة واللاقرار، في المقاطع التي يختتم بها كتابه والتي اقتبستها أعلاه،وفي عدد من المواضع الأخرى، بين أجملها لجرؤه الى الحديث عن الروح الشعرية التي تسكن مقاومة سيزير وجيس وعلاقتها بمقاومة النظم والمذهبيات الجامدة والسر دية. هي زي بعض كلماته :
"هذه اللحظة في كتاب جيس، وهي ليست نظرية تجريدية، معلبة مجهزة ولا مجموعة تبعث على اليأس من الحقائق القابلة للسرد، تجسد (ولا تمثل أو تنقل فقط ) الطاقات الحيوية للتحرير المناهض للامبريالية وإنني لأشك في أن أحدا يستطيع أن ينتزع منها مذهبا ما قابلا للتكرار، أو نظرية قابلة للاستعمال ثانية، أو قصة لا تنسى، دع عنك مكاتبية (بيروقراطية ) دولة في مستقبل ما، ربما كان بوسع المرء أن يقول إنها تاريخ الامبريالية وسياساتها والعبودية والفتوحات والسيطرة وقد حرره الشعر من أجل رؤيا مؤثرة في إن لم تكن قادرة على انجاز التحرير الحقيقي، وبقار ما يمكن تقريبها في بدايات أخرى فإنها، إذن، مثل اليعاقبة السود، جزء مما يمكن في التاريخ البشري أن يحركنا من تاريخ السيطرة نحو واقع التحرير. وهذه الحركة تقاوم المسارب السر دية التي تم رسمها والسيطرة عليها من قبل وتلتف حول أنظمة النظرية، والمذهب، والسننية. لكنها، كما يشهد عمل جيس بأسره، لا تهجر المبادي، الاجتماعية للمجتمع، واليقظة النقدية، والتوجه النظري. وان أوروبا والولايات المتحدة المعاصرتين لفي أمس الحاجة الى مثل هذه الحركة،
بجسارتها وأريحية روحها ونحن نتقدم الى القرن الواحد والعشرين ".
وبينها اعتباره للمقاومة الجديدة البازغة تلك الطاقة الجميلة الرحل التي هو مولع باكتناهها:
"فكيف حاولت المناهضة التحريرية للامبريالية كسر هذه الوحدة المقيدة بالاغلال ؟ أولا، بتوجه جديد تكاملي وطباقي في التاريخ يعاين التجارب الغربية وغير الغربية بوصفها تنتمي الى بعضها البعض لأنها موشوجة بالامبريالية ثانيا، برؤيا تخيلية (خلاقة ) بل حتى طوباوية، تعيد تصور النظرية والأداء المحررين (نقيضا للمحاصرين المقيدين ). ثالثا، بالاستثمار لا في سلطات ومذاهب وسننيات مقننة، جديدة ولا في المؤسسات والقضايا الراسخة بل في نمط خاص من الطاقة الحيوية الرحل المهاجرة والمضادة للسردية."
هنا تتوهج روح الفنان المبدع المتحفز المغامر، روح القلق والتيه والرحيل ورفض الوصول، روح تقف، بل تتراقص، عل حافة العالم، بين الكائن واللاكائن، المعروف والمجهول الجلي والخفي وهي ثلثان في ذاك وثلث واحد متردد في هذا، متشوقة مستقبلا لن يجيء.
14- يثير في عمل ادوارد سعيد المدهش احساسا ستلابسا ضديا، ذروة الاعجاب بألمعيته والانتشاء ببراعة تحليله ووهج فكره، والاحساس المرهب بأسى شفاف يفيض من شعور غوري بأن وراء تفجره وغضبه الجامع نقاء إنسانيا يفعم النفس بالغبطة والشجي، ذلك أن الغضب يتضمن جوهريا إحساسا بالمباغتة، بالخيبة وانقشاع الوهم، بأمل انهار، وصورة تكشفت فاذا هي على غير ما كان المرء يعتقدها والغضب، جوهريا، يتضمن براءة من يستكبر أن تكون الأشياء على ما هي عليه، ويستعظم أن تكون القسوة، والوحشية والاستعباد حقائق ل عالم كان يظنه نقيا منها، كان ادوارد سعيد في غضبه المتفجر يفترض قبليا أن الغرب والامبريالية والكتاب الكبار الذين انتجوا ابداعاتها العظيمة كان لابد أن تكون نقية إنسانية المنظور، غنية في إجلالها للانسان، مناضلة من أجل القيم، والحرية والعدالة فيصعقه بغتة أنها لم تكن كذلك، وليست كذلك الآن. والحقيقة البسيطة هي أن التاريخ الانساني كله لم يكن كذلك، وأن القوة المدمرة التي تنتج السيطرة والهيمنة لا مناص لها من أن تؤمن بتفوقها، وبأنها ذات رسالة إلهية، أو تحضيرية أو هادية علوية من نمط أو آخر. القوي المسيطر ليس من طبيعته أو طبيعة الاشياء أن يعتبر الضعيف ندا له، أو أن يعامله بإجلال، أو يؤمن بأنه ينتمي الى الحيز أدته من الوجود والانسانية والموهبة والأحقية الذي ينتمي هو اليه. وتوق سعيد المبرح الى تكوين عالم نقي من مرضيات القوة وتشو يهاتها توق الى نموذج لا إمكانية لتحققه. قد يكون جميلا أن نسمح له بدغدغة أحلامنا، أما أن نبني أنظمة فكرية، وبرامج أهداف، على فكرة امكانية تحقيقا، فمما لا ينتمي الى دنيوية العالم التي يؤمن بها سعيد نفسه إيمانا يكاد يكون دينيا، بل ينتمي الى مستويات لا دنيوية، أقرب ال حلم جنان عدن. الجنان التي نعرف أننا لا نعرفها، ولم نر تحققا لها، ولا شي ء آخر. ولا غرابة أن ينتهي سعيد في خاتمة كتابه المدهش هذا الى الحديث بلغة الفنان المبدع عن الروح الرحل، الهائمة، التي لا تقطن مكانا ثابتا بل تظر في هجرة. أبدية ذلك أن ما يتبطن مسعده كله طموح تكشف الروح بانتظام أنه غير قابل للتحقق، لكنها اذ تكتشف ذلك لا تنكسر، وتنكفيه، بل تلج حالة قلقها المتأجج الخلاق، فتعصف بها رياح اللاقرار، حتى
وهي تتشبث بأرض الصلابة على مستوى بحثي، وتجلو بعض طاقات التغيير، وتقرأ في ثنايا الوجود المكفهر ومضات من قوى الخلق القادرة مجابهة قتامة العالم ووحشية القوة والسيطرة، والأصوليات، نزعات الانفصالية التي تولدها الهيمنة نقيضا لها ومناوئا ولعدوانيتها الشرسة.
في العمق من بحث سعيد اللائب شعور مضمر في جلائه بأن،ب نموذج عظيم بحق، وثقافة متفوقة، ولذلك تنهمر المباغتة ن تنكشف للعين الجوانب الارعابية القبيحة فيه. ولقد انجل هذا هور في أشكال متعددة في هذا الكتاب تفصح عن بعض أسرار رح القلقة الهائمة التي ينبض بها، منها تأكيد سعيد _ الذي نف عن مقدرة يحسد عليها للاعجاب بالعمل الفني من حيث هو ل فني رغم رؤيا العالم والمواقف ووجهات النظر العقائدية التي ملها والتي يمقتها سعيد أشد المقت _ أن "المرء، بدراسته للنصوص الثقافية التي تعايشت بهناء مع المشاريع الكونية مبراطورية الأوروبية والأمريكية، أو قدمت الدعم لها، لا يتهم ه النصوص بالجملة أو يقترح أنها أقل إشاقة من حيث هي أعمال فنية بسبب كونها بطرق معقدة جزءا من المشروع الامبريالي " وأن ناقة الغربية لم تكن، بسبب كل ما فيها من مثالب،أقل عظمة أو،ابداعا أو ثراء.
كل ما في هذا الكتاب يشف عن كل هذه الأمور، فكيف أترجمه، وأكتفي فينا أفعل بنقل معاني وأفكار فأسطحا بعادي المفردات، ومتطابق الألفاظ، ومألوف التراكيب والمسترسل اللاموقع من الأساليب ؟
إن بين ما أسعي اليه في تعريب هذا الكتاب هو تعريب ادوارد ميد أيضا. ومن أجل ذلك أفتق كلمات، وأبحث عن صيغ، وأولد ردات، واتجرأ على حدود اللغة ومقيداتها، ومن غير ذلك كنت أمسحه وأسطحه، وألفي تنوع مفرداته وأساليبه وأخمد وهج روحه.. وكان ذلك كله سيكون فقرا لسعيد وخسارة فرصة مربية لتمتدح من منابع معرفية جديدة وتثري وتزدهي بألق تيها من ابن ثكلته.
فإن كنت قد نجحت في صنع طيف صورة لادوارد سعيد، اضافة، ما يقوله هذا الكتاب على مستوى المضامين الفكرية العزلا،، فأية علة ستغمرني، وان لم أكن فما ذلك مما يلج في المحالات، بل أنه لأشد الامور طبيعية : فأن تقبض على روح كهذه الروح الرحل،وتسوغها في ياغة محددة مقيدة، هو ما لا تناله حتى فرائد المقدرات : ثم إنه الحق، حق مما لا ينبغي أن تسعي اليه باستغراق في العزيمة، أصلا زان أن باح مثل هذا المسعى سيكون خيانة لتلك الروح، واعتقالا لجموحها.له بحرية لا حدود لها، وبتهيام وترحال لا تؤطرهما المؤطرات، ولا تكبح جموحها الكابحات.
واللهم لقد حاولت وسعيت فاغفر لي ولتكتبن لمسعاي النجاح !
16- في حواراتنا الكثيرة، تنبثق بين آن وآن نقطة خلاف وشحها المودة بيني وبين ادوارد الصديق، والمفكر الألمعي، المناضل العربي الفلسطيني، والباحث الانساني الكبير. في حاضرات ألقيتها وشرفني بأن قدمني فيها، وفي أحاديث بيتية، في مطاعم وسهرات، حدث أن اتخذنا موقفين مختلفين من قضايا تعني كلينا بعمق، بين هذه القضايا إشكالية الهوية. فيما يزداد ميل ادوارد عاما بعد عام الى تقليص أهمية الهوية كعامل فاعل ايجابيا في بناء الثقافة ويراها، في جل تجلياتها إثما قوميا أو فئويا، أظل عاجزا عن سلخ نفسي عن الوشائج التي تربطني بمفهوم مترسخ للهوية في عالم متأجج بصراع الهويات. في إحدى تلك المناسبات قلت له ؟ "ادوارد، ان رؤيتك لجميلة مغوية، ورائعة في إنسانيتها لكن في عالم تهددني فيا اسرائيل والغرب يوميا في مصيري، وباجتثاث هويتي،ويوغل الأقوياء في تأكيد هرياتهم المتميزة المتفوقة، لا أستطيع أن ألغي هويتي وأ حارب باسم هوية هجينة بدعوى أنها أكثر إنسانية لأن كل الثقافات هجينة، إن الحلم شي ء والعالم شيء. وأرى فكر سعيد هنا في أزمة تقوض بعض مرتكزاته (بالمدلول الدريدائي للتقويض ): فهو هو الفلسطيني العربي الذي لا أعرف الكثيرين ممن خاربوا دفاعا عن الهوية الفلسطينية أكثر منه (لكن دون أن يحولها أبدا الى هوية انفصالية، عزلوية عدائية من النمط الذي يهاجمه ): لكنه، على مستوى آخر نبي رفض الهويات، وما أظنه سيحل هذا التعارض في فكره وذاته، ولا أريد أن يفعل، فهو أحد أسرار الوهج والقلق الانساني اللذ ين يشعان من كتاباته ويعطيانها حيويتها، ويميزانها عن غيرها من كتابات نظرية حول خطر الهويات، بالضبط لأنه متجذر في هويته، يبدو صراعه ضد الهويات الضيقة إنسانيا، موجعا، حارا، حقيقيا، ومتاهيا _ كما يحب أن يكون.
وترتبط بهذه المسألة مسألة الهجنة، الثقافات في نظر سعيد كلها هجينة، وبمقدار هجنتها يكون ثراؤها، وهذا الكتاب كما تجلى حتى الآن،حرب على مفاهيم الصفاء والنقاء والواحدية، ومع إنني شخصيا شننت مثل هذه الحرب، فإنني لا أدفع بقضية الهجنة الى موقع الصدارة من تصور الثقافات وحيويتها ولا أتبنى الهجنة في تجلياتها القسوى. فللهجنة حدود تنقلب بعدها الى زندقة وبندقة. وليس من المصادفة أن العربية في الجوهر ترى الهجين ذروة البياض الصافي والمختلط المستهجن في آن واحد. فالعربية من حيث هي لغة وبنية معرفية جسدت فهما عميقا للهجنة، وبين أول من تعامل ثقافيا مع هذا المفهوم المجتمع العربي العباسي الذي ابتكر مفهوم المولد، وهو في لفة سعيد ومريديه الهجين تمام. ولقد أطرى العرب المولدين، لكنهم أيضا أدركوا أن الاندفاع في التوليد الن مرحلة قسوى يضيع الوهج الحقيقي في الثقافات ويسمح شخصيتها _ أي هويتها. وأنا أقرب الى هذا المفهوم مني الى تقديس الهجنة التي يدافع عنها اليوم في العالم دارسون غير ادوارد سعيد ينتمي الكثير منهم الى أقليات (هندية وافريقية غالبا) ويعيشون في خضم مجتمعات غربية تؤمن بعض قطاعاتها بالنقاء النازي وترى الغريب دخيلا ينبغي بتره، وتلويثا للفقي ينبغي غسله والاغتسال منه. ومن الطبيعي أن يدافع هؤلاء عن الهجنة، لأنهم بذلك يبحثون عن مشروعية تحميهم، وعن إطار فكري ملائم لوجودهم، وعن فلسفة تحول العالم الذي يتعرضون فيه للخطر الى عالم يأسنون على أنفسهم منه. وبمصطلحات سعيد فإن موقفهم الفكري، وانتاجهم الثقافي، دنيويان أيضا، ومتعالتان بعمق بالسياق الامبريالي الغربي الذي يعيشون فيه، وليسا قضية
صورية معزولة خالصة ومطورة لمحض المتعة التأملية، الصفاء الجمالاتي.
وأنا لا أشعر بمكر هذه العقدة ولا ناقة لي فيها ولا صاروخ. ن إنتمائي لا يتحدد بوجودي في المجتمع الغربي، فأنا لا أسعي. الاندماج فيه، ولا أبحث عن مسوغ لوجودي في داخله وهو النسبة لي منفى آخر، يحتل مرتبة تالية في النفي للمنفى الأول زي هو الوطن وفي الجوهر، أومن بغربة الانسان في العالم، بأنه يظل منفيا، وأن انبتار نفيه هو انبتار إبداعه ووهج فكره. ليس ثمة ما هو أخطر على المفكر من الانتماء الحميم والذوبان، ثقافة والتواشج اللامتميز مع الكتلة أيا كانت الكتلة عائلة أو بلدا أو وطنا، أو منفى إن إبداع الفنان كامن ومشروط في فصامه،لا في ذوبانه ؛ وقد يكون صحيحا أنه بقدر ما يكون فصامه انفصام المنتمي، مع ذلك، بقدر ما يكون وهجه عظيما ألقه مضينا، غير أنه في هذه الحالة ؛ يظل أقل بكثير من ذلك كامل الذي أشار اليه هو غوأوف سان فكتور.
في اللباب من كتاب ادوارد سعيد هذه الاشكاليات الفكرية، الروحية الفردية والثقافية التي تتعلق بعلاقات الثقافات التواريخ والمجتمعات. وفيه أيضا قراءة فذة للمقاومة التي جرت في العالم المضطهد المستعمر لا أعرف لها مثيلا في الكتابة ربية كانت أو شرقية. وفي الفصل الذي يكتبه عن فانون خاصة ق فكري يندر أن تجد له مضارعا. وذلك بعض من تسويغ ما جعله في تقديري، جديرا بأن يوسم بأنه كتاب عظيم. فها هو ذا لقاريء لم يكتب له، لكنه كتب من أجله وأجل نظر انه من زين تعرضوا للقمن والتحيز والاستعباد ونزع الانسانية، التي ارستها بكل ألوانها الامبريالية والمركزية الاوروبية سابقا، الأوروبية _ الامريكية الآن، ومن الذين قاوموا هذا كله ودفعوا ما يزالون يدفعون ثمنا لمقاومتهم يتراوح بين القتل وبذل الدم السجن والمذلة والتعذيب والقلق والشوق والتبر يح، ويتلون ´لوان كثيرة سواها.
الهوامش :
1- يبدو لي أن خللا حدث في النص هنا، يتمثل في استخدام اسم الاشارة "هذه " بصيغة الجمع ´´these´´ دون يكون هناك مشار اليه سوى "النص ".
2 – استخدم المصطلح العربي الأصيل الذي وجدته حديثا لدى بديع الزمان همذاني وهو "المفتريات " للدلالة على مضمون المصطلح الأوروبي Fiction´´ وأضيف اليه أحيانا لمزيد من التوضيح المصطلح الذي كنت قد ابتكرته قبل ذلك بسنوات، في ترجمتي للاستشراق، وهو "مختلفات "، ومن الدال أن مصطلحي ومصطلح الهمذاني متقاربان جدا،وهما يختلفان جوهريا عن الترجمات العربية الرائجة مثل "الرواية " أو "الفن الروائي" وهي في تقديري غير صالحة إلا في سياقات محدودة.
3- في محاولة للتوفيق بين ترجمات مستخدمة في بلدان عربية مختلفة، استخدم هنا "معاملات مقابل ´Coefficients“ تمشيا مع المورد معاملات القيمة مقابل ´Parametes´` التي يستعمل علماء سوريون ترجمة لها "معاملات "، وقد أضفت القيمة "للتفريق بين المصطلحين.
* * *