حسام المقدم
كاتب وروائي مصري
في ذلك الصيف لازَمَتني عادة النظر إلى السماء، تَتبعتُ أشكال السّحب وعَددتُ النجوم المحيطة بالقمر، سعيا وراء سطور قرأتها في تاريخ الطّبري: (سنة.. في يوم.. ظَهَرت ظُلْمة بِمِصر، وحُمرة في السّماء شديدة، حتى كان الرّجل ينظر إلى وجه الآخَر فيراه أحمر، وكذلك الحيطان وغير ذلك).
عشنا أيامها، صيف 2023، كارثة انقطاع الكهرباء عن البيوت والشوارع، لأكثر من مرة في اليوم، بإجمالي وصل أحيانا إلى أربع وخمس ساعات. كان الوضع غير مُحتمَل: حَر رهيب وظُلمة، أما الحُمرة فلم أتوقف عن تقصّي أثرها في السماء.
تدخلت زوجتي بحماس أحسدها عليه: “أنتَ وأصحابك الكُتّاب لا تفعلون شيئا إلا الولولة على الفيس بوك والكلام عن التغير المناخي، إلى متى سنبقى في هذه المصيبة؟”
قلت بغيظ مكتوم: “تتكلّمين كأنني وزير الكهرباء!”
وتراجعتُ من أمامها إلى ركني في الصالة.
أصابع الظل:
“نَتسلّقُ ضَحكاتِنا،
لأنّ صُراخنا شاهقٌ جدًا.”
(وديع سعادة)
خمّنتُ أنهما يُجرّبان لعبة أو مغامرة ليلية، بتكرار الإشارات الضوئية في البلكونتين غير البعيدتين. متابعتي لما يحدث أخذَتني قليلا من الضيق والنّفخ وصبّ اللعنات على رؤوس الجميع، بعد ساعتين على غياب الكهرباء.
إشارة وامضة بكشّاف التليفون، يتجاوب معها نور يسطع في لمحة. تعُم فترة سكون مظلم، فيمَ يفكران؟ تحولَ المشهد إلى بؤرة نور على الحائط، ومن زاوية جانبية تسللَ ظل يد ضخمة مضمومة على هيئة حصان يجري، أوشكتُ أن أسمع صهيله من دقة الحركة والتصوير. التفتُ إلى البلكونة الأخرى فرأيتُ ظلا آخر يتجلى في أصابع سوداء تنقبض وتنبسط، ثم تقترب منها أصابع أخرى أكثر عنفا، كأنهما طائران شرسان يقتتلان. حدث انفراج مفاجئ لليدين، اقتربا حتى تلامسا، تداخلت الأصابع وتشابكت. عدتُ إلى الناحية الأولى لأرى هل ما زال الحصان يصهل أم لا، كانت اليد الوحيدة تقف مائلة، ملمومة على نفسها بلا حركة، أصابعها مكوّرة كأنها رأس أسد.
ظللت أُحوّل بصري يمينا وشِمالا في أثر الظلال، متأملا إشاراتها الظاهرة والخفية، وتلك التلقائية الخارجة عَفو اللحظة، في معرض سخي، يواصل معجزته في ليل يوليو، القابض بجحيمه على الأرواح إلى ما بعد منتصف الليل.
خطرَ لي أن أوقظ زوجتي لتشهد ما يحدث، لكني تذكرتُ لسانها المسنون. شغّلتُ كشّاف التليفون فشعشعَ النور تحت قدميّ، وجّهتُه إلى جدار البلكونة. رفعتُ يدي، حرّكتُها، تتابعت الظلال تتلوى وتتشكل، في صورة حشرة زاحفة أو ضفدعة قافزة أو مسدس يُصوب الطلقات. انفرجت أصابعي ترقص وتطير وتتلاعب بخفة، وصلت إلى خلاعة باسمة انفردَ بها الإصبع الأوسط.
توقفتُ لأتابع البلكونتين البادئتين، كانتا لا تزالان تبعثان الإشارات والتشكيلات.
عادت الكهرباء، صاحت أصوات فرح من الشارع. رأيتُ المراوح تبدأ الدوران في الشبابيك المفتوحة، وعلى الفور عَلا طنين التكييفات. مررتُ على واجهات العمارات المقابلة، محا النور أثر الظلال وخيالاتها، في البلكونات العامرة بالجالسين والواقفين.
نظرتُ هنا وهناك، لاحظتُ أن الغالبية بدأت في الدخول.
دخلتُ أنا أيضا.
حقول النجوم:
“.. وعندئذٍ أرسلَ المُنادون إلى شتّى أنحاء السُّهوب بنداء: كُل مَن يَروي للخان أربعين حكاية كاذبة دون توقُّف وبلا كلمة صدق واحدة فسيحصل على كيس مملوء بالذهب..”
(بستان البدائع، حكايات شعبية قازاخِيَّة. ترجمة: أبوبكر يوسف).
سيدي الخان، أنا من بلد تعَوّدَ أهله من قديم الزمان أن يزرعوا بذور الأقمار والشموس في أرضهم الخصبة، فتُنبت لهم بعد ساعات قليلة نجومًا خضراءَ مُشعّة. نقوم بجمع محصول النجوم، ثم تخزينه في غرف خاصة، تمهيدا لاستخدامها في توليد الكهرباء. ولا أخفيك سرًّا يا مولاي بخصوص جودة كهرباء النجوم مقارنة بالأخرى المعتمدة على مشتقات البترول؛ كهرباؤنا لديها القدرة على تغذية كل مدن وقُرى ونجوع بلدنا طوال خمسة عشر شهرا في العام، ولأكثر من ستة وعشرين ساعة في اليوم، بما يسمح للجميع بإنجاز كافة الأعمال والالتزامات، وصولا إلى الأمور الترفيهية.
لدينا كهرباء، يا سادتي، صديقة للبيئة، نسبة العادم فيها تحت مستوى الصفر حسب مقياسنا الدقيق المُفعّل منذ عشرات السنين، والذي سجّلَ في آخر قراءة له نسبة وصلت إلى (2-)، مما دعا خبراء البيئة العالميين إلى سؤالنا عن كيفية تحقيق هذه المعجزة في معدل الانبعاثات الحرارية. كان هذا دافعا كي نفتح التصدير، ونتجاوب مع الطلب المتزايد على كهربائنا النظيفة، التي وصلت في نهاية المطاف إلى آخر دُب قطبي يشتكي الظلام في أقصى الشمال البارد.
ولا شك أنك سيدي تريد أن تعرف موقف الأقطار المجاورة نحو تجربتنا الرائدة، نحن بالفعل واجهنا التآمر والمُخططات مرات ومرات، لدرجة أن إحدى البلاد بعثت عملاء لها حاولوا سرقة بذور الشموس المُعدّة للزراعة، وتصدّينا لذلك في الوقت الحاسم بعد أن هبطت طائرتهم بسلام في مطار دولتهم، وعلى مَتنها كمية تكفينا خمسين عاما لتوليد الكهرباء. ليس هذا كل شيء، أرسل آخرون مَن حاولَ تخريب النجوم النابتة بِمُبيد مُسرطَن، اكتشفنا المؤامرة وقمنا بإعدام محصول النجوم كله، بتجريف الأرض بالكامل، والتخلص من القشرة الموبوءة ورميها في البحر لتصبح طعاما مجانيا للأسماك. كلَّفنا ذلك الفعل جهدا رهيبا لتوفير كهرباء مُستدامة لعموم الناس طوال العام التالي، بعد أن لجأنا إلى الاعتماد على الاحتياطي الاستراتيجي لمخزون النجوم حتى كاد ينفد، قبل أن تسعفنا بذور الموسم الجديد.
مولاي الخان، حتى هذه اللحظة وأنا أحكي لكم عن تجربتنا السبّاقة؛ لا يزال هناك الكثير لم أقله، مثل أننا نستخدم كهرباء نجومنا بالنهار أكثر من الليل، لأن نورها أقوى وأسطع من الشمس، ولسنا من الغباء كي نستبدل نورنا الكرنفالي الهائل بوميض شمس تُعاني في السنوات الأخيرة من احتقان مزمن في مُكوناتها الغازية الإشعاعية.
يتبقى أن أذكر لكم مجهودات بعض باحثينا في السعي للوصول إلى بدائل مستقبلية لحقول النجوم من أجل تنويع مصادر توليد الكهرباء، تمَّ ذلك بإجراء تجارب عديدة على بول العصافير، وليس لبنها الشهير الذي ثَبت فشله تماما في الاختبارات. وصل الباحثون إلى أنه -البول- مادة طبيعية ممتازة لا تقل، بل تفوق، مشتقات البترول.
أخيرا، سيدي الخان، تقَبَّل سلامي النُّوراني، من كَفّي هذه، التي أُخزن فيها طاقة كهربية يمكن أن تضيء نصف مَملكتكم، وأنا أتنازل لكم عنها راضيا مرضيا.
حكاية نوم:
“والله رجل نَحس”..
انفجار الضحك على الترابيزة المجاورة جعلني أُركّز معهم، آخرون من الموجودين في الكافيتريا انجذبوا مثلي لسماع حكاية، يرويها رجل خمسيني بلسان يُبطئ ويُسرع.. يلف ويدور ويرجع إلى اللحظة التي انطفأ فيها النور، وصاحبه في الأعالي مع زوجته على السرير..
في لمحة رأيتني في وضع الرجل، وفي غرفة بدرجة حرارة أعلى من الأربعين.
تابعتُ خيط الحكاية: “أخونا المنحوس بمجرد أن توقفت المروحة؛ أحسَّ أنه نزل من السماء إلى الأرض، غسلَ العرق جسمه كله، نار حامية اشتعلت في صدره، الجو مخنوق كأنه في قبر. حكا لي أنه لمَّ نفسه وانكمش مثل عيّل صغير”.
صمتَ الرجل، تاركا آذاننا في قمة الانتباه لسماع تفاصيل ما بعد الانكماش. سحبَ شفطة شاي بصوت مسموع، وواجَهَنا: “طبعا تفكرون أنه زهق ودخلَ الحمّام مثلا، أو راح يقعد في الصالة أو البلكونة.. أبدا، صاحبنا، بعظْمة لسانه، قال لي إنه نزل تحت السرير!”
فرقعت ضحكاتنا..
لماذا تحت السرير؟ وهل نزلت زوجته معه؟! توالت الأسئلة في الدواخل وعلى الألسنة، وصاحب الحكاية ساكت، يُلهب شوقنا لما هو أبعد:
“المُهم أنه نفض نفسه ونزل، وزوجته قامت تبص عليه، كانت فاكرة أنه نائم على البلاط، ولما وجدته تحت السرير، نادت عليه ولم يرد، وفوجئت بشخيره العالي!”..
“نام؟!”
كثيرون سألوا في نفَس واحد، والرجل هزّ رأسه، دون أن يضيف كلمة أخرى.
عجينة سوداء:
“كان هناك نور، وهناك الآن ظلام. كنتُ هنا، والآن ذاهبٌ إلى هناك! إلى أين؟”
(تولستوي، موت إيفان إيليتش، ترجمة: مها جمال)
أحملُ لفّة جرائد، وكل عدة خطوات أرفعها لأَشم صفحاتها وخُطوطها المطبوعة.
العاشرة في ليل ديسمبر. الكهرباء مقطوعة، ولولا القمر المكتمل، المراوغ وسط السّحب الغامقة، ما رأيت مكان قدمي في الشارع الصغير.
منذ ساعة مررتُ أمام كشك الجرائد الساهر على غير العادة، طلبتُ نسخة من جريدة بها مقال لأحد أصدقائي. قال الرجل الملفوف في بالطو رمادي: “الجرائد في الليل للمسح، وبالنهار للقراءة”. رأى العجب على وجهي، فأضافَ: “نبيع القليل بالنهار، وما يتبقى يأخذه الناس لمسح الزجاج، أو تشتريه محلات الفسيخ بالكيلو”.
لا أعرف لماذا طلبتُ نصف كيلو، وظللتُ واقفا أراقب الميزان الرقمي حتى أخذت اللفّة ومشيت.
منذ سنوات أفتقد الجرائد الورقية، اعتمادا على النت والمواقع، كما يفعل الجميع تقريبا. كنتُ أفكر فيما أصنع بهذه الكمية حين انقطعت الكهرباء. عدلتُ سيري ودخلت الشارع الجانبي، لففتُ كُوفيتي على رقبتي، وسحبتُ سوستة الجاكت إلى الآخِر. وقفتُ أمام البونسيانا الضخمة، الهواء العفي يهزّ فروعها العارية من الأوراق. كنتُ محتاجا إلى وحدتي في هذا الجو البارد، قعدتُ راكنا ظهري على الجِذع الكبير.
فردتُ الجرائد أمامي على الأرض، تناولتُ بعضها وعاوَدتُ الشّم، أخذتُ نفَسا طويلا، للورق والحِبر رائحة بترولية دسمة لا تُقاوَم.
قلّبتُ الأسماء والمانشيتات السوداء والحمراء، أضأتُ تليفوني، لا وجود للجريدة التي فيها مقال صاحبي.قلت لنفسي إن الرائحة وحدها لا تكفي، سحبتُ جريدة، قطعتُ صفحتها الأولى وكَوّرتها، بدأتُ في مضغ سطورها، وقفَت تحت ضرسي كلمات جامدة كالحجر، ضغطتُ عليها حتى هرستها. بعض الصور المنشورة لأشخاص رفضَت النزول إلى بلعومي، قاوَمَت حتى اضطررتُ إلى لفظها. مرّت عيناي على مانشيت: “الأزمة عالمية ونعمل على..”، تذكرتُ ما قالوه في الصيف عن الحرارة الشديدة ووجوب تخفيف الأحمال لساعات، وما لم يقولوه عن استمرار الوضع في الشتاء. واصلتُ المضغ والبلع، بعد قليل أحسست بتقلُّصات متتالية، بطني تتلوى، قمت وملتُ على الجدار، طرشتُ الكلمات والحروف، توالت انقباضات معدتي العصبية، خرجت عُصارات الحبر المخلوطة بعجينة السطور، في بقعة انفرشت على الرصيف القديم.
وقفتُ منهكًا تحت سماء قاتمة. انتبهتُ إلى السحب الثقيلة، وقد تلوّنت بحُمرة ظاهرة.