» لم يعجزني عمل رغبت فيه, حتى وأنا طفل, حين كنت افتقد شيئا أتمنى الموت: أردت الاستسلام لأنني لم أر معنى للجهاد. شعرت إنه لا شيء يمكن إثباته او إضافته أو اسقاطه بالاستمرار في وجود لم اختره.
كان كل شخص حولي يمثل فشلا, وان لم يكن فشلا فسخرية, خاصة الناجحين منهم, لقد استاء مني الناجحين حتى الموت«.
لعنت بلادتي بعد ساعة كاملة من التفتيش في اللغة عن مدخل, ووجدت ليس أسهل من هنري ميللر لإنقاذي من هذا الامساك المخجل, مقطع من الصفحة الأولى من رواية ؛مدار الجدي«, فمازلت اعتقد ان الصفحة الاولى من أي كتاب مهما كان حجمه هي التي ستقرر مواصلتك قراءته الى آخره أو الإحجام عن هذا الفعل, وقذفه فوق أحد الرفوف نهبا للغبار.
إني اصاب بالضجر من أول وهلة اتخيل نفسي نائما أنظر ببلادة الى سقف الغرفة اطارد الأفكار وأختار الكلمات وانضد العبارات, وفي نهاية ذلك تكتشف انك لم تصدق في كلمة واحدة مما كتبت, مقارنة بالذي تريد أن تقوله.. تبا تبا لهذه الكذبة (اللغة) التي أورثنا اياها مع بقية المتاع.. أليس صفير الريح أصدق عبارة من كل قواميس اللغة مجتمعة? وأليس اهتزاز سقف من صفيح أبلغ اجابة من كل أدبيات هذه اللغة, لنداء الريح.
أحاول جاهدا أن أتخفف من الشياطين التي تقرفص فوق رأسي, وأن اعتاد الثرثرة في كل شيء.. أعود تائبا الى المجتمع بأدبياته اليومية, من غي كنت فيه, أن أسالم الجميع في القاسم المشترك الذي يجمعهم.. ما أصعب أن تعيش وحيدا خارج القطيع!!
لكل مرحلة عمرية أسئلتها الملحة فكلما خطا بك العمر تكون في مواجهة سؤال ملح يبقى يتردد في الذهن بالحاح وقلق ليس من سبيل الى مدافعته والهروب منه أو اهماله وصم الآذان عنه هذا السؤال, وفي مرحلتي العمرية الحالية بات يتردد في ذهني سؤال مهم وخطير في نفس الوقت, هو هل انتهيت, بعبارة أخرى هل هذا هو أقصى ما يبلغه مشواري في الحياة?
تحرك الى الامام لا تتصالب هكذا أيها الحمار, الطريق لن تفسح لك مكانا في المرتقى الى الذروة وأنت على ما أنت عليه من كسل وتخاذل, تقدم أيها البغل خطوة, بالكاد خطوة.
لعله لم يتعود رأسك الصلب البليد على دوار المرتفعات, ليس في عينيك الغبيتين أثر ألق الذرى, ما بال فرائصك ترتعد على المرتفعات ولا تقوى على الصمود في الطريق الى حيث القمة.
ليس لك شموخ الأنف الذي يتنسم الهواء حرا في الأعالي, لقد تعودت أن أوبخ نفسي بقسوة جلدا على تهاونها ولا مبالاتها.
لم أجد اجابة على هذا السؤال, لكنه يبقى يزلزلني برجعه الهادرة, فهو لم يطرح علي من الخارج لأصم اذني عنه متهربا من التفكير في الاجابة عليه, لكنه ينطلق هذا السؤال ويقرع بعنف من الداخل.
ماذا يهم كيف تبدو حياتي بعد سنين?.. أني غير مكترث لذلك أقولها بملء فمي, فكما يبدو من مسار حياتي المتعرج والملتوي كالحلزون, أن قانونها الفوضى ومهما حاولت التنصل من هذه الصديقة الوفية الفوضى, بإتباع نهج واع أقدر عليه مسار خطواتي حرنت هذه الحياة كتلكؤ البغال على المنحدرات, وتستطيب حياتي أن تضرب هكذا على غير هدى ولعل ما يؤلمني في الأمر برمته هو أني ما زلت أخبئ الأمل في داخلي لإعادة هذه الحياة الى رشدها, برغم كل الفشل الذريع في كل مرة.
وأهمية ما أبذله من محاولات جاهدة للاستزادة من المعارف لا أكاد اتبينها, ولا حتى أجد لها داعيا من الاساس في حياتي, فهذه المحاولات لا تنطلق ضمن هدف معين تتساوق باتجاهه خطوات حياتي, وكأن الأمر برمته مقدر بالاتجاه في خضم تيار جهة الامام, الامام عندما لا يكون في قانون حركية التيار في المتناول وجهة خلفية لاعادة الحسابات على أرصفتها وللتيار الحق أن ينطلق بنا باتجاه المجهول ما دمنا أسيرين خضمه.
فما كنت أضعه من استنتاجات حول بعض الأمور التي حدثت في حياتي, تجزم بكل النسب انها تتطور ضمن نتائجها السببية البحتة الى حاصل ايجابي لاشك فيه, لكن ما تتكشف عنه الأمور في النهاية بتراجيدية ولا معقولية يجعلني أؤمن انني رهن صدفة عمياء تقودني الى عماء ماحق من الصدف المتوالية, والهلوسة في أمر صدف حدثت وستحدث, وتخيلات وأحلام يقظة الى ان أطرق برأسي الذي يغدو خاليا حينها من لحظة واعية يبني عليها فعل واع , بوابة الجنون.
وقد لن يحدث الجنون بالمرة طالما أن وقع حياتي الرتيب والسائر هكذا كماعون منقلب على وجهه غارق الى النصف في جدول, لا يخضع للاستنتاجات أو التوقعات… فماذا سيحدث?
أني املك كل الأسباب للسقوط والتهالك والاندثار ولا أملك أدنى سبب لأقول لطفل صباح غد في هذا العالم بأسره, صباح الخير.. رغم ذلك ما زال خيط يشدني إلى الحياة.. لا أعرف كنهه.. تبا تبا لم ينقطع?
في أي من الأوقات لم اجدني أقبل على الحياة, كنت كأنني متفرج من الخارج على ما يدور وما يحدث, ولم أملك حماسة المشاركة والانغماس في تفاصيلها وظني ان هذا سيكون صفة عضويتي في الحياة وما ستعنيه بالنسبة لي طوال ما يستغرقه عمري وهو عمر طويل بالقياس بحيوات أنواع كثيرة من الطيور والحشرات والزهور اكثر جدوى لتجدد الحياة وتواصلها, عمر طويل لا احتمل تلكنه الآسن.
ربي لماذا أسرفت علي بهذا العمر بالقدر الذي لا احتمله.. ربي إني لا أشك في حكمتك, لكن ماذا لو وزعت نصف عمري على دزينة من الشتلات وخلايا النحل لأينع وأخضر بستانك اكثر حينها.
لماذا لا استيقظ غدا لأتنصل من كل شيء ومن أي دور لي في فصول هذه المسرحية الاجتماعية الممثلة بإتقان رتيب وجاهز وكاذب ومنافق زاعقا في وجه أمي بأنعت الأوصاف, وتعريفها بأنها ليست سوى سبب حيواني تناسلي بالنسبة لي, معطيا الحق لنفسي بالقيام بفعلة شائنة على مدخل المؤسسة التي أعمل بها, تثلم أوثان أعرافهم ومسلماتهم التي يعبدونها.
لا يشغلني أي كان الفعل الذي سآتيه أثناء ذلك عن التفكير في مقدسات جديدة للكفر بها, ومسلمات لأقذفها بالروث, لكن لاتجنب هذا العناء كله لماذا لا أحمل حقيبتي وأمضي.
هدوء بمقدار ارتطام نيزك بجبهتي دون رضوض تذكر
هدوء هذا الصباح
هدوء مشوب بالحذر
من قدر ما زال في الخفاء يمهد لولائم مترعة بالمصائب والكوارث في العطفة التالية من الطريق.
مجسدا فينا بفرح طفل بدأ للتو لعبته المحببة الى قلبه, سياسة الأرض المحروقة هذا القدر.
بالنظر الى مسار الطفولة والصبا لذلك الطفل, الانطوائي والخجول في نفس الوقت تحت حزم صارم للتنشئة من قبل أب متشكك ومرتاب الى أقصى مدى فيما يخص تجسيد نموذج للرجولة لا سبيل الى أن يداخله نقص او فتور هذا النموذج.
نموذج رجولة كان يعشش في رأسه الأشيب, صورة طبق الأصل لرجولات أسلاف واجداد قساة حيث صنعتهم الطبيعة الوعرة والقاسية لمنطقة السكن الجبلية (المستقر لقرون خلت لهؤلاء الاسلاف والاجداد), وكانت الحروب الأهلية الضاربة, الخلفية الدرامية أو فلنقل الميليودرامية لهذه الرجولة الفادحة بتضحياتها, وأخ أكبر كان بمثابة المخلص الأمين في الحفاظ على أمجاد هذه الرجولة ونموذجها العتيد المتمثلة فيما يروى من أمجاد وبطولات وشي ت وطعم ت بها سيرة الاسلاف والاجداد هؤلاء, سمعها هذا الأخ الأكبر وتربى عليها طوال طفولته واستنبطها في لاوعيه فجاء نسخة أصلية من الأب في الحرص على صون صورة الرجولة هذه وعبادتها وتقديسها وصب كل طفل يولد للاسرة قالب أصم من نموذجها المقدس.
أقول بالنظر الى مسار الطفولة والصبا لذلك الطفل الانطوائي والخجول ومع التصاعد في التطور والتأزم الذي يشهده مسار هذه الطفولة, تأتي الانعطافة الموترة للأحداث وتبلبلها واهتزاز الثوابت التي كانت تتحكم في البنية الدرامية للمسار, فيما سبق.
كانت هذه الانعطافة التي لها أهميتها الكبيرة في تشكل حياة الاسرة بشكل عام وتشكل الطفولة لدى ذلك الطفل بشكل خاص, على وجهة أخرى تتمثل في انتقال السكنى من المستقر الاول ومحيطه الجبلي للاستقرار بجانب الساحل, وهو انتقال من كيان اجتماعي له قيمه الراسخة رسوخ الجبال التي تحيط بالمنطقة من كل جهة, والمحافظ في اطار بنية قبلية عشائرية لها نظامها الداخلي الخاص في التعاطي مع الامور, الى مجتمع آخر يتميز في تركيبته بالتنوع في السكان نظرا الى انه مجتمع ساحلي وكونه يشكل منطقة جذب للهجرة اليه, وتميزه هذا المجتمع الجديد بالمرونة والميوعة أيضا في استقباله لمتغيرات العصر وتكيفه وتعاطيه معها في فجر للتغير والنقلة الاجتماعية والاقتصادية كان ينبثق حينها.
لم تكن هذه الانعطافة التي حدثت بالانتقال من المكان الاول الى المستقر الجديد الا لتزيد حارسي نموذج تلك الرجولة المجيدة (الأب والابن) استشراسا, في الزام جميع أفراد الأسرة بهذا الفهم الاحادي الاوحد, فكانت شراسة تمتد عميقا لتنال من وداعة الطفل وتبديد هناءتها, بالاوامر والنواهي والتحذير والتخويف المبالغ فيهم
أحمد الرحبي قاص من سلطنة عمان