معايير شكلية فجة وظالمة، بل مشينة، إن جاز التعبير، تم التعارف عليها، وتكريسها من خلال الأدبيات الملوكية، ووفقا لها كان يتم اختيار الندماء الذي ينادمون السادة وأصحاب السلطان منادمة التسلية والمتعة والمراءاة، بل مخايلة النرجسية السلطوية الزائفة، قبل أي شيء آخر.
معايير شكلية فجة، ظالمة ومشينة :
يقول التوحيدي :
«وحصل الأمر على أن يقال : فلان خفيف الروح، وفلان حسن الوجه، وفلان ظريف الجملة، حلو الشمائل، ظاهر الكيس، قوى الدست في الشطرنج وحسن اللعب في النرد، جيد في الاستخراج، مدبر للأموال، بذول للجهد، معروف بالاستقصاء لا يغضي عن دانق، ولا يتغافل عن قيراط، إلى غير ذلك مما يأنف العالِم من تكثيره، والكاتب من تسطيره. وهذه كلها كنايات عن الظلم والتجديف، والخساسة والجهل وقلة الدين وحب الفساد، وليس فيها شيء مما قدمنا وصفه عن القوم الذين اجتهدوا أن يكونوا خلفاء الله على عباد الله بالرأفة والرقة والرحمة والاصطناع والعدل والمعروف» (1). الامتاع ص 18
ومما يثير الانتباه في هذه المعايير الشكلية البحتة ذلك الطابع اللاهي والذي يكاد يومئ من طرف خفي لسلطة طفولية الهوى بصورة أو بأخرى، ناهيك عن تلك المعايير المتعلقة باستخراج الأموال وتدبيرها وبذل الجهد في الاستقصاء والكشف عن مصادرها. وبعيداً عن كون هذه المعايير تشير إلى هؤلاء الذين تستخدمهم السلطة كأدوات وكأيد طويلة قذرة للحصول على الأموال قسرا من الرعية، خاصة الأثرياء، والقيام بالمصادرات وجباية الضرائب، بوسائل عنيفة وقاسية كما هو متعارف عليه في ذلك الزمان. غير أن ما يعنينا هنا على وجه الخصوص، هو انقلاب الأدوار، فالسلطة التي ينبغي أن تصبح كريمة ومتفضلة مانحة العطايا لرعاياها، تغدو في هذا السياق سلطة خسيسة تسرق رعاياها وتعتدي على ممتلكاتهم وتغتصب حقوقهم ظلما وبغيا، ناهيك عن حرمانهم من عطاياها!! وهو ما يسلب السلطة مشروعيتها وهيمنتها ذات الطابع الأبوى؛ حيث الرأفة والرقة والرحمة والعدل ناهيك عن نماذج السخاء السلطوى المتعارف عليها، وجوائز الملوك لبطانتهم ، وصلاتهم إياهم بما يناسبهم ، فيكسب الملوك ليس ولاءهم المادي فحسب، بل المعنوي في المقام الأول.
ولم تكن هذه المعايير حكرا على زمان التوحيدي، بل لعلها انسربت إلى الثقافة الإسلامية من الفرس، وآداب ملوكهم، فها هو الجاحظ في التاج، يقول :
«ينبغى أن يكون نديم الملك معتدل الطبيعة، سليم الجوارح والأخلاق، لا الصفراء تقلقه وتكثر حركته، ولا الرطوبة والبلغم يقهره ويكثر بوله وبزقه وتثاؤبه، ولا السوداء تضجره وتطيل فكره وتفسد مزاجه … ويكون صحيح البنية، طيب المفاكهة والمحادثة، عالما بأيام الناس ومكارم أخلاقهم، وبالنادر من الشعر والسائر من المثل، متصرفا في كل فن، إن ذكر الآخرة ونعيم أهل الجنة … رغبه، وإن ذكر النار حذره، فزهده مرة، ورغبه أخرى … ولندماء الملك خلال يساوون فيها الملك … منها اللعب بالكرة، وطلب الصيد، ولعب الشطرنج … ومن حق الملاعب المشاحة والمكالبة والممانعة والأخذ من الحق بأقصى حدوده، غير أن ذلك لا يكون معه بذاء ولا كلام رفث ولا معارضة مما يزيل حق الملك … إلخ . وليس للرعية جرأة على الراعي» (2). التاج ص 73،72،71
ولعلنا نلاحظ كيف اكتسبت المعايير التي بدت لنا شكلية فجة منذ قليل، مشروعيتها النسبية والمنطقية في نص الجاحظ، على العكس من نص التوحيدي. هذا من ناحية، ومن ناحية ثانية، أضاف النص إلى هذه المعايير، معايير معرفية وقيمية وعقيدية، ناهيك عن المهارات الذكية المتعارف عليها في تلك العصور لمنادمة الملك، واللعب معه بالكرة والشطرنج، ومشاركته رياضة الصيد إلخ!! أي أن صورة النديم بهذا المعنى، تبدو مكتملة جامعة بين مؤانسة العين بالمظهر اللائق المريح، والروح والعقل بالمعارف والأخلاق وحسن التدين، وسرور القلب بالمهارات المتنوعة. وهذا كله لا يتحقق باكتماله إلا بالتزام حدود الأدب والحشمة والحياء واللياقة الجديرة بمجالسة الملوك، وعدم التطاول أو التجرؤ عليهم(1)!!
ومن اللافت حقا، أن يتبنى التوحيدي في بصائره صياغة شبيهة بصياغة الجاحظ حول معايير النديم، إذ يقول:
«قال نجاح للمتوكل لما دعاه لمنادمته : في خصال لا أصلح معها لمنادمة الخلفاء، قال : ما هي؟ قال : سلس في البول، وتنحنح إذا حدثت، ولا أقدر من الشراب على أكثر من رطلين فقال المتوكل : من حق صدقك علينا أن نسامح فيها، وقال آخر: أمتع الجلساء الذي إذا أعجبته عجب، وإذا فكهته طرب، وإذا أمسكت تحدث، وإذا فكرت لم يلمك» … جليس الملوك ينبغي أن يكون حافظا للسمر، صابرا على السهر. … ويروى عن سهل بن هارون أنه قال : ينبغي للنديم أن يكون كأنما خلق من قلب الملك، يتصرف بشهواته، ويتقلب بإرادته، إذا جد جد، وإذا هزل هزل، ولا يمل المعاشرة ولا يسأم المسامرة، إذا انتشى تحفظ، وإذا صحا تيقظ، يكون كاتما لسره، ناشرا لبره ويكون للملك دون العبد»(3) البصائر م/4، ص 156، 176، 177
ولعلنا نلاحظ مدى اختلاف هذه الرؤية مع سابقتها عند التوحيدي، وهو الاختلاف نفسه الذي بين رؤية الجاحظ، وبين رؤية التوحيدي النقدية اللاذعة، أو هذا ما يبدو للوهلة الأولى!! غير أننا لو تأملنا هذه النصوص تأملا هادئا، فربما نكتشف مساحات مضمرة لمراوغات غير متوقعة !! وعلينا أولا أن نطرح السؤال مجددا حول مدى اختلاف رؤية الجاحظ عن رؤية التوحيدي النقدية الثالبة؟ وربما كان الاختلاف ليس جذريا كما قد يتبدى لنا للوهلة الأولى، فرغم أن الجاحظ يمنح المعايير التي انتقدها التوحيدي ووصمها بالشكلية الفجة الظالمة بعضا من المصداقية والمشروعية المنطقية، فإن لائحا من تمرد ونقد ينطوي في النص!! ذلك أن الحديث عن القدرات المعرفية للنديم من زاوية، إلمامه بأيام الناس، ومكارم الأخلاق، وذكر الآخرة ما بين نعيم الجنة (الوعد والترغيب)، ونار الجحيم (الوعيد والترهيب)، إنما هو حديث عن مراوغة القمع ما بين الاعتبار والاتعاظ بأخبار السالفين من الممالك والملوك، والاستنفار القيمي في الدنيا والوعد والوعيد الأخروي.. إلخ!! إنها محاولة مضمرة لكبح جماح القمع، بل إمكانية ترويضه والسيطرة عليه عبر خطاب إنعاش الذاكرة القيمية دنيويا ودينيا، ولعله خطاب إيقاظ هواجس الذات السلطوية المؤرقة، ومخاوفها الكامنة حول أعز ما تملك، فقد سلطتها وعزها، كما حدث للملوك السابقين الذين دالت دولتهم نتاج فقدهم لمكارم الأخلاق، وظلمهم للرعية، وطغيانهم وبغيهم !! وربما كان الحديث عن مساواة الندماء لملوكهم فيما يتعلق بالمهارات المتنوعة حديثا عن مساحات للمساواة الإنسانية الممكنة بين الرعية والراعي، خاصة أنها مهارات يعتمد نجاحها وتوهجها على المنافسة الحقيقية، والتوتر الفعلي بين الكسب والخسارة، وانتفاء هذه الصفات عنها تفسد متعتها الحقيقية !! وقد يكون المضمر هنا هو الإشارة للتساوي الإنساني العميق والحقيقي بين الراعي والرعية، وها هو التوحيدي في الهوامل يسأل مسكويه سؤالا مثيرا للانتباه، في هذا الصدد، إذ يقول «قال المأمون (الخليفة العباسي العظيم) : إني لأعجب من أمري : أدبر آفاق الأرض، وأعجز عن رقعة شطرنج، وهذا معنى شائع في الناس، فما السبب فيه ؟» (4) الهوامل ص 272/273
وهكذا يوضع المأمون في سياق الناس، أو لنقل فضاءات النقص الإنساني الذي لا يخلو منه إنسان ما كان، راع أو رعية، سلطان عظيم أو عبد من العامة، فلكل مخلوق نقطة ضعف أو عجز ما حتى أعظم ملوك الأرض لا يملك إزائها إلا الحيرة وعدم الفهم، وهو نقص إدراكي يطول بدوره كل البشر !! ويرد مسكويه على التوحيدي ردا أخطر دلالة في هذا السياق؛ إذ يقول: «إن الصناعات لا يكتفي فيها بالعلم المتقدم، والمعرفة السابقة بها حتى يضاف إلى ذلك العمل الدائم، والارتياض الكثير، وإلا لم يكن الإنسان ماهرا. والصانع هو الماهر بصناعته. ومثال ذلك الكتابة والخياطة والبناء، وبالجملة كل صناعة مهنية كقيادة الجيش، ولقاء الأقران في الحروب ليس تكفي فيها الشجاعة، ولا العلم بكيفيتها حتى يحصل فيها الارتياض والتدرب فحينئذ تصير صناعة!!»(5) الهوامل ص272/273
ولعلنا نلاحظ أن الرد لا يكتفي بمحض الحديث عن نزعة للمساواة الإنسانية من حيث النقص، بل إنه يشير إلى الاحتياج المتبادل بين البشر وبعضهم البعض؛ لإقامة الحياة والتعاون الإنساني الاجتماعي، وهو ما يجعل صاحب السلطان مفتقر إلى رعيته ليمنحوه لا احتياجاته الأساسية فحسب، بل صيغة المجتمع، ومن ثم مشروعية ممارسة السلطة وحضورها الفعلي عبر مرايا هذا المجتمع من الرعية المتعاونين المكملين بعضهم البعض!! وربما كان استدعاء مسكويه لهذه المهن خاصة (الكتابة/ الخياط/البناء/ قيادة الجيش) ليس استدعاءً اعتباطيا بقدر ما هو إيماءة لافتة لاحتياجات السلطة الأولية التي لا يمكن أن تقوم لها قائمة أو تستقر دعائمها بدونها!! فلسنا في حاجة إلى توضيح أهمية الكتاب الوزراء أصحاب دواوين الإنشاء، ولا الجند وقواد الجيوش في هذا السياق الوسيط، كما هو معروف، أما الخياطة والبناء فإنما يستخدمان هنا بوصفهما رمزا لمعنى الحضارة المدينية، وهي مهن لا غنى لأي مجتمع أو سلطة عنها، وهذا بالطبع لا ينفي أهمية المهن والصناعات الأخرى التي تستدعي من الغياب عبر مرايا هذه المهن الحاضرة في صدارة النص!! بعبارة أخرى، فإن استدعاء هذه المهن هو مجرد ذريعة لاستدعاء كافة دعائم الملك الذي لا وجود له، ولا مشروعية لحضوره دونها، وإلا فكيف يمارس سطوته، ومن خلال من، وعلى من؟! ويشير رد مسكويه كذلك إلى مساحات التشابه الإنساني في كيفية كسب المهارات المتنوعة، ماديا ومعنويا، بين صاحب السلطان والرعية!! إن هذه الإشارة لا تخلق مساحات المساواة والتشابه فحسب، بل مساحات المشاركة الفعلية بين السلطة ورعاياها، وإمكانات التفاوت في المهارة والحذق، ناهيك عن تحقق نوع من التنافس والتبادل الجدلي الفعلي ما بين المكسب والخسارة، وهي مسألة خطيرة الدلالة في هذه السياقات التي قد تبدو ساذجة وبسيطة !! ذلك أن مسألة تعرض صاحب السلطة للمنافسة الندية، بل لإمكانية الخسارة، والتنازل عن مكانة الصدارة في التراتب ليس مقبولًا تماما في هذه السياقات، إلا من قبيل صياغة صورة وهمية لسلطة تقبل المنافسة الشريفة والعادلة في هذا المضمار وحده !! غير أن الحديث عن إتقان الصناعة، والمرتبط بالعمل والجهد الدؤوب، والتمرن والتدرب والارتياض الكثير، إنما هو حديث عن استحالة اتقان السلطة لهذه الصناعات أو المهارات لعدم توافر الوقت والمساحة المطلوبة لكى يتفرغ صاحب السلطان فيتدرب ويتمرن ويتقن الصناعة !! أو يمكننا القول : إن اتقان السلطان لهذه الصناعات، قد يتعارض مع إتقان صناعة السلطة ذاتها وفقا لتصور مثالي للسؤدد لا يكاد يمنح السيد مساحة للهو واللعب، بقدر ما يحمله ثقل المسؤولية وعبأها ليلا ونهارا، ناهيك عن العديد من التقييدات الأخلاقية التي تؤطر نموذج السيادة، بل تحاصره. ولعل هذا الحديث عن افتقار السلطة لمهارات الرعية، حتى هذه المهارات الثانوية في فضاءات التسلية واللهو، ناهيك عن عدم قدرتها المطلقة على إتقان هذه المهارات الأساسية أو الثانوية، يفت في عضد مخايلات القداسة حول السلطة الأبوية ذات السمت الإلهي، لكنها في الوقت نفسه تؤكد مدى جدية الوضع السلطوي، وقسوة المسؤولية الصارمة، وتكرس لبعض من تعالي أصحاب السلطان عن توافه الأمور، ولهو الدنيا ولعبها وكأنها تعرض الأنماط السلطوية القائمة!!
ومن المثير للانتباه في هذا السياق، ما سبق أن أورده عبد الحميد الكاتب في رسائله في العصر الأموي، وخاصة رسالة كتبها عن الخليفة؛ إذ ينهي عن لعب الشطرنج، بل يتهدد المخترقين لهذا الحظر بالويل والثبور وعظائم الأمور، ويعلل الكاتب هذا الحظر بكون الرسول (ص) نهي عن لعب الشطرنج، ناهيك عن أنه يلهي المؤمن عن الصلوات، والعمل المثابر الجاد(6). ويخبرنا الباحث رضوان السيد أنه لم يرد نهي نبوي في مسألة الشطرنج، بل في تحريم النرد، ناهيك عن أن الصحابة والتابعين لم يكونوا متفقين في الحكم على الشطرنج، وإنما كان منهم من يجيد اللعبة إلى حد المهارة والحذق!! (7) ويتساءل الباحث عن السبب الذي دعى عبدالحميد لاتخاذ هذا الموقف، ويقول «ليس بالمستطاع تبين الأسباب الداعية لذلك يقينا، لكن ربما كانت هذه اللعبة النبيلة تجمع حولها أشراف القوم بالحجاز إبان استعار الثورات على مروان بن محمد، آخر خلفاء بني أمية، فيتبادلون الأحاديث، ويتمنون الأمانى بشأن مصائر الدولة الأموية !! (8) ناهيك عن صورة الخليفة المسلم نفسها، والصفات الدينية والأخلاقية والعملية التي ينبغي أن يتسم بها لكي يتحقق بدوره كخليفة لله على الأرض، تعد طاعته من طاعة الله، وعصيانه عصيانا للأمر الإلهي نفسه». (9)
وتلفتنا هذه المسألة إلى مفارقة لافتة حول درجة التسامح مع ممارسات الملوك، من قبل النخب والعامة، وتفاوتها الجلى بين عصور الانهيار والتدهور، وعصور القوة والازدهار !! حينئذ قد نتساءل حول ما إذا كان عبد الحميد الكاتب يعيش في عصر المأمون العباسي أو خلفاء بني العباس الأقوياء، لا في عصر مروان بن محمد خليفة النهايات، وسقوط الدولة، هل كان سيورد مثل هذا النهي الصارم عن لعبة الشطرنج، أم لا ؟! وبالطبع، فلا يهمنا هنا ممارسة الخليفة وندمائه لعبة الشطرنج أو غيرها، لكن ما يعنينا هو الدلالة المضمرة وراء النهي من عدمه، وهو ما يقودنا إلى إشكالية هامة تمثل إحدى مرتكزات هذا البحث، هي كيف يمكننا قراءة المتن التاريخي والاجتماعي والسياسي. عبر مرايا ظواهر تكاد من هامشيتها وقلة أهميتها أن تسقط من مجالات الاهتمام، بل أن لا تكون جديرة به أصلا !!
على أية حال، ووفقا لما سبق، فلا أظن أن هناك اختلافا جذريا بين نقد التوحيدي المباشر لمعايير الندماء الشكلية ذي الطابع السلبي الهدام، من ناحية، وبين نقد الجاحظ لهذه المعايير، ولكن من زاوية إيجابية بناءة تسعى لإعادة صياغة أكثر إنسانية ومساواة وفاعلية لعلاقة الندماء بالسلطة، بل لا أظنني أتجاوز إذا قلت إن الصيغة تنطوي على ممارسة تربوية يقوم بها النديم العارف الذكي، الممتلك لعلوم الأولين والحافظ للأشعار والأمثال والنوادر، والمتصرف في كل فن، والعالم بمكارم الأخلاق ونعيم الجنة، ورهبة الجحيم الأخروى، والمتقن للصناعات والمهارات، والمتأدب بآداب مجالسة الملوك، إن هذه الصفات جميعها تفوق صفات صاحب السلطان، ناهيك عن كونها تلبي احتياجاته وتمنحه سطوته وحضوره، وتجلي بهاءه وعظمته، وتعيد تربيته وصقل معارفه وإدراكاته ومهاراته عبر منافسة الند العقلي، ومؤانسته وإمتاعه !! وكأن النص وهو يعرض مهارات النديم المثالي، يجلي عبر مراياه ما ينبغي أن تكون عليه السلطة المستحقة والجديرة بهذا النديم بالقدر نفسه !! ولعلنا نلاحظ أن هذا هو بالضبط ما نص عليه التوحيدي في نهاية نصه النقضي حول خلفاء الله والصفات التي ينبغي أن يكونوا عليها، والتي تتناقض فعليا مع واقع الحال الذي يصدر لنا خلفاء وحكام ووزراء يختارون ندمائهم على شاكلتهم ولا ينطوون على قيمة إنسانية حقيقية بقدر ما يكشفون عن معايير شكلية زائفة!! (10) البصائر م/2 ص724
ولعل التوحيدي حين استدعى المتوكل، آخر خلفاء الزمن الجميل مصورا إياه يدعو نجاحا لمنادمته، ونجاح يتدلل على الخليفة، ويتمنع متذرعا بخصال فيه لا تجعله صالحا لمنادمة الخلفاء، فيرد الخليفة انه سيتسامح مع نقائصه لصدقه وشفافيته في حديثه معه، إنما يلفتنا إلى نمط من العلاقة بين السلطة وندمائها ينطوي على قدر من التبادل الإنساني اللطيف والتبسط وبراح المساحة إذ يطلب صاحب السلطان ندامة أحد رعيته، فيكون له الحق في الرفض أو القبول حيث أن صيغة الطلب أو الدعوة تتضمن إمكانية الإختيار من القمع المتواري الذي تمت صياغته في دعوة لطيفة للمنادمة، لكنها دعوة الخليفة المتوكل العباسي!! ان هذه الدعوة العزيزة التي لا يليق، ولا ينبغي، بل لا يجوز أن ترد سيناقشها نجاح مع الخليفة مبديا رفضه المتحررْ، وكأنه لا يضاف عقوبة أو يخشى استفزاز غضب الخيلاء السلطوي، والسطوة المتعالية للخليفة المتوكل.
إن أسباب الرفض التي صاغها نجاح إزاء دعوة الخليفة إياه لمنادمته هي نفسها ذرائع الحماية من غضب الخليفة لأنها تصاغ من منظور الأدني في التراتب، والذي يقلل من شأن ذاته، ويكشف عن قبيح صفاته، ويبرز كونه لايستحق جدارة منادمة الخليفة، فهو يضن بالخليفة وشرف منادمته على نفسه قليلة القدر، وليس العكس. ولا يخلو الأمر من مخايلة ما يراوغ عبرها نجاح الخليفة المتوكل فيذكي لديه ذلك السحر الإغوائي الجميل للرفض والتأبي، ناهيك عن خلق مساحة مضمرة لصياغة شروط النديم مقابل دعوة الخليفة ذات النبرة القمعية المراوغة بدورها. ومن اللافت للإنتباه حقا، أن تتسم هذه الشروط بطابع منفر وقسري لا يملك صاحبها، ولا الخليفة ذاته تغييرها، ولا سبيل أمامه إلا قبولها!! ورغم أن هذه الشروط تشكل عائقا مزعجا من الناحية الواقعية كما أوضح لنا نص الجاحظ سالف الذكر، إلا أن قبول المتوكل لها وتسامحه معها إنما يكشف عن نموذج سلطوى إنساني رفيق، ولا ندرى أهو قول الصدق حقا الذي أثمر مكرمة تسامح المتوكل أم انه ذكاء المداهنة، وسحر التأبي الجميل، أم هي الرغبة السلطوية المولعة بصياغة صورة المثال الرفيق العادل الوهمية؟!
أيا كان الحال بين الخليفة ونجاح، فلا ينبغي أن نتجاهل مخايلات الراوي حول الزمن العباسي الجميل، وأوهام الخين لعلاقة راقية بين النديم والسلطة يرغب التوحيدي في تصويرها، وايقاعها في وهم قارئه متمنيا وحالما بتلك العلاقة البرحة اللطيفة بينه وبين أصحاب السلطان في عصره، خاصة انه ما دُعي قط دعوة عزيزة، أو خير ما بين الرفض والقبول، ولو ظاهريا، بل كان دوما مضطرا لقبول ما يلقى إليه، دافعا ثمنه من كرامته وكبريائه، كما كان يستجدي التواجد، فيرفض ويستبعد بطرق قاسية وصلفة!!
ومما يروى من طرائف في هذا الصدد أن ابن درستيه اللغوى النحوي، روي أنه قيل للمبرد (اللغوي النحوي): أكنت أنت وأحمد بن يحيى جميعا مع محمد بن عبد الله بن طاهر؟ قال : نعم كنت معه جليسا ونديما، وكان معي معلما ومؤدبا!! ولعلنا نلاحظ مفارقة أو لعبة القلب المرواغة هنا بين المثقف (المبرد)، وصاحب السلطان ابن طاهر الذي غدى معلما ومؤدبا لجليسه ونديمه المبرد العالم اللغوي النحوي!!(11)البصائر م/2 ص–
وحين ننتقل إلى نص التوحيدي الثاني حول معايير النديم المثالي، والذي يبدو أقرب لنص الجاحظ، وأكثر تشابها معه من النص النقضي، قد نكتشف مفارقة ما!! فمن ناحية، حين يحدثنا التوحيدي عن أمتع الجلساء بشكل عام، فإنه يحدثنا عن جليس متفاعل بلطف وذكاء ورهافة مع جليسه، فهو يندهش ويعجب إذا روى جليسه ما يعجب، وهو يطرب للفكاهة إذا ما تفكه جليسه، وإذا سكت الجليس تحدث يسليه ويمتعه، وإذا غرق الجليس في فكر أو تأمل احترم هذا، ولم يعذل أو يلم .. إلخ!! وبالطبع، فهو يحدثنا هنا عن مساحات وإمكانات التفاعل الإنساني اللطيفة المتبادلة بين الجلساء المتساوين في جلسة حميمة يتبادلان الإمتاع والمؤانسة، ويسعيان للتواصل الحقيقي الذي يلبي ويحقق لكل توقعاته الوجدانية والعقلية من جليسه، والتي تدفعه لمجالسته دون غيره، فكل منهما مرآة عاكسة وكاشفة لجليسه !! فهذا هو الجليس الحق الذي يلتقط ما تريد وهو لم يزل محض فكرة داخلك لم تتلفظ بها بعد، ويتفاعل بصدق وعفوية مع جليسه، ناهيك عن براحات الحرية المتبادلة بين الجليسين الذي يحترم كل منهما لحظة احتياج جليسه للتأمل أو التفكير أو ميله للسكوت، وافتقاره لمادة الحديث، فيبتكر حديثه عبر فضاء سكوته، ويمنحه حرية التأمل والفكر في الوقت نفسه، وهو ما يعني القبول الضمني بإمكانية ليس انشغال الجليس عن جليسه بفكرته، فحسب، بل حضور الجليس الصامت المهموم بفكرته أو ما يؤرقه، وهو ما يعني ظاهريا انتفاء حالة المجالسة بما هي مؤانسة متبادلة !! وهنا يكمن سر الحميمية بين الجليسين، والذي يحقق مفهوم الجلسة الحقة حتى لا يمنع صمت أحد الطرفين، بل انشغاله الذهني بفكرة ما إمكانات التواصل الحقيقي في فضاء برح حر ندي، بل لعله ينطوي على مشاركة الهم والمواساة دون صخب أو ثرثرة أو مبالغات لفظية أو وجدانية، بل باحترام الانشغال، والائتناس بصمت الجليس وانصرافه كما بحديثه واهتمامه !! إنه الحضور اللطيف الذي لا يشكل أي عبء أو ثقل من قبل الجليس على جليسه !! لا مطالبات، ولا واجبات، ولا مخاوف، ولا مشاعر ذنب أو إدانة إلخ، لكنها توقعات الائتناس الحميم !! وبالطبع، يلح التوحيدي داخل هذا السياق على حقوق الجليس؛ إذ ينبغي أن يرحب به، ويوسع له، وإذا حدث يقبل سامعه عليه… إلخ (12)!! وهي حقوق مضمنة، حاضرة رغم غيابها في نص أمتع الجلساء سالف الذكر، لكنه التأكيد من قبل الغريب التوحيدي الذي إذا أقبل لم يوسع له، وإذا عرض لم يسأل عنه، وإذا عطس لم يشمت، وإن مرض لم يتفقد، وهذا بعد فقد الخلان، ومعاناة وحشة الغربة القاسية!! (13)
أما حين يتحدث عن أصحاب السلطان، فهو يتحدث عن الندماء جلساء الملوك، وصفاتهم المثالية !! ومما يثير الانتباه في هذا الطرح أن الخطاب لا يخلو، بل هو سلب جلي لذات النديم، وحضوره الإنساني الراقي الفعال؛ إذ يغدو محض مرآة عاكسة سلبيا لاحتياجات صاحب السلطان، وكأنه يتسقط لفتاته وانطباعاته، بل ما يلوح في عينيه، أو يومئ إليه، أو يلمح به!! إن النديم المثالي هو المنتبه بكليته لأي شاردة أو واردة تطرأ من صاحب السلطان إذ ينبغي عليه أن يحقق توقعاته منه أيا كانت كي ما يستحق شرف الجلوس بين يديه، ومنحة الجود السلطوي ومنته الكريمة عليه !! وينجلي عبر صفات النديم المثالي الطابع السلبي السلعي، إن صح التعبير، له في سوق العرض والطلب حيث يتسرب إلى ذهن المتلقى نبرة الاستجداء وابتذال الحضور في شكل من أشكال عرض الذات للمهارات المتنوعة وقدراتها على مجاراة صاحب الملك في سهره وسمره واحتسائه الخمر، وإمتاعه بالأحاديث النادرة الفكهة…إلخ!! بل إنه ينبغى أن يكون، وكأنه خلق على غرار إرادة الملك وشهواته وأهوائه لا يكاد يملك إزاءها إرادة مناوئة أو إمكانية اختلاف ولو طفيف أو لائح من ملل أو سأم !! ناهيك عن ضرورة تنبهه الدائم وتذكره المستمر لطبيعة الحدود الفاصلة بينه وبين الملك، فإذا بالغ الملك في انتشائه وتبسطه، تحفظ النديم، وأخذ حذره، وإذا كان يقظا صاحيا يتيقظ النديم وينتبه، وإذا قال سرا في لحظة تبسط وانتشاء، كتمه، ولم يبح له، وإذا جاد وبر ومنح نشر عنه ذلك بين الرعية ولهج بذكره، فيكون له دون العبد في الطاعة والخضوع والموافقة !! ويا لها من مفارقة في الوصف بين هذه المرتبة دون العبودية، وكون النديم (كأنما خلق من قلب الملك) !! غير أن القلب هو فضاء الأهواء والشهوات، فلعلها سيطرة النفس الناطقة العاقلة الملكية على حضورها الشهوي الجموح، وحيث يغدو الندماء أدوات ووسائط لتحقيق متع صاحب السلطان، ولكن تحت سيطرته، ورهن إرادته المتحكمة !! وبالطبع، لا تخلو هذه المعايير من هواجس الحذر والخوف والترصد، والرغبة والرهبة الكامنة في علاقة النديم المسلي الممتع بصاحب الملك والسطوة والجبروت !! يروي التوحيدي في بصائره، ما يلي :-
«ذكر أعرابي الملوك، فقال : أقرب ما يكون إليهم أخوف ما يكون منهم، شاهد يظهر حبك، وغايب يبتغى غيرك»… . ثم يروي ما قاله بعض القدماء : إن كنت حافظا للسلطان في ولايتك، حذرا منه عند تقريبه … تعلمه وكأنه تتعلم منه، تؤدبه وكأنه يؤدبك، بصيرا بهواه، مؤثرا لمنفعته، ذليلا إن ضامك، قانعا إن حرمك، وإلا فابعد منه كل البعد»(14). البصائر
ويا لها من طبائع الاستبداد تلك التي أملت على هؤلاء أقوالهم وتصوراتهم حول القرب من الحاكم، لقد عانى أهل العلم والمعرفة من وطأة ميراث سلطوي تسلطي لم يتمكنوا من التحرر منه إلا عبر إمكانات التقية والمرواغة والمخايلات المتنوعة من أجل التسلل الآمن إلى فضائه، وتحقيق شكل من أشكال التواجد، وربما بعض التأثير الممكن !! وليست المفارقة بين التوحيدي والجاحظ جذرية كيفية بقدر ما هي تنويعات على تيمة واحدة مشبعة بالتوتر العارم بين نقائضها التي هي نقائض المثقف نفسه في علاقته بذاته بالسلطة، وعلاقتها به!! بل يمكننا القول إن نص التوحيدي الذي يبدو وكأنه نص التنازلات الفادحة، إذا ما قورن بالنصوص السابقة لديه أو لدى أستاذه، انطوى بدوره على مساحات إعادة إنتاج القمع والتهديد من قبل المثقف والنديم (دون العبد) على الذات السلطوية، وخلق مساحة فاعلية حقة للمثقف أو للنديم !! فمن ناحية، يعتبر الحديث عن إمكانية اطلاع النديم على سر الملك في لحظات التبسط والانتشاء، وضرورة كتمه لهذا السر، وعدم البوح به، احد تجليات هذا التهديد المضمر من قبل هؤلاء الندماء للملوك!! وبالطبع، قد ينعكس هذا التهديد على الندماء أنفسهم؛ لأنه ليس أخطر من إذاعة أسرار الملوك، فإذا باح لك الملك بسره، فقد ورطك في مساحات الخطر والمجازفة التي قد تفضي إلى الموت المحقق، حتى لو لم يخش إذاعة السر، بل لمجرد معرفته والاطلاع عليه، وهو ما يعتبر اختراقا لمساحات المحظور السلطوي!!(15) ومن ناحية ثانية، فإن الحديث عن نشر بر السلطان بين الرعية، هو تجلٍ آخر لخطورة النديم، ودوره الدعائي في صناعة صورة السلطة وصياغة ملامحها المثالية لدى الرعية الخارجين عن فضاءاتها، وهذه مسألة لها أهميتها في مجتمعات السمعة، والصيت الذائع!! ولعل الجزء الأكثر غرابة وعجبا في هذه العلاقة التي تبدو سالبة لذات النديم سلبا مهينا، هو تلك الفاعلية المضمرة التي تجعل متعة السيد، صاحب الملك مرهونة باستجابات النديم الجسدية، والوجدانية، واكتماله الصحي، والعقلي، وقدرته على التلون والتجدد والسهر والسمر، وحسن التوقع ورهافة الوعي!! ومن المثير للانتباه في هذا السياق أن يكون النديم هو الذي يطلب إليه ألا يمل المعاشرة، ولا يسأم المسامرة !! ناهيك عن أن وصف النديم، وكأنما خلق من قلب الملك يتصرف بشهواته، ويتقلب بإرادته، هو وصف مخايل إذ ينطوي على درجة من درجات المناوئة المستترة، بل الجموح الذي قد يهدد سلطة الملك على قلبه المتقلب وشهواته المنفلتة!! ولعلها مرآة النديم التي يتم عبرها فعل الإسقاط الملكي، فتتطهر ذات الملك من الدنايا والانفلاتات الشهوية التي لا تتسق مع صورة المثال الملكي، لكنها تغدو ملتصقة بالندماء الذين هم دون العبيد بالنسبة لملوكهم مع الانتباه إلى كل ما تعنيه هذه الصفة (دون العبد) من سعى لافت لتجاوز مساحات التمرد الممكنة، والكامنة دوما في فضاء العلاقة الجدلية الإشكالية بين السيد والعبد!! ولعل الحديث الدائم حول عطاءات السلطة ومنحها التي ينبغي عليها إكرام ندمائها بها، وإسباغها عليهم، والذي لا يكف عنه صائغو نصائح الأمراء والندماء، وواضعو معاييرهم اللائقة، يعد بشكل ما أحد وسائل الضغط والابتزاز المراوغ لصاحب السلطة، والذي يطول توكيد الملك وتسديد أركانه، يقول الجاحظ:-
«من أخلاق الملك أن يخلع على من أدخل عليه سرورا، إما في خاصة نفسه، وإما في توكيد ملكه، فإن كان السرور لنفسه في نفسه، فمن حقه على الملك أن يخلع عليه خلعة في قرار داره، وبحضرة بطانته وخاصته. وإن كان في توكيد ملكه، فمن حقه أن يخلع عليه بحضرة العامة لينشر له بذلك الذكر، ويحسن به الأحدوثة، وتصلح عليه النيات، ويستدعي بذلك الرغبة إلى توكيد الملك وتسديد أركانه»(16).
وبالطبع تتسع الرؤية هنا لتطول كافة أشكال العطاء السلطوي لا للندماء فحسب، بل لخادمي الملك وحاشيته وقواده، ومن يوطدون دعائمه !!
ولعل صياغة التوحيدي الأولى ذات الطابع النقدي الثالب للمعايير الشكلية المجحفة، تكشف لنا عن فداحة التدهور الذي طال السلطة ومعاييرها وندمائها. وهو التدهور الذي يحدثنا الجاحظ متأسيًا بداياته منذ عصر يزيد بن عبد الملك الذي سوى بين الطبقة العليا والسفلى، وأفسد المراتب وغلب عليه اللهو واستخف بقوانين الملك، وأذن للندماء في الكلام والضحك والهزل في مجلسه والرد عليه، وهو أول من شتم في وجهه من الخلفاء على جهة الهزل والسخف. وبالطبع لم يكن آخرهم فقد اتسع الخرق تدريجيًا، رغم عصور القوة في الدولة العباسية؛ ليسلمنا إلى زمان التوحيدي بكل آفاته المزرية !!(17)
وها هو التوحيدي ويسأل مسكويه في الهوامل، قائلًا:
«ما الذي قام في نفس بعض الناس حتى صار ضحكة، أعني يضحك ويسخر منه ويعبث بقفاه، وهو في ذاك صابر محتسب، وربما خلا من النائل، وربما تزر النائل. فكيف هون عليه هذا الأمر القبيح؟ ولعله من بيت ظاهر الشرف، منيف المحل. وبمثل هذا المعنى يصير آخر مخنثا مغنيا لعابا إلى آخر ما اقتصه من حديث الرجل الذي نشأ على طريق مذمومة، وهو من بيت كبير(18) !!
وفي حين يؤمى السؤال التوحيدي من طرف خفي إلى ظاهرة ابتذال الندماء من كبار البيوتات والمثقفين أنفسهم وكرامتهم في مجالس السلطة، أو مجالس اللهو واللذة الفانية، فيما يقول إخوان الصفا، يرد مسكويه ردا أخلاقيا (ينطوى على نزعة طبيعية)، حيث يقول: إن لكل مزاج خلقا يتبعه، وفقا لعلم الفراسة، والنفس تصدر أفعالها بحسب تلك الطبيعة والمزاج، وأن الإنسان متى استرسل للطبيعة، وانقاد لهواه، ولم يستعمل القوة الموهوبة له في رفع ذلك، وتأديبه نفسه، كان في مسلاخ البهيمة !! وهذا الذي ذكرته هو أحد الأخلاق التابعة لمزاج خارج عن الاعتدال التي متى تُرك الإنسان وسوْم الطبيعة فيها جمحت فيه إلى أقبح مذهب وأسوأ طريقة، وحق على من بُلى بها أن يجتهد في مداواتها، ويُجتهد له فيها … إنه ممكن، ولولا إمكانه لما حس التقويم والتأديب عليه، ولا الحمد والذم، ولا السياسة من الآباء والملوك، وقوام المدن به. ومتى لم يستجب إنسان لمعالجة هذه الأدواء، كانت معالجته بالعقوبات المفروضة، واجبة فيه(19)!!
ولعلنا نلاحظ كيف تسعى الإجابة إلى توسيع دائرة السؤال، أو هذا ما يبدو للوهلة الأولى، رغبة في تجاوز مأزق الإدانة القاسية التي ينطوي عليها السؤال، والتي تطول مسكويه نفسه؛ حيث شارك في مجالس السلطة الليلية الماجنة في بلاط المهلبي وابن العميد، كما هو معروف!! غير أن الإجابة لا تخلو بدورها من قسوة وعنف، شأنها في هذا شأن السؤال، فبينما يرجع مسكويه المسألة برمتها إلى نوع من الحتمية الطبيعية المزاجية، فإنه يشدد على ضرورة تقويم الذات لذاتها وتأديبها نفسها، وإلا غدت كالبهائم !! وليست هذه الدعوى التربوية المتسقة مع تصورات مسكويه هي معيار القسوة والعنف رغم صيغتها المتشددة، لكنها تلك الدعوة المثيرة للانتباه حول سياسة الآباء والملوك، وقوام المدن، وضرورة تدخلهم العقابي إن لزم الأمر، ولم يستطع المرء تقويم مزاجه المنصرف !! بل إنه يقول متماديا :-
«وما أشبه الأمراض النفسية بالأمراض الجسمانية، فكما أن مرض الجسم متى لم يعالجه صاحبه بالاختيار والإيثار، وجب أن يعالج بالقهر والقسر، فكذلك مرض النفس إلى أن ينتهي إلى حال يقع معه اليأس من الصلاح، فحينئذ ينبغي أن يريح من نفسه، ويستراح منه، وتطهر الأرض منه على حسب ما تحكم الشريعة أو السياسة الفاضلة !!»(20).
وناهيك عن إدخال هذه الممارسات في دائرة الأمراض النفسية، وهي مبالغة انفعالية لاتخلو من طابع دفاعي ذاتي، وكأن الذات تدفع عن ذاتها أمام ذاتها، ربما قبل الآخر المحاور هذا الاتهام المشين !! وكذا قران هذه الحالات السلوكية المرضية بالأمراض الجسمانية، ومن ثم استخدام الوسائل العلاجية نفسها معها سواء اختار المريض أو أجبر عليها؛ لأن الأعلم بالمصلحة هو الطبيب في الحاليْن النفسي/والبدني !! غير أن ما يلفتنا هنا، ليس استخدام لغة القهر والقسر العلاجى، فهي تتناسب مع لغة التأديب الأخلاقي والتقويم المزاجي، لكنها تلك الوصية الأخيرة التي ينص عليها حيث يقع اليأس من العلاج (أو الصلاح والارتداد الأخلاقي لجادة الصواب)!! إنها التوصية بالقتل، وهي توصية موجهة لأولى الأمر من الحكام والقضاة والفقهاء .. إلخ، إذ ينبغي عليهم تطهير الأرض من هؤلاء المنحرفين المرضى وفقا لأحكام الشريعة أو العقل (السياسة الفاضلة) !! إن هذا العنف الأخلاقى لدى مسكويه يكشف عن انتشار هذه الظواهر وشيوعها المزرى والخطر في أوساط النخب وفضاءات السلطة، ولسنا في حاجة إلى ذكر التصورات السائدة حول ما قد يؤدي إليه التحلل الأخلاقي المستشري بين الخاصة والحكام، ثم العامة إلى ضعف وانحلال الدول وانهيارها، وفي تاريخ الروم والفرس والعباسيين أنفسهم شواهد واقعية على ذلك، أو هكذا كان مفكرو العصور الوسيطة يفسرون ازدهار الحضارات وسقوطها من زاوية أخلاقية أو عقيدية ..الخ، وليس مسكويه بعيدا عن تلك الآراء !! ورغم ما يمكن أن يسبغه السياق ككل من مشروعية على هذا الطرح، فإننا لا يمكن أن نغفل ذلك المنظور القمعي لدى المثقف العقلانى إزاء كل ما يخالف منظومته المثالية، معرفيا وقيميا، والذي قد لا يختلف جذريا عن القمع السلطوي بتجلياته المتنوعة السياسية والدينية والاجتماعية، لينتج تجليا رابعا، هو القمع الثقافي العقلي!!
على أية حال، ينطوي موقف كل من التوحيدي ومسكويه على مفارقته اللاذعة ما بين حرمان الأول من هذه المجالس التي نال منها النزر القليل، وما أُشبع، من جانب، وبين تخمة الثاني بها حتى سئمها واحتقرها وأدانها، أو هذا ما يعلنه نظريا على الأقل!!
وها هو أبو حيان في كتاب الإشارات يقول :-
«يا هذا : هذا وصف غريب… بعد عن آلاف له … لعله عاقرهم الكأس بين الغدران والرياض، واجتلى بعينه محاسن الحدق المراض، ثم كان عاقبة ذلك كله إلى الذهاب والانقراض!!» (21)
ولعلنا نلاحظ ذلك التأرجح الوجداني ما بين الحلم بمجالس الجلساء الخلان أهل الألفة والذي لعله شاركهم متعة الندامة والراح وجمال الطبيعة والوجه الحسن، والسماع الجميل، والأحاديث الشجية الراقية(22)! من ناحية، ومجالس الندماء الموحشة في فضاءات السلطة، ومداراتها المغلقة القاسية؛ حيث التنافس والتآمر والدس والوشاية والحذر والتربص والخوف..الخ، من ناحية ثانية !! إنها الغائب الحاضر في النص، والتي رغم كل ما تورثه من وحشة ومشاعر سلبية متنوعة، فإنها تمتلك سحرا ميدوسيا خاصا يبعث نوعا من أنواع الحسرة والحنين إليها ربما أكثر من مجالس الألفة مع الجلساء الأنداد في فضاءات الطبيعة البرحة، والجمال الحر، وربما كانت حسرة الحرمان والتوق لمراوغات القمع، وألعاب المخايلة، وتوترات الحضور في مدارات التنافس المغرية !! إنها اغواءات الوعي المغترب، ومفارقات المثقف المهمش !!
وأيا كانت المجالس، مجالس الخلان أم ندماء الحاكم فجلها إلى زوال وعدم وفناء؛ لأن هذا هو سمت كل ما هو دنيوي، ولهذه الرؤية حضورها اللافت في رسائل إخوان الصفا، إذ يقولون : «المجالس اثنان : مجلس الأكل والشرب والغناء واللذات الجسمانية… لصلاح هذا الجسد المستحيل المتغير الفاني، ومجلس للعلم والحكمة والسماع (الغناء الصوفي) واللذات من نعيم الآخرة الباقية للنفوس الخالدة التي لا يبيد جوهرها، ولا تفنى لذتها، ولا ينقطع سرورها… لأنها لذات روحية من نعيم الآخرة»(23)
إن هذه المقارنات ذات الطابع المجرد لا تخلو من ظلال الواقع الحياتى بكل مستوياته، تشير إليه فاضحة نقصه وعدميته، وما يورثه من فاقة وألم في مقابل نقيضه الخالد المكتمل في حضرة المطلق، حضرة العلم والحكمة والجمال الأزلي !! إنه اللوذ بالعلم والحكمة مقابل السلطة ومباهجها الدنيوية!!
على أية حال، أظن أن الهاجس المؤرق لكل التصورات سالفة الذكر، سواء كانت سلبية أم إيجابية، مباشرة أم مراوغة، تتحرك داخل فضاء السلطة أم على هامشه، هو ذلك السعى المثالى الحالم من أجل تأسيس صيغة أكثر إنسانية وكرامة لطبيعة حضور النديم أو الجليس في فضاء السلطة، لكنه ذلك الالتباس والتوتر متفاوت الدرجة بين المراحل التاريخية المختلفة؛ حيث ازدهار الخلافة، خاصة في عصر الجاحظ الذي توفي 255هـ، ثم انحدارها المؤسسي لدى التالين، والذي شاهد الجاحظ بعضا منه، إنه ذلك الالتباس والتوتر بين الواقع والمثال دائما وأبدا!!
ومما يلفت الانتباه في هذا السياق، هو إمكانات المخايلة القائمة بين النديم وصاحب السلطان، خاصة قبل أن يلتقيا ومن خلال السماع أو قراءة ما أنتجه النديم إذا كان من أهل العلم أو الكتابة، شاعرا أو ناثرا !! ومن ذلك ما يرويه التوحيدي عن حادثة ابن العميد مع ابن حجاج (الشاعر العباسى الماجن)، وكان ابن العميد قد سمع عنه الكثير، وقرأ شعره فأحب أن يلقاه، لأنه ليس الخبر كالمعاينة حيث إن البصر متمم للسمع، فلما حضره «ابن حجاج» احتبسه للطعام، وسمع كلامه، وشاهد سمته، واستحلى شمائله، فقام من مجلسه، فلما خلا به قال: يا أبا عبد الله، لقد والله تهت عجبا منك، فأما عجبي بك فقد تقدم، لقد كنت أفلى ديوانك، فأتمنى لقاءك، وأقول: من صاحب هذا الكلام، أطيش طائش، أخف خفيف، أغرم غارم، وكيف يجالس من يكون في هذا الاهاب، حتى شاهدتك الآن، فتهالكت على وقارك وسكون أطرافك، وتناسب حركاتك، وفرط حيائك، وناضر ماء وجهك، وتعادل كلك وبعضك، إنك لمن عجائب خلق الله، وطرف عباده، والله ما يصدق واحد أنك صاحب ديوانك، مع هذا التنافي بين شعرك، وبيتك في جدك. فقال أبو عبد الله: أيها الأستاذ، وكان عجبي مني، ولو تقارعنا على هذا لفلجت عليك بالتعجب منك؛ لأني قلت : إذا ورد الأستاذ فسألقى منه خلقا جافيا وفظا غليظا، وجبليا ديلميا متكائبا متعاظما، حتى رأيتك الآن، وأنت ألطف من الهواء، وأرق من الماء، وأغزل من جميل بن معمر، وأعذب من الحياة، وأرزن من الطود، وأغزر من البحر، وأبهي من القمر، وأندى من الغيث، وأشجع من الليث، وأنطق من سحبان، وأندى من الغمام، وأنفذ من السهام، وأكبر من جميع الآنام.
«فقال أبو الفتح وتبسم، هذا أيضا من ودائع فضلك، وبواعث تفضلك، ووصله وصرفه(24).»
ما بين العجب والدهشة تولدت مشاعر ابن العميد الابن إزاء ابن حجاج وشعره الماجن شديد الجرأة والإباحية، وتشكلت عبر مراياه صورة الشاعر في مخيلة السلطة بوصفه الأكثر طيشا وخفة وغرما بما يجعل صاحب السلطان يتساءل مندهشا كيف يُجالس من يكون في هذا الاهاب؟! ولعل السؤال الذي يلح علينا الآن، هو ما الذي أعجب صاحب السلطان في شعر ابن حجاج الماجن، بل ما الذي دفعه أصلا لقراءته بل تمنى لقاءه؛ إذ يفترض أن يتنافي هذا كله مع طبيعة السؤدد الفاضلة معرفيا وقيميا ؟! وربما كان الحديث عن مثال السؤدد في هذا المقام تعنتا لا معنى له، فرغبة المعرفة مشروعة وضرورية في لعبة السلطة، بل هي ميزة لا عيب !! غير أن لائحا ما من قهر يطل علينا من فضاء السلطان !! إن ذلك العجب السلطوي الذي مارسه ابن العميد مفليا ديوان الشاعر ممعنا فيه، ثم متمنيا لقاءه، ويا له من قلب للتراتب ما بين السلطة والشاعر الذي كان ينبغى أن يسعى لاهثا علها تقبله بين ندمائها، يسفر عن شعور سلطوي بالمباغتة والقهر ولعله الحسد والحلم بتبادل المواضع!! إنها مباغتة الجرأة التي تصل إلى حد الانتهاك والفضح القاسي لكل ما هو معياري ومتعارف عليه من حدود اللياقة والحياء والأدب والحشمة والوقار.. إلخ خاصة في أوساط النخب الاجتماعية والسياسية والدينية والثقافية !! ولا أظن أن ما أعجب صاحب السلطان وأدهشه هو القدرة على الانفلات الفاضح والإباحي؛ لأن السلطة هي الأقدر على ذلك دوما، وليس من يحاسبها لاستبدادها بالأمر، وتحكمها في رقاب العباد!! ولعل ما أثار إعجاب صاحب السلطان أكثر هو القدرة على إظهار هذا الانفلات والتجاسر على إعلانه والتغني به شعرا دون خوف أو تقية أو حذر أو تخف؛ حيث لا تمارس السلطة عهرها عادة إلا في مجالسها شديدة الخصوصية أو السرية بين الندماء الملاصقين لها!! غير أن علينا التنبه هنا إلى طبيعة شخصية صاحب السلطان في هذا السياق، إنه ابن العميد أبي الفتح (الابن) والذي عرف عنه تناقضه اللافت مع شخصية أبيه «أبو الفضل ابن العميد الحكيم» المهتم بالفلسفة وعلوم الحكمة، والسياسي القدير..إلخ. بل لعلنا نلاحظ مفارقة البخل/الكرم بينهما، فلو كان الأب لما احتبس ابن حجاج للطعام، كما علمنا، ولعله ما قرأ شعره !! إن مساحة ما من الطيش والمجون تجمع ما بين ممارسات ابن العميد الابن وشعر ابن حجاج، ومن ثم فلعل العجب ليس من الانفلات أو إظهاره بل إن صاحب السلطان المغرور المغامر الطائش المسرف في ركوب الأهواء والملذات، المستلذ بمخالطة الجند الديلم والصيد معهم ومشاربتهم ومؤانستهم، والمستمتع بحياة اللهو واللعب والبذخ، والتظاهر به على الملأ السلطوي بما أثار حسد المنافسين داخل هذا الفضاء، وأدى إلى نهايته الفاجعة(25)، اكتشف فجأة أن هناك مساحة تشابه عميقة وحقيقية بينه وبين بعض من رعيته، وهي مسألة صادمة ومدهشة في آن!! ولعل الاكتشاف الأشد وطأة وتأثيرا وصدمة لصاحب السلطان ليس مساحة التشابه الممكنة والمدمرة لنرجسية الخيلاء والتفرد السلطوي فحسب، بل هي الحرية اللاهية العابثة التي يتمتع بها هذا الشاعر (الذي هو أحد الرعية) ربما أكثر من السلطة؛ حيث لا تؤرقه هواجس الصورة، ولا يخشى إمكانية استهانة الرعية أو سخريتهم واستخفافهم به، ومن المثير للانتباه في هذا السياق تلك السذاجة السلطوية التي تخلط بين شخصية الكاتب، ونتاجه الشعري الخيالي، غير أنها سذاجة تنطوي على منطقها الخاص، الذي أورث صاحب السلطان تيها وحيرة وانبهارا ملحوظا إزاء ذلك التناقض الحاد بين وقار الشيخ، وسكونه وفرط حيائه وجديته وماء وجهه النضر، وتوازنه العقلى والوجدانى والجسدى، من ناحية، وشعره بل مخيلته الماجنة الجموح، من ناحية ثانية !! ولعل مقارنة ابن حجاج بين ما تصوره عن ابن العميد قبل لقائه، وبين ما رآه بعد لقائه، هي المقارنة الأكثر منطقية وواقعية!! إنها مقارنة بين سمعة السلطة السيئة التي نتجت عن ممارساتها الباغية، وعبر مرايا حاسديها، وطالبي ودها المحرومين والثالبين لمزاياها، ومخايلات حضورها لدى العامة والغوغاء، ناهيك عن انتمائها العرقى للديلم الجبليين الغلاظ القساة الأجلاف، من وجهة النظر العربية المقموعة تحت سيطرة الحكم البويهي، من ناحية، وبين طبيعة حضورها الواقعي داخل مجلسها الخاص، ومع من تجالس وتنادم وتنتقي وفقا لمعاييرها الخاصة وميولها المحيرة في كثير من الأحيان، من ناحية ثانية !! ولعل لائحا مضمرا ما يشي بسخرية ماجنة ومراوغة يمارسها ابن حجاج إزاء صاحب السلطان تتجلى عبر المبالغة اللافتة في وصف عجب الشاعر ودهشته التي قد تصل به إلى الفالج، ناهيك عن مبالغاته في وصف ما رأى من ابن العميد حين التقى به وجها لوجه فهو الألطف والأرق والأعذب والأغزل والأرزن والأشجع والأبهي..إلخ!! وربما لم يكن الأمر محض سخرية لاذعة من شاعر ماجن مراوغ، بل قد تكون مخايلة جديدة تمارس داخل المجلس أو لحظة اللقاء، ومصافحة الوجه للوجه، وهي مخايلة متبادلة تنطوي على قدر من التلاعب الساخر بين الشاعر العابث، وجليسه السلطوي الذي لم تخلُ لغته بدوره من المغالاة في وصف انطباعه الأول عن الشاعر قبل اللقاء، ثم بعده إلى درجة وصف مشاعره بالتيه والتهالك، ووصف الشاعر بكونه إحدى عجائب خلق الله وطرف عباده !! وكأن كلا من الطرفين يسعى لإيهام الآخر وإيقاعه في حبائل صورة مخالفة، وغير متوقعة، بل مباغتة وصادمة تورث كليهما حيرة وتيها وعجبا والتباسا، وترتد بلعبة السخرية والمراوغة عليه!! وربما كان توقعا ما كامنا في رؤية كل منهما للآخر قبل أن تتحقق الرؤية فعليا وهو التوقع الذي لم يصرح به أيا منهما في كلامه، توقع التلاعب والمراوغة المنتظرة بين طرفيْن تجمعهما مساحة تشابه عميقة هي مساحة الانفلات والمجون، والقدرة على التلاعب والسخرية والمراوغة!! إن فضاء العلاقة بين السلطة ونديمها هو فضاء المخايلات السمعية والبصرية بجدارة؛ لأنه فضاء اغوائى بالمقام الأول، يمارس كل منهما فيه اغواء الآخر واستباحته في آن، وهذه هي مساحة المغامرة والسحر لكليهما في آن!! ومن المثير للانتباه في هذا السياق، أننا لو توقفنا قليلا عند الصفات التي أسبغها كل منهما على الآخر، ورغم المبالغة واحتمالات السخرية، فإنها تكاد تتحرك في إطار أنثوي/ ذكوري، ففي حين يغازل ابن العميد وقار الرجل وسكونه وتعادله ورصانته. ويتحدث عن فرط حيائه ونضارة ماء وجهه، من ناحية، يتغزل ابن حجاج بلطف ورقة وعذوبة وبهاء ونداء ابن العميد من ناحية ثانية، ويثني على رزانته وشجاعته وغزارته ونفاذه وجلال حضوره، من ناحية ثانية!! إنه توتر ملتبس الهوية بين الدلالات الأنثوية والذكورية، ولا ندري أيهما الفاعل، وأيهما المنفعل داخل فضاء الإغواء حيث يتم تبادل الأدوار، بل التباسها في كثير مـن الأحيان !! وأعتقد أن ابن حجاج يُعد في هذا السياق النديم المثالى للسلطة لأنه يعرف كيف يغوي السلطة ويستنفر لديها طاقات الاغواء في الوقت نفسه!!
هالــة فــــؤاد كاتبة واكاديمية من مصر