سيدي المدير، سيداتي، سادتي الأساتذة
وآنا آخذ الكلام بين أيديكم في هذا المكان، بي ارتباكٌ، لأني أراني(أستعيد) في المرة الأولى التي اجتزت فيها أبواب هذه الدار كي ألتقي فيها بعباقرة. كنتُ قد التحقتُ، للتو، بمدرسة مجاورة؛ كان هذا في سنوات السبعينات من القرن العشرين. كنتُ في سن العشرين، وكانت باريس عُرسا حفلة للعقل. نصحتني أم صديق لي بزيارة كوليج دي فرانس. أتيتُ وقرأت الملصق- وأنا منذهل لكون السارد في «البحث عن الزمن الضائع» أمام عمود موريس iMorris يَعرِضُ شخصية بِيرْما Berma (من شخوص مارسيل بروست) في مسرحية فيدر Phedre – (لِراسين Racine)، وذات صباح، وبشيء من التوجس، دخلتُ قاعة دروس، هناك، لا أعرف أين لأن كل شيء تغير منذ تلك الفترة. دُفِع بي إلى الصف الأخير، ومن هناك سمعتُ رجلا قصيرا كان يشبه عصفورا ضعيفا. وكان يشرح، بدقة وبهاء، سونيتة لـ دو بالي Du Bellay ، كما لو لم أَرَ ولم أتخيل أبدا أن يحدث.
علمت بعد فترة قصيرة اسمه، ويتعلق الأمر بأستاذ زائر تمت دعوته من قِبَل كلود ليفي شتروس Claude Levi-Strauss ، وهو رومان جاكبسون Roman Jakobson ، الذي استمعتُ إليه للتو، وهو عالم اللسانيات الكبير والمتخصص في الشعرية الذي عبر القرن العشرين، من موسكو إلى براغ، ثم نيويورك وهارفارد.
وعلى خلاف السارد بعد مسرحية «فيدر »Phedre ، فإن هذه المحاضرة الأولى لم تخيب ظني. فهل عُدتُ إلى نفسي، حقا، بعد هذه الزيارة؟ ألاَ يُصبح المرءُ أستاذاً إذا لم يَعرِفْ كيف يغادر المدرسة؟ معرفتي لطريق الكوليج قادتني إلى هنا. وبينما كنت أتهيأ لمهنة الهندسة، حضرتُ دروسا كثيرة بين هذه الجدران، درس ميشيل فوكو Michel Foucault خلال السنة التي ألقي فيها محاضرات «المراقبة والمعاقبة» Surveiller et Punir ، أو الدرس الافتتاحي لرولان بارث Rland Barthes ، الذي كنت أرتاد، خلال تلك الفترة، دروسَهُ في مدرسة الدراسات العليا. رفيقٌ لي أخبرني بعد الظهر أننا استمعنا معاً في درس كلود ليفي شتروس Claude Levi-Strauss إلى جوليا كريستيفا Julia Kristeva ، التي أشرفتْ في ما بعدُ على أطروحتي الجامعية. وهكذا استطاع التدريسُ في كوليج دي فرانس أن يُعجل بتحولي المتأخر من العلوم إلى الآداب.
كان كويز دي بلزاك Guez de Balzac يحذر من التحول المعكوس، وقد كتب سنة 1628: «إن مغادرة البلاغة من أجل الرياضيات، هو التقزز من عشيقة في الثامنة عشرة من عمرها والسقوط صريعا في حب امرأة عجوز». هل الرياضيات عجوزٌ؟ لقد كان بلزاك «الكبير» على خطأ، ولكن الأدب ظل بالنسبة لي «عشيقة في الثامنة عشرة من عمرها»، كما أن أحد أساتذتي، أيضا، كان على خطأ، حين حذرني في تلك اللحظة التي كنتُ أستعد فيها للقفز: «أَلَيْس من الأفضل لك أن تظل مهندسا إنسانويا؟».
اسمحوا لي أن أستعرض هذه الذكريات القديمة: إنها تفسر الريبة التي أحس بها أمامكم. لا يمكنكم تخيل كل ما يَنقُصُ تكويني كمتعلم، كل ما لم أقرأه، كل ما لا أعرفه، ما دام أني شبه عصامي في التخصص الذي اخترتموني فيه، على الرغم من تدريسي للآداب منذ أكثر من ثلاثين سنة، وكوني جعلتُ منها مهنتي. ولكني- وكما أواصل فعل ذلك هنا- فقد درستُ دائما ما لم أكن أعرفُهُ وأتحجج بالدروس التي أُلقيها كي أقرأ ما لم أقرأه من قبل، وأتعلمَ أخيرا ما كنت أجهلُهُ.
كنتُ أشك في تقبلكم لمشروع الكرسي ثم لترشيحي، وكنت أتساءلُ: «ألَنْ يَرَوْا خطأهُمْ؟» ثم كنتُ أستعيدُ رباطة جأشي وأنا أعتقد أن أستاذاً واثقاً من نفسه، ويعرف قبل أن يبحث، سيكونُ محتالا. لكن، مع ذلك، تعود إلى ذهني الأسماء الكبرى التي أثْرَت الأدب الفرنسي المعاصر في كوليج دي فرانس منذُ أكثر، قليلا، من نصف قرن، من بول فاليري Paul Valeryإلى رولان بارث Roland Barthes ، ومن جان بوميي Jean Pommier إلى جورج بلين Georges Blin ، ثم أسماء أساتذة مرموقين شاءوا أن يدعوني إلى جانبهم، مارك فومارولي Marc Fumaroli وإيف بونفوا Yves Bonnefoy ، إضافة إلى أعضاء معهد الدراسات الأدبية الذين قدموني أمام مجلسكم، كارلو أوسولا Carlo Ossola وميشيل زينك Michel Zink، الذي أوجهُ له امتناني.
وكي أستعيدَ هدوئي كنتُ أتذكر إيميل ديشانيل Emile Deschanel ، وكان زميل دراسة لبودلير Baudelaire في (ثانوية لوي لو غران) لويز-ليغراند Louis-le-Grand وأب بول Paul ، الرئيس الخاطف للجمهورية. وفي سنة 1901- وكان حينها في الثانية والثمانين من عمره-، حاولت طالبة روسية اغتياله في نهاية درسه في كوليج دي فرانس فجرحت صديقة لها جروحا خطيرة كانت تتهمها بأنها تخلت عنها من أجل البروفيسور، وقد كتب عنه بودلير Baudelaire هذه الكلمات التنبؤية، سنة 1866: «ديشانيل Deschanel هذا الأبله الصغير! بروفيسور من أجل الآنسات! الممثل الأكمل للأدب الصغير، مُبسط الأشياء البسيطة». ولكن رغم كل هذا فقد نشر في مجلة العالميْن سنة 1847 دراسة حول «سافو والسحاقيات» في الوقت الذي منح فيه بودلير Baidelaire» لأزهار الشر Fleurs du mal هذا العنوان «القنبلة»، السحاقيات.
سيدي المدير، زملائي الأعزاء، أحسني صغيرا أمام المهمة التي أوكلت إلي بعد أساتذة رائعين، وبتواضعٍ أشكركم على الشرف الذي أوليتُمُوه لي والثقة التي منحتموني إياها باستقبالكم لي بينكم.
سيداتي، سادتي،
لماذا وكيف يمكن التحدث عن الأدب الفرنسي الحديث والمعاصر في القرن الحادي والعشرين؟ إنهما السؤالان اللذان أود التفكير فيهما معكم، هذا اليوم. غير أن سؤال «لماذا» من الصعب جدا تناولُهُ. وسأحاول أن أجيب عن سؤال «كيف».
تَعَاقَبَ تقليدان أدبيان في الدراسة الأدبية منذ القرن التاسع عشر في فرنسا، وأيضا في هذا البيت (كوليج دي فرانس). وكان سانت بوف Sainte-Beuve يميز بين «طرق مختلفة وأزمان مختلفة ظاهرة جدا في النقد الأدبي». كتب: « في نهاية القرن الثامن عشر، لم يكن تُبْحث في المؤلفات[…] سوى أمثلة الذوق والإضاءات من أجل نظريات كلاسيكية مُكرَسَة.»، لكن في بداية القرن التاسع عشر «بدأت النظريات، التي كانت إلى حد هذا الوقت مُهيْمِنَةً، تتعرض للنقد»، وعَزَا التقدُ الروائعَ وجمالَهَا ومَساوئَها إلى « ظروف المرحلة وإلى إطار المجتمع». أشار إلى التغيرات بذكاء: «إن النقد، إلى جانب احتفاظه بهدفه كنظرية وبفكرته، يصبح […] تاريخيا؛» إنه يبحث ويمنح أهمية للظروف التي وُلِدت فيها الأعمال الأدبية». وكما سمعتهم فقد كانت النظرية والتاريخ مصطلحي سانت بوف للإشارة إلى «طريقتي» النقد، القديمة والجديدة ولا زال هذان المصطلحان عنوانين فرعيين أردتُ منحهما لهذا الكرسي: «الأدب الفرنسي الحديث والمعاصر: تاريخ، نقد ونظرية».
يَعتَبِرُ التقليد النظري الأدبَ نفس الحضور الفوري وذات القيمة الأبدية والشامِلة. بينما ينظُرُ التقليد التاريخي إلى العمل الأدبي باعتباره آخَرَ، في مسافة عصره ومكانه. وبمصطلحات اليوم أو البارحة، يمكننا أن نتحدث عن السانكرونية (النظر إلى أعمال الماضي كما لو أنها مُعاصِرةً لنا) والدياكرونية (رؤية أو محاولة رؤية الأعمال الأدبية مثل الجمهور الذي تتوجه إليه هذه الأعمال). ثمة مُعارَضَة قريبة منها وهي معارضة الخطابة أو الشعرية (فن الشعر) من جهة والتاريخ الأدبي أو الفيلولوجيا من جهة ثانية: الخطابة والشعرية (فن الشعر) يهتمان بالأدب في عموميته من أجل استخلاص القواعد منه أو حتى القوانين (التقليد، الأنواع، الصُوَر البلاغية)؛ بينما يتعلق التاريخ الأدبي والفيلولوجيا بالأعمال الأدبية بسبب ما فيها من أشياء واحدة ومتفردة، أي ما يمكن اختزاله وما هو ظرفي (نص، مؤلِف) أو في أفضل الحالات ما هو مُتسلسل (حركة، مدرسة)، وتفسيرها من خلال سياقها.
لا شيء يمكنه أن يلخص بشكل أفضل تقلبات الدراسات الأدبية في هذا البلد من تتابع كراسي الأدب الفرنسي في كوليج دي فرانس. وقد تم احتلال الكراسي الأولى، في نهاية القرن الثامن عشر وبداية القرن التاسع عشر، من قبل «كلاسيكيين»، قدامى وليسوا حديثين، حسب مصطلحات «المعركة» الشهيرة: القس جان-لويس أوبرت Abbe Jean-Louis Aubert (1773-1784)، القس أنطوان دي كورناند Abbe Antoine de Cournand(1784-1814)، فرانْسوا أندريو Francois Andrieux (1814-1833). الثلاثة كانوا شُعَراء، ألبرت Albert كان مؤلِف خرافات، كورناند Cournand كان مُترجِما، أندريو Andrieux كان دراماتورج. وكان الثلاثة من أنصار الخَطابَة، وكانوا مُؤلِفي فنون شعرية، وكان يبدو أن لديهم فُتوراً تجاه ما قبل-الرومانسية المعاصرة، وأيضا تجاه فكرة النسبية التاريخية والجغرافية للجمال.
خلال الثلث الأخير من القرن التاسع عشر، بدأ تطبيق الدرس الجديد للفيلولوجيا –تاريخ اللغة ونقد النصوص- على الأدب الحديث، أدب النهضة والعصر الكلاسيكي. بعد هؤلاء الكلاسيكيين جاء مُؤرِخو الأدب، في البداية جان-جاك أمبير Jean-Jacques Ampere (1833-1864)، ابن الفيزيائي الكبير من مدينة ليون، الفارس والمُرافِق الرسمي لمدام ريكاميي، صديق شاتوبرياند Chateubriand وتوكفيل Tocqueville . ثم، لاحقاً، احتل كرسيَ الفرنسية الحديثة – الذي أُنشئ بجانبه كرسي «اللغة والأدب الفرنسيان في القرون الوسطى» سنة 1853 من أجل بولين باريس Paulin Paris – لويس دي لوميني Louis de Lomenie (1864-1878)، مؤلِف «غاليري معاصرين شهيرين، من قبل رجل تافه؟؟ Galerie des contemporains ilustres, pour un homme de rien « (1840-1847)، وهو أيضا ناشِرُ مُؤلَفَات بومارشي Beaumarchais ، ثم احتله بول ألبيرت Paul Albert(1878-1881) ثم إيميل ديشانيل Emile Deschanel (1881-1904)، الذي سُمي، مُؤلِف رومانسية الكلاسيكيين، (183-1886).
كان هؤلاء الأربعة، جميعاً، من مؤرِخي الأدب، لكن ليس بنفس المعنى. الإثنان الأولان، ألبير Ampere ولوميني Lomenie ، كانا لا يزالان من الهواة ومن الجيل القديم المتبحر في العلم، بينما تخرَجَ الاثنان الآخَران، ألبرت Albert وديشانيل Deschanel، من المدرسة العليا للأساتذة، وإذن كانا من أوائل المِهنيين، وكانا، في المقابل، مُحاضِرَيْن بارعيْن.
بعد الشعراء النيو-كلاسيكيين من نهاية العهد القديم إلى «إعادة العرش الملكي» Restauration، وعلية القوم العالِمين تحت مَلكية تموز monarchie de Juillet والإمبراطورية الثانية Second Empire والجامعيين المحبين للظهور الاجتماعي في الجمهورية الثالثة الأولى، لم يدخل التاريخُ الأدبي بالمعنى الوضعي إلى هذه الدار، إلا مع أبيل ليفرانك Abel Lefranc وهو من خريجي مدرسة شارت Chartes ، وسكرتير ومؤرخ كوليج دي فرانس، وجغرافي الحرب البكروكولية (guerre picrocholine). وقد تم انتخابه سنة 1904 في جو سياسي متوتر ضد مُحاضِر شهير، ولكنه معادٍ لدريفوس antidreyfusard وغير رأيه السياسي، فيرديناند برونيتيير Ferdinand Brunetiere ، مدير مجلة La Revue des Deux Mondes، وظل في هذا الكرسي فترة أطول من كل زملائه، حتى سنة 1936.
وتحت اسم «الشعرية»، مع فاليري Valery– وهو شاعر مثل الأوائل الذين شغلوا هذا المنصب- عاد تدريس الأدب في كوليج دي فرانس، ابتداء من سنة 1937، من جديد مع مقاومة التاريخ. لم يكن فاليري Valery ينظر بشكل إيجابي إلى مُؤرِخي الأدب: «هؤلاء السادة لا يُفيدون في شيء، ولا يقولون شيئا. إنهم مُطنِبون بُكم. لا يَشُكُون حتى في موضوعهم. إن المشكل في حد ذاته، في نظرهم، شيء غريبٌ». ولكن الأمور لا تظل على حال، فقد كان خلفُهُ، سنة 1946، جان بوميي Jean Pommier، مُؤرِخاً، من جديد، على الرغم من أنه كتكريمٍ لفاليري Valery ، أراد المزاوجة بين الشعرية والفيلولوجيا في تسميته كرسيه: «تاريخ الإبداعات الأدبية في فرنسا».
وقد ظل التناوب بين الفيلولوجيا والشعرية، خلال فترة طويلة، هو القاعدة. من المآخذ على التاريخ الأدبي هو كونه ليس سوى سوسيولوجيا المؤسسة المُنغلِقَة على قيمة العمل الأدبي وعبقرية الإبداع، فيقول فاليري Valery في شيء من الإدانة: « إن البيوغرافيا، والأخلاق والتأثيرات، […] هي وسائلُ الإضمار الممنوحة للنقد من أجل إخفاء جهله للهدف وللموضوع». وتم اتهام الشكلانية باختزال النص إلى مجرد لعبة مجردة ومستقلة، وإلى «حل مجهول أو هندسي من احتمالات اللغة»، كما سيعلن عن هذا، وفي هذا المكان، جورج بلين Georges Blin . لأنه يعود إلى هذا الأخير دورُ مصالحة أفضل ما في التقليدين. ومعه امتلكت الدراسة الأدبية الطموح في اللحاق بـ«المعرفة الانضباطية للأعمال الأدبية في مجموعةِ حقبةٍ مَا وتحت امتيازِ مصيرٍ مَا»، حسب التعريف الشامل الذي أعطاه في الدرس الافتتاحي لكرسي « الأدب الفرنسي الحديث»، سنة 1966.
في نهاية القرن العشرين، لم يَعُد، أخيراً، مِن سببٍ لاستمرار العراك القديم بين التاريخ والنظرية، أو بين الفيلولوجيا والخطابة، وهو تنويعٌ متأخر عن عِراك القدماء والمحدثين. أما رولان بارث Rland Barthes ، الذي كان حَذِراً، خلال فترة طويلة، من الانفعال والقيمة، فقد عاد إليهما في كُتُبه الأخيرة. ثم صَالَحَ مارك فومارولي Marc Fumaroli ، بطريقة رائعة، عن طريق تاريخ الخطابة، بين التقليدين الكبيرين اللذين لا ينفصلان في الدراسة الأدبية.
ومن دون تجاهل التوتر الدنيوي (العلماني) بين الإبداع والتاريخ، بين النص والسياق، أو بين المُؤلِف والقارئ، بدوري سأقترح، هنا، اجتماعهما، الضروري لسعادة الدراسة الأدبية. ربما لأني قَدِمْتُ إلى الدراسة الأدبية ببراءة وعبر سُبُل شاذة، لقد قاومتُ دائما هذه البدائلَ المفروضةَ ورفضتُ الإقصاءات المتبادلة التي بدتْ وكأنها حاسمةٌ لدى معظم مُعاصِرِيَ. يتوجب على الدراسة الأدبية، وهي قادرة على ذلك، أن تُصلح انكسار الشكل والمعنى، العداوة الوهمية بين الشعرية والإنسانيات.
إذن فإن النظرية والتاريخ سيكونان «طريقتَيَ»، لكن ليس بالمعنى الذي كان يتصوره سانت بوف Sainte-Beuve [25]، أي كَعَصْرَين من عصور النقد، الكلاسيكي والرومانسي، أو الشامل والنسبي. النظرية لن تعني عقيدة ولا نظاما، ولكن اهتماما بالمفاهيم الأولية للدرس، وبإظهار للأحكام المسبقة في كل بحث، أو ، أيضا، بالارتباك المنهجي؛ وسوف يَدُلُ التاريخ على الاهتمام بالسياق والاهتمام بالآخَر، وإذن بالحذر الأخلاقي (أخلاقيات العمل)، أكثر مما يدل على الكرونولوجيا أو سبورة الأدب.
وفي ما يخص كلمات «أدب حديث ومعاصر» في عنوان كرسيي فإنها تَفرِضُ بالتأكيد إشارات زمنية ودورية – من النهضة إلى القرن العشرين، ومن مونتاين Montaigne إلى بروست Proust- ولكنها تعلن، بشكل خاص، عن التحدي الذي يحفز أعمالي، منذ فترة طويلة، والمتمثل في اختراق التناقض ينمو ويربط إلى الأبد ما بين الأدب والحداثة، مثل عِناق العُشاق الملعونين في سونيت m «دولوم» Duellum (النضال) لبودلير Baudelaire . لأني أريدُ أن يكون تعليمي على اتصال بوضعية الأدب، اليوم وغدا. النظرية والتاريخ سيكونان طريقتيه، ولكن النقد – اي الحكم أو التقدير – سيكون سبب وُجُودِهِ. يتناول ألبرت تيبوديت Albert Thibaudet في مكان ما الأدراج الرائعة ذات الانقلاب المزدوج في قصر شامبورد Chambord من أجل تصوير التواطؤ بين التاريخ والنقد الأدبي: التاريخ الذي يعيد النص إلى أصوله، والنقد الذي يجذبه إلينا. هنا، يتوجب علينا أن نتخيل دوامة ثلاثية لأن الخيوط الثلاثة للنظرية والتاريخ والنقد تظل أساسية من أجل ربط الدراسة الأدبية أو من أجل المصالحة معها في امتلاء معناها. وبالنسبة لي، فإنه بعد زمن النظرية وزمن التاريخ، حانت لحظة النقد، مثلما أعلن سانت بوف Sainte-Beuve ، إذا تجرأتُ على التقريب بينهما، في نهاية بورتريهاته الأدبية: « فيما يخص النقد، لعبتُ طويلا دورَ المحامي، فلألعب الآن دورَ القاضي».
كنت أقول إن أعراس الأدب والحداثة لم تتوقف أبدا عن أن تكون محبة للقتال. إن هذه الحصيلة تضعني، من جديد، أمام السؤال الأول والحقيقي الذي أود أن أناقشه معكم.، اليوم: لماذا الحديث – الحديث المستمر- عن «الأدب الفرنسي الحديث والمعاصر» في بداية القرن الواحد والعشرين؟ أية قِيَم أدبية يمكن له أن يخلقها وينقلها في العالَم الحالي؟ ما هي المكانة التي يستحقها في الفضاء العمومي؟ هل هو مُربِحٌ في الحياة؟ لماذا الدفاع عن حضوره في المدرسة؟ إن تفكيرا صريحا حول الاستخدامات وحول سلطة الأدب يبدو لي من المُلِح القيام به. يقول إيتالو كالفين Italo Calvino في كتابه «دروس أمريكية. ستة اقتراحات من أجل الألفية القادمة»، والذي كتبه قبل وفاته بفترة وجيزة، سنة 1985: « إذا كانت لدي ثقةٌ في مستقبل الأدب، فلأني أعرف أن ثمة أشياء وحده الأدبُ بإمكانه أن يمنحها بوسائله الخاصة». هل أستطيع أن آخذ لحسابي هذه القاعدة وأنا أفتتح درسي؟ هل لا تزال توجد، حقيقة، أشياء وحده الأدبُ يستطيع أن يمنحنا إياها؟ هل الأدب ضروري، أم يمكن استبداله؟
لقد تغير المَشْهد بعمق منذ عشرين سنة. كان كالفينو Calvino لا يزال يتحدث كما فعل بروست Proust في الزمن المستعاد Le Temps retrouve : «الحياة الحقيقية، الحياة المُكتَشَفَة أخيرا والمتميزة، الحياة الوحيدة التي عِيشَتْ بشكل حقيقي، هي الأدبُ». كان بروست Proust يرى أن تحقيق الذات يحدُثُ، ليس عن طريق الحياة المجتمعية، بل عن طريق الأدب، ليس فقط بالنسبة للكاتِب الذي يُكرِسُ له نفسه، بشكل كلي، ولكن أيضاً بالنسبة للقارئ الذي يبعث له بالزمن الذي يقضيه مستمتعا به. ويواصل بروست Proust : « عن طريق الفن، فقط، نستطيع أن نَخرُج من ذواتنا ومعرفة ما يراه كائنٌ آخَرُ من هذا الكون الذي هو ليس عالَمُنَا، والذي ظلتْ مَشاهِدُهُ مجهولةً كما هو حال المَشَاهِدِ التي يمكن أن تكون في القَمَر». إن تفوُقَ الأدب، كما يرى كالفينو Calvino ، لا يطرح مشكلة. ولهذا السبب، إذا نظرنا للأمر من يومنا هذا، يبدو أن الفرق بينه وبين بروست Proust أو بين رولان بارث Roland Barthes وجيد Gide ، أو بين ميشيل فوكو Michel Foucault والسوريالية أقصر من ذلك الفرق الموجود ما بيننا نحن وبين بارث Barthes وفوكو Foucault أو كالفينو Calvino ، بيننا وبين آخر الطليعيين الذين كانوا يحافظون، عاليا جدا، على صرامة الأدب الصعب ويؤمنون به كما يؤمنون بالمُطلق.
لأن مكان الأدبَ تقلص في مجتمعنا منذ جيل: في المدرسة حيث تُهاجِمُها النصوص الوثائقية، بل وصل الأمر حد الافتراس؛ تَضَاءَلَ الأدب في الصحافة أو في الصفحات الأدبية وهو يجتاز، ربما، أزمة جنائزية. أثناء أوقات التسلية حيث يُساهِم التسارُعُ الرقمي في قضم الزمن المتوفر من أجل الكتب. على الرغم من أن الفترة الانتقالية لم تَعُدْ مضمونةً بين القراءة لدى الأطفال – التي تمر بظروف جيدة، بفضل أدب خاص بالشباب أكثر جاذبية من قبل- وقراءة المراهقين، التي يُنظَر إلبها باعتبارها مُضْجِرَةً لأنها تتطلب لحظات طويلة من العزلة الجامدة. وحين نسأل تلاميذ الثانويات عن الكتب التي يعشقونها بدرجة أقل، يجيبون بأنه كتاب «مدام بوفاري»، الكتاب الوحيد الذي أُرْغِمُوا على قراءته.
من وجهة نظرٍ عالِمَةٍ قامت الفيلولوجيا، منذ بداية القرن التاسع عشر، بفرضية الوَحْدَة التكوينية للغة، للأدب وللثقافة- أو بالأحْرى للحضارة، كما كان يُقالُ حينها- مجموع عضوي مُطَابِق لعقلية أُمَة، وهو مجموعٌ يمنح فيه الأدبُ، بين الجذور اللسانية والأزهار الثقافية، الجِذع النبيل. ومن هنا هذه الرِفْعة الطويلة للدراسات الأدبية، طريق مَلَكِيَة نحو فهمِ ثقافةٍ في كليتها. غير أن النموذج الفيلولوجي تعرَض لهزَات في نهاية القرن العشرين. من جهة، لأن تمثيلات ثقافية أخرى مثل الصُوَر الثابتة والمتحركة فرضتْ نفسَها في الأدب، وأصبح استقبالُها أفضل من السابق. ومن جهة ثانية، لأنه لم يَعُدْ يُنْظر إلى شراكة الثقافة والأُمَة باعتبارها وثيقة جدا ولا ذات دورٍ حاسِمٍ.
يبدو الأدب ذاتُهُ –الأدب الذي ننعته بـ«الحي»ـ- يشك، أحياناً في شرعيته في مواجهة خطابات مُنافِسة وتقنيات جديدة، ليس فقط –العِراك القديم- العلوم الحقة والاجتماعية، ولكن أيضا السمعي البصري والرقمي. لقد دخل الأدب، منذ الحداثة، في «عصر التهمة». ولكن هذه الحقبة، التي كانت من دون شك بمثابة صدمة، ظلتْ خلال فترة طويلة فترةَ خُصُوبةٍ مُدهِشةٍ وعِبادةٍ استثنائيةٍ للأدب. وأما اليوم، فعلى الرغم من أن كل فصل خريف يَشهَدُ ظهور مئات من الروايات الأولى، فإنه يُمكِننا رؤية شعورِ لا مُبالاةٍ متصاعدة تجاه الأدب، أو حتى – ويتعلق الأمر بردَة فِعل مُهمة جدا لأنها أكثر انفعالية- شعور حقدٍ تجاه الأدب الذي يُنْظَرُ إليه على أنه تهديد أو عامِل «انكسار اجتماعي». أَلَيْسَ الأدَبُ لُغَةَ إشارةٍ وتلميح؟ وكي نفهم الأمر يجب أن نكون «داخله»، كما يُقالُ في حضرة مدام فيردورين Mme Verdurin . إن التلميح هو الإقصاء، إذن.
يجب، من الآن فصاعدا، ان تكون القراءة مُبرَرَةً، ليس فقط القراءة العادية، قراءة القارئ، الكائن الشريف، ولكن أيضا القراءة العالِمَة، قراءة المتعلم المثقف، رجل أو امرأة المهنة. وقد عرفت الجامعة لحظات تردد حول فضائل التعليم العام، المُتَهَم بأنه يقود إلى البِطالة والذي نافَسَتْهُ مختلف أنواع التكوين المهني المفروض أنها تهيئ بشكل أفضل إلى الشُغْل، والنتيجة هي أن إعطاء المبادئ الأولية في اللغة الأدبية وفي الثقافة الإنسانوية، الأقل ربحيةً على المدى القصير، يبدو هشاً في مدرسة ومجتمع الغد.
إن إضعاف الثقافة الأدبية لا يرسُمُ بالنسبة لنا مستقبلا مستحيلا. لهذا السبب فإنه إلى جانب السؤال التقليدي منذ لامارتين Lamartine وشارل دوبوس Charles Du Bos وسارتر Sartre: «ما الأدب؟» وهو سؤالٌ نظري أو تاريخي يُطرَح اليومَ، وبجدية أكبر، السؤال النقدي والسياسي: « ما الذي يستطيعُهُ (يستطيع فِعلَهُ) الأدب»، أو بصيغة أخرى: «الأدب، من أجل ماذا؟» وليس من المهم إذا كنا منحنا الانطباع، ونحن نتجرأ على الجواب، بكوننا سذجاً أو مُتجاوَزِينَ بعد سنوات من العِراك النظري حول الأدبية litterarite، وهي خاصية الشكل التي تجعلُ من الأدبِ أدباً، بدل أن ينصب هذا الجدال على الوظيفة الإدراكية والأخلاقية أو العمومية للأدب، لأن التحاشي سيكون غير مسؤول في الوقت الذي تُنشَرُ فيه في كل موسم (بيانات) «وداعا للأدب».
هنا، لا أستطيع أن أمنع نفسي التفكير في أولئك الذين لم تستقبلهم هذه القاعة، والذين يتابعونني من خلال شاشة، أو الذين انسحبوا. إن عدَدَكُم يُعطي الانطباع بتكذيب كلامي، وهي مناسبة لأقدِمَ لكم اعتذاراتي. ولكني إنْ كنتُ متأسفا، من جهة، فأنا سعيدٌ لأن اهتمامَكُم علامةُ فأل. علينا حين نتطرق إلى مستقبل الأدب أن نكون واقعيين وليس انهزاميين.
ما هي مُطابَقةُ- تتوفر اللغة الانجليزية على كلمات قديمة أكثر تعبيرية من كلماتنا: الصِلة relevance والدلالة significance – الأدب للحياة؟ ما هي قوته، ليس فقط فيا يخص اللذة ولكن أيضا في ما يخص المعرفة، ليس فقط الهروب، ولكن أيضا الحركة؟ هذه الإشعارات تصبح أكثر إلزامية بعد زمن الطلائع، حين خفت درجة الإيمان في التقدم. وسواء كنا مع أو ضد هذا الإيمان فهو الذي حدد حركةَ الحداثة: كان الأدب محمولاً بمشروع الذهاب دوما نحو الأقاصي، متتبِعاً اندفاعة اتخذت مع الطلائع شكل «أقل، دائما»: تطهير الرواية والشِعْر وتركيز كل نوع على ذاته واختزال كل وسيط في جوهره. تحتل التحديات التقنية المقام الأول: حصر الشخصية في وجهة النظر أو المونولوغ الداخلي، ثم محو الشخصية. انتفضت الرواية الجديدة ضد الرواية التحليلية والشعر ضد المحكي، والنص ضد المُؤلِف… لم يكن يُنظَرُ لا إلى الخلف ولا إلى الجانب ولا إلى الممر الجانبي للأدب الآخر «أدب البولفار»، الأدب الذي يُقْرَأً. وكانت كل إشارة إلى سلطة الأدب كانت تُعتبر بذيئة، لأنه كان من الرائج أن الأدبَ لا يَصْلُحُ لشيء وأن قيمته كانت هي سيطرته على ذاته (تحكمه في ذاته). ولكن في زمننا، زمن التخفي، حيث لم يعُدْ النزوع التقدموي (التقدم) باعتباره ثقةً في المستقبل موضوعَ الساعة فإن النزعة التطورية الذي ارتكز عليها الأدب خلال قرن كامل يبدو أنها قد ولَتْ. وقد أمُلَ رولان بارث Roland Barthes في آخر دروسه في كوليج دي فرانس، سنة 1980، البحث عن شكل أدبي ثالث بين المقالة (أو المحاولة الأدبية) والرواية، انبثاق «تفاؤل دون نزوع نحو التقدم». إذا كان تاريخ الأدب وتقدمه وحركته المستقلة لم يعُدْ يمنح له شرعية، فكيف سيؤسِسُ سلطَتَهُ؟
«الحقيقة هي أن روائع الرواية المعاصرة تتحدث بإسهاب عن الإنسان والطبيعة كما تتحدث أعمال رصينة عن الفلسفة والتاريخ والنقد»، كما يؤكد لنا زولا. ان الأدب باعتباره تمرينا فكريا وتجربةَ كتابةٍ يستجيب لمشروع معرفة وإنسان وعالَم. إن مقالة لمونتين Montaigne ومسرحية لراسين Racine وقصيدة لبودلير Baudelaire ورواية لبروست Proust تُعلِمنا عن الحياة أكثر مما تفعل مُصنَفَات وكتب عالمية طويلة. لقد كان هذا، وخلال فترة طويلة، تبرير القراءة العادية وفرضية سَعَة المعرفة الأدبية. فهل قام العِلمُ بإقصائهما؟ هذا ما قيل. لاحظ جوستاف لانسن Gustave Lanson سنة 1895 أنه «بمجرد ما يستطيع الانسانُ أن يأمُلَ في المعرفة، يتوقف اللعب عن أن يروقه ويقوم العالم بِسلب الفنان ومُصادرته». وقد بدأ هذا التوجُهُ طويل الأمد في العصر الكلاسيكي، حين فقدت الآداب الجميلةـ بشكل متتابع، أجزاء واسعةً من الخطاب واختُزِلت، شيئا فشيئا، في التخييل الصعب.
وصف بولاند Bonald ، وهو مفكر الرجعية، في بداية القرن التاسع عشر ما كان يسميه «حرب العلوم والآداب»: « إننا نلاحظ منذ بعض الوقت أعراض خلاف ناتج عن قصور الفهم بين جمهورية العلوم وجمهورية الآداب. […] تتَهِمُ العلومُ الآداب بكونها تحسدها على تقدمها. بينما تُؤاخِذ الآدابُ على العلوم التعالي والطموح المُفرِط». إن «العلوم الحقة» و«الآداب التافهة» –وقد كانت هي مصطلحاته – تتنافس حول دور الأخلاق، ولكن العلوم بدأت تتمتع بحظوة عالية، فيقول مختَتِماً أن: «كل شيء يُعلِنُ عن السقوط القادم لجمهورية الآداب والهيمنة الشاملة للعلوم الحقة والطبيعية»، ويُبدي أسَفَهُ لأن العلوم الأخلاقية –الثيولوجيا والسياسة- ليست قادرة على «فرض وساطتها».
ومن هذه اللحظة، أصبح موضوع ثقافتَيْن أو ثلاث ثقافات مسألة تافهة. ألحَ الفيزيائي شارل بيرسي سنو Charles Percy Snow في محاضرته الشهيرة التي ألقاها في كامبريدج سنة 1959 على الخصومة النهائية التي تُعارِض ما بين «الثقافة العلمية» و»الثقافة الأدبية». وفي 1985 شدد عالِمُ الاجتماع وُولْف ليبينييس Wolf Lepenies على أن الصراع يتسبب في تجاذُبات ليس بين ثقافتين بل ثلاث ثقافات، والثالثة هي «الثقافة السوسيولوجية»، التي وُضِعت على السكة منذُ بونالد Bonald. وقد كان سْنُوSnow وليبينيس Lepeniesيعتبران أمرا مُنجَزا التجريدُ الحديثُ للأدب، الذي يكون (يُفتَرَض أن يكون) قد فقد امتيازاته القديمة في مواجهة علوم الطبيعة والحياة ثم لاحقا أمام علوم الإنسان والمجتمع.
مع ذلك، ما قيمةُ هذا التعارُض، الذي قامت بتجميده، بشكل خاصٍ، الثقافةُ الفرنسيةُ ما بين العلماء والأدباء؟ منذ فترة طويلة لم يكن يوجد تعارُضٌ بين هذا الجُنُوح وذاك، ولكن المدرسة حفرت هذا الشق منذ «الانشطار» الذي وضعه هيبوليت فورتوHippolyte Fortoul ، وزير التعليم العمومي، سنة 1852 انطلاقا من مستوى الصف الرابع حتى إصلاح التعليم الثانوي في سنة 1902، الذي أرسى المساواة في العقوبة بين الباكلوريا الكلاسيكية والحديثة وهمش، بالتدرج، اللغاتِ القديمةَ والإنسانيات الكلاسيكية في الثانوية.
استهدفت بعضُ المدارس الأدبية، في عملية ردة فعل على القطيعة المُفتَرَضَة بين الأدب والمعرفة، استعادة السلطة وذلك باستلهام النموذج العلمي. وقد عبر بودلير Baudelaire الذي كان بنفسه مُعارِضاً للمفهوم الرومانسي للإلهام، بإظهار تحمسه سنة 1852 للعلوم: « ليس بعيدا الزمنُ الذي سنفهم فيه أن كل أدب يرفض أن يتماشى بأخوية [38] بين العلم والفلسفة هو أدبُ قتلٍ وانتحار». وعلى هذا الزمن أن يُخيب الآمال، قريبا، ويُشجِع، بفضل الحداثة، أدباً وصفه بيير بورديو Pierre Bourdieu بـ» المستقل»، كي يعني طابعه التخصصي وتقييده ولا تَعْدِيَتِهِ المتصاعدة.
وليس بعيدا عنا، اعتقدت الطلائع الأدبية والنظرية في نهاية القرن العشرين أنها ستُفْلِت من الشَرَك الأيديولوجي للنقد بالتسلق إلى شكلانيات العلوم. لقد دفع الوعي الشقي لرجال الأدب، عبر تبادل مُسلٍ للأدوار وكل واحد بِشُغلٍ لا يُناسبه، إلى أن يتصرف العِلميون كأكبر داعمي التقليد الإنسانوي. واليوم ونحن نعيش تغيرا حاسما للمدرسة يضاهي تحول ومُنعطف 1902 الذي لم يُؤثر فقط على الثقافة الكلاسيكية واللغات القديمة فقط بل حتى على الثقافة الحديثة واللغة الفرنسية، فإن المعرفة الأدبية هي التي يتوجب علينا أن ندافع عنها.
إلا أنه مع مرور الزمن ظهرت عدة تعريفات ملفتة عن سلطة الأدب – وعن منقعته ومطابقته؟ فهل لا يزال بالإمكان تقبل هذه التعريفات؟ إذا كان السؤال ينطرح، أفَلَيْس لأنه فات أوانُ الإجابة عليه؟ لم تكن تُطرَح في الزمن الذي كالت فيه سلطة الأدب مُؤكَدَة، وكان الأمر، بالأحرى، يتعلق بإضعافه.
وعلى الرغم من أن القراءة ليست ضرورية كي نعيش، فنحن نقرأُ لأن الحياة تكون أكثر يُسْرا وأكثر وُضوحا وأكثر شساعة بالنسبة للذين يقرأون من الذين لا يقرأون. قبل كل شيء، وبمعنى بسيط جدا، فإن الحياة أكثرُ يُسْراً – فكرتُ في الأمر موخرا وأنا في الصين- بالنسبة للذين يعرفون القراءة، ليس فقط قراءة وسائل الاستخدام والمراسم والجرائد وبطاقات الانتخاب ولكن أيضا الأدب. وثانيا كان من المفترض، منذ فترة طويلة، أن الثقافة الأدبية تحملنا نحو الأفضل وتمنحنا حياة أفضل. لقد لخص فرانسيس بيكون Francis Bacon الأمر بالقول: « القراءةُ تجعل الإنسانَ كاملا، والمحاورَةُ تجعلُ الإنسانَ نشيطاً، والكتابةُ تجعل الإنسانَ دقيقاً. لهذا السبب إذا قرأ الانسان قليلا فإنه سيتوفر على ذاكرة جيدة، وإذا تحدَثَ قليلا، فإنه سيمتلك عقلا نشيطا، وإذا قرأ قليلا، فإنه سيتوفر على كثير من الحيلة، حتى يبدو وكأنه يعرف ما لا يعرفه. « وإذا تتبعنا بيكون Bacon، وهو قريب من مونتين Montaigne، فإن القراءة تُجنبنا الاضطرار إلى اللجوء إلى المكر والنفاق والاحتيال. إنها تجعلنا، إذن، صادقين وحقيقيين، أو بكل بساطة، أفضل.
أذكر، باختصار، بثلاثة أو أربعة تحديدات/تعريفات مألوفة لسلطة الأدب.
1ــ التعريف الأول هو التعريف الكلاسيكي الذي أتاح لأرسطو Aristote أن يعيد الاعتبار، ضد أفلاطون Platon، للشِعْر بمرتبة الحياة الجيدة. وبفضل المحاكاة mimesis– التي تتم ترجمتها اليوم بتمثيل أو تخييل عوض تقليد- يتعلم الإنسان، وإذن بواسطة الأدب المُتَفَق عليه باعتباره تخييلا. «إن التمثيل […] نزوعٌ طبيعي لدى البشر- ويختلفون عن باقي الحيوانات من حيث كونهم مجبولين بقوة على التمثيل وكونهم يبدأون التعلم من خلال التمثيل- مثل النزوع المشترك بين الجميع في الاستمتاع بالتمثيلات». (أرسطو، كتاب الشعرية) الأدب يمنح المتعة والتعليم. وقبل هذا، في كتاب «الشعرية» نجد أن «التطهير» catharsis الذي يُنقي الأهواء عن طريق التمثيل، من نتيجته تحسين الحياة الخاصة/الفردية والعمومية. إن الأدب- وأنا، هنا، ليس بِوارد تبرير المفارقة التاريخية التي يتعلق بترجمة الشعر poiesis أو المحاكاة mimesis بالأدب- يمتلك سلطة أخلاقية.
وقد ظل الجواب، من هوراس Horace إلى كانتليان Quintilien وإلى الكلاسيكية الفرنسية هو نفسه: إن الأدب يُعلِمُ وهو يستميل، تَبَعاً للنظرية الدائمة للحُلو والمُفيد. وكما يقول لافونتين La Fontaine :
الخرافات ليست هي ما يبدو أنها كذلك.
أبسط حيوان يحتل في نظرنا مكانَةَ السيد.
الأخلاق العارية تحمل الضجر.
الحكاية تمرر العِبْرة معها.
وبهذه الطرق من الحِيَل يجب منح التعليم والمتعة.
بينما لا يبدو أن الحكاية من أجل الحكاية مفيدة كثيرا.
الحكاية والحيلةُ والتخييل تُربي أخلاقيا. ويحتفظ لها مانون ليسكوت Manon Lescaut بدور النموذج الأصلي للرواية الواقعية. إن مقولته عن «رأي المُؤلِف» تُثبتُ، بقوة، هذا الاتجاه: «إضافة إلى المتعة التي تمنحها قراءة رائعة/طيبة، فإننا نجد فيها (أي الرواية) قليلا من الأحداث التي لا تستطيع أن تخدم تعليم العادات؛ وفي نظري فإن تقديم هذه المعلومات، عن طريق الاستمالة، يُعتبر خِدمةً معتبَرَةً للجمهور.» يلح بريفوست Prevost على عدم الاتفاق الذي نجده، عادة، لدى البشر بين معرفتهم للقواعد ومراقبتهم لها: « لا يمكن لنا أن نفكر حول مبادئ الأخلاق، من دون أن نراها تحظى، في آن واحد، بالتقدير والإهمال؛ ونتساءل عن سبب غرابة القلب البشري، التي تجعله يتذوق أفكار الخير والكمال والتي يبتعد عنها في التطبيق.» ويفسر «تناقض أفكارنا وسيرتنا» بِكون «كل مبادئ الأخلاق ليست سوى مبادئ فضفاضة وعامة، ومن الصعب أن نجعل منها تطبيقا خاصا لتفاصيل العادات والأعمال». لهذا السبب فإن التجربة والمثال يقودان السلوكَ أفضل من القواعد. ولكن التجربة تتعلق بالحظ: «ولم يتبق إذن سوى المثال الذي يمكن أن يصلُح قاعدة لعدد من البشر في ممارسة الفضيلة». هذه هي فائدة روايته: «كل حَدَث تنقله هو درجة ضوء، تعليما يحل محل التجربة؛ كل مغامرة هو نموذج يمكن أن نتكَوَن من حوله. ولا ينقصُهُ إلا أن نكون متلائمين مع الظروف التي نتواجد فيها. المُؤلَفُ كلُهُ هو كِتاب أخلاق، وقد اخْتُزِلَ بشكل رائع إلى تمرين».
أما روبرت موزيل Robert Musil، الذي لا يبتعد كثيرا في الحقيقة عن بريفوست Prevost، فقد ساند بقوة، في القرن العشرين، الرأي الذي يرى أن الفن «يمثل ليس بطريقة تجريدية بل بطريقة محسوسة، ليس ما هو عام، ولكن حالات خاصة تغطي نغمتُها المعقدة أيضا أنغاما عامة وفضفاضة». ومع الأدب فإن المحسوس يحل محل المجرد، والمثال محل التجربة، من أجل إلهام المبادئ الأساسية العامة أو على الأقل بِسِيرَةٍ متلائمة مع تلك المبادئ العامة. لا توجد تعريفات أفضل للرواية من تعريف بريفوست Prevost الذي لا تكذبه تعريفات فلاسفة «المنعطف الأخلاقي»، اليوم.
هذه الإجابة الكلاسيكية حدَثَها وأعاد تشكيلها بول ريكور Paul Ricoeur، بعد سنوات من النظرية الأدبية: المحكي – وأنا، هنا، لا أتحرى التمييزات الضرورية بين المحكي والتخييل- لا يمكن استبداله من أجل تصوير التجربة البشرية، ابتداء من تجربة الزمن. إن معرفة الذات تَفتَرِضُ مُسبقاً شكلَ المحكي.
2ــ التعريف الثاني لسلطة الأدب. الذي ظهر مع عصر الأنوار Lumieres وتعمَق مع، الرومانسية، لم يَعُد يَجعل منه وسيلة للتعليم عبر التسلية، بل علاجا. إنه يحرَر الفرد من إكراه السلطات، كما كان يعتقد الفلاسفة. إنه يشفي، بشكل خاص، من الظلامية الدينية. إن الأدب باعتباره وسيلةَ عدالة وتسامُح، والقراءة باعتبارها تجربة الاستقلالية، يساهمان في الحرية[45] وفي مسؤولية الفرد، وهُما من قِيَم الأنوار التي سبقت تأسيس المدرسة الجمهورية، والتي تفسر الامتياز الذي منحته هذه الأخيرة لدراسة القرن الثامن عشر بدل القرن السابع عشر، الكاثوليكي والملكي، لفولتير Voltaire على حساب بوسييت Bossuet .
أثناء نقاش لافت جرى في قاعة موتياليتي Mutualite سنة 1964 بمبادرة من «كلارتي» Clarte، جريدة اتحاد الطلبة الشيوعيين، تحت عنوان: ما الذي يستطيعه الأدب؟ والذي هو رد على سؤال سارتر: ما الأدب؟ نسب سارتر، وهو الوفي لروح الأنوار، للأدب –على الرغم من عدم وجود كِتاب يحمي طفلا من الموت- سلطةَ إنقاذِنَا من «قِوى الاستيلاب أو القمع».
الأدبُ معارضة وتضاد: إنه يمتلك سلطةَ رفضِ الخضوع للسلطة. وباعتباره سلطةً مُضادةً، فهو يَكشِفُ كل اتساع سلطته حين يكون مُضطَهَداً. تَنتُجُ عن هذا مُفارقَةٌ مثيرة للسخط وهي أن الحربة ليست مُناسِبةً له لأنها تَحرِمُهُ من الاستعبادات التي تُقاومه. وهكذا فإن إضعاف الأدب في الفضاء العمومي الأوروبي في نهاية القرن العشرين يمكن ربطُهُ بانتصار الديمقراطية: كانت أوروبا تقرأ كثيرا، وليس فقط في الشرق، قبل سقوط جدار برلين.
العمل الروائي باعتباره ترياقا لتشظي التجربة الفردية التي أعقبت الثورة الصناعية وتقسيم العمل ادعى إرساء وحدة المجموعات البشرية والهويات والمَعارِف وعبْر هذا إنقاذ الحياة. كما أعلن عن ذلك ووردسوورث Wordsworth ، « على الرغم من الأشياء التي أصبحت، بهدوء، لا معنى لها، وعلى الرغم من الأشياء التي دُمِرَت بشكل عنيف، فإن الشاعر يَربط بواسطة الهوى والمعرفة، معاً، امبراطوريةَ المجتمع البشري الواسعةَ. كما ينقسم على مجموع الكرة الأرضية وفي كل الأزمان». إن أدب التخييل، تحديدا لأنه متفانٍ – «غائية من دون نهاية»، كما يُعرِف الفن عن نفسه منذ كانط Kant -، حصل من جديد على فائدة متناقضة. وإذا كان الأدب لوحده قادرا على أن يكون رابطا اجتماعيا، فهو ممكن، في الحقيقة، بسبب مجانيته وأريحيته في عالَم قائم على المنفعة تميزه التخصصات الإنتاجية. إن انسجام الكون أرساه الأدبُ لأن وحدته الخاصة يؤكدُها اكتمالُ شكله، والذي هو، تحديدا، اكتمال القصيدة الغنائية. في القراءة – يذهب بنا التفكير إلى تأملات لامارتين Lamartine الشعرية-، يَجِدُ الوعيُ اتفاقا معيشا، بصفة كاملة، مع العالَم. وهكذا يمنح الأدب، الذي هو عَرَضٌ وَحَلٌ لاضطراب الحضارة، للإنسان المعاصر رؤية تحمل إلى ما هو أبعد من تقييدات الحياة اليومية.
ولكن كل دواء يمكن أن يُسمِمَ: إما أن يشفي وإما أن يُسمِم، وإما أن يشفي وهو يُسمم، مثل « الدواء في الألم» العنوان الجميل لجان ستاروبينسكي Jean Starobinski . نصبح مرضى بالأدب مثل مدام بوفاري Madame Bovary أو Esseintes (رجل سوداوي). إذا كان الأدب يُحرِر من الدين، فهو يصبح بدوره أفيونا، أي ديانة استبدال، حسب الرؤية الماركسية للأيديولوجيا، لأن ذاك هو تناقُضُ كل مُلحَق.
كان الأدب ميدانا للأخلاق المشتركة في القرن التاسع عشر وفي بداية القرن العشرين، بعد الدين وفي انتظار أن يأخذ العِلم الدور: وقد كان أوغست كونت Auguste Comte وسانت بوف Sainte-Beuve وغوستاف لانسون Gustave Lanson – أو ماتيو أرنولد Matthew Arnold في إنجلترا- رواد تغيير أُنْجِزَ بطريقة مثالية في مدرسة الجمهورية الثالثة. وسيرفع الأدب، هذا المتراس ضد «بربرية الداخل»، كما كان يُشارُ إلى مخاطر الإنكار البروليتاري للأخلاق في إنجلترا، الشعب إلى مِثال جمالي وأخلاقي، ويساهم في السلم الاجتماعي. وبهذه الطريقة تم تجنيد كبار الكُتاب في خدمة الأُمة.
حدث تمرُدٌ ضد هذا الاستغلال السيء للأدب. وقد وجه أنصارُ الفن من أجل الفن انتقاداتهم لأتباع سان سيمون والاشتراكيين والجمهوريين الذين منحوا للأدب مُهمة قيادة الشعب. وبما أن هذه المقاوَمة أكدت الفُتورَ السامي للأدب، فإنها زادت، في الجوهر، من ميزتها وعززت، أخيرا، الثقة التي يستطيع المجتمعُ أن يضعها في قدرتها العلاجية.
3ــ تلي رؤية ثالثة لسلطة الأدب، النظرة التي تصحح نقائص اللغة. الأدب يتحدث إلى الجميع، ويلجأ إلى اللغة المشتركة، ولكنه يجعل من هذه الأخيرة لغة خاصة- شعرية أو أدبية. ويُتلقى الشِعرُ، منذ مالارمي Mallarme وبرجسون Bergson ، باعتباره دواءً ليس لآلام المجتمع، ولكن، وبصفة جوهرية، لِعَدم ملاءمة اللغة. «منح معنى أكثر صفاء لكلمات القبيلة»: تَبَعاً لِقَبْر إدغار بو Le Tombeau d Edgar Poe، هذا هو طموح الشِعْر؛ إنه يُعوض قُصور اللغة ومستوياتها السرية، لأنه الوحيد القادر على التعبير عن المحتوى والاندفاع والوقت، أي القدرة على إحداث الحياة. إن التعريفات الكلاسيكية والرومانسية لسلطة الأدب لم تَعُد لها قيمة – التعليم من خلال بث البهجة، والتخفيف من تشظي التجربة-، ولكن مشروعا حديثا أو حداثويا يجعل من الأدب فلسفةً بل يجعل منها الفلسفةَ، أي تجاوز اللغة العادية.
شيدَ برجسون Bergson عملَهُ على محاكمة اللغة، والتي حاكَم فيها المستويات غير القادرة على إضاءة الواقعي بواسطة الألمعية المطلوبة، ولكن الشِعْر أنقذه من التشاؤم اللساني. إذا كان الذكاء المفهومي قد فشل في الالتحام بالحياة، فإن الأدبَ، عن طريق الحدس والتعاطف، عرف كيف يعيد الحركة: «[…] يوجد منذ قرون أناسٌ تتجلى وظيفتهم، تحديدا، في رؤية ومساعدتنا على رؤية ما لا نتلقاه بطريقة طبيعية. إنهم الفنانون». يهدف الفن إلى «إطلاعنا، في الطبيعة وفي العقل، خارج ذواتنا وفي دواخلنا، على أشياء لا تلفت، بشكل صريح، حواسنا ووعينا». يكشف لنا الشاعر والروائي ما كان موجودا في ذواتنا، ولكننا كنا نجهله لأن الكلمات كانت تنقصنا، وهي ظاهرة وصفها برجسون Bergson بالاستعانة بِمُقارَنَة يمكن أن تُذكِرنا ببروست Proust: «وفي نفس الوقت الذي يُحدِثانِنَا تَظهر لنَا فُروق في انفعالات وأفكار يمكنها أن تكون مُمثَلَة فينا منذ فترة طويلة، ولكنها ظلت غير مرئية: مثل الصورة الفوتوغرافية التي لم تُوضع بعدُ في الحوض حيثُ سَتَكْشِف عنْ نفسِها».
يمتلك الشاعر سلطة ليست قديمة، ولكنها حديثة – كما تؤكد ذلك الإشارة إلى الصورة الفوتوغرافية-، في كشف حقيقة ليست متعالية (ترنسندنتالية)، ولكنها خفية، حاضرة بالقوة، محتجبة بعيدا عن الوعي، مُلازِمة، متفردة، ولم يتم التعبير عنها إلى حد الآن. الشِعْرُ وهو يستخدم اللغة يطفح بإكراهاته، يزور هوامشه ويُظهِرُ فُروقَه ويُثريها من خلال ممارسة العنف معها: « الطريقة الوحيدة للدفاع عن اللغة الفرنسية هي مهاجمتها»، كما كتب بروست Proust إلى السيدة ستروس Straus سنة 1908.
لقد جعل الأدبُ من سلطته الحديثة ترياقا من الفلسفة، نظاما مُضاداً أو فلسفة مضادة. وبسبب تفوقه على الفلسفة فقد حلَ محلَهَا وأنْعَشها. كل عمل بروست Proust موجودٌ، هنا، وقد أعلن عنه في بداية كتابه «البحث عن الزمن الضائع»: «كل يوم أمنحُ ثمناً أقل للذكاء. كل يوم أكتشف، بِشكلٍ أفضل، أنهُ خارج الأدب فقط يستطيع الكاتبُ أن يلتقط شيئا من انطباعاتنا الماضية، أي الوصول إلى شيء من ذاته ومادةَ الفن الوحيدة». الماضي الميت يتجسد في بعض الأحاسيس. يتساءلُ الكاتبُ بسبب هذه الفكرة، بقلق: «هل يمكن أن نصنع منه رواية أم دراسة فيلولوجية، وهل أنا روائي؟ « إنه ينظُرُ إلى الذاكرة غير الإرادية باعتبارها مكانَ الأنا الحقيقي، ولكن الفيلسوف يصطدم بهذا الحدس، بينما يقوم الروائي بإفهامنا إياها، وهو يُحرك نطاقات اللغة. إن الأدب حين يعلمنا أن لا ننخدع باللغة يجعلنا أكثر ذكاء، أو أذكياء بطريقة مختلفة. إن الحاجة الضرورية للاختيار ما بين الفن الاجتماعي والفن من أجل الفن تصبح باطلةً في مواجهة فن يَرغب في ذكاءِ عالَمٍ مُتحرِرٍ من إكراهات اللغة.
إن التصميم على تعويض الفلسفة بالأدب لدى الكتاب الأكثر صرامة في القرن العشرين، هيْمَنَ خلال فترة طويلة. وبعد أن طلق إيف بونفوا yves Bonnrfoy اللغة المباشِرةَ التي يقوم السرياليون بمطاردة سَرابِهَا بما تبقى من الرومانسية، وكما يَشْهَدُ على ذلك كتابُهُ «Anti-Platon» (ضد أفلاطون) (1947) أسَسَ عملَهُ على كُرْه اللغة المفهومية، ضد- الافلاطونية التي تهدف إلى إحباط كل نظام فلسفي حتى يُكرِسَ الشعرَ للبحث عن الحضور الأصيل.
الطلائع النظرية نفسُها، على الرغم مما تمتلكه لم تعرف كيف تتخلص من السلطة التي كانت سيمتلكه الأدبُ في تخطي إكراهات اللغة وحدود الفلسفة. لا يتعامل ميشيل فوكو Foucault أبدا مع الأدب على اعتباره جهازا للسلطة على نفس مستوى باقي الخطابات. متجنِباً نظامهم العام يظل الأدبُ مرجعيةً مفضلة، متموقعة خارج الفلسفة ومتحرِرة من الحتميات التي تخضَع لها الخطابات الأخرى، ومُفرِطة. وهو يستخدم الأدب كي «يتخلص من الفلسفة»، وقد أعلن سنة 1975: «لقد كان نيتشه Nietzsche وباتاي Bataille وبلانشو Blanchot وكلوسوفسكي Klossowski ، بالنسبة لي، طُرُقا للخروج من الفلسفة». وقد كشف فوكو Foucault أن كل الخطابات لمْ تكن إلا أدباً، ولكن ما دام هذا الأخيرُ يَضْمن وضعيته عن طريق نوع من السخرية الشعرية فهو يتجاوز الخطابات الأخرى ويحافظ على مستواه.
وأما بارث Roland Barthes الذي وصف اللغة، في هذا المكان، بـ«الفاشية»، «لأن الفاشية لا تعني المنع من القول، بل الإرغام على القول»، وأضاف على الفور –وهو ما لا نتذكره إلا قليلا- أن الأدب وهو يغش مع اللغة ويغش اللغة، وحده ينقذ اللغةَ من السلطة ومن الخضوع، تماما كما يُعارِض برجسون Bergson ما بين الشعر وجُل أفعال الفلسفة: «هذا الغش المُخلِص، هذا التفادي، هذه الحيلة الرائعة التي تتيح سماع لغة خارج-سلطة[…]، أُطلِقُ عليها، من جانبي، اسم: الأدب».
4ــ لقد عَبَرتُ بسرعة سلطات الأدب الثلاث: فن الإغواء placere وواجب التعليم docere ، إعادة توحيد التجربة أو إصلاح اللغة. وقد أسأنا أحيانا استعمالها أو أخطأنا في ذلك، والأدبُ لم يخدُم، دائما، قضايا عادلة. ولهذا السبب حاول عديد من الكتاب، منذ بودلير Baudelaire وفلوبير Flaubert ، رفض كل سلطة للأدب سوى سلطتها على نفسها. وقد كتب جيد Gide سنة 1902 في تقديمه لكتاب اللاأخلاقي وهو يُطري على عودة الأدب إلى الأدب الذي ميز عقلية مجلة «المجلة الفرنسية الجديدة»: « في الحقيقة، لا يوجد في الفنَ من مشاكل، حيث لا يكون فيه العمل الفني الحلَ الكافي».
وقد حرك نفسُ الإيمان أنصار الإلهام في الكتابة الذين اتبعوا، بعد التحرير وضد الإلتزام، الخيارَ الراديكالي للا-سلطة impouvoir أو تفكيك السلطة depouvoir أو خارج-السلطة hors-pouvoir ، كإنكار لكل انخراط اجتماعي أو أخلاقي، ولأدنى قيم استعمال للأدب، وكتأكيد لحياده المطلق. ستكونون قد تعرفتم على موقف موريس بلانشو Maurice Blanchot ، الذي لم يكن فوكو Foucault وبارث Barthes بعيدَيْن كثيرا عنه، ولكن – وقد رأينا الأمر للتو- من دون أن يُدعِموا حتى النهاية صرامَتَهُ العدمية. وللحقيقة فإن مديح الحيادية، لدى بلانشو Blanchot ، نفسه، تُحافِظ على الاستثناء الأدبي، على الرغم من أنه يمكن للسلطة الرابعة للأدب ألا تكون إلا تنويعاً أخيرا للسلطة الثالثة والرأس الرهيبة للحداثة.
ويشعرنا بارث Barthes أن الأدبَ: «لا يُتيح لنا أن نتمشى بل أن نتنفس». وهكذا ينتقد كل تواطؤ مصلحي للأدب. أَدَانَ كل استخدامات الزوائد والإضافات – البيداغوجية، الأيديولوجية، أو حتى اللسانية- التي قَبِلَها، بصورة متتالية، ولكن مع الاعتراف له بفضيلة صَدْرِيَة. «التنفس»: والغريبُ أن المشاجرة مع رايموند بيكارد Raymond Picard حول راسين Racine كانت بخصوص المعنى ذاته لهذه الكلمة: هل كان ثمة «تنفس» حين كان نيرون Neron يريد أن «يتنفَسَ» عند قدميْ «جوني» Junie ، أم يريد، ببساطة، الاسترخاء؟ الأدبُ يُساعِدُ على التنفس، كما في الهواء الشهير في Pelleas et Melisande : «آه! أتنفسُ، أخيرا!»
في العاصمة بكين، اعترضَ علي أحَدُ الأوفياء للكتابة بالقول بأن السلطة الوحيدة للأدب، في نظره، هي «تزجية الوقت». وعلى الرغم من أن زملاءه أبدوا احتجاجهم، إلا أنه لم يكن على خطأ. «تزجية الوقت»، كان هو هَوَس بودلير Baudelaire ، وكانت «la fiole de laudanum» في نهاية «الغرفة المزدوجة»La chambre double، و«الصديقة العجوز والرهيبة»، أو النبيذ في «بورتريهات عشيقات» Portraits de maitresses ، يُساعدانه على «تزجية الوقت الذي يمتلك حياة قاسية جدا، وتسريع الحياة التي تسيلُ ببطء كبير». تستطيع القراءةُ أن تُسلِي، ولكن كَلُعبة خطيرة، وليس كوقت فراغ عديم الجدوى.
والأخطر من هذا هو تشكيك تيودور أدورنو Adorno وبلانشو Blanchot في إمكانية تأليف قصيدة أو كتابة محكي بعد أوشفتز Auschwitz. وكانا يحكمان على الأدب بأنه باطلٌ أو مذنب، لأنه لم يمنع حدوث (الفِعل)اللاإنساني. من هنا فإن الفن لم يعُدْ يستطيع قط الادعاء بالتخليص من الفظاعات ولا باستعادة الحياة، والأدب أصبح محظورا. إن أعمال بول تسيلان Paul Celanأو صموئيل بيكبتSamuel Beckett تشهد، مع ذلك، على استمراره الضعيف بعيدا عن كل رغبة في السلطة. ومع «الأدب العازاري» littérature lazareenne (نسبة لعازر الصديق الذي أحياه السيد المسيح) لم نَعُد نستطيع الإفلات من أي شيء. كل صفح أو مواساة يصبح من الصعب تخيُلُهُ. لكن أي تقريظ للأدب أجمل مما فعل بريمو ليفي Primo Levi، في «لو كان رجلا»، وهو يُنشِد نشيد عوليس Ulysseويروي الكوميديا المقدسة Divine Comedie لرفيقه في أوشفتز Auschwitz؟
Considerate la vostra semenza
Fatti non foste a viver come bruti,
Ma per seguir virtute e canoscenzaii
إن رفض كل سلطة للأدب غير سلطة الإلهاء استطاع تحفيز المفهوم الفاسد والمنحط للقراءة باعتبارها لذة لَعِبِية بسيطة انتشرت في مدرسةِ نهاية القرن، ولكنها التي تجعل، بشكل خاص، من أدنى استخدامٍ للأدب خيانة، وهذا يفرض علينا، من الآن فصعدا، أن نُدرِسَ ليس وضع الثقة فيه، بل في الحَذَر منه كما لو أنه فخ. أراد الأدبُ الجواب عن طريق حياديته أو تسخيفه على الاحتجاج على تواطؤه الطويل مع السلطات، وفي البداية مع الدول-الأُمَم التي ساعَد(الأدبُ) على انبثاقها. وبعد الولايات المتحدة الأمريكية وصل إلى فرنسا العداء ضد الأدب الذي نُظِرَ إليه مثل ممارسة للهيمنة. وإذا عكسنا فكرةَ الأنوار فإنه سيُنْظَرُ، أكثر فأكثر، إلى الأدب، في كثير من الأحيان، باعتباره مُؤامرةً وليس تحريراً. ذات يوم مررتُ بالقرب من ثلاثة أطفال على عتبة مكتبة كما لو كانوا في مكان سيئ؛ كان أحدهم يصرخُ مُفاخِراً: «لم أفتح أبدا كتابا في حياتي. وتريد أن تُدخلني هنا!»
ما الذي يمكن قوله، اليوم، عن السلطات الإيجابية الثلاث للأدب – الكلاسيكية والرومانسية والحديثة- إضافة إلى سلطته الرابعة –ما بعد حداثية، إن شئنا- ، أي سلطة غياب السلطة impouvoir المقدَس؟ أَلَمْ يَحِنْ وقتُ الانتقال من فقد الثقة إلى الاستعادة ومن الإنكار إلى التأكيد؟ ولكن هل يمكن أن نُصْلِح ما كان دورُهُ هو الإصلاح؟ لقد مثَلَ أدبُ القرن العشرين نهايَتَهُ في انتحار باذخ طويل، لأنه إذا كانت ثمة رغبة في إلغاء ذواتنا، فلأن وجودنا فاق الحد. إننا نطمح إلى اللا سلطة لأن «كل قوة» (toute-puissance) الأدبِ تَكمُنُ في العمق التي لا يقبل الشك، بينما أصبح الغياب – غياب M. Teste- الشكلَ الأعلى للسيادة، وهنا سبق لفاليري أن اقترح: « شعارٌ جميلٌ لأحدهم، – شعارُ إلهٍ، ربما؟ «أُخيِبُ الظنَ»».
لقد حان الوقتُ لتقريظ الأدب، من جديد، وحمايته من التنقيص في المدرسة وفي العالَم. يقول إيتالو كالفينو، أيضا: «إن الأشياء التي يمكن للأدب أن يبحث عنها ويُعلِمَها قليلةٌ ولكن لا يمكن تعويضها: طريقة النظر إلى الجار وإلى الذات، […]ومنح القيمة لأشياء صغيرة أو كبيرة، […]والعثور على أحجام الحياة، ومكان الحب فيها، وقوتها وإيقاعها، ومكان الموت، وطريقة التفكير فيه وعدم التفكير فيه»، وأشياء أخرى «ضرورية وصعبة»، مثل «القسوة، الشفقة، الحزن، السخرية، الفكاهة».
غير أن إفناءَ الأدب أسهلُ من إعادة التشييد عليه. وفي التبرير كيف يمكن تفادي الخطاب الأخلاقي، وكما يقول نيتشه « moraline»( مصطلح ابتدعه نيتشه لتحديد الأخلاق المسيحية)؟ وفي الحقيقة لا يوجد مَخْرَجٌ خارق للعادة- كان الأمر سيُعْرَف- ولا دواء يأتي بمعجزة. لماذا نقرأ؟ تمثيلات أخرى تتنافَسُ مع الأدب في كل استخداماته، حتى الحديثة وما بعد الحديثة، حول سلطته في تجاوز حدود اللغة والتفكُك. وهو لَم يَعُدْ، منذ فترة طويلة، وحيدا في الاعلان عن امتلاكه القدرة على منحِ شكلٍ للتجربة البشرية. السينما ومختلف أشكال الميديا (وسائل الإعلام) التي كان يُحكَم عليها، إلى وقت قريب، بأنها غير جديرة، امتلكتْ قدرة مُشابِهة على بث الحياة. وأما فكرة الخلاص عبر الثقافة فهي تَجُر ما تبقى من الرومانسية. إن الأدب، باختصار، لم يعُدْ نمط الحصول المُفضَل على وعي تاريخي وجمالي وأخلاقي، كما أن فكرَ العالَم والإنسان عن طريق الأدب ليس هو الأكثر انتشارا. فهل يعني هذا أن سلطاته السابقة لا يجب الاحتفاظ بها، وأننا لم نَعُدْ قط في حاجة إليه كي نصيرَ ما نمثله الآن؟
وسيكون من المُضحِك أن يتخلى مُحتَرِفُو الأدب عن الدفاع عن الأدب وإيضاحه، في الوقت الذي تقوم فيه بعض التخصصات باستعادتِهِ، في عجلة، وبشكل خاص التاريخ الثقافي والفلسفة الأخلاقية. وهذه الأخيرة، القريبة من تاريخ الذهنيات histoire des mentalities ، والذي استوحى مدرسة الحوليات Ecole des Annales، تتعلق بتمثيلات جماعية خاصة بمجتمعٍ مَا إن لم تكن تستثمر، من الآن فصاعدا، الأعمال الأدبية في تفرِدِها وقيمتها، فإنها، على الأقل، تستثمرُ نَقْلَهَا عن طريق الكِتَاب والقراءة والناشرين والمجلات أو أيضا ذاكرة الأفكار: يذهب تفكيري إلى أعمال الزملاء موريس أغولهون Maurice Agulhonودانييل روش Daniel Roche وبيير روزانفالون Pierre Rosanvallonأو رُوجِي شارتييRoger Chartier ، وآخرين، مثل بيير نورا Pierre Noraوألان كوربين Alain Corbinأو روبرت دارنتونRobert Darnton .
وأما الفلسفة الأخلاقية التحليلية ونظرية الانفعالات فهي من جهتها تستثمر النصوص الأدبية أكثر فأكثر، وتحضر إلى ذهني، هذه المرة، أبحاثُ زملائنا جاك بوفيريسJacques Bouveresse عن موزيلMusil ، وجُونْ إلستر Jon Elster عن ستوندالStendhal ، أو توماس بافيل Thomas Pavelحول الرواية، وكثيرين آخَرين هنا وفي الولايات المتحدة الأمريكية. وهم يقولون إن قراءة الروايات، ما دام الأمر يتعلق، بشكل خاص بهذا النوع، يَصلُحُ كتعليم أخلاقي في الغرب منذ قرنين. والأدبُ، باعتباره مَصدرا للإلهام، يساعد على تطوير شخصيتنا أو «تربيتنا العاطفية»، كما كانت تفعل القراءات الوَرِعَةُ بالنسبة لأسلافنا. إن الأدب يُتيح الوصول إلى تجربة محسوسة وإلى معرفة أخلاقية يكون من الصعب، بل من المستحيل الوصول إليها عبر مُصنَفَات الفلاسفة. إنه يُساهِم، إذن، وبطريقة فريدة، في الأخلاق التطبيقية كما الأخلاق النظرية.
إن العودة الأخلاقية ethique إلى الأدب، المتولدة من حذر ويتجينشتاين Wittgenstein تجاه الأنظمة الفلسفية والقواعد الأخلاقية morales، تنبني على رفض الفكرة التي مؤداها أنه وحدها النظرية المُكوَنَة من اقتراحات شاملة تستطيع أن تُعلِمنا شيئا صحيحا حول مسألة الحياة الجيدة. إن خاصية الأدب هي تحليل العلاقات الخاصة دوماً التي تربط ما بين المعتقدات والانفعالات والتخييل والعمل، وهو، أي الأدب، يتضمن معرفة لا تُعوَضُ، مستفيضة ولا يمكن تلخيصها، عن الطبيعة البشرية، معرفة التفرُدات. وهكذا يمنح موزيل Musil للأدب «ميدان ردات فعل الفرد على العالَم وعلى الآخَرِين، ميدان القِيَم والتقديرات والعلاقات الأخلاقية والجمالية وميدان الأفكار».
يَجِبُ إذن أن يُقْرَأ الأدبُ ويُدْرَس لأنه يمنح وسيلة – البعض سيقولون الوسيلة الوحيدة- الحفاظ ونقل تجربة الآخَرِين، البعيدين عنا في الفضاء والزمن، أو الذين يختلفون عنا في شروط حياتهم. إنه يمنحنا حساسية لكون الآخَرِين مختلفين جدا وكون قِيَمِهِمْ تبتعد عن قِيَمِنَا. وهكذا فإن مُوظَفاً ما بسبب ما سيجعل من الممتع فك الحبكة في رواية «أميرة كليف»: « La Princesse de Cleves» سيكون أكثرَ تفتحا على غرابة العادات من مرؤوسيه.
وحول هذه المُسلَمَة المُعزَزَة فإن المعادلة الإنسانوية، التي أصبحت من الآن فصاعدا بعيدةً عن كل صراع مع الدين والعِلم، يمكن أن تكون، نفسها، قد خضعت لتفكير جديد تفكير مونتين Montaigne أو بيكونBacon ، يُؤكِدُ أن الانسان المثقف يعيش بشكل أفضل، وأن الأدب يُساعِدُ على الحياة الجيدة. ولقد لخص صموئيل جونسون Samuel Johnson الأمر، بشكل جيد: « إن النهايةَ الوحيدةَ للأدب هي جعلُ القراء قادرين على التمتع بالحياة أو تحملها، بشكل أفضل». وكان ت. س. إليوت T. S. Eliot يُكرِر سنة 1949 أن « الثقافةَ يُمكِن وصفُهَا، ببساطة، مثل ما يجعل الحياة جديرةً بأن تُعاش». ويَحكُمُ بأنه لا يُمكِنُ فهمُ الشرط الإنساني في تعقُدِهِ من دون مساعدةٍ من الأدب، والذين يقرأون أفضل الكُتَاب يَعرفون عنه(الشرط الإنساني) أكثرَ ويعيشون بشكل أفضل.
وقد وُصِف هذا الدفاع الغربي الأخير عن الأدب، في نهاية القرن العشرين، بالمُحافَظَة (مقاومة التجديد)؛ وقد اتُهِم الأدبُ وتدريسُهُ بإخفاء الخصومات التي اخترقت المجتمع، مثلا من خلال الادعاء بأن اختيارا محدودا للأدب الوطني –القانون الأبيض الشهير، ذَكَر وميت- كان هو التعبير عن الإنسانية الشاملة. ولكن الفلسفة الأخلاقية المُعاصِرة أعادت شرعية الانفعال والتعاطُف إلى مبدأ القراءة: يُحدِثني النص الأدبي عني وعن آخرين؛ إنه يُثيرُ تعاطفي؛ حين أقرأُ أتَمَاهَى مع الآخَرين وأتأثَرُ بمصيرهم. وتصبح، مؤقتا، سعاداتُهُم وأحزانُهُم سعاداتي وأحزاني.
إن تحاليل الفلاسفة تبدو، أحيانا، في نظر الأدباء، ساذجةً، لأنها تجهل اللغة الخاصة للأدب، وتُفسِدُ تعقُدَ المعنى، أو أنها تلجأ، بإسرافٍ، إلى نية المُؤلِف. لكن ألا تقترح علينا (هذه التحاليل) أفضلَ تبرير موجود للحُضُور المُتبقي وحتى المُعزَز للأدب في المدرسة، وليس فقط ألعاب [66]اللغة والنصوص الوثائقية؟ تأتي الفلسفة الأخلاقية لمساعدة التعليم الإنسانوي في الوقت الذي يُحرِجُ فيه الوعي الشقي الذي أوحته لهم (أي للفلاسفة) النظريةُ، منذ المرجعية الذاتية autoreferentialite إلى التفكيكية deconstruction والبنائية constructionnisme، أصحابَ الأدب.
وبدورهما لا يجد الناقد هارولد بلوم Harold Bloom و الكاتب ميلان كونديرا Milan Kunderaأيَ حَرَج في إعادة ربط العلاقة مع أخلاقية القراءة. كتب بلوم Bloom»الجواب الأعلى على سؤال «لماذا القراءة؟» هو أنه وحدها القراءةُ المُعمَقَة والدائمة تُؤسِسُ بشكل كامل وتُعزِزُ ذاتاً مستقلة». بالاستفادة من القراءة، تُخْلَقُ شخصيةٌ مستقلة قادرة على الذهاب نحوَ الآخَر. لا يقترح بول ريكور Paul Ricoeur شيئا مختلفا حين يُعلِن بأن الهوية السردية – القدرة على تحويل الأحداث غير المتجانسة في وُجودها إلى محكي بطريقة متجانسة- كانت ضروريةً لبناء أخلاق.
وحسب كونديرا فإن الرواية «تُمزِق ستار» الأفكار الشائعة، والدوكسا doxa أو المُنجَز سلفاً tout fait، وهو ما يسميه بلوم «cant» (الامتثالية)، اللغة الخشبية أو التفكير الأحادي الذي يُذكِرُ بِكاكاني Cacanie (وهو الاسم الذي منحه موزيل Musilللإمبراطورية النمساوية المجرية) في «رجل بلا مزايا» (روبرت موزيل)، متتبعا زلَةَ لسانٍ سعيدةً. وحسب حُكم صموئيل جونسون Samuel Johnsonالعزيز على قلب بلوم: «Clear your mind of cant»(نظِفُوا رؤوسكم من الامتثالية)، أو أيضا من الرياء والنفاق والانغلاق على الذات، كما يفهم ويليام هازليت William Hazlittكلمة «cant». الأدَبُ يُربِكُ ويُزعِجُ ويُحيِرُ ويُباعِد أكثر مما تفعل الخطابات الفلسفية والسوسيولوجية والنفسية، لأنه ينادي على الانفعالات والتعاطُف. وهكذا يجوبُ مَناطق من التجربة تُهملُها الخطابات الأخرى، ولكن يعترف بها التخييلُ في تفاصيلها. وتبَعاً لتعبير هرمان بروخ Hermann Brochالجميل الذي ذكَرَنا به كونديراKundera ، فإن « أخلاقيةَ الروايةِ الوحيدةَ هي المعرفة؛ الرواية التي لا تكتشف أيَ جزءٍ مجهولٍ من الوجود ليست أخلاقية». الأدبُ يُحرِرُنا من طُرُقِنا المُتَفَق عليها في التفكير في الحياة- حياتنا وحياة الآخَرين-، إنه يُتلِف الوعي الطيب وسوء النية. الأدب، من الناحية الدستورية مُعارِض سياسي ومُناقِض – بروتستانتي مثل protervus في السكولائية القديمة، الرجعية بالمعنى الجيد- إنه يُقاوِم البلاهة ليس بعنف وإنما بطريقة دقيقة وعنيدة. إن سلطته التحريرية تظل سليمة، تقودنا أحيانا إلى الرغبة في قلب الأصنام وتغيير العالَم، ولكنها تجعلنا، في غالب الأحيان، ببساطة، أكثرَ حساسية وأكثر حكمة، أي، بكلمة واحدة، أفضل.
ليس معنى هذا أنها نجد في الأدب حقائق شاملة ولا قواعد عامة، بل ليس إلا أمثلة صافية. كان بريفوست Prevostيعتقد أن قراءه يستخرجون القاعدة من المثال. إلا أن الأدب يتصرف بشكل مُخالف للأوامر وأيضا للأمثال. رواية مانون ليسكوت Manon Lescaut بعيداً عن أن تقرأ باعتبارها استعارة عن الحُب الدنيوي والحُب المقدس، إيروسEros وأغابي Agape، تصبح بسرعة نموذجا غامضا عن الحب المجنون بالنسبة لأجيال من الشباب: تمنحهم الرواية إحساسا، ليس معرفةً ولا حس الواجب. مع ذلك، ألاَ يُؤدي فشل العمل الأدبي في كثير من الأحيان في مشروعه إلى تحقيق هذا العمل لنجاحه؟ الأدب، وهو يعبر عن الاستثناء، يمنح معرفة مختلفة عن المعرفة العالِمة، ولكن أكثر قدرة على إضاءة التصرفات والمحفزات الإنسانية. إنه يفكر، لكن ليس مثل العِلْم أو الفلسفة. إن تفكيرَهُ صالِحٌ للبحث ( لا يتوقف أبدا عن البحث)، وليس منطقيا: يتصرف عن طريق التحسس، من دون حساب، عن طريق الحدس، وبالشم. «كلب صيد ممتاز. من المؤسف أنه لا يمتلك حاسة الشم»، هكذا كان يقال عن تين Taineفي عشاءات ماغني Magny: إنه أنهى كتاب «الذكاء» (De l intelligence)، ولكت ليس الرواية الستندالية التي كان يحلُمُ بإنجازها.
يعلمنا الأدبُ أن نحس بشكل أفضل، وبما أن حواسَنا لا حدود لها، فهو لا يتوصل إلى أي خاتمة، ولكنه يظل مفتوحاً مثل مقالة لمونتين Montaigne، بعد أن جعلنا نرى ونتنفس أو نلمس الشكوك والترددات والتعقيدات والتناقضات التي تختفي خلف الأعمال- الانعطافات التي تتيه فيها خطابات المعرفة ولكن جملة طويلة لبروست Proustتُناسبها بشكل رائع، كما هو الشأن في هذا المثال الهزلي، بالتأكيد، حيث يُوجه الساردُ عبثا الكلامَ إلى نادل المُصْعد في فندق غراند-أوطيلGrand-Hotel في بلبيك Balbec: «لكنه لم يرد علي، إما دهشةً من كلماتي، اهتماما بعمله، القلق من انتهاء تاربخ الصلاحية، قسوة سمعه، احترام المكان، الخوف من الخطر، تكاسل ذكاء أم تعليمات المدير».
يوجد إذن تفكير الأدب. الأدبُ تمرين تفكيرٍ. القراءة، تجريب للاحتمالات. لا يوجد، أبدا، شيءٌ جعلني أحس بقلق الشعور بالذنب أفضل من الصفحات المضطربة في رواية «الجريمة والعقاب»، حيثُ يُفكر راسكولنيكوف Raskolnikov في جريمة لم تقعْ والتي ارتكبها كلُ واحد منا. وحتى حين تقوم الرواية الحديثة – لدى بروست Proustأو لدى موزيلMusil – بإلحاق الدراسةٍ فيها ويتم التفكير في الأوضاع بقدر ما يتِمُ حَكيُها، فهي لا تُصوِرُ نظاما ولكنها تخترع تفكيرا لا يمكن فصلُهُ عن التخييل، يهدف إلى إدخال الشك والغموض والتساؤل إلى يقينياتنا أكثر مما يهدف إلى إعلان حقائق. يختم كونديرا Kunderaالأمر بالقول: «إن الحضور الدائم للتفكير لم ينزع بتاتا من الرواية طابعها كرواية؛ لقد أغنى شكلَها ووسَعَ بشكل كبير ميدانا وحدها الروايةُ تستطيع اكتشافه وقوله».
هكذا تُغيِرُ الرواية حياتنَا دون أن يكون ثمة سببٌ يمكن أن ننسبه لهذا، دون أن نعزو تأثيرَ القراءة إلى تأكيد للحقيقة. ليست تلك الجملة لبروست Proust هي التي جعلتني ما أنا عليه، بل كل قراءة «البحث عن الزمن الضائع» la Recherche du temps perdu بعد قراءة «الأحمر والأسود»Le Rouge et Le Noir و»الجريمة والعقاب»Crime et Chatiment ، لأن «البحث عن الزمن الضائع» صَهَرَ كل الكتب التي كنتُ قدْ قرأتُها مِن قبلُ. «عليكَ أن تصير ما أنتَ عليه!» يهمس لي الأدبُ حسب أمر البيتيك الثانيةDeuxiemes Pythiques لـ بيندارPindare ، والتي نقلها نيتشه Nietzscheفي كتابه: هكذا تكلم زرادشتAinsi parlait Zarathoustra.
سيداتي،سادتي،
حاولت أن أتحدث عن كيفية تدريس الأدب وعن الأسباب التي تدفعنا لذلك في بداية هذا القرن. ربما ستعترضون قائلين: « هل وحده الأدبُ يتيح لنا إذن الارتباط بالحياة؟ لن نكون، هكذا، قد خرجنا من العلاج الرومانسي! وماذا عن الفيلم والموسيقى؟ هل يمكننا تقريظ الأدب في القرن الحادي والعشرين كتحرير من ثرثرة أم بصيغة مختلفة، وبشكلٍ رثائي، كردة فِعل على الإمبراطورية الرقمية، في الخوف من هزيمة الكِتَاب؟
نقطة واحدة تزعجني في الجواب الذي سأقدِمُهُ لكم: هل يتوجب علي الإصرار على أن الأدبَ يُعلِمُنا العالَم بشكل حصري؟ هل يجب علي أنا أيضا أن أؤكد أنه يساعدنا على اكتشاف جزء من التجربة البشرية التي ظلت مجهولة لدينا من دونه؟ تذكروا تفكير كالفينو Calvino: « توجد أشياء وحدَهُ الأدبُ يمكنه أن يمنحنا إياها». أو كلمة بلومBloom : « وحدها القراءة العميقة والدائمة… « أو كونديرا Kundera حين يلح على أنه: «وحدها الرواية يمكن أن تَكتَشِف وتقول «. أَلَيْس من القابل للتصديق أن الأدب وحده والقراءة وحدها والرواية وحدها تمنحنا هذا الذي لا تستطيعه الخطابات الأخرى والصُوَر والأصوات؟ لا يتعلق الأمر بالمعلومة، التي توجد في أمكنة أخرى بوفرة كبيرة جدا، ولكن بتكوين الذات والطريق نحو الآخَر. هل من الصحيح أن التخييل هو الجنس الوحيد الذي يُحدثني بشكل كامل عن بعض مظاهر الحياة؟
في الحقيقة تبدو لي في هذه الحاجة الماسة مُبالغةٌ كبيرةٌ. ولكني إذا توقفتُ عن الادعاء بوجود أشياء يستطيع الأدب وحده أن يمنحها لي بوسائله الخاصة، فهل سيجازف تقريظي للأدب بأن يُختَزَل إلى يوتوبيا مُحافِظَة ويُحكَمَ عليه بأن يُصبِحَ حنينَ وحدةٍ ضائعةٍ؟ هل علي أن أختتم بالقول إن الأدب بعد مرور عدة قرون لم يَعُد يلعبُ دورا أساسيا في تعرف كل واحد منا على استعمال حياته؟ وأننا لم نَعُد في حاجة إليه؟
بالتأكيد، إن من يستطيع فعل الكثير يستطيع فعل القليل، ولكن المرافعات لصالح الأدب وحده والقراءة وحدها والرواية وحدها تنغلق في وضعية دفاعية، لأنه ليس ثمة حاجة للإعلان عن هذه الامتيازات. وإن المبالغة في الطلب ستقود إلى الفشل. أَلَمْ تُساهم البيوغرافيات في عيش حياة الآخَرِين؟ ألاَ تُساهِم السينما في تجربة محكياتنا وإذنْ في إكمال هويتنا؟ من هو الذي لم يتلَقَ، وهو يقرأ فرويدFreud ، تجربة اعتراف بالجميل؟
لا شيء يبرِر هنا فقدان الثقة. كل أشكال السرد، ومنها الفيلم والتاريخ، تتحدث إلينا عن الحياة البشرية. مع أن الرواية تفعل ذلك باهتمام أكثر من الصورة المتحركة وبفعالية أكبر من أخبار الحوادث، لأن وسيلتها الثاقبة هي اللغة، وتترك كاملَ الحرية للتجربة التخييلية وللنقاشات الأخلاقية، وبشكل خاص في عزلة القراءة الطويلة. الزمن فيها هو مِلْكي. وأنا أستطيع، دون شك، وقف سَيْر الفيلم وأيضا التوقف عند صورة ما، ولكن مدة هذا الفيلم هي دائما ساعة ونصف، بينما أنا سيدُ إيقاع قراءتي والموافقات والإدانات التي يُحرِكُها فيَ. لهذا السبب يظل الأدبُ أفضل مَدْخل إلى ذكاء الصورة. والأدَبُ – رواية، شعرا أو مسرحا- يُعلِمُني، بشكل ممتاز، دقائق اللغة وبهاء الحوار، بل وحتى الدُعابة، كما هو شأن فيلم عبد اللطيف كشيشAbdellatif Kechiche ، المراوغة « Esquive»(2004)، حيث يقوم شباب الأحياء، في ضريبة لافتة للأدب، بتمثيل مسرحية «لعبة الحب والحظ» Le Jeu de l amour et du hasardفي إحدى الثانويات، وحيث تساهم لغة ماريفو Marivaux في تناغُم مع لغتهم الخاصة، في تعريتهم أمام أنفسهم. ليس الأدبُ وحده من يمتلك وجودا، ولكنه أكثرُ انتباهاً من الصورة وأكثر فعالية من الوثيقة، وهذا يكفي لضمان قيمته الدائمة: إنه «الحياة نمط استعمال» La Vie mode d emploi حسب العنوان الرائع لـجورج بيريكGeorges Perec .
لقد تصرفتُ كثيرا إلى هذه اللحظة كما لو أنه يوجد أدبٌ واحد وكما لو أنه في جوهره سردي. لا، والقراءة ليست هي الأخرى فعلا منفردا، بشكل دائم. بل إنه يمكن أن يصبح أقل صمتا من القرن الماضي، ويكون أكثر نشاطا وأكثر جسدية وأكثرَ مَسْرَحةً. تطرقتُ في البداية إلى تقليد الدراسات حول الأدب الفرنسي الحديث في كوليج دي فرانس وخارجه، منذ قرنين. يجب علي أن أُلِحَ كي أنتهي على تنوع الآداب في فرنسا، اليوم كما البارحة، وعلى طُرُقِنا العديدة في منح القيمة لها، في كل مكان وهنا أيضا: أدب القرون الوسطى مع ميشيل زينك Michel Zinkوأدب أوروبا اللاتينية الجديدة مع كارلو أوسولاCarlo Ossola ، إبداع شعري مع ميكائيل إدواردسMichael Edwards ، وأدب حديث ومعاصر، دون نسيان الفلسفة الأخلاقية، تاريخ الكِتَاب وتاريخ الفن. لن نكون أبدا كثيرين كي نحتفل بالأدب المكتوب والشفوي، السردي والمسرحي، نثر الأفكار والشِعر، إضافة إلى الصُوَر- «شغفي الكبير والأوحد والبدائي»، كما كان يقول بودليرBaudelaire .
هل أجبتُ على الأسئلة التي طرحتها قبل قليل؟ الأدب، ماذا سنصنع به؟ هل يمكن استبدالُ الأدبِ بشيء آخَر؟ إنه يخضع للمنافسة في جميع استخداماته ولا يحتفظ بالاحتكار على أي شيء، ولكن التواضُعَ يَليقُ به وتظل سلطاتُهُ كثيرة لا تُعَد ولا تُحصى؛ يمكن إذا أن يُعانَقَ من دون تأنيب ضمير ومكانته في المدينة مضمونةٌ. إن تمرين القراءة، الذي لا يُغلَق أبدا، يظل المكانَ لتعليم الذات والآخر، بامتياز، أي ليس اكتشاف شخصية مُغلقَة ولكن اكتشاف هوية في صيرورة مُعانِدة.
إن تعليمي في كوليج دي فرانس، في مهمته ليس فقط النظرية أو التاريخية بل وأيضا النقدية، سينحاز إلى الأدب. سيكون سقف تطلعاته عاليا، وسيراهن على قيمته. وسيكون مشروعه هو جعلُ تجريد ومُصادَرة الأدب، التي بدأت منذ فترة طويلة وربما منذ الأزل، لا يصل إلى نهايتهِ أبداً، لأن الأدب ينتمي إلى حركة الأدب والحداثة ذاتها- -، ولأن هشاشَتَهُ –هشاشة رومان جاكبسون Roman Jakobson أمام سونيتة دو بليه Du Bellay- هي التي تجعل الأدبُ مُشتَهًى.
i عمود موريس مود إشهاري يعود اسمه إلى الناشر غابرييل موريس، الذي حصل من السلطات على الإذن بوضع هذه الأعمدة الإشهارية في باريس سنة 1868.
ii «فكر في تصورك: أنت لم تُخلَقْ كي تعيش كالحيوانات، ولكن كي تتبع الفضيلة والمعرفة»، الجحيم، النشيد السادس والعشرون.
أنطوان كومبانيون ترجمة: محمد المزديوي
قاص ومترجم من المغرب مقيم في فرنسا