مما لا شك فيه أن الدراسات العلمية الموضوعية التي تكشف النقاب عن تاريخ عمان في العصور الوسطى قليلة ونادرة . وربما سبب ذلك النقص الى قلة المادة التاريخية من خلال الكتابات والمصادر القديمة . ولربما أن التاريخ العماني في هذه الفترة قد دون وسجل ولكنه لم يصل الينا بأكمله لظروف وأسباب قد تكون اقتصادية أو دينية أو سياسية . إلا أننا نجد في كتب الجغرافيين العرب والمسلمين ما يغطي هذا النقص وخاصة في القرنين الثالث والرابع الهجريين ، التاسع والعاشر الميلاديين .
لقد زار عمان كثير من الرحالة العرب والأوروبيين في فترات تاريخية متباينة وكثيرا ما تعرضوا في زياراتهم الى وصف ما كانوا يشاهدونه في المناطق التي يزورونها، مما ترك لنا تراثا معماريا وفكريا زاخرا بالعديد من الأنماط والأعراف التي كانت سائدة في تلك الفترات التاريخية المهمة من التاريخ العماني.
تطرق هؤلاء الرحالة الى وصف الحياة الاقتصادية والتجارية ، فهناك إشارات مقتضبة تتعلق بهذه النواحي نجدها في كتاباتهم وأوصافهم ، فيذكر ابن الفقيه أن عمان كانت مشهورة بالقنى فيقول ( … والقنى في عمان ) ثم يعدد ما بها من أنواع التمور فيذكر : ( … قالوا أجود تمر عمان الفرض والبلعق والخبوت ) . وأخيرا يشير الى شهرتها بالأسماك قائلا : ( …. ريف الدنيا من السمك ما بين ماهيرويان الى عمان ).(1)
ويصف ابن حوقل موارد عمان قائلا : (…. وعمان ناحية ذات أقاليم مستقلة بأهلها فسحة كثيرة النخيل والفواكه الجرومية من الموز والرمان والنبق ونحو ذلك وقصبتها صحار وهي على البحر وبها من التجار والتجارة ما لا يحصى كثرة … )(2)
أما المقدسي فيتطرق الى نواح عديدة من الحياة الاقتصادية في عمان فيقول : (…. فإلى عمان يخرج آلات الصيادلة والعطر كله حتى المسك والزعفران والبقم والساج والعاج واللؤلؤ والديباج والجزع والياقوت والابنوس والنارجيل والقند والأسكندروس والصبر والحديد والرصاص والخيزران والغضار والصندل ..).(3)
أما ابن خرداذبه فيوضح أهمية موقع عمان في التجارة الدولية فيقول : (…. الذين – أي اليهود التجار- يتكلون بالعربية والفارسية والروسية والافرنجية والأندلسية والصقلية وأنهم يسافرون من المشرق الى المغرب ومن المغرب الى المشرق برا وبحرا ويجلبون من المغرب الخدم والجواري والغلمان والديباج وجلود الخز والفراء والسمور والسيوف …. ثم يركبون في الفرات الى بغداد ثم يركبون في دجلة الى الابلة ومن الابلة الى عمان والسند والصين كل ذلك متصل بعضه ببعض …).(4)
وذكرها العديد من الرحالة والمؤرخين العرب كالادريسي والاصطخري وابن بطوطة بالاضافة الى الرحالة والمستشرقين الذين زاروها وكتبوا عنها كما هو الحال عند ولستد وماركو باولو وبربوزا وغيرهم .
نشأة الأسواق :
من الملامح الرئيسية للمدن أنها ذات طابع تجاري، وتمثل الأسواق مراكز النشاط التجاري بصوره ومراحله المختلفة التي انعكست انعكاسا مباشرا على نمطية الأسواق وأنواعها. ففي الاطار الزمني وجدت الأسواق السنوية الموسمية كتلك التي كانت للعرب قبل الاسلام وضمرت فيما بعد، والأسواق الاسبوعية كسوق الأحد في (دمشق ) وسوق الاثنين في (مكناس ) و(القصر الكبير) وسوق الثلاثاء في (بغداد) وسوق الأربعاء في (الموصل ) وسوق الخميس في (فاس ) و (مراكش ) وغيرها.
وفي الاطار المكاني المحدد للمساحة والموضع وجدت الأسواق الكبيرة كتلك التي وجدت خارج المدن قريبة من أبوابها وأسرارها، والتي كانت تقام أسبوعيا. والأسواق بداخل المدينة تنوعت مواضعها وساحتها حسب نشاطها وخدماتها التي تؤديها فمنها ما كان يخدم أهل المدينة كلها، ومنها ما اختص بتلبية الحاجات اليومية لقطاع صغير في المدينة فصغر حجمها وتحددت وظيفتها فسميت "السويقات ".(5)
وتأتي السوق في المرتبة الثانية للمهمة التي يقوم بها سكان التجمع ، وكانت الأسواق _ الى جانب كونها مراكز تبادل السلع _ مراكز لتبادل الأفكار والشائعات لما يحدث من منافسات في أمور السياسة والاقتصاد وغيرها مما يبرز أهميتها كمراكز اتصال Communication center(6)
ونشأة الأسواق في المدن الاسلامية ترجع الى عهد الرسول محمد صلى الله عليه وسلم ، فقد أنشأ سوقا للمدينة قريبة من دورها. ومن ثم كانت هذه الأسواق سنة انتهجها المسلمون بعد ذلك في المدن الاسلامية في العصور المختلفة . وكانت سوق المدينة عبارة عن ساحة فضاء من الأرض لم يسمح بالبناء فيها، تستغل من قبل أهل المدينة دون مقابل يفترش الباعة بضاعتهم وسلعهم على الأرض في الأماكن التي يختارونها.
كان النظام المتبع في الأسواق هو نظام الأسبقية فمن سبق الى مقعده فهو له حتى يفرغ منه ويشير الى ذلك الخليفة عمر- رضي الله عنه – عندما قال (الأسواق على سنة المساجد، من سبق الى مقعده فهو له حتى يقوم الى بيته أو يفرغ من بيعه).
وهكذا كانت أسواق "مدن الأمصار" في بداية أمرها أيضا فضاء لا بناء فيها ولا سقوف سوى ظلال "بواري" من الحصير كان يضعها الباعه لتظلهم في الأماكن التي يختارونها للبيع والشراء. (7)
وبدأ البناء في الأسواق في عهد معاوية بن أبي سفيان الذي بدأ بالبناء في سوق المدينة المنورة ، ويبدو أن بناء سوق الفسطاط كان هو النموذج التالي ، ففي عهد عبد الملك بن مروان بنى عامله عليها عدة … قيساريات . وتبلورت فكرة تقليد الأسواق المغطاة في المدينة الاسلامية في عهد هشام بن عبدالملك (105- 125 هـ/ 724- 743م ) الذي اهتم بإنشاء الا أسواق على هذه الهيئة في مدن الامصار.(8)
وتبلور نظام تخطيط الأسواق وعمارتها في العصر العباسي وتطور تطورا واضحا بتطور عمران المدن الاسلاميه بعد ذلك .(9)
وقد وجدت الأسواق التي تعددت أمثلتها وتباينت أهميتها ، كانعكاس لانفصال المحلات السكنية ، واختلاف قوة القبائل ونشاطها، ويلاحظ أنها كانت تقع على أطراف المحلات السكنية أي أنه كان هناك نوع من الانفصال بين المنطقة السكنية والسوق ولعل ذلك يعود الى أسباب دفاعية واجتماعية .(10)
والسوق مرفق ضروري لحياة المجتمع المسلم النامي في المدينة ، يغنيهم لحاجاتهم ويقوم على أسس اسلامية جديدة حددها الرسول صلى الله عليه وسلم عندما قال : "هذا سوقكم فلا يضيق ولا يؤخذ فيه خراج ".(11)
الأسواق التقليدية في عمان:
تمتعت عمان منذ أقدم العصور بالموقع الجغرافي المتميز الذي كان من الصعب على الجغرافيين وضع حدود دقيقة له ، هذا الموقع الجغرافي والطبيعي لعمان جعلها تحتل مكانة اقتصادية وتجارية عالمية مما فتح لها نافذة هي الموانيء والأسواق العالمية في فترات تاريخية مبكرة . فقد أبحر العمانيون عبر البحار في فترات مبكرة مما فتح لهم أسواقا عالمية وجعل من عمان مركزا حضاريا وميناء تجاريا بين آسيا وافريقيا حيث وصلت الامبراطورية العمانية .
ويوجد لدينا الكثير من الأدلة الأثرية على ابحار العمانيين ونشاطهم التجاري الممتد الى مناطق جغرافية طويلة ، فقد كشفت الحفريات والتنقيبات الأثرية في رأس الحد ورأس الجنز والحمرا عن العديد من الأدلة الأثرية كالفخار والأختام والمباخر واللقى الأثرية المجلوبة من بلدان مختلفة كالهند وافريقيا والصين مما يدل على عظم النشاط البحري والتجاري للعمانيين في تلك الفترات المبكرة من التاريخ .
هذا بالاضافة الى اللقى الأثرية في مواقع مختلفة من التجمعات السكنية القديمة في الواحات ومواقع التعدين في عمان الداخل ، كل تلك الأدلة الأثرية تشير الى العلاقات العمانية التجارية التي امتدت الى بلدان الشرق الأقصى وافريقيا وأوروبا.
لقد كانت الأسواق هي دائما الطريق الى تبادل السلع والمنتجات المحلية وغير المحلية على المستويين الاقتصادي والاجتماعي، وقد أيدت ذلك الأبحاث الأثرية التي أثبتت أن العمانيين بداوا منذ حوالي الألف الخامسة قبل الميلاد في استغلال الموارد الطبيعية والتنوع البيئي والجغرافي لبلادهم ، وأن المراكز والكثافة السكانية والعمرانية على امتداد الساحل العماني وفي الواحات ومواقع التعدين في الداخل قد اعتمدت على بعضها البعض في الحياة الاقتصادية والتجارية من حيث تبادل السلع والمنتجات المحلية وعمليات التزود بالطعام وغيرها، فعلى سبيل المثال كان يتم تبادل الأسماك من الساحل في مقابل التمور والحبوب والغلات الزراعية من الداخل .
والسوق هو المكان الذي يقصده الناس لشراء حاجياتهم بطريقة مريحة . وعلاقات الناس كمجموعات وأفراد بالأسواق هي علاقة الحياة باستمراريتها ولهذا فالسوق في عمان ليس فقط لمجرد النشاطات الاقتصادية ولتجارية من بيع وشراء وانما أيضا لممارسة النشاطات الحياتية وفرصة تجمع الناس من الأهل والأصدقاء لمناقشة كافة نواحي الحياة المختلفة من مناسبات وعادات اجتماعية لذا أصبح السوق جزءا هاما في حياة الناس . فمنذ القدم أتت علاقة الناس بالأسواق لتجسد تلك الرغبة المشتركة في الحياة وتبادل المنافع التي تؤدي في نهاية الأمر الى استمرار الجنس البشري كمجموعة منظمة ، ولذلك كانت الأسواق وما تزال صورة للتآلف الانساني بين بني البشر بالاضافة الى ضرورة وجودها في هذه التجمعات السكانية لتوفير عناصر الالتقاء وتبادل المنفقة . وتتميز الأسواق العمانية بالطابع التراثي الأصيل .
ويمكن تقسيم الأسواق العمانية التقليدية الى الأنواع التالية :
1- أسواق موسمية «هبطة العيد» .Seasonal markets "وهي متصلة بمناسبات دينية معينة مثل (عيدي الفطر والأضحى). هذه الأسواق على غرار أسواق بعض المدن كالخابورة والسويق التي يطلق عليها (سوق سابع ). وسمي بسوق سابع لأنه عادة ما يقام في اليوم السابع والعشرين من الشهر الذي يسبق عيدي الفطر والأضحى. وفي بعض المناطق تسمى (الحلقة ) كما هو الحال في فنجاء . وهي عادة ما تكون عبارة عن ساحات فضاء بعيدة عن التجمعات السكنية وغالبا ما تكون أمام الأسواق اليومية الدائمة كنزوى والسيب والخابورة وغيرها، وتستقطب هذه الأسواق أعدادا كبيرة من سكان المنطقة أو من مناطق أخرى مجاورة وتتم عمليات البيع والشراء والمساومة على السلع والمنتجات من قبل رواد السوق والبائعين الذين يأتون لشراء الأضاحي من المواشي والأغنام التي يتم التضحية بها في العيد، بالاضافة الى المواد والمستلزمات الأخرى من حلوى وملابس وبخور وعطور وغير ذلك ، وقد كانت هذه الأسواق تلعب دورا وظيفيا حيويا في عمليات تبادل السلع والمنتجات المحلية وغير المحلية .
2- أسواق موسمية seasonal markets" "متصلة بأيام معينة من الشهر (مثل المضيبي) أو الأسبوع (مثل سناو وجعلان ) ، أو في مناسبات موسمية خاصة بمحصول زراعي أو سلعة معينة وهي عادة ما تسمى (المناداة ) مثل مناداة الرمان في هضبة السيق بالجبل الأخضر. ومنها ما يختص بالمناداة على المواشي والتي نجدها تقريبا في كل المناطق ، وفي فنجا يقام سوق بعد الهبطة أو الحلقة بفترة يطلق عليه (سوق العيايير) وهو خاص بالمناداة على التمور والأدوات القديمة ، وقد كانت عمليات البيع والشراء في هذه الأسواق الموسمية تتم في ساحات مكشوفة محددة في الهواء الطلق (الأسواق المفتوحة open markets ) وغالبا ما توجد بالقرب من بناء السوق الدائم الذي يباشر عمله يوميا طوال الأسبوع ، في حين أن ساحات الأسواق المكشوفة تباشر عملها كل يوم خميس وجمعة (سوق سناو) حيث تمتليء هذه الأسواق بالباعة والمشترين والعملاء، ويأتي الناس من المنطقة الموجود بها السوق والمناطق المجاورة لها حيث يبيعون فائضهم من المنتجات الزراعية والحيوانية وما الى ذلك من منتجات محلية ونجد النساء أيضا لهن مشاركة فاعلة في نشاط السوق خاصة فيما يتعلق ببيع واصلاح بعض الحلي الفضية القديمة والأدوات المنزلية للتجار والصاغة .
3- الأسواق الدائمة أو اليومية Daily Markets) ) تلعب دورا كبيرا في المراكز الحضارية كسوق مطرح ونزوى، وهي إما أن تكون أسواقا يومية مكشوفة تزود السكان المحليين والقاطنين باحتياجاتهم اليومية ، أو أسواقا مبنية تفتح أبوابها في الفترة المسائية من بعد الظهر وذلك بعد أن ينتهي من يعملون بها من أعمالهم الزراعية أو الحرفية فيكون لديهم بعد ذلك الوقت الكافي لمزاولة التجارة .
التكوبن المعماري للأسواق العمانية :
لقد ارتبطت الأسواق القديمة ذات الوحدات المعمارية المستقلة بمناطق التجمعات السكنية الفعلية ، وارتبطت أهميتها بأهمية هذه التمركزات السكانية ووظيفتها في النظام الاقليمي، لذلك امتدت بإمتداد الطرق الرئيسية والمواني، وكانت همزة وصل بين البيئات المختلفة وتلك التجمعات السكنية ومن هنا قامت الأسواق العمانية بالاضافة الى وظيفتها التجارية المهمة بوظيفة أخرى وهي أنها كانت تلعب دورا مهما في التبادل الاجتماعي وتبادل الأخبار بين التجمعات السكانية المختلفة .
اختلفت التكوينات المعمارية للأسواق العمانية وخدمت أغراضا تجارية واقتصادية بحتة ويمكن تقسيم منشآت الأسواق في عمان الى ما يلي :
1 – أسواق مبنية كثيفة تتكون من شبكة من المحلات المسقوفة في وسط المدينة القديمة تتصل بالأحياء السكنية وقريبة من المسجد الجامع ، ذات وحدات معمارية مستقلة مخصصة للبيع ، وتصنف الأسواق وترتب على حسب نوعية السلع والمنتجات المعروضة للبيع بحيث تكون السلع المتشابهة ومن نفس النوع قريبة من بعضها ومتلاصقة فمثلا المواد الغذائية منفصلة عن الأقمشة والمنسوجات ، وكذلك فإن الورش الخاصة بالحرف المختلفة تكون منعزلة عن تلك المحلات تماما. والسوق هو الثقل الاقتصادي للمدينة ، هذا النمط التقليدي للاسواق شاع في معظم المراكز الحضرية في انحاء مختلفة من العالم الاسلامي (كما هو الحال في دمشق ) . ومن الأمثلة الجيدة في عمان (سوق مطرح ) وبعض المدن الساحلية الأخرى، ويمكن أن نضيف (سوق عبري) اليها باعتباره يضم بعضا من سماتها المعمارية والتكوينية .
وهناك سوق أسبوعي خاص بتبادل السلع بين النساء والمتعاملين معهن وهو سوق الأربعاء في ابراء وفي عبري، وهو سوق مخصص للنساء تجتمع فيه النسوة لبيع وشراء كل ما يخص المرأة العمانية من أدوات الزينة والعطور والكماليات . كما يتيح السوق الفرصة للقاءات النساء ونقاشهن في كل أمورهن وما يختص بقضايا المرأة العمانية . وهو سوق نساء يجتذب السيدات من جميع انحاء المنطقة وغيرها للتسوق في الملابس والبخور والعطور وغير ذلك .
2- أما النمط الأخر لمنشأة الأسواق في عمان فهو نمط مختلف ، يتميز بأن له بناء قائما بذاته يشغل حيزا مستقلا، له أسوار وبوابات يتم غلقها في حالة توقف العمل في السوق وغالبا ما يكون بعيدا عن المنطقة السكنية وقريبا من الحصن والمسجد الجامع ، يأخذ الشكل المربع أو المستطيل ، وعلى طول الجدار من الداخل تمتد المحلات التي تمارس فيها عمليات البيع والشراء كمحلات الأقمشة والحبوب والبهارات والمواد الغذائية والمنتجات الزراعية والحرفية المحلية ، وفي الحالة الأخيرة فإن الورش الخاصة بأصحاب الحرف والمهن من حدادين وصاغة وحائكين ونساجين تكون بمعزل عن المحلات الأخرى، فهي لا تقع داخل السوق مباشرة ولكن إما في مناطق مستقلة خارج السوق أو في أفنية المساكن أو ملاصقة لبعض البيوت من الخارج مثل (الصاغة والحدادين وصناع الحبال والنساجين ، الخزافين ، الدباغين ).
وتقوم هذه المحلات على مصاطب مرتفعة عن سطح الارض . وقد كان الفرض الأساسي من عمل هذه المصاطب أمام المحلات هو توفير عنصر الارتفاع بها عن مستوى سطر الأرض مما يشكل حاجزا معماريا يحول دون وصول المياه والأوساخ ويمنع من دخولها الى المحلات . كما كانت تتخذ هذه المصاطب أيضا لعمليات البيع وعرض السلع والمنتجات على حد سواء كما في أسواق (الحمراء والسليف وعبري ومنح وغيرها).
وكان بناء هذه الأسواق في الغالب مسقوفا بأسقف من سعف وجذوع النخيل ومغطاة بالحصر والطين ، كما اشتملت بعض الأسواق على أقواس معقودة تتقدم المحلات كما هو الحال في (سوق المضيرب ). وتتم في ساحة السوق المكشوفة التي تظلل أحيانا بسعف النخيل عملية المناداة على المواشي والماعز والأغنام والأسماك وأيضا المنتجات الزراعية ، ويفترش بعض الباعة سلعهم على الأرض .
هذه هي أهم منشآت الأسواق في عمان ويبدو أنها تحولت في فترات لاحقة من أسواق موسمية مكشوفة واستراحات للقوافل الى أسواق مبنية تحيط بها الأسرار والأبواب .
أهم الأسواق التي ذكرها الرحالة:
أشار الجغرافيون والرحالة العرب والأوروبيون الى عمان في مؤلفاتهم ، وركزوا على أهميتها البحرية والتجارية وعلاقاتها بالصين والهند وسواحل افريقيا الشرقية ، كما ذكروا منتجاتها الزراعية وأشجارها وثمارها وما كان يتداول فيها من سلع تجارية مختلفة .
هنالك العديد من المصادر والكتابات التي وضعها كثير من الرحالة المشاهير سواء من العرب أو من الأوروبيين التي تتضمن وصفا دقيقا للمناطق والبلدان التي زاروها ومنها منطقة الخليج العربي بما فيها عمان . ومن خلال هذه المصادر والكتابات يمكننا أن نتعرف على أهم جوانب الحياة الاقتصادية والتجارية وما كان سائدا من أعراف ونظم اقتصادية في عمان . كما نستطيع أن نتعرف على أهم الأسواق التي كانت قائمة أثناء زيارات هؤلاء الرحالة في تلك الفترات المختلفة .
لقد تطرق كثير من الرحالة الى وصف جوانب الحياة الاقتصادية والتجارية التي كانت سائدة في عمان ، كما وصفوا الأسواق وما كان يدور فيها من معاملات تجارية كالبيع والشراء والمساومة ووصف التكوييات والوحدات المعمارية الخاصة بتلك الأسواق بالاضافة الى العادات والتقاليد والنظم السائدة.
في حين أن بعضهم تطرق الى وصف بعض السلع والمنتجات المتداولة سواء المحلية أو المستوردة ، وأسعار السلع والأوزان والمقاييس المستخدمة وغير ذلك . ومن بين هؤلاء الرحالة الذين زاروا عمان وكتبوا عن أسواقها الرحالة الغربي (ولستد) الذي زار عمان في القرن التاسع عشر ، ووضع وصفا دقيقا وشاملا لبعض أسواق عمان لذلك اعتمدت عليه كمصدر أساسي في وصف هذه الأسواق .
يقدم "ولستد" لنا وصفا رائعا لأسواق عمان فمن بين هذه الأسواق يصف سوق مطرح عند زيارته لها حيث قال : (… في مطرح تلوح بيدك الى أصدقائك وتتحاور مع الغرباء، مع مزاح الصيادين في سوق السمك المفتوح ، هنا التفت لأتفحص بإمعان الجزء الكامل المطل على شاطيء البحر… استطلعت سوق السمك المغطى مع سمك الحليب الذهبي المفضض الطازج المتلأليء في ضوء الصباح الباكر كالسردين والكنعد والتونة وغيرها..
وفي سوق الخضار المغطى حيث فواكه الأرض التي تقلب وتفحص من الجمهور ذي اللهجات المختلفة (12) … كل شي ء مغلق يوم الجمعة ، ولكن وجدت بائعي الفودكه في سوق مطرح فاتحين محلاتهم كما هو الحال مع صائغي الذهب والمكتبات وبائعي السمك. تستطيع أن تدخل سوق مطرح ، الذي هو واحد من التجارب الممتعة في عمان من خلال شارع مطرح الكبير .. او من الكورنيش عبر سوق الملابس).(13) .
ومن الأسواق أيضا التي يذكرها "ولستد" سوق ابراء حيث يقدم وصفا ممتعا لمكونات سوقها فيقول : (… والسوق مستطيل مغطى .. كتب ولستد هذه المشاهد عام 1835م _السوق اليومي لبيع الحبوب والفواكه والخضراوات أقيم هنا حيث البدو وسكان القرى المجاورة لجأرا اليه بأعداد كبيرة وضخمة ، الأكشاك التي يقف عليها البائعون لبيع بضاعتهم أثناء ساعات العمل ، إنها صغيرة ومربعة البناء، محاطة بجدار منخفض ومفتوحة من الامام ذات طابق قائم حوالي قدمين عن مستوى الشارع (14)
كما أشار ولستد الى سوق المضيرب إشارة عابرة عند حديثا عن المجلس الذي يجتمع فيه الناس فيقول : (…يمثل المجلس اجتماعيا نصف البيت لنصف المسافة بين المنزل الخاص والسوق الكبير … والغداء وقبل صلاة الظهر أو قبل الذهاب الى السوق في المساء …) (15). نفهم من خلال سياق كلام ولستد أنه رأى سوق المضيرب ولكنه لم يتحدث عنه بشيء من التفصيل .
أما المضيبي فيذكر ولستد سوقها بشكل مختصر حيث قال : (….مع سوق مستطيل كبير جدا …). (16)
ويصف ولستد سوق سناو وصفا جميلا فيقول : (كانت هناك مدينة حديثة مع مسجد جديد وسوق عظيم بني حديثا في شكل مستطيل مع محلات حول نطاقها وسوق للخضار والفواكه مغطى في المركز … . صغار الابل تنتظر المشتري، أرجلمها مربوطة لمنعها من الفرار… أفضل وقت لزيارة سوق سناو هو في الصباح الباكر … ).(17)
ويتطرق ولستد الى وصف سوق ازكي عند حديثه عن المنطقة فيذكر : (… يتكون سوق ازكي التقليدي من أشكال مكعبة أكثر منها محلات … في الشوارع الضيقة من السوق التي يتعذر على الجهات المعادية تفسيرها وفهمها عموما ، وجدت زيت الطبخ والحلوى ولعب بلاستيكية وصحونا صغيرة ومجارف معدنية من دون مقابض وأكياس تسوق وتوابل وعلف حيوانات … ومطاعم على جانبي الطريق … ولكن سوق ازكي داخلي ضيق متقارب مثل رأس السلحفاة داخل صدفتها…).(18)
وزار ولستد نزوى وتحدث عن سوقها وما فيه من سلع وأوزانها وأسعارها فيذكر : (… وجد ولستد عند زيارته لنزوى مواد أساسية عرضت للبيع بأسعار قورنت الى درجة كبيرة جدا بتلك الأسعار التي في المدن المجاورة في الداخل كالأرز والقمح والشعير والفاصوليا ولحم الجمال والبقر والضان وجلد الماعز وزيت الحلوى والزبدة النقية . في عام 1836م بلغت تكلفة زيت الحلوى ( 50 بيس ) لكل باوند (بيسة باللهجة المحلية ) تضاهي اليوم (1,400) ريال لثلاثة كيلو جرامات ، ثم أن الزبدة النقية بلغت ( 56 بيسة ) لكل باوند تضاهي اليوم ريالا واحدا لكل كيلو جرام . النساء في السوق يرتدين الملابس الغنية بالألوان .
أكوام عديمة الترتيب من صناديق ذات غطاء زجاجي وسلال بارزة غير منظمة في الخارج على طريق المارة تعطي ظلالا ثابتة مع أشعة الشمس المائلة … على الجانب المقابل للشارع المطل على مسجد السلطان قابوس الجديد تقف الشجرة التي ينتشر تحتها تجار بيع الأغنام … رجعت الى السوق الأساسي لأرى صائغي النحاس والفضة وتجار البهارات وسبك الذهب … وصل ثمن أوعية القهوة القديمة ما بين (8الى 10) ريالات والخنجر يبدأ من (85 ريالا) وأسعارها منخفضة أكثر مما هي عليه في مطرح …).(19)
أما الحمراء فيشير ولستد الى السوق بأنه مسور وبجانب المسجد : (الحمراء مدينة متجانسة ، ويوجد بها تجمع للعبريين في القرن السابع عشر … التي لفت بموازاة تجمع المسجد والسوق المسور ).(20)
ويذكر ولستد زيارته لبهلا فيقول : : ( … استطلعت بالجوار المنطقة التي تضم المسجد والسوق المسور …. وجدت السوق الجديد مع أكوام السمك المجفف وروزنة مثل علف الحيوانات ، والبرتقال والبطاطس والثوم والتفاح اللبناني والموز وجميعها تركت دون حارس أو خدم عند ذهاب التجار للصلاة . السوق الجديد تم بناؤه في انماط تقليديه …). ( 21)
أما السليف فيشير الى أن : (… السوق مغلق بمصاريع وهاديء…).(22)
سوق بركاء أيضا كان له نصيب في وصف ولستد : (…وجدت بضائع من كل انحاء العالم من الهند وباكستان وتايوان واسبانيا وايطاليا وهونج كونج وجمهور الناس من الصين . ما بين السوق والشاطىء رأيت الملاجي، التقليديه من الباراستي «سعف النخيل » والبيوت …).(23)
ويستمر ولستد في وصف أسواق عمان فيذكر سوق السويق قائلا :(… كنت واقفا في السوق القديم … بيع الحلوى بريالين للنوع الخاص وريال ونصف للنوع الأصلي … وريال للنوع العادي … أغراني في السوق الباميا والبصل والليمون والبرتقال وجوز الهند والتفاح والموز والفلفل الأخضر والخس … ).(24)
وأخيرا يستعرض سوق صحار قائلا : (… رأيت السوق المغطى عام 1986م الذي يضم حوالي 120 محلا تجاريا في شبكة من الممرات الرملية ، كل واحد منها مفتوح على نطاق واسع أكثر أو أقل متسقة الحجم مع العديد من الصناعات مثل البلاستيك والبضائع القصديرية من الصين بالاضافة الى منتجات من الولايات المتحدة الأمريكية والهند وباكستان واليابان وتايوان وكوريا وغرب وشرق أوروبا. كل محل في السوق مستطيل الشكل …). (25)
ومن بين الرحالة العرب الذين زاروا عمان في القرن الثامن الهجري ووصفوا مدنها الرحالة الشهير ابن بطوطة الذي كان له العديد من المؤلفات التي تتناول رحلاته الكثيرة ، ولكننا وللأسف نجد فيها القليل من الوصف عن أسواق المدن العمانية ، فنجده مثلا يصف مدينة نزوى مشيرا الى سوقها : (… ووصلنا الى قاعدة هذه البلاد وهي مدينة نزوى … تحف بها البساتين والانهار ولها اسواق حسنه ومساجد معظمه نقيا …).(26)
كما يصف ابن بطوطة قلهات ويذكر أسواقها : (… ومدينة قلهات على الساحل وهي حسنة الأسواق … وهم أهل تجارة ومعيشتهم مما ياتي اليهم في المحيط الهندي واذا وصل اليهم مركب فرحوا به أشد الفرح …).(27)
في حين .أنه يصف أسواق ظفار وما بها : (… ومدينة ظفار في صحراء… والسوق خارج المدينة بربض يعرف بالحوجاء، وهي من أقذر الأسواق وأشدها نتنا وأكثرها ذبابا لكثرة ما يباع بها من الثمرات وأكثر سمكها المعروف بالسردين ، وأكثر باعتها الخدم ، وهن يلبسن السواد… وزرع أهلها الذرة ولهم قمح يسمونه العلس … والأرز يجلب اليهم من بلاد الهند… ودراهم هذه المدينة من النحاس والقصدير ولا تنفق في سواها،وهم اهل تجارة لا عيش لهم إلا منها…).(28)
ويصف ابن بطوطة هرمز أثناء رحلته : (…. ووصلنا الى هرمز الجديدة وهي جزيرة مدينتها تسمى جرون وهي مدينة حسنة كبيرة لها أسواق حافلة وهي مرسى الهند والسند ومنها تحمل سلع الهند الى العراقيين وفارس وخراسان … طعامهم السمك والتمر المجلوب اليهم من البصرة وعمان … ورأيت من العجائب عند باب الجامع ، فيما بينه وبين السوق ، رأس سمكة كانه رابية …).(29)
بالاضافة الى ذلك فهناك مجموعة لا بأس بها من الرحالة الذين زاروا عمان ووصفوها، فالمقدسي مثلا يشير الى صحار في القرن الرابع الهجري – العاشر الميلادي فيقول : (…قصبة عمان … ذو يسار وتجار وفواكه وخيرات … وهي أيسر من زبيد وصنعاء واليمنيتين ، بها أسواق عجيبة وهي بلدة ظريفة ممتدة على البحر … والجامع على البحر له منارة حسنة طويلة في آخر الأسواق …) .(30)
في حين أن ماركو بولو يصف هرمز في أواخر القرن الثالث عشر قائلا : (… يأتيها التجار من الهند وسفنهم محملة بالأفاوية والحجارة الثمينة واللؤلؤ والأقمشة الحريرية والمذهبة والعاج وغير ذلك من المتاجر ، هذه كلها يبتاعها تجار هرمز الذين يحملونها
بدورهم الى أسواق الدنيا ، إنها في الواقع مدينة عظيمة المتجر…). (31)
ويورد بربوزا وصفا لهرمز في مطلع القرن السادس عشر : وفي مينائها وأسواقها يتبادل الناس سلعا من مختلف الأنواع والبلدان كالأفاوية والتوابل … وخشب الصندل والنيلة والشمع والحديد والسكر والأرز وجوز الهند والحجارة الكريمة والفخار والبخور والأقمشة … والنحاس والزئبق وماء الورد وقماش البروكاد والحرير والملح والصمغ والخيول والتمور والكبريت والمسك … وكل شيء في هرمز مرتفع الثمن لأن المؤن تحمل اليها من خارجها…).(32)
أما فارتما فيورد وصفا آخر لهرمز عام 1503- 1904م : وفي المدينة ما لا يقل عن 400 تاجر ووكيل يقيمون فيها بصفة دائمة للاهتمام بالسلع المختلفة التي تنقل اليها والتى تشمل الحرير واللؤلؤ والحجارة الكريمة والأفاويه وما الى ذلك …).(33)
وخلاصة لما ورد نستطيع القول بأن عمان كانت إحدى الحواضر الاسلامية التي تمتعت بمركز حضاري وتجاري هام يعود الى آلاف السنين . فقد زار المنطقة كثير من الجغرافيين والرحالة وكتبوا تصوراتهم وانطباعاتهم عنها من خلال ما شاهدوه أو ما سمعوه . لقد تباينت وجهات نظرهم واختلفت تبعا لاختلاف الفترات الزمنية والأهمية التجارية واختلافهما عبر العصور. فعل سبيل المثال غلبت على معلومات رحالة الفترة الأولى كابن حوقل والأصطخري طابع الوصف المكاني الجغرافي بالاضافة الى الطابع التاريخي. في حين أن رحالة البقرنين الثالث عشر والرابع عشر الميلاديين _السابع والثامن الهجريين ، كماركو بولو وابن بطوطة فقد غلب على معلوماتهم الوصف التفصيلي للمنطقة ومدنها وعادات وتقاليد شعوبها.
والأسواق في عمان تمثل مظاهر اجتماعية متعددة فيها ألوان التواصل والتداخل والتألف الانساني ، وتتأكد فيها سمات الثقافة والتراث العماني الأصيل ، ولها مكانة اجتماعية مميزة في حياة السكان المقيمين حولها، بالاضافة الى كونها عناصر جذب سياحية تبرز القيمة الفكرية والثقافية والتاريخية للمجتمع العماني وتقاليد0.
الهوامش :
1- عبد دكسن ، مجلة أوراق ، ع 3، 1980م ، ص 46.
2- ابن حوقل ، صورة الأرض ، 1979م ، ص 44.
3- المقدسي ، أحسن التقاسيم في معرفة الأقاليم ، ط 1،1987م،ص99.
4- ابن خرداذبه ، المسالك والممالك ، ط 1، 1988م ، ص154وص155.
5- عثمان ، المدينة الاسلامية ، 1988 م، ص 252.
6- المرجع نفسه ، ص 253.
7- المرجع نفسه ، ص 253.
8- المرجع نفسه ، ص 254.
9- المرجع نفسه ، ص 255.
10 – المرجع نفسه ،ص52.
11 – المرجع نفسه ، ص57.
12- فيليب وارد، رحلات في عمان ، ص 69.
13 – المرجع نفسه ، ص 71.
14 – المرجع نفسه ، ص 196.
15 – المرجع نفسه ، ص 194.
16 – المرجع نفسه ، ص 202.
17 – المرجع نفسه ، ص 207.
18 – المرجع نفسه ، ص 215، وص 216.
19- المرجع نفسه ، ص 227، وص 228.
20- المرجع نفسه ، ص 232.
21- المرجع نفسه ، ص 233.
22- المرجع نفسه ، ص 288.
23- المرجع نفسه ، ص 379.
24- المرجع نفسه ، ص 385.
25- المرجع نفسه ، ص 07 4.
26- ابن بطوطة ، تحفة النظار في غرائب الأمصار ، ج 1، ص 297.
27- المرجع نفسه ، ص 296.
28- المرجع نفسه ، ص 285.
29- المرجع نفسه ، ص 299.
30- المقدسي ، المرجع السابق ، ص 87.
31- نقولا، الجغرافية والرحلات عند العرب ، 1962، ص 240.
32- نقولا، المرجع السابق ، ص 245.
33- نقولا، المرجع السابق ، ص 242.
النص :ناصر سعيد الجهوري(مساعد مدرس بقسم الآثار كلية الآداب ,جامعة السلطان قابوس)