ظهرت فكرة كتابة هذه المقالة في أحد لقاءاتي مع عبدالعزيز الهنائي سفير سلطنة عمان السابق في روسيا الاتحادية في معرض حديث حول الدراسات والبحوث المكرسة لعمان. أعرب الهنائي عن أسفه لأن العمانيين لا يعرفون سوى النذر اليسير منها. واثر تلميح لأهمية الموضوع أعرب عن اهتمامه بكتابة مقال عن هذه الدراسات لينشر في مجلة "نزوى" العمانية وحصل على موافقة هيئة تحرير المجلة، وعليه فإن هذا المقال نضعه بين أيدي القراء العمانيين الكرام إسهاما في تعريفهم على اهتمام العلوم الاستشراقية الروسية بعمان ودول المشرق العربي فبدأها بالتأكيد على أن العلماء الروس كتبوا ومازا لوا يكتبون الكثير عن سلطنة عمان.
يعود السبب في ذلك الى مدى الاهتمام الكبير الذي توليه روسيا للعالم العربي، ولتاريخ المنطقة وتطورها الاقتصادي، ولسياساتها الداخلية والخارجية لدولها. لكن الأمر لا ينحصر بهذا فحسب، واعتقادي أن الروس هم شعب الرحالة والجوالة والمستكشفين. فمنذ القرنين التاسع والعاشر الميلاديين كان الروس يقومون بحملات بحرية على القسطنطينية عابرين بحر الخزر. واكتشفوا معالم بحر البارنز في مراحل مبكرة. وفي عام 1648م قام القوزاقي الروسي ديجنيوف برحلة بحرية طويلة في المحيط المتجمد الشمالي فاكتشف مضيقا يفصل أسيا عن أمريكا ونفذ من خلاله الى المحيط الهادي وهو ما يعرف حاليا بمضيق "بهرنهج".
في عام 1820م اكتشف الرحالان الروسيان فاديم بيلينس هاوزن وميخائيل ولازيريف المحيط المتجمد الشمالي. لذلك كان الروس دائما يهتمون بالشعوب التي أسهمت بدراسة كوكبنا – الأرض. وبالشعوب التي تهوى التجوال واكتشاف المجهول، وكما هو معروف فالعمانيون يعتبرون حقا أحد هذه الشعوب.
ويشير الباحثون الروس الى أن احدى أقدم الحضارات العالمية ظهرت على أراضي مجان وهو الاسم القديم لعمان.
وقد استأثرت باهتمام كبير في روسيا أخبار اكتشاف علماء الآثار لمدينة (أوبار) الأسطورية التي ورد ذكرها في كتابات "أب التاريخ" هيرودوت، والعالم المصري بطليموس.
كرست مجلة "فاكروك سفينا" (حول العالم) مقالة لمدينة أوبار "مدينة الأعمدة" أكدت فيها أن المدينة ظهرت منذ خمسة الاف سنة، وقالت "جميع حضارات العالم القديم كانت تعرف عن وجود أو بار المزدهرة المشهورة باصماغها وطيوبها ويعبق المر واللبان. وهذه الطيوب التي كانت تقدر بأسعار عالية كالذهب هي التي حولت أو بار الى ملتقى للطرق التجارية التي كانت تمر عبر الجزيرة العربية.. ويؤكد المؤرخون أن أو بار كانت جميلة كقطعة من جنة الله على الأرض.
وقد أولى العلماء الروس أهمية كبيرة لانجازات العمانيين في ميدان الملاحة البحرية. مشيرا الى أن مراكز التجارة البحرية ازدهرت في (مجان) عمان في الالفية الرابعة قبل الميلاد. ويؤكد العالم الروسي اندريه شغاكوف على "أن العمانيين كانوا أول أمة عبرت مياه المحيط الهندي، وقد فعلوا ذلك قبل الفينيقيين والمصريين والفرس والهنود والصينيين واليونانيين والرومانيين بزمن بعيد. وكانت السفن العمانية تبحر الى اندونيسيا وجنوب الصين وسيريلانكا (سرنديب) ومدغشقر وزنجبار، وظلت التجارة والنقليات في البحار الجنوبية مركزة في أيدي التجار والبحارة العمانيين طيلة مئنات السنين".
وكانت السفن العمانية تتميز بمواصفات عالية للملاحة كالسرعة الكبيرة، وسهولة الحركة (مرونتها) وقلة الوزن.
وأثناء تحليل العلماء الروس لاعتناق سكان عمان الدين الإسلامي يذكر العلماء الروس أن قبول الإسلام تم بسهولة ويسر، مشيرين الى أن سبب ذلك هو قدوم الإسلام الى عمان عن طريق القبائل العربية المجاورة التي كانت على علاقات ودية مع العمانيين. لكن العمانيين لم يتمكنوا من تجنب الخلافات والتناحرات التي أخذت تمزق جسد الخلافة الاسلامية منذ نهاية القرن السابع.
تشكل الخلافة التي تحولت بسرعة الى أقوى دولة في القرون الوسطى المبكرة وفر للعرب فرصة التحكم بأهم مواقع الطرق التجارية الكبرى في الجزء الشرقي من المحيط الهندي، ومن بسط سيادتهم كاملة على جزئه الغربي. وكانت التجارة ذاتها تساعد في نشر الدين الاسلامي. وقد كتب المستعرب الروسي تيادور تشوموفسكي بهذا الصدد ما يلي: "انتشر الإسلام أنذاك في جزر غجرات وكونكان وملبار والمالديف (ذيبة المهل) ولكاد وكذلك (سرنديب) سيريلانكا وأبعد من ذلك في اندونيسيا. وقد ترافق ذلك بنشر سلسلة متشعبة من قوافل التجار العرب التي تحولت الى جاليات. وفي عصر الخلافة ثبت العرب أقدامهم في الهند. وكان النفوذ الاقتصادي السلمي الى هذه البلدان أجدى نفعا من التوسع السياسي. (المرجع 5).
وقد بلغ العمانيون "ذروة جديدة في فن الملاحة البحرية في القرن الخامس عشر، حيث سيطر الأسطول العماني على المحيط الهندي. وكان ذلك نتيجة لضعف جبروت دولة المماليك في مصر، والتيموريين في فارس، وسلاطين دلهي فر الهند "ففي عام 1420م دار رحالة عربي مجهول حول رأس الرجاء الصالح وأبحر طيلة شهر بكامله باتجاه الشمال في مياه "بحر الظلام" وهو الاسم القديم للمحيط الأطلسي ثم أقفل عائدا" (المرجع 6) وكانت لهذه الرحلة أهمية بالغة في تغيير التصورات السائدة آنذاك عن العالم. واذا أضفنا الى ذلك "ان البحارة العمانيين كانوا تمكنوا سابقا من عبور المحيط الهندي الى المحيط الهادي في دورة حول جنوب شرق أسيا فإن عبورهم من المحيط الهندي الي المحيط الأطلسي كان يعني عمليا اثبات وحدة المحيط العالمي، وبالتالي نسف التصورات المبنية على أفكار بطليموس عن أن المحيط الهندي عبارة عن بحيرة هائلة مغلقة.
والى القرن الخامس عشر يعود تاريخ تأليف الملاحين العمانيين لمصنفاتهم الشهيرة عن فنون الملاحة البحرية وعلوم البحار. وسأسمح لنفسي بالوقوف مطولا عند شروحات المستعربين الروس لأحد هذه المصنفات التي ظهرت الى الوجود عام 1490م، وهو "كتاب الفوائد في أصول البحر والقواعد" لصاحبه شهاب الدين أحمد بن ماجد.
في مؤلفه "قراءات في المخطوطات العربية" كتب شيخ المستشرقين الروسي كراتشكونسكي :"تناولت في يدي أكثر من مرة مؤلفا تركيا – عربيا مختلطا كان موجودا في المتحف الآسيوي في بطرس بورغ. وكان الجزء الأول منه – التركي مكونا من شروحات عن الموسيقى وعرض للسيرة الذاتية "لجيم سلطان" ابن السلطان محمد الفاتح (الغازي) بينما كان الجزء الثاني – العربي يتضمن ثلاث ارجوزات – أي أشعار – لشخص مجهول يدعى احمد بن ماجد تحتوي – كما بدا لكراتشكوفسكي – شرحا مملا للرحلات البحرية.
كانت روسيا قد دخلت أواسط عشرينات القرن العشرين، حيث تمكن الاتحاد السوفييتي من استئناف صلاته وعلاقاته الدولية بما فيها استلام المراجع والأدبيات من الخارج. واثناء اطلاع كراتشكوفسكي على أحد أعمال المستشرق الفرنسي فيران تبين للمستشرق الروسي أن فيران اكتشف في المكتبة الوطنية في باريس مؤلفا للرحالة فاسكوديجاما يسمى "ماليمو لا ناكا" استخدمه البرتغاليون أثناء أول رحلة بحرية لهم في المحيط الهادي عام 1498م ومكنهم من توصيل قوافلهم البحرية من ما ليندا الى كاليكوت. وعرف كراتشكوفسكي ان فيران فك لغز المصنف المرشد "ماليمو لانكا"، وتأكد أن الاسم الحقيقي لمؤلفه هو أحمد بن ماجد. آنذاك أرسل كراتشكوفسكي استفسارا لفيران حول المؤلف وفهم من اجابته ان المخطوطة التي عثر عليها في المتحف الآسيوي تحت عنوان "كتاب الفوائد" غير موجودة في المكتبة الوطنية في باريس وليس لها ذكر في أي مرجع من المراجع المعروفة الأخرى مما يعني انها فريدة من نوعها وفي أول استقراء متأن للمخطوطة اكتشف كراتشكوفسكي ان "كتاب الفوائد" يتكون من ثلاثة مصنفات في ارشاد الملاحة كرس الأول للبحر الأحمر، والثاني لمياه شواطيء افريقيا الشرقية، والثالث للمحيط الهندي.
في عام 1937م وقعت المخطوطة بيد تيادور تشوموفسكي تلميذ كراتشكوفسكي فيما بعد كتب شوموفسكي: "لقد بات مصيري مرتبطا بهذا المؤلف الصغير المتواضع الذي بدا تافها وحقيرا" (المرجع 8). وقد هيأ شرموفسكي نفسه لترجمة "كتاب الفوائد" لكن الحرب العالمية الثانية كانت قد وضعت أوزارها فحالت دون ذلك. وأثناء محاصرة الألمان للينينجراد (بطرس بورغ) رحلت المخطوطة مع زميلات لها كثيرات الى ملجأ في أحد الأقبية. وفر الملجأ دأب اللينيجراديون المحاصرون على حماية المخطوطات بأجسادهم من قنابل الفاشيين علما بأن الجوع كان قد أوصل معظمهم الى حالات غثيان متكررة.
تمكن شوموفسكي من العودة الى ترجمة وتفسير "كتاب الفوائد" فقط في النصف الثاني من الخمسينات ولن أبالغ اذا قلت أن شوموفسكي قام بعمل جبار وهائل فهو يسبر أغوار المؤلف. يقول شوموفسكي "في طيات نص عميق بالغ التميز والفرادة. ومكون بكامله تقريبا من الأفكار الجافة والحسابات الفنية الجامدة والقاسية أظلمت الدنيا في عيني أكثر من مرة. فلم تكن توجد أية نسخة محققة لمقارنة النص الموجود بها، وكانت المراجع المتوافرة تقف حيال "كتاب الفوائد" بصمت رهيب، وليس ثمة من تبادلة كلمة حية تسعفك بفهم مقطع أو جملة أو كلمة.. وكنت كمن يحرث أرضا بكرا لم يمسها أحد من قبل مما اضطرني الى التشبث بالخيط الذي يربط بين أفكار المؤلف، ما أن يفلت من يدي حتى أعود ثانية لقراءة ما قطعته من النص وإذا ما وفقت بالامساك بطرفه ثانية أثبته بالترجمة حالا. وتذكر أخي القاريء أنك قد تصطدم في مثل هذه الحالة بوضع يذكرك أن الفكرة بين يديك قد وردت في النص سابقا، آنذاك عليك أن تشرع في البحث عنها في طيات صفحات كثيرة سبق وانجزتها وعندما تجد الفكرة أو ما يشبهها أعد قراءتها وقارنها بما أنت عليه. ثم أعد القراءة وأعد المقارنة كيلا تخطيء وخلال فترة 10 الى 12 ساعة من العمل الشاق المتوتر والمتواصل كنت أتقدم أحيانا بضعة أسطر لا غير.
لعل أبلغ دليل على ضخامة عمل تشوموفسكي هو أن "ترجمة وشرح 177 صفحة من كتاب الفوائد تطلبت منه تأليف 2722 ملحوظة توضيحية".
انجز تشوموفسكي ترجمة "كتاب الفوائد" عام 1966. ويبدو أنه أدرك أهمية ما أنجز. فأشار الى ذلك بقوله : "ما أنجزناه من البحث يتيح ليس للمنطق فحسب، بل وللخبرة الإنسانية أن ترى وراء هذا العمل الموسوعي ثقافة بحرية عريقة ومتطورة شكلت مهدا للملاحة الأوروبية. لكن غزاة الشرق الأوروبيين أبادوها نمي القرن السادس عشر… ولي أن أعتقد آن بحثنا هذا سيضاعف مجد جهدنا ومجد بلادنا في قلوب الشعوب الأخرى.
ثمة كتاب آخر لا يقل أهمية عن "كتاب الفوائد" هو مؤلف الملاح سليمان بن أحمد المهري، هو "العمدة المهرية في ضبط العلوم البحرية". ويتضمن مؤلف سليمان المهري الذي وضعه بعد نصف قرن من كتاب أحمد بن ماجد وصفا لمسافة 1500 كم من شواطيء افريقيا الشرقية و 500 كم من شواطيء الهند و 200 كم من شواطيء جنوب شرق آسيا.
ويرى الباحثان الروسيان يوسف ماجيدوفيتش وفاديم ماجيدوفيتش ان "مؤلف سليمان المهري يستحق تقييما عاليا من وجهة نظر أيامنا.. وفي تاريخ الأكتشافات الجغرافية ينبغي أن يتبوأ اسم سليمان المهري مكانة هامة عن حق وجدارة".
ويولي المؤلفون الروس اهتماما ملحوظا لفترة التوسع الاستعماري البرتغالي في حوض المحيط الهندي. في الفترة الممتدة من القرن الخامس عشر وحتى السابع عشر الميلادي، والذي ترافق بالسطو على السفن العمانية ونهبها وتدمير مدن عمان الساحلية ونسف المراكز التجارية البحرية العربية،.
نورد فيما يلي عرضا لمشهد بليغ الدلالة من أعمال القرصنة التي كان يمارسها البرتغاليون كما وصفها يوسف ماجيدوفيتش وفاديم ماجيدوفيتش :"أثناء الحملة الثانية لفاسكودي جاما اعترضت سفنه طريق سفينة عربية مسالمة أبحرت من ميناء جدة باتجاه كاليكون وكانت تقل على متنها 400 حاج. وبعد توقيف السفينة ونهبها أمر دي جاما بحبس طاقم السفينة وركابها بمن فيهم النساء والأطفال في حجرات السفينة وأوعز بحرقها. لكن السجناء المساكين تمكنوا بصعوبة من الصعود الى سطح السفينة واطفاء الحريق. آنذاك أمر دي جاما باحراق السفينة العربية ثانية بنيران المدافع، لكن ركاب السفينة تغلبوا على الحريق مرة أخرى واستمر الأمر على هذه الحالة أربعة أيام بلياليها. ولم يتمكن البرتغاليون من إغراق السفينة العربية بصدمها بالسفن البرتغالية لأن الركاب كانوا يرمون السفن البرتغالية المقتربة بقطع الأخشاب المشتعلة. وفي نهاية المطاف تمكن البرتغاليون من حرق السفينة العربية مما أدى الى مقتل جميع ركابها.
ويصف المؤلفان الروسيان هذا المشهد باعتباره حادثا من حوادث كثيرة تدل على قساوة البرتغاليين بتعاملهم مع الشعوب الأخرى. لكن عمان قاومت التوسع البرتغالي بعزم وعناد. "وفي القرن السابع عشر تمكن العمانيون من انشاء أسطول جبار يتكون من 400 سفينة حربية وطردوا البرتغاليين من مستعمراتهم في شرق أفريقيا وإيران (بلاد العجم ) والهند".
في القرن الخامس عشر الميلادي بدأ التجار الروس يزورون عمان. وكانوا ينزلون في مسقط وهم في طريقهم الى الهند. وقد وصلنا من تلك الحقبة وصف لبعض هذا الزيارات في كتاب الرحالة الروسي افاناسي نيكيتين "رحلة وراء الثلاثة بحار". وما يدعو للأسف هو أن المؤلف الذي استفاض في عرض انطباعاته عن الهند، اقتصر على ذكر مسقط كمحطة من محطات جولاته إذ ذكر "أنه وصل مسقط في عام 1471م قادما من هرمز وهو في طريقه الى ديو. وفي عام 1474م غادر دابهول (دابول) ووصل بعد شهر الى اثيوبيا. ومن اثيوبيا أبحرت السفينة التي كانت تقله الى مسقط وقطعت مسافة الفي كيلومتر وهي تبحر عكس الريح والتيار. وبعد عدة أيام في مسقط أبحر الى هرمز متوجها الي روسيا".
الى القرن الثامن عشر يعود تاريخ تسلل البريطانيين الى منطقة الخليج. وفي تحليلهم لتاريخ تلك المرحلة يخرج العلماء الروس باستنتاج "يدحض مزاعم المؤرخين الغربيين الذين يبررون التوسع البريطاني برغبة بريطانيا في وضع حد للقرصنة في الخليج وبحر العرب. ومفاد استنتاج العلماء الروس أن "البريطانيين استخدموا مسألة محاربة القرصنة كذريعة للقضاء على منافسة العمانيين التجارية الناجحة التي كانت تهدد فعلا سيطرة بريطانيا علي البحار الشرقية.
مع نهاية القرن الثامن عشر وبعد "ان أحكمت بريطانيا سيطرتها على الهند برزت لديها أهمية السيطرة على المداخل المؤدية الى "درة (التاج) البريطاني" في الهند بما فيها عمان. وبعد افتتاح قناة السويس عام 1899م "حاولت بريطانيا بسط سيطرتها على شبه الجزيرة العربية بالكامل مخضعة لنفوذها أكثر وأكثر كلا من عمان وشاطيء الهدنة وقطر والبحرين".
ثمة حادث يستحق الاهتمام يرتبط بعمان بداية القرن العشرين ويتعلق بطراد "فارياغ" الروسي الخفيف مفخرة الأسطول الروسي الذي تحول اسمه الى اسطورة فيما بعد.
في عام 1901م أمر قيصر روسيا نيكولاي الثاني بارسال "فارياغ" الى عمان وبلاد العجم (ايران) والكويت وذلك تأكيدا على حق حرية الملاحة في هذه المياه لجميع الدول، وكنقيض لمساعي حكومة بريطانيا العظمي الرامية الى تحويل الخليج الى بحر مغلق يخضع لمصالحها حصرا. وفي مساء 27 نوفمبر اقترب "فارياغ" وهو ينير طريقه بأضواء الكشافات من مسقط. وفي الصباح فتح بحارة "فارياغ" أعينهم على منظر بهي رائع. لسان خليجي تحوطه جبال صخرية تراءت في ذراها بقايا بروج حراسة من عهود مضت.
في تمام الثامنة صباحا وبعد أن رفع البحارة الروس علم السلطنة الأحمر أطلقوا "تحية الأمم" وعلى الفور تلقوا رد التحية من بطارية لخفر السواحل العمانية كانت قد رفعت العلم الروسي على ساديتها، بعد برهة وجيزة زار الطراد الروسي أول وزير عماني. ودعا الوزير قبطان الطراد والضباط الى وليمة في قصره. وفي صباح 26 نوفمبر قام صاحب الجلالة فيصل بن تركي مع لفيف من حاشيته بزيارة الطراد الروسي وقائد وضباط الطراد قد وقفوا في صفوف متوازية متراصة لتقديم التحية للضيف السامي. وفي جناح الضباط شرب الضيوف القهوة ثم قاموا بجولة في الطراد تعرفوا خلالها على حجره وبنيانه. وتعبيرا منه عن التعاطف والود طلب صاحب الجلالة عزف النشيد الوطني الروسي.
ومن الطريف واللافت للنظر أن ملاحي سفينة "لينينوغورسك" السوفييتية التي زارت مسقط بعد مرور نصف قرن على حادث "فارياغ" عثروا على جملة باللغة الروسية هي "فارياغ" 1901م". كان قد كتبها بالحبر الابيض على أحدى الصخور بالقرب من المدينة أحد أفراد طاقم "فارياغ".
لقد ازداد عدد المطبوعات والمقالات المنشورة عن عمان بصورة جادة في التسعينات، ويعود السبب في ذلك الى أن اقامة العلاقات الدبلوماسية بين روسيا وعمان وروسيا ودول الخليج الأخري قد اتاحت فرصة تعزيز العلاقات مع هذه الدول ليس على الصعيد الحكومي الرسمي فحسب، بل وعلى صعيد علاقات التجارة والأعمال الخاصة مما ولد الحاجة الى معلومات أكثر تفصيلا عن دول المنطقة. وتشمل المؤلفات المكرسة لعمان والتي نشرت في السنوات الأخيرة جميع جوانب الحياة بما في ذلك الأوضاع الاقتصادية للبلاد واتجاهات تطورها وسياستها الداخلية والخارجية.
ويقدر العلماء الروس تقديرا عاليا النتائج المحققة في عهد صاحب الجلالة السلطان قابوس بن سعيد الذي حدد مهمته الرئيسية اثر توليه الحكم بكلمة واحدة هي التجديد". يقول الباحث الروسي كابيتونوف : "في ظل حكم صاحب الجلالة السلطان قابوس بن سعيد حققت عمان "قفزة" الى الحضارة المعاصرة. وفي هذه البلاد التي كان رصيدها ثلاث مدارس ابتدائية للبنين، وبضع مؤسسات تعليمية مهنية، توجد الآن 600 مدرسة 46% من تلاميذها من البنات، وتم تأسيس شبكة فعلية من المدارس والمعاهد المتخصصة. اضافة الى 1300 مركز متخصص لمحو الأمية عند الكبار. وفي عام 1987م افتتحت جامعة عمان. ويشيد العلماء الروس بالطابع المستقل لسياسة السلطان قابوس بن سعيد الخارجية، منوهين على وجه الخصوص "بقراره الشخصي اقامة العلاقات الدبلوماسية مع الاتحاد السوفييتي عام 1985 بالرغم من تذمر العديد من الحلفاء المنتقدين ويخرج كابيتونوف بالاستنتاج العام التالي: "في سنتي حكم جلالة السلطان قابوس بن سعيد تحولت عمان من دولة من أكثر دول العالم تخلفا الى دولة تستطيع المفاخرة بالعديد من معالم الرفاه والغنى مثل بلوغ متوسط دخل الفرد السنوي في عمان 8000 دولار، وامتلاك ودائع بنكية خارجية بمقدار 3 مليارات دولار.. الخ.
ويكرس الباحثون والمستشرقون والعلماء الروس حيزا ملحوظا من مؤلفاتهم اهمية علاقات روسيا مع عمان وغيرها من دول الخليج، في اشارة الى أن اهتمام،روسيا بتطوير العلاقات مع دول المنطقة ناجم عن أهميتها الاستراتيجية بالنسبة لروسيا بسبب قربها من الحدود الجنوبية لروسيا. ويؤكد العلماء الروس انه "ينبغي اعتبار مشاركة روسيا في تحقيق الأمن الإقليمي في المنطقة مهمة تتجاوب مع مصالحها الجيوسياسية.
إن اهتمام روسيا بسلطنة عمان والكم الكبير من المؤلفات التي كتبت ونشرت عن هذه البلاد وعن ماضيها وحاضرها يرسيان – كما يخال لي – الأسس الراسخة لمواصلة تعزيز العلاقات الودية بين بلدينا وتطوير العلاقات الثنائية بينهما في شتي المجالات.
المراجع:
1- مجلة "حول العالم" عدد (8) 1998.
2- شفاكوف أ. ف. "كفاح عمان" موسكو 1961م.
3- بوشاكوف أو. غ. "تاريخ الخلافة" مجلد 3 موسكو 1998.
4- كريفيليف إي. أ. "تاريخ الأديان" موسكو 1988م.
5- شوموفسكي ت. أ. "على شاطئ بحر الاستعراب" موسكو 1975م.
6- ماجيدوفيتش ي. وماجيدوفيتش ف. "تاريخ الاكتشافات الجغرافية" موسكو 1982م مجلد (1).
7- كراتشكوفسكي ي. يو. "قراءات في المخطوطات العربية موسكو، لينينجراد 1946م.
8- فاسيليف أ.م. تاريخ المملكة العربية السعودية موسكو 1999م.
9- ميلنيكوف ر.م. "الطراد فارياغ" لينينغراد 1975م.
10- شفاكوف أز/ البلدان العربية. التاريخ ولاقتصاد، موسكو 1970م.
11- مجلة "الحياة الدولية" 1988 عدد (5).
12- بريجنيف ل. إي. "على نهج لينين" 1981م. مجلد (8).
13- ميلكوميان ي. س. "مجلس التعاون الخليجي في العمليات والاقليمية" موسكو 1981م.
14- "العالم العربي" أو "المجلد العربي" موسكو 1999م.
15- "الشرق الأوسط والعصر الحديث" الاصدار 7 موسكو 1999م.
16- كاييتونوف ك. أ. "الشرق الأوسط من خلال الشخصيات السياسة" موسكو 1988م.
أليكس بودتستروب ( مستشرق ودبوماسي من روسيا)