لا يمكن القيام بتقويم مسيرة الباراسايكولوجيا الغربية، منذ النشوء وحتى يومنا هذا، من دون استذكار مسيرة الفيزياء المعاصرة بشقيها النظري والتجريبي وذلك لأ ن اقامة علاقة تناظرية بين منهج البحث الفيزيائي ومنهج البحث الباراسايكولوجي تسوغها حقيقة كون الفيزياء تعني بدراسة الظواهر الطبيعية المألوفة للمادة والباراسايكولوجيا تعني بدراسة ظواهرها غيرا لمألوفة. إن أكبر خطأ وقعت فيه الفيزياء على مر عصورها، كان محاولاتها أن تكون منظومة تفسيرية لظواهر المادة وتفاعلاتها سواء كانت هذه الظواهر حرة طليقة في الطبيعة أم مقيدة داخل مختبرات البحث. وهكذا فقد ابتعدت الفيزياء عن أن تكون علما تجريبيا يكتفي بدراسة الظواهر دراسة مختبرية وفق ضوابط المنهجية التجريبية وذلك من دون أن تحاول الولوج في تفسير هذه الظواهر باختراع كيانات وهمية نظرية وقع في ظن مخترعيها أن لا سبيل هناك للتعامل معرفيا مع الظواهر قيد الدرس الا باللجوء اليها. ان هذه الكيانات النظرية المتوهمة لا يمكن على الاطلاق اقامة البرهان الكافي على حقانية وجودها الموضوعي، ان اكتشاف الطبيعة هوا لهدف الصحيح للبحث الفيزيائي وليس اختراع طبيعة بديلة لا وجود لها الا في مخيلة مخترعيها؟
لقد تغافل البحث الباراسايكولوجي في الغرب عن هذه الحقيقة المنهجية فوقع في نفس الشرك القاتل الذي مازالت البحوث الفيزيائية النظرية في الغرب تتخبط في متاهاته. فلقد قام البحث الباراسايكولوجي الغربي على أساس منهجي غير سوي، إذ لم يحصر مجال عمله داخل حدود الظواهر الحرة الطليقة أو الظواهر المقيدة (المختبرية) ان هذه الانطلاقة المنهجية الخاطئة تقوم على افتراض مؤداه أن العقل البشري قادر على الاحاطة التفسيرية بهذه الظواهر. ان هذا الافتراض غير مسوغ له من الناحية الابستمولوجية وذلك اذا ما تم الاعتماد عليه في التأسيس المنهجي للبحث العلمي، لقد كان بإمكان البحث البارسايكولوجي الغربي ان ينحو منحى تجريبيا صرفا فيكون أنذاك النجاح المطلق حليفا كم هو الحال مع علم الفيزياء التجريبية الذي هو أساس التقدم الحضاري المعاصر والسبب المباشر والرئيسي وراء وصول الانسان الى فرض سيطرته على الكثير من الظواهر الحرة والمقيدة كما تبين ذلك، وبكل وضوح، الانجازات التكنولوجية الهائلة التي تميز عالم اليوم. ولكن البحث الباراسايكولوجي في الغرب نهج على المنهاج الذي شرعته الفيزياء النظرية فأخذ عنها حرصها المستميت على اختراع الكيانات الوهمية النظرية فخرج علينا باختراعات نظرية من مثل المجال الكلي والطاقة الحيوية والبعد الخامس والاشعاع النفسي ظنا وتوهما بأن هذه المصطلحات المستعارة غالبيتها من الفيزياء النظرية بمقدورها أن تفسر الظواهر غير المألوفة. إن الأزمة المنهجية للبحث الباراسايكولوجي المعاصر في الغرب هي السبب وراء تخبطه الأهوج في متاهات التفسيرات المتناقضة فيما بينها وبين النماذج النظرية المتصارعة على الكم البسيط من ظواهر الوجود غير المألوفة التي حصر هذا البحث نفسه داخل حدودها الضيقة.
ان ما قدمته الباراسايكولوجيا الغربية بعد عشرات السنين من نشأتها هو هذا الكم الهائل من الكيانات الوهمية النظرية التي انشغلت بها عن الالتفات المنهجي الصائب الى ضرورة مراجعة انطلاقتها الخاطئة، تلك الانطلاقة التي أدت بها الى اهمال البحث التجريبي الى الدرجة التي جعلت من الباراسايكولوجيا فلسفة ميتافيزيقية فاشلة بدلا من أن تكون علما تجريبيا قائما على أساس منهجي قويم يعتمد على الانغماس الكامل والانشغال التام بالدراسة العلمية الموضوعية للظواهر الحرة والمقيدة من دون تمييز أو انحياز أو انتقاء، والاكتفاء بهذا عن أن تقع في هوة التنظيرات الوهمية كما هو حالها البائس اليوم، لقد ظهرت الباراسايكولوجيا لدراسة ظواهر خاصة تستعرض فعاليات خارقة للمألوف بإمكان قلة من البشر القيام بها، ولم يجعل الرواد المؤسسون ومن تبعهم، الباراسايكولوجيا فرعا من فروع الفيزياء وذلك لأنهم تحسسوا الخطأ الكبير الذي يقود اليه الاسراع بتصنيف الظواهر غير المألوفة على أنها ظواهر فيزيائية ذات خصوصية معينة، وهم بتريثهم هذا قد سلكوا نهجا علميا سليما ترك باب البحث مفتوحا أمام كل من يريد أن يساهم في الكشف عن حقيقة ظواهر الوجود الغامضة إلا أن الباراسايكولوجيا من خلال جهود بعض منظريها كانت قد بدأت بالتأثر بالفيزياء النظرية بشكل تدريجي وتصاعدت شدة هذا التأثر حتى أصبحت معالمه اليوم واضحة يمكن ملاحظتها من خلال أية دراسة تقارن بين الخطوط العريضة والتفاصيل الدقيقة للباراسايكولوجيا والفيزياء النظرية.
فكما جعلت الفيزياء النظرية من تفسير الظواهر الفيزيائية هدفا لها قامت الباراسايكولوجيا باتخاذ تفسير الظواهر التي تعني بدراستها هدفا رئيسيا من أهدافها ولم يقتصر تأثر الباراسايكولوجيا بالفيزياء النظرية على اقتباسها لهدفها التفسيري منها وانما تجاوزه الى بناء نظرياتها التفسيرية على نفس نسق النظريات الفيزيائية مستوردة معظم أفكارها ومستنقبة كل أساسياتها ومصطلحاتها النظرية مثل المجال والطاقة والموجة وغيرها. وبسلوكهم لهذا النهج، مقلدين الفيزيائيين النظريين، فقد تغاضى منظرو الباراسايكولوجيا عن حقيقة كون الفيزياء النظرية لم تثبت الى الآن أي نجاح حقيقي لها وان نظرياتها ليست أكثر من فرضيات استنتاجية مليئة بالتناقضات والفجوات العلمية وهي عاجزة عن مجابهة التحديات المتلاحقة والمتجددة التي تواجهها بها الفيزياء التجريبية كل يوم بل كل ساعة، ان هذا يحتم على هذه النظريات أن يكون وجودها وجودا مرحليا إذ تختفي بعد حين من ظهورها وتندثر لتحل محلها نظريات بديلة تحاول تجنب عيوب سابقاتها بعيوب أخرى غيرها، وهكذا انتقلت عيوب النظريات الفيزيائية الى مثيلاتها الباراسايكولوجية.
إن الاتجاه بالباراسايكولوجيا نحو الاستعانة بأفكار الفيزياء النظرية لا يؤدي الى تشبع النظريات الباراسايكولوجية بأخطاء النظريات الفيزيائية فحسب وانما يشكل خطورة أكبر إذ أنه بمثابة منهج يدمر الأساس الذي قاست عليه الباراسايكولوجيا كعلم ذي كيان مستقل ومنفصل عن باقي العلوم بسبب من الطبيعة الخاصة للظواهر التي يدرسها. إن قيام هذا الاتجاه بتدمير الأساس المتمثل بفصل الظواهر الخارقة للمألوف عن الظواهر الفيزيائية سيجعل من الباراسايكولوجيا فرعا من فروع الفيزياء ينظر الى الظواهر غير المألوفة على أنها ليست سوى ظواهر فيزيائية بشرية ينحصر تواجدها في أفراد قلائل، وبهذا ينحصر البحث في ظواهر الوجود غير المألوفة داخل حدود امكانية، ومرونة تطبيق النظريات الفيزيائية على الكائن البشري فيصل اتباع هذا المنهج بالباراسايكولوجيا الى نفس النتيجة التي وصل اليها أصحاب العقول الضيقة من علماء الباراسايكولوجيا إذ افترضوا دون برهان أن الظواهر الخارقة للمألوف هي ظواهر بشرية مئة بالمئة.
لقد قام اتباع المذهب البشري في تفسير الظواهر غير المألوفة ببناء نظرياتهم على أساس من استغلال حقيقة كون الدماغ هو مركز انبعاث وقيادة مختلف الفعاليات الحيوية في الانسان فاتفقوا على اعتبار الظواهر الخارقة للمألوف فعاليات دماغية واختلفوا من خلال نظرياتهم المتباينة في شرح الكيفية التي يقوم بها الدماغ بإحداث هذه الظواهر وتفاصيل تحكمه فيها، إن الدماغ البشري كيان معقد فسيولوجيا وتشريحيا وذو امكانيات هائلة مما يرجح من الناحية المنطقية احتمالية أن يكون لهذا الدماغ القدرة على الاتيان ببعض الفعاليات التي تصنف على أنها خارقة للمألوف عند مقارنتها بالفعاليات الدماغية المعروفة، الا أن هذا الترجيح المنطقي يجب الا يعامل معاملة الحقائق من قبل أن تنم البرهنة على واقعيته، فإن أمكن برهان ذلك فيجب توخي الدقة في تحديد الفعاليات المقصودة وعدم تعميم ذلك على بقية الظواهر غير المألوفة. ان المذهب البشري في تفسير ظواهر الوجود غير المألوفة والداعي الى أنسنة جميع هذه الظواهر هو منهج خاطيء لأنه وليد الافتراض الخاطيء بإمكانية النظر لكل تفاصيل الظاهرة غير المألوفة من منظار الفيزياء النظرية.
وهنا يجب التأكيد على أن بعض أتباع المذهب البشري في تفسير الظواهر الغامضة قد قام بأنسنة الباراسايكولوجيا منطلقا من الايمان الدوغماني بفلسفات تعاملت مع موجودات العالم تعاملا بعيدا عن العقيدة التجريبية التي يجب أن ينضبط بقواعدها الصارمة البحث العلمي الرصين حتى لا يضل في متاهات التنظير والتفسير فينشغل عن الوجود الواقعي بوجود مختلق لا ينتمي إلا الى عالم الخيال. إن المذهب البشري في تفسير الظواهر غير المألوفة يمثل احياء لمنهج فلسفي شائه عاش مئات السنين من قبل أن يكتشف الانسان فشله فيهجره، وهذا المنهج يعتبر الانسان مركزا للكون تدور من حوله كل الظواهر والأحداث كما ويعزو اليه الدور الرئيسي في تفسير لحل ما حدث ويحدث حوله أو بعيدا عنه. لذا فإن الاتجاه السائد حاليا لتفسير ظواهر الوجود غير المألوفة على أساس بشري يمثل نزولا على سلم التقدم الفكري الانساني الى المستوى الذي كان عليه قبل أكثر من مئتي سنة. وبالنتيجة فإن هذا الاتجاه خاطيء جملة وتفصيلا.
إن في دروس التاريخ من العبر ما تكون في استذكارها فائدة جمة في الحاضر والمستقبل. ومن هذا المنطق فإن النظرة السريعة التالية لتاريخ علم الأمراض سوف يكون بإمكانها الاسهام بصورة فاعلة في تقويم المعالجات الفكرية المعاصرة للظواهر غير المألوفة، وذلك لأن هنالك تشابها أساسيا ومهما بين الباثولوجيا (علم الأمراض) والباراسايكولوجيا، اذ يدرس الأول الظواهر البشرية المرضية والتي تمثل تدنيا في مستوى الفعاليات البشرية وتحديدا غير سوي للامكانيات الجسدية للانسان فيما يبحث الثاني الظواهر البشرية الخارقة للمألوف والتي تمثل سموا في مستوى الفعاليات البشرية وانطلاقا لامكانيات الانسان نحو آفاق جديدة تتجاوز واقعه المحدود بمحدودية حواسه وقدراته.
لقد كان علم الامراض ومنذ القرن الخامس قبل الميلاد، يعتمد في تفسيره على أسباب حدوث الأمراض على نظرية عرفت بنظرية الأمزجة. وكانت الاصابة بالأمراض تعزو لحدوث اختلاف في توازن هذه الأمزجة المفترض وجودها في جسم الانسان. وبقيت هذه النظرية سائدة حتى القرن السابع عشر حيث بدأت تدريجيا من قبل علماء الأمراض مع انسياقهم المتزايد باتجاه المنهج التجريبي وتخليهم عن المناهج النظرية وأسلوب اطلاق الأحكام بالاعتماد على تأملات فلسفية ميتافيزيقية بختة. فطرحت لأول مرة أفكار تجريبية، تمت البرهنة على صحتها فيما بعد، اعتبرت الأمراض وليدة عدم قيام بعض أعضاء الجسم بأداء وظائفها بصورة سليمة، ثم تقدم علم الأمراض خطوة كبيرة الى الأمام باكتشاف الميكروبات وتأثيراتها كأسباب مباشرة في حدوث الكثير من الأمراض، وهكذا أصبح واضحا أن سبب حدوث مرض معين هو اما علة داخلية تنمل في عدم قيام عضو من أعضاء الجسم بأداء وظيفته بصورة صحيحة، أو علة خارجية تتمثل في وصول ميكروبات ضارة الى بعض مناطق الجسم. لقد كان بإمكان الباراسايكولوجيين من خلال تجنبهم الوقوع في فخ أمزجة الفيزياء النظرية والاستفادة من الخبرات التي تقدمها دراسة بعض العلوم، مثل علم الأمراض، الوصول الى تحديد دقيق لطبيعة الظواهر غير المألوفة، فبدءا كان يمكنهم افتراض احتمالية أن تكون كل ظاهرة غير مألوفة هي إما بشرية أي داخلية عضوية المنشأ في جسم الانسان أو غير بشرية أي خارجية المنشأ تحدث نتيجة تدخل كائنات غير بشرية لا محسوسة، ومن طبيعة الظواهر غير المألوفة ومواصفاتها والامكانيات الخارقة للمألوف التي تتجلى فيها يمكن الاستنتاج أن مثل هذه الكائنات يجب أن تكون ذات خصائص متفوقة تتجاوز كل امكانيات التحسس لمختلف الأجهزة المخترعة بشريا حتى يومنا هذا، وهذه نتيجة منطقية جدا اذا أخذنا بنظر الاعتبار أن الميكروبلات هذه الكائنات الدقيقة والتي لا يمكن على الاطلاق مقارنة صفاتها بالصفات المتوقعة للكائنات المسببة للظواهر غير المألوفة لم يتم اكتشاف وجودها الا في القرن السابع عشر وذلك بعد أن وصلت تقنية صناعة المجاهر مرحلة متقدمة نسبيا، بل وان بعض هذه الميكروبات بقي بعيدا عن الاكتشاف فلم يكتشف الى أن تم اختراع المجهر الالكتروني.
اذن فلكي نحدد ما اذا كانت ظاهرة غامضة معينة هي فعالية بقسرية أم غير بشرية، فليس أمام الانسان، بسبب عدم تمكنه الى الآن من الكشف عن تدخل كائنات غير بشرية، إلا العمل باتجاه واحد وهو القيام بدراسة عضوية فسيولوجية وتشريحية للانسان الذي بإمكانه القيام بفعاليات خارقة للمألوف، فإذا لم يكن ممكنا تشخيص سبب عضوي يعينه على استعراض هذه الفعاليات فلن يتبقى بعدها الا الاعتراف بأن طاقة هذه الفعاليات هي غير بشرية المنشأ. وفي مثل هذه الدراسة يجب التمييز بين ما هو نتيجة وما هو سبب، فعلى سبيل المثال ان اكتشاف وجود تأثيرات مغناطيسية معينة لجسم انسان ذي قابليات غير مألوفة معينة يجب الا يقود الى الاستنتاج المتسرع بأن القابليات غير المألوفة لهذا الانسان هي بشرية وان هذا المجال المغناطيسي هو السبب وراء حدوثها، إذ يجب التمسك بنفس النهج السابق والبرهنة على أن هنالك سببا عضويا في جسم صاحب هذه القابليات يقف وراء ظهور هذه التأثيرات المغناطيسية، فإذا لم يتحقق ذلك فسيكون هذا التأثير المغناطيسي نفسه هو مثلما تكون القابليات الخارقة للمألوف التي يمتلكها صاحب هذا التأثير هي نتيجة أيضا ويكون السبب وراء هذه القابليات النادرة والتأثير المغناطيسي غير بشري والحقيقة ان هذا المنهج الاختباري في التحليل والاستنتاج لابد وأن يقود الى أن معظم الفعاليات غير المألوفة ان لم تكن كلها هي ظواهر غير بشرية لأن أصحابها لا تختلف أعضاء أجسامهم فسيولوجيا ولا تشريحيا عن البشر الاعتياديين الذين لا يستطيعون القيام بهذه الفعاليات وقد يجادل البعض في مصدر الافتراض أساسا بوجود كائنات غير بشرية تتسبب في حدوث الظواهر غير المألوفة رغم أن هذه الكائنات هي غير قابلة للاكتشاف بواسطة الأجهزة التي قد عرفها الانسان حتى يومنا هذا، والجواب على هذا التشكيك هو أن هذه الكائنات غير المحسوسة، وذات القابلية على التشكل بأشكال مختلفة تكشف عن نفسها في ظواهر غامضة معينة بصورة واضحة كأن تتخذ أشكالا مرئية أو تصدر أصواتا مسموعة ومفهومة. إذن فالوقائع التجريبية تؤيد وجود هذه الكائنات وتدخلها المباشر في الظواهر الخارقة للمألوف إن الاطلاع على بعض من هذه الظواهر كفيل بكشف الهوة بين هذه الظواهر لوقائع تجريبية وبين المناهج النظرية التي يسلكها معظم الباراسايكولوجيين في التعامل معها.
جمال نصار حسين(باحث من الأردن)