يقدم شعر بدوي الجبل نموذجا فريدا لجدلية العلاقة بين اتكاء الشاعر على موروثه القومي في الشعر، وتمثل خصائصه وعناصره وقيمه، وانطلاقه- بفعل المغايرة والتجاوز- الى أفق جديد، يحقق حداثته الشعرية، وخروجه من دائرة التكرار والاجترار، واستعادة النسق المألوف للقصيدة العربية عند أعلامها الكبار في عصور ازدهار الشعر العربي.
من هذه المفارقة، يبدأ الوعي بقيمة ما يمثله شعر بدوي الجبل المتصل المنقطع، المستمر والمجاوز في آن. ولابد ان نقطة البداية تكمن في أن هذا الشعر نتاج عبقرية شعرية: قادرة على اصطناع لغتها الخاصة، ونسج عالمها المتميز من الصور والمجازات الشعرية، وتملك معجم شعري متنوع الصياغات والاشتقاقات والدلالات. ثم هي قادرة ثانيا على إرخاء النفس الشعري حتى منتهاه، هجوما على المعنى، واقتناص اللمحة الجديدة الطازجة، غير المكرورة، في اقتدار ومهارة، وإحكام القبضة على القصيدة من بدئها حتى منتهاها، بحيث لا تخمد الجذوة، أو تنفلت بعض عناصر النسيج المشدود في إحكام.
من التعابير الشائعة عند الفرنسيين في مجال النقد الأدبي وتحليل النصوص الأدبية قولهم: ليس الليث إلا عدة خراف مهضومة. وبقدر ما تشير العبارة الى فكرة الهضم والتمثل، إلا أنها تؤكد أيضا المفارقة الدالة وهي أن ما ينتج عن هذا المأكول المهضوم يصبح – نوعيا- مختلفا عن أصله وطبيعته، بقدر اختلاف الخراف التي هي المأكول عن الليث الذي هو النتيجة والمحصلة. ربما يساعدنا هذا القول على تفسير ظاهرة البدوي الذي قرأ وهضم وتمثل، لكن إبداعه الشعري جاء في صورة مغايرة لما قرأه وتأثر به وعاش طويلا في فضاء اعلامه: أبو تمام والبحتري والمتنبي والشريف الرضي والمعري وغيرهم، وحتى لا نقطع بانعدام التأثر، فربما استوقفنا في صياغات البدوي وأخيلته ومعانيه شبه مقاربة لأصل قديم، لكنها وقد ذابت في نسيجه الجديد المحكم، تخلت عن هويتها القديمة المنسوبة الى غيره، لتصبح من بعض عطاياه وتقسيماته.
من مجالي هذه العبقرية أيضا في شعر البدوي، اتكاؤه على معجم ديني صوفي في المقام الاول، غرسته وساعدت عليه تنشئته في رحاب أبيه ومعلمه الأول الشيخ سليمان الأحمد، حيث ترتيل القراءة وتجويد الشعر والنظم الديني في الحكمة ولكن هذه الروح الدينية المتغلغلة في خلاياه نبضا وحرارة ومعجما شعريا، لم تحل بينه وبين انتهاكات شعرية وفنية جريئة لكثير من طقوس اللغة السائدة والاعراف المستقرة والمتبعة. في مثل قوله من قصيدة يا وحشة الثار:
تفجر الحسن في دنيا سرائرنا
هل عند ربك مـن دنيا كدنيانا
حضارة الدهر طيب من خلاعتنا
وجنة الله عطر مـــن خطايـانا
من الغواية سلسلنا هوايتنا
فكـان أرشدنـا للنـــــور أغوانــا
يا وحشة الكون لولا لحن سامرنا
على الندى المصفى من حميانا
نشارك الله – جل الله – قدرته
ولا تضيـق بهــا خـلقـا واتقـانا
وأين إنسانه المصنوع من حمأ
ممن خلقنــاه أطيــابا وألحـانـا
ولو جلا حسنه انسان قدرتنا
لود جبريل لو صغنــاه إنسانـا
ولو غمزنا نجوم الليل مغفيه
أفــاق أترفهــا حسنــا وغنــانا
ناجى على الطور موسى، والندام لنا
فكيف أغفل موسى حين ناجانا؟
وهي القصيدة التي شهدت ميلاد عنوان قصيدته التي سأفرد لها مجالا في هذا البحث وهو «اللهب القدسي» حين قال:
ان آنس النار بالوادي فقد شهدت
عين من اللهب القدسي نيرانا
وفي قصيدة اللهب القدسي يقول بدوي الجبل في لغته المتمردة على الأعراف والسائد المستمر من الصياغات والتعابير:
هذا السلاف – أدام الله سكرته
من الشفاه البخيلات اعتصرناه
جل الذي خلق الدنيا وزينها
بالشعر، اصفى المصفى من مزاياه
نحن الذين اصطفانا من أحبته
فلو تدار الطلى كنا نداماه
وشرف الشعر لما صاغه ترفا
فكنت نغمتـه النشوى ومعناه
وراح ينشدنا عصماءه شفة
ومقـلة ، وجنننــا فاستعـدناه
وعندما يقول:
الخافقان – وفوق العقل سرهما-
كلاهما للغيوب، الحب والله
كلاهما انسكبت فيه سرائرنا
وما شهدنــــاه لكنــا عبدنــاه
وقارئ ديوان البدوي في زماننا، له ان يسجل هذه الروح الشعرية المتمردة الثائرة، على كل ما هو تقليد وسائد في اطار القهر اللغوي والاجتماعي، وان يسجل في الوقت نفسه رحابة عصر البدوي، وعقول أبنائه بكل ما استحدثه البدوي ونظراؤه من اختراق في سقف اللغة، وهجوم على كل ما هو جديد ومبتكر، لفظا ومعنى، صيغة وروحا، أفقا ودلالة.
إذا انتقلنا الى قصيدته «اللهب القدسي» باعتبارها نموذجا، دالا وكاشفا عن بعض اسرار البنية الشعرية في شعر بدوي الجبل، وجدنا في البداية عنوان القصيدة، المحمل بإيحاءات روحية ونورانية، فيها إثارات واقتباس من جو التصوف بمعناه العام. ولا يتوقف هذا التأثير والإيحاء عند مجرد العنوان وانما يتعداه الى معجم القصيدة الذي تتردد فيه مفردة الله عدة مرات، تليها في مرات التكرار كلمة رب، ثم تتتابع بقية مفردات المعجم: من جنة الله، سدرة المنتهى في أسمى العبادة، عبدناه، سماوات، جناتهم، خلق الدنيا، وثن، يعبدها، يؤلهه، اللهب القدسي، الالوهة، قربانا، هدى، معبده، مصلاه، غفرناه، يكفر.
هذا المعجم الشعري- المتنوع الصياغات والاشتقاقات والدلالات- يشبه في قوة تأثيره وفنية إشعاعه الكواكب المتناثرة في فضاء الكون، وهو في الفضاء الشعري لبدوي الجبل يجسد- في هذه القصيدة بالذات- حالا مركبة من الخشوع والكبرياء، الخضوع والترفع، الاقتراب والاعتداد، يقول البدوي عازفا على هذا الوتر المزدوج:
روحي فدى وثن ما كان افقرنا
اليه في عزة النعمى، وأغناه
ان كان يذكر او ينسى، فلا سلمت
عيني ولا كبدي، ان كنت أنساه
يا من سقانا كؤوس الهجر مترعة
بكى بساط الهوى لما طويناه
ويقول:
آمنت باللهب القدسي، مضرمه
أذكى الألوهة فينا، حين أذكاه
تزين الروح قربانا لفتنته
وقد يضن فتستجدى مناياه
ولو اقام الضحايا من مصارعها
لآثرت موتها فيه ضحاياه
العبقريات وهج من لوافحه
والشمس – مجلوة- احدى هواياه
وهو نفسه المعجم الذي يسمو به البدوي ويشمخ- اقتدارا وتعظيما لذاته التي تتمثل في العزة والغفران معا.
قد هان حتى سمت عنه ضغينتنا
فما حقدنا عليه، بل رحمناه
يرضيه ان يتشفى من مدامعنا
لم نبك منه ، ولكنا بكيناه
حسب الاحبة ذلا عار غدرهمو
وحسبنا عزة انا غفرناه
يهنيك انك في نعمى لمحنته
وان غدرك قبل الدهر أشقاه
جاه خلقناه من الوان قدرتنا
فكيف يكفر فينا من خلقناه
من اسرار هذه البنية الشعرية أيضا، في هذه القصيدة بالذات، موسيقى بحر البسيط التي اختارها لها، وقافية الهاء المسبوقة بالمد، والمهيئة لحالي الانشاء والنشيج الشعريين. ولعل بحر البسيط ان يكون التالي للبحر الطويل مباشرة في اتساع فضاء النغم، ومطاوعة النفس الشعري العريض والممتد وازدحامه بالتوتر الجياش والايقاع الواضح وتضمينه ألوانا شتى من المشاعر والاحاسيس والانفعالات والاحوال والمقامات في انسياب ويسر، دون مشقة او اعنات. وهو الامر الذي اغرى القائمين على نشر ديوانه- طبعة دار العودة- بتمزيق قصيدة اللهب القدسي وتقسيمها الى ثلاث قصائد تحمل عناوين: الحب والله، اتسألين عن الخمسين، اللهب القدسي. وبقدر ما جاء هذا التقسيم دخيلا ومصطنعا ومفسدا لوحدة القصيدة وتكاملها ونموها وتآزرها، فقد كشف عن ان الذي ساعد عليه اتساع المجال النغمي والموسيقى في القصيدة لوقفات ومحطات ومنعطفات تمثل الحال النفسية للشاعر بكل ما يموج فيه من اجواء شعورية وفكرية. وكأننا نتابع رسما بيانيا يعلو ويهبط بحسب سرعة ضربات القلب وشدة تدافعها ثم بحسب هدوئها وانبساطها، ثم عودتها الى القوة والتوتر وهذا. والنغم الشعري – في كل الحالات- جياش ومتدفق- في حالي التوتر والهدوء معا.
الامر اللافت للانتباه أيضا في هذه القصيدة البديعة براعة استخدام صيغة المثنى اسميا وفعليا منذ البيت الاول في القصيدة. واستخدم صيغة المثنى تقليد قديم ومألوف في الشعر العربي منذ ان قال امرؤ القيس:
قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل
بسقط اللوى بين الدخول فحومل
والاجتهاد المتواتر في ازمنة عدة لتوضيح سبب اختيار امرئ القيس لصيغة قفا بدلا من قف او قفي او قفوا، ودوران صيغة المثنى في شعر كثير من الشعراء القدماء، في صورة يا صاحبي ويا خليلي ، وربما مساعد على ذيوع هذه الصيغة في قصيدة البدوي قيامها على قطبين رئيسيين- كما اوضح هو- هما: الحب والله:
الخافقان، وفوق العقل سرهما
كلاهما للغيوب: الحب والله
كلاهما انسكبت فيه سرائرنا
وما شهدناه لكنا عبدناه
ولأن صيغة المثنى واحدة من جماليات العربية، في أدق خلجاتها وقدرتها على دقة التصوير، فقد كان أقرب الاجتهادات الى المنطق- في هذا المجال- ان الجمع يبدأ برقم ثلاثة، فاذا ما كان احد الثلاثة يتكلم وهو الشاعر، فانه في هذه الحال يتوجه بالخطاب الى اثنين، علما بأن الحركة في الصحراء سفرا ورحيلا وظعنا واغترابا لا تتم إلا في صورة جماعية، ومن هنا كان خطاب المثنى يمثل حالا وجودية وانسانية.
من هنا سر هذه الصور المختلفة من تجليات المثنى عند البدوي في قصيدة اللهب القدسي: قلبانا، جناحاه، انسجما، اذا اختلفا، الخافقان معا، ايكهما، الخافقان، سرهما، كلاهما للغيوب، كلاهما انسكبت فيه، مقلتيك، الى عينيك، يسكب عينيه، ما شاء عيناه، شاب فوداه، وهي فضلا عن دلالتها الوجودية، وارتباطها بالاصل الذي نبعت منه الثنائية في الحياة العربية فكرا وشعورا، وتغلغلت هذه الثنائية في العديد من صور حياتنا العربية عبر العصور: بين الدنيا والآخرة، والعلم والدين، والفكر والوجدان، والعقل والقلب، والشرق والغرب، والخطيئة والمغفرة، والحل والترحال، والظعن والاقامة، والايمان والكفر، إلا أن اللعب على وتر المثنى في صيغته الاسمية والفعلية قد ضمن لموسيقى القصيدة أقصى ما يتيحه المد الصوتي انشادا وترجيعا.
يقول في مطلع القصيدة:
تانق الدوح يرضي بلبلا غردا
من جنة الله قلبانا / جناحاه/
ثم يقول في البيت الثاني، الذي تجملت موسيقاه بالفعل الماضي مسندا الى ألف المثنى، واشباع حركة المد انشادا وترجيعا:
يطير ما انسجما/ حتى اذا اختلفا/
هوى، ولم تغن عن يسراه يمناه
ثم يجيء البيت الثالث مضيفا ومؤكدا، ومعززا لهذه الحال الموسيقية المصاحبة:
الخافقان معا/ فالنجم ايكهما/
وسدرة المنتهى والحب: اشباه
هذه القصيدة الوجدانية، هي في بابها ومجالها عروس قصائد بدوي الجبل، الى جوار روائعه الاخرى في قومياته وبكائياته في وداع الاحباب والابطال. لكن، يبقى للهب القدسي هذا الجدل الداخلي العميق، وهذا الحضور اللافت لذات الشاعر، في مواجهة أعباء الحب وتقلبات المحبوب، وما جره عليه القدر من هوان ومذلة وعار، الأمر الذي يفتح بابا لتأويلات شتى، من بينها عدم الاستسلام او الأخذ بكون القصيدة نصا من نصوص العاطفة والحب، لا تتجاوزه الى سواه. وان فضاء القصيدة يتسع للون من التأويل السياسي والانساني- البعيد عن المجال او السياق الذي يظنه القارئ للوهلة الاولى. فقد تكون- في بعض مقاطعها وفي العديد من أبياته، موجهة الى من خان عهد الاخوة والصداقة، – وتنكر للأيادي البيضاء التي سبق قيام البدوي بها من اجله. وربما كان من يتحدث عنه البدوي سياسيا بارزا او مسؤولا كبيرا، لا ندري ولا نريد ان ندري، لكن يكفي ان نشير الى ان ثمة تأويلا آخر تأخذنا اليه وتأتي به الينا حركة القصيدة وموجاتها المتلاحقة في مرارة غير خافية وألم عميق لا يخطئه الحس:
قد هان حتى سمت عنه ضغينتنا
فما حقدنا عليه بل رحمناه
يرضيه ان يتشفى من مدامعنا
لم نبك منه ولكنا بكيناه
حسب الاحبة ذلا عار غدرهمو
وحسبنا عزة انا غفرناه
يهنيك انك في نعمى لمحنته
وان غدرك قبل الدهر أشقاه
ثم يجيء البيت الموجع الذي يشبه طرقة الباب في وجه هذا الغادر الذي لم يقم وزنا لقيم الصداقة والاخوة والمؤازرة.
جاه خلقناه من ألوان قدرتنا
فكيف يكفر فينا من خلقناه؟
وفي ثنايا القصيدة، وعلى امتدادها، عبر ثمانية وسبعين بيتا، من غرر الشعر، يمكننا أن نتأمل بعض اسرار هذه البنية الشعرية التي أخفاها إحكام البدوي وعبقرية تناوله. أول هذه الأسرار أو المفاتيح المفضية الى عالم القصيدة، وبنيتها التحتية، التعبير الذي بدأت به القصيدة: تأنق الدوح، وما يحمله من معنى الإغواء والإغراء، والتأنق هنا شرك لإرضاء البلبل الغرد. لكن جناحي هذا البلبل اللذين يحلق بهما قلبان او خافقان أيكهما النجم، وعالمها يرقى في صعوده وسطوعه وتجليه الى حيث سدرة المنتهى، وكأن هذا الحب معراج روحي او روحاني، بل هو لون من العبادة السامية، التي يرضى فيها المحب بتعذيب محبوب له، من غير أمل فيه أو رجاء، تلك هي مملكة المحبين الحقيقيين يعرضونها في مقابل عز الملك وجاهه، لأنها في عيونهم أعظم وارفع وأكبر شأنا.
مرة ثانية، يكشف لنا إبداع البدوي عن سر آخر او مفتاح آخر من جنس المفتاح الاول، يماثله صياغة، ويجاوره دلالة وظلالا هو: تزين الورد في بيت الجميل:
تزين الورد ألوانا، ليفتننا
أيحلف الورد انا ما فتناه؟
والتعبير – بدوره – لا يخلو من اغواء واغراء، يفضحها قوله ليفتننا، لكنه – بقدرة الواثق واستعلاء المحب القادر- يرد بأنه بدوره قد فتن الورد وأغواه. لكنه في سياق عرض الحال والموقف يأخذ بأيدينا الى قضاء شعري مغاير. في المرة الاولى التي تزين فيها الروح لإغواء البلبل الغرد وإغرائه كانت هناك سماء النجم العالي وسدرة المنتهى واسمى العبادة والرب الذي يعذب بلا رجاء، لكنه مع ذلك يرضى ويحب. وكأننا في سياق معراج روحي، يرقى بالقلبين العاشقين، الى ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، وكأن الحب البشري، الانساني، هنا، بفضل يقين البدوي وتكوينه الروحي، الديني، الصوفي، قد تسامى بهما وتساميا به، تخلية وتحليه، وتطهرا وشفافية، حيث النجم وسدرة المنتهى والحب والله.
أما هنا، في المرة الثانية – فالفضاء فضاء الشعر- وزهو المحب الشاعر او الشاعر المحب قائم على عظمة هذا الشعر الذي هو أصفى المصفى من مزايا الخلق والتكوين في هذه الدنيا. فأي زهو بالشعر وأي افتتان؟ ان الشاعر هنا يسفر- من خلال صياغة شعرية باذخة، وصورة شعرية ينطلق فيها خياله العبقري مجاوزا المألوف والسائد والمستقر، يحوم بفنه العالي حول الحمى- المحذور او المحظور) ويوشك ان يقع فيه، لكن لا يأبه ولا يبالي ولا يتردد حين يقول:
هذا السلاف، أدام الله سكرته
من الشفاه البخيلات اعتصرناه
جلّ الذي خلق الدنيا وزينها
بالشعر اصفى المصفى من مزاياه
نحن الذين اصطفانا من احبته
فلو تدار الطِّــلا كنــا ندامــاه
وشرف الشعر لما صاغه شرفا
فكنت نغمته النشوى ومعناه
وراح ينشدنا عصماءه : شفة
ومقلة، وجنننا ، فاستعدناه!
ثم يأتي ثالث اسرار هذه البنية الشعرية لقصيدة «اللهب القدسي» وثالث المفاتيح المفضية الى ابهائها وعوالمها الفنية البديعة، عندما يقترب الشاعر من مجلى اللهب القدسي الذي تزين الروح قرباناً لفتنته، هنا يصبح تعبير تزين الروح بمثابة الصعود الاسمى في سلم: تأنق الروح- تزين الورد وتزين الروح نحن هنا في حضرة اللهب القدسي، الذي يذكي ملهمه الالوهة في قلوب المحبين من امثال بدوي الجبل. والفتنة هنا لم تعد فتنة روح او ورد او جسد ، لكنها فتنة هذا اللفح القدسي، الذي تتفجر عنه العبقريات، ومن هداياه الشمس، ومن يممه وجد الهداية ولم يتعرض لفتنة او ضلال. وهو العاصم من فجاءات الغدر، غدر من غدر الاحبة الذي ينتج حزنا لا يحتمل. البدوي هنا في مواجهة حقيقية مع القادرين والشامتين، والذين لم يمدوا يدا ولم يتعاطفوا ولم يحاولوا اخراجه من محنته عندما غدر به وتعرض لما اسماه هو جلانا أي كبيرة مصائبه وعظيمة همومه ومعانياته:
ان نحمل الحزن لا شكوى ولا ملل
غدر الاحبة حزن ما احتملناه
وما رعانا على عصف الخطوب بنا
هوى حبيب رعيناه ، ونرعاه
ليت الذين وهبناهم سرائرنا
في حزمة الخطب، اغلوا ما وهبناه
ولا وفاء لقلب حين نؤثره
حتى تكون رزايانا رزاياه
ثم ترتفع النبرة درجات في الحدة والمرارة:
أشامت عند جلانا وما نزلت
إلا على الحب والايثار جلاه
ما ضج في قلبه جرح فكابده
ولا ألم بــــه وجـــد فعانــاه
فأي جحود يمثله هذا الآخر واي نكران للجميل واي نموذج هو او هي، يخلو في الانسان من معنى انسانيته فلا مكابدة في قلبه لجرح، ولا معاناة لوجد ألم به، مجرد إلمام- فهو او هي حجر من الحجارة، وكيان لا شعور لديه ولا احساس ولا عاطفة.
البناء الشعري، او البنية الشعرية عند بدوي الجبل، في العديد من قصائده- وفي قصيدة اللهب القدسي على وجه الخصوص- بناء هرمي، قاعدته صلبة وراسخة، تشبه ما قاله البعض عن قصائد المتنبي وبنيتها التي تشبه الكونكريت أي البناء المسلح، يتفنن البدوي في انجازها وتشييدها وتحديد ملامحها منذ الضربات الاولى لريشته المبدعة في مستهل القصيدة ، ثم سرعان ما يتشكل البناء وينمو ويتصاعد، وتضاف الى هذه القاعدة طبقات شعرية متراكمة، تؤكد حقيقة البناء وجوهره المتنامين، وصولا الى قمة البناء الشعري التي يرفع من فوقها البدوي علم شاعريته: دلالة عليه، واعلانا عن اكتمال انجازه.
هذا البناء الطبقي، الهرمي، المتجاوز دوما في تطلعه الى ابداع قمته، هو الوعي الشعري المحدث عند الشاعر الذي لا يغفل- في اتون حميا الابداع الشعري- الالتفات الى معمار قصيدته نموا وحركة وجدلية، وهو الامر الذي كان يعصمه دوما من الوقوع في أسر التكرار، تكرار المعنى او الفكرة او الحركة النفسية، هذا الالتفات الى المعمار الشعري جعل لقصيدة البدوي- ممثلة في اللهب القدسي- تصميما محكما، لا يعني الصنعة او خنق روح التدفق والتلقائية، لكنه يعني احكام التصميم او تصميم الاحكام، والقدرة على الحركة والتنويع والتغيير والالتفات من خلال فكر يغلي كالمرجل، وحس يستوعب حركة الكون، ولغة طيعة مسعفة كأبهى ما تكون واروع ما تكون، وتأمل- جوهر الحكمة ونفاذ البصيرة والبصر الصائب- يقي صاحبه الشطط والوقوع في المحظور- مندفعا وراء غواية الابداع وتجليات العبقرية- ويكسو قصيدته بردة مخملية من جلال وجمال، موشاة بقصد الفكر العميق والرأي الرصين.
هذا الوعي بمعمار القصيدة وتصميمها، يتجاوز بكثير ما كان يقوم به الشاعر حين يبث في قصيدته عددا من الأبيات التي يطلق عليها «بيت القصيد» الذي يتطلب وقفة في الأداء أو الانشاد الشعري، تسمح بانطلاق رد فعل المستمع او المتلقي، وتهيئ لمرحلة قادمة من بناء القصيدة وقد نجح بيت القصيدة في كثير من القصائد العالية النبرة، المتصفة بالمباشرة او الخطابية والمعبرة – غالبا- عن سياقات وطنية وقومية ونضالية، نجح في استهواء الجموع، واستغلال الحالة الجمعية في التلقي ، لتحقيق لون من النجاح الوقتي للعمل الشعري حفاوة وتصفيقا واستعادة، وسرعان ما يتبخر هذا الحماس وهذه النشوة، حين تخضع القصيدة للقراءة المتأنية، والتأمل الهادئ، وتنكشف حيلة الشاعر الذي اعتمد على عدد من أبيات القصيد لتحقيق نجاح مزعوم للقصيدة.
لكن هذا الوعي – بمعمار القصيدة- عند بدوي الجبل، اضفى على نصوصه جلالا وبهاء لا يتوقفان عند ما يسمى ببيت القصيد. وانما هما يفضيان الى ما يمكن تسميته بعنقود القمة او جلوة الصعود في هذا البناء الشعري حتى منتهاه. حيث لا ينقطع النفس ولا تخمد الجذوة ولا يتشتت التناول ولا يضيع الدرب الرئيسي ولا يبهت التأثير. فلشاعرية البدوي من القدرة والرهافة والنفاذ ما يجعلها قادرة على جعل خواتيم قصائده ذروة صعود واكتمال، تناطح الذرى العديدة المتناثرة في سياق القصيدة، بحيث تحدث صدمتها الفنية البديعة ارتدادا الى الذرى السابقة نتأمل من خلاله مساراتها ومقاماتها الشعرية، قبل التوقف التام امام فعل القصيدة فينا وتأثيرها الباقي ككل:
فيا لكنز شكت منه جواهره
وضاع عن نفسه لما أضعناه
من الفؤاد الذي قطعته مزقا
حرى الجراح ولملمنا بقاياه
في ختام هذا البحث لا بد من الاشارة الى ما اورده الأستاذ أكرم زعيتر في المقدمة التي كتبها لديوان بدوي الجبل عن سبب اطلاق هذه التسمية عليه، وكيف ان الأستاذ يوسف العيسى صاحب جريدة «ألف باء» الدمشقية هو اول من أطلقها عليه مقرونة بأول قصيدة ينشرها في جريدته «ألف باء»، والمقصود بالجبل في هذه التسمية التي شاعت وكادت تطغى على اسمه الحقيقي محافظة اللاذقية.
وقد توفي بدوي الجبل في دمشق عام 1980.
أما الآن فهذا هو النص الكامل لقصيدته «اللهب القدسي» التي وردت في ديوانه المنشور مقسمة الى ثلاثة أجزاء، كل جزء منها له عنوانه المستقل، وهي في جوهرها وابداعها حقيقة شعرية واحدة، تأبى التجزئة.
اللهب القدسي
تأنق الدوح يرضي بلبلاً غردا
يطير ما انسجما حتى إذا اختلفا
الخافقان معا فالنجم أيكهما
أسمى العبادة رب لي يعذبني
وأين من ذلة الشكوى ونشوتها
تقسم الناس دنياهم وفتنتها
ما فارق الري قلبا أنت جذوته
غمرت قلبي بأسرارٍ معطرةٍ
وما امتحنت خفاياه لأجلوها
الخافقان ?538; وفوق العقل?538; سرهما
كلاهما انسكبت فيه سرائرنا
أرخصت للدمع جفني ثم باكره
وأسكرتني دموعي بعد زورته
طيف لسمراء كأسٍ من متارفه
حمنا مع العطر وراداً على شفةٍ
تهدلت بالجنى المعسول واكتنزت
نعب منه بلا رفق ويظمئنا
في مقلتيك سموات يهدهدها
ورنوة لك راح النجم يرشفها
أطل خلف الجفون الوطف موطنه
يضيع عني وسيم من كواكبها
قلبي. وللسمرة المغناج لهفته
تضفر الحور غاراً من مواجعه
أغفين فيه لماماً ثم عُدنَ إلى
يسألن باللهفة الغيرى على خجلٍ
لم تعرف الحور أشهى من سلافتنا
مدلَّه فيك، ما صبح ونجمته
من كان يسكب عينيه ونورهما
سما بحسنك عن شكواه تكرمةً
يريد بدعاً من الأحزان مؤتلقاً
روحي فدى وثنٍ ما كان أفقرنا
إن كان يذكر أو ينسى فلا سلمت
يا من سقانا كؤوس الهجر مترعةً
يحب قلبي خباياه ويعبدها
طفولة الروح أغلى ما أدل به
قلبي الذي لون الدنيا بجذوته
غرٌ وأرفعُ ما فيه غرارته
ما الحسن إلا لبانات منمقة
لم يرده ألف جرحٍ من فواجعه
آمنت باللهب القدسي مضرمه
تزين الروح قرباناً لفتنته
ولو أقام الضحايا من مصارعها
العبقريات وهج من لوافحه
وتائهين بهديٍ من عقولهم
ما راعنا الدهر بالبلوى وغمرتها
إن نحمل الحزن لا شكوى ولا ملل
وما رعانا على عصف الخطوب بنا
ليت الذين وهبناهم سرائرنا
ولا وفاء لقلبٍ حين نؤثره
أشامت عند جُلاَّنا وما نزلت
هانٍ ومحنتي العصماء دامية
ما ضج في قلبه جرح فكابده
تضن باللهفة الحرّى جوانحه
فما ترشفتُ إيماناً بمعبده
ناءٍ عن النار لو طاف اللهيب به
قد هان حتى سمت عنه ضغينتنا
يرضيه أن يتشفى من مدامعنا
حسب الأحبة ذلا عارُ غدرهمُ
يهنيك أنك في نعمى لمحنته
جاه خلقناهُ من ألوان قدرتنا
لو رف حبك في بيداء لاهبةٍ
جليت طيفك عن عيني فأسلمه
فيا لكنزٍ شكت منهُ جواهرهُ
صحا الفؤادُ الذي قطعتهُ مزقاً
من جنة الله قلبانا جناحاه
هوى. ولم تغن عن يسراهُ يمناهُ
وسدرةُ المنتهى والحب?541; أشباهُ
بلا رجاءٍ وأرضاهُ وأهواه
عند المحبين عز الملك والجاه
وقد تفرد من يهوى بدنياهُ
ولا النعيمُ محباً أنت بلواهُ
والحب أملكه للروح أخفاه
ولا تمنيتُ أن تجلى خفاياهُ
كلاهما للغيوب?541; الحبُ واللهُ
وما شهدناه لكنا عبدناه
في هدأة الفجر طيفٌ منك أغلاهُ
أطيفُ ثغرك ساقاها حمياهُ
لو لم أصنهُ طغى وجدي فعراهُ
فلم نغر منه لكنا أغرناه
والثغرُ أملؤه للثغر أشهاهُ
فنحن أصدى إليه ما ارتشفناهُ
من أسمر النور أصفاهُ وأحلاهُ
حتى ترنح سُكرٌ في محياهُ
بعد الفراق فحياهُ وفداهُ
فحين أرنو الى عينيك ألقاهُ
ليت الحنين الذي أضناهُ أفناهُ
وتستعيرُ رؤاها من خطاياهُ
جناتهن وقد لملمن رياهُ
من فجر العطر منه حين أدماهُ
رفَّ الهجيرُ ندى لما سقيناه
مولَّهٌ فيك، ما قيسٌ وليلاه
لتستحم رؤاك السمرُ لولاهُ
وراح يسمو عن الدنيا بشكواه
ومن شقاء الهوى يختار أقساهُ
إليه في عزة النعمى وأغناه
عيني ولا كبدي إن كنت أنساه
بكى بساطُ الهوى لما طويناهُ
إذا تبرأ قلبٌ من خباياهُ
والحبُ أعنفهُ عندي وأوفاهُ
أحلى من النور نعماهُ وبؤساهُ
وأنذلُ الحب ?538; جل الحبُ ?538; أدهاه
لكن يؤلههُ أنا عشقناهُ
حتى أصيب بسهمٍ منك أرداهُ
أذكى الألوهة فينا حين أذكاهُ
وقد يضنُ فتستجدى مناياهُ
لعاودت موتها فيه ضحاياهُ
والشمس مجلوةً إحدى هداياهُ
لو يمموا اللهب القدسي ما تاهوا
لكننا بالإباء المر رعناه
غدرُ الأحبة حزنٌ ما احتملناه
هوى حبيبٍ رعيناه ونزعاهُ
في زحمة الخطب أغلوا ما وهبناه
حتى تكون رزايانا رزاياه
إلا على الحب والإيثار جُلاَّه
راوٍ ومن لوعتي الشماء سقياهُ
ولا ألم به وجدٌ فعاناه
والقلب أخصبه بالنور أسخاهُ
ولا شممت طيوباً في مصلاه
لَوَهَّجَتْ هذه الدنيا شظاياهُ
فما حقدنا عليه بل رحمناه
لم نبك منه ولكنا بكيناهُ
وحسبنا عزةً أنا غفرناهُ
وان غدرك قبل الطهر أشقاهُ
فكيف يكفر فينا من خلقناه
على الظماء رحيقاً ما وردناه
الى الدجى وإلى الإعصار مأواه
وضاع عن نفسه لما أضعناهُ
حرى الجراح ولملمنا بقاياه