ومعلوم أن الأدب الموريتاني الكلاسيكي عاش نهضة أدبية كبيرة منذ أوائل القرن السابع عشر حتى مطالع القرن العشرين، وصفها الأستاذ الدكتور طه الحاجري بقوله : "إن الصورة الأدبية التي أتيح لنا أن نواها لشنقيط في هذين القرنين جديرة أن تعدل الحكم الذي اتفق مؤرخو الأدب العربي عامة في هذه الفترة عليه فهو عندهم وكما تقضي اثاره التي بين أيديهم، أدب يمثل الضعف والركاكة والفسولة"، في صياغته وصوره ومعانيه. إذ كانت هذه الصورة تمثل لنا الأدب في وضع مختلف يأبى هذا الحكم أشد الإباء، فهو – في جملته – أدب جزل بعيد عن التهافت والفسوله (1) ولقد لعبت عوامل كثيرة أدوارا مختلفة في عدم اطلاع الأشقاء العرب نقادا وقراء على هذا الأدب. بجميع مناحيه قديمه وحديثه إلا نادرا، منها أن معظمه لم يطبع بعد، وإن ظهر للعيان فإنما في صحف ومجلات محلية لا تحظى بقدر من التوزيع الخارجي يعتد به، ومنها أيضا غياب استراتيجية عربية مشتركة للنشر والتوزيع، وأولا وأخيرا افتقاد سياسة محلية تعني بطبع وتوزيع الكتاب الموريتاني. ومن ثم فإن النشر ظل رهين مبادرات الأفراد ونضالهم الشخصي لإثبات الوجود وإيجاد وسيلة اتصال بالقاريء من هذه الزوايا مجتمعة يمكن فهم النوع الأدبي الذي نحن بصدده وهو الرواية.لقد ابتدأ الاهتمام بالرواية منذ اتجه الأدب بشكل عام في ذلك البلد ينحو منحى التحديث مع بداية الستينات، وتميزت هذه الفترة بالحصول على الاستقلال سنة 1960 وبروز معالم الدولة، والانفتاح على التجربة النهضوية العربية، حيث أسهمت البعثات، والمكتبات الوطنية والعربية بالقسط الأكبر من وسائل ذلك الانفتاح.
غير أن الرواية لم تتجذر كشكل إبداعي يعتد به إلا منذ أواخر السبعينات وظهرت أول رواية إلى النور سنة 1981 وهي رواية (الأسماء المتغيرة) لأحمد ولد عبد القادر، ثم تبعتها رواية (القبر المجهول) للكاتب نفسه سنة 1984 ثم ظهرت رواية (أحمد الوادي) للشيخ ماء العينين بن شبيه سنة 1987 على أن من الملحوظ أن ظهورها تأخر نسبيا قياسا على الشعر، ويرجع ذلك في نظرنا إلى أن الشعر كان موجودا في البلاد منذ قرون فسهل على الشعراء استيعاب آليات التحديث ما دامت أصول الفن موجودة لديهم، واذا كانت الرواية بنت العصر الحديث في الأدب العربي، فما بالك بالأدب العربي الموريتاني. كان لابد أن تمر فترة زمنية كافية لاكتشاف هذا النوع الأدبي والاطلاع المعمق عليه، ثم اختمار التجربة، وأخيرا الكتابة.
وقد مثلت الرواية التاريخية أولية الرواية الموريتانية، وكانت شديدة الارتباط بالواقع، فرصدت تحولاته، وهزاته، ولم تجعل همها التأريخ للأحداث والاشخاص بل جعلت الوقائع التاريخية خلفيات تنفذ منها الى واقع فني يصدق على المجموع ولكنه لا يخص أحدا بعينه وهنا اكتسبت قيمتها الأدبية.
أما الرواية الثالثة فترتد الى ما نسميه تيار الواقعية الرمزية، وقد اهتم الشيخ ماء العينين – كاتب الرواية – برصد الواقع في مدينة أطار ونواكشوط وتتبع حيثياته، واعتنى بتحديد مميزات أبطاله ونوازعهم وطموحاتهم وصدماتهم، غير أنه جعل إطار الرواية العام رمزيا هو (الوادي)، وهذا النمط من الكتابة الروائية حاضر في الأدب العربي الحديث تجسده أعمال نجيب محفوظ المتأخرة، وجبرا ابراهيم جبرا، وسليم بركات، وابراهيم أصلان، وصنع الله ابراهيم.
ونظر الى أن هذه الدراسة تأسيسية وتطمح ال أن تخاطب الغالبية العظمي من المهتمين بالدراسات الأدبية، والذين ربما لا يعرفون شيئا يذكر عن الرواية في هذه البلاد فاننا سنتوقف بطريقة بانورامية غير مخلة عند مجمل المناحي الفنية والدلالية للروايات الثلاث.
اعتمد السرد في الروايات الثلاث على طريقة الراوي الغائب أو كلي المعرفة ولا يكاد يغيب الكاتب نهائيا ويحضر الراوي إلا في رواية (أحمد الوادي) حيث يحافظ الكاتب عل مسافة مناسبة بينه وبين العمل تاركا المجال للراوي ليتحرك بالأحداث.
وكان حضور الزمن في الروايات الثلاث قويا، وهو زمن متحكم في مصائر العباد يديرهم كما يشاء. "أرى بروقا تتخافق مزجية نوءا ثقيلا قد يشكل نزوله الليلة نهاية الصيف وبداية الخريف وصمت الرئيس محدثا نفسه" ونحن العربان في هذا الفصل يحل علينا موسم القتال "الجمال قوية والطرقات تتخلها الأضون المطريه" (2).
وفي "الأسماء المتغيرة" و"القبر المجهول" يكون الزمن أداة الحياة والنماء والموت، فهو موسم المطر والخير، وهو فصل الجفاف والعطش والرياح الحمراء وهو في القبر المجهول خصوصا كما رأينا من خلال الاستشهاد يكتسي دلالة مركبة ففصل المطر يتزامن مع استئناف الحروب والصراعات القبلية، بينما يهدأ الناس في فصل الصيف ويامن بعضهم بعضا وذلك مظهر من مظاهر تراجيدية الحياة البدوية التي تصورها الرواية.
ويرتبط الزمن في "أحمد الوادي" بلحظات العجز عن تحقيق الآمال الإنسانية والخطط الحياتية.
وقد تعددت أنماط التصرف في الزمن الروائي فتنوعت الاسترجاعات والتلخيصات وقلت الوقفات والثغرات، وبلغت المشاهد في القبر المجهول أربعة، واقتصرت على مشهد واحد في الفصلين الأولين في "الأسماء المتغيرة" وخلت "أحمد الوادي" من أي مشهد فلم تتأزم الأحداث ولم تنحبس الأنقاس على مدارها وذلك نابع من تقنيتها التي لا تهتم بما نسميه اللحظات البؤرة أي اللحظات الحاسمة التي تفصل الرواية.
واذا كان المكان البدوي ساد الروايتين الأوليين الى حد كبير، فإن المكان الحضري وسم الرواية الثالثة بميسمه، وتوزعت الأمكنة البدوية بين أمكنة خارجية (فضاء) وأمكنة داخلية مغلقة كالخيمة، أو مفتوحة كالمسجد، وهو غالبا شجرة وارفة الظلال في وسط الحي، وكانت الأمكنة الفضاء مسرحا للمعارك والحروب والضحايا، كما هي مأوى قطاع الطرق وسراق المواشي، والحيوانات المفترسة التي تعترض القوافل والبشر، وبشكل عام، انعكست نظرة الإنسان البدوي على المكان فكان المكان الداخلي بالنسبة له مصدر الأمان النفسي، في حين ظل المكان الفضاء عنصر قلق دائما، ولعل ما كان يمزق نظرته للمكان شعوره أنه مصدر رزقه ومكمن هلاكه، وهو في الوقت نفسه قدره الذي ليس عنه من محيد.. ورمزت الأمكنة الحضرية الى درجة من الاستقرار والأمان فكان الوادي مصدر الخيرات والنظام ورمز العودة الى الأصول والهروب من حياة المدينة المعاصرة وأزماتها الخانقة وجسدت شخصية البطل في "الأسماء المتغيرة" مثالا للشخصية النامية في الرواية.. تلك الشخصية التي ترصد تطوراتها الفكرية والبدنية منذ الطفولة حتى مراحل متأخرة، أو حتى الموت:
"سألني أحدهم ليلة : هل أفهم الفرق بين الحرية الشخصية والحرية الاجتماعية فأجبتهم أن سميدع قال لي : إنني لما كنت راعيا مملوكا كنت محروما من الأولى وبعد خروجي من سجن وتسخير القاعدة الفرنسية، كانت حاجتي الى الثانية مشكلتي آنذاك "(3)
إنه بطل ناضل لتغيير واقعا الشخص فلما تصور أنه انتصر عليه فوجيه بالقيود الاجتماعية تكبله،وترفض اندماجه.
وعكس أشخاص (القبر المجهول) عمق الصراع الذي كان دائرا بين الفئات الموريتانية في فترة مضطربة من تاريخ البلاد.
وتميزت شخصيتا بطلي (أحمد الوادي) القاسم، وأحمد بالتناقض وعدم وضوح الرؤية إزاء نموذجي "الغرب والريف" واتسمت تصرفاتهما بالعبثية والشعور بضرورة الاستمرار في تمثيل دور المقاوم انتظارا للمصير المحتوم. وضعف في الروايات الثلاث وصف الشخصيات، ولم يتجاوز سطورا معدودة واستخدم الحوار كعنصر فني يوضح الشخصية ويكشف أبعادها المختلفة ونوازعها النفسية، كما وظف كآلية سردية لنمو الأحداث واختزال الأفعال.
وقد تتبعت رواية "الأسماء المتغيرة" المجتمع الموريتاني منذ كان يعيش البنية البدوية مرورا بالمرحلة الاستعمارية وانتهاء بسنوات الاستقلال الأولى وبروز معالم دولة حديثة، ومجتمع شبه حديث، تقدم ذلك في سياق عرفي لا يهتم كثيرا بالتوقف عند كل لحظة بعينها.
«والأسماء المتغيرة» تثير إشكالية الهوية : هوية الفرد والمجتمع والدولة. إنها استشراف للتغيير، وتبدل البنى الاجتماعية السائدة، ومحاولة إيجاد مجتمع جديد لا تقوم أسسه على قيم الاستغلال وإنما تنبني على المساواة والعدالة الاجتماعية، ولكنه استشراف وأمل سرعان ما يتكسر أمام يأس عميق من الواقع وشعور باستحالة التغيير يصبح معه الفعل البشري مجرد عمل عبثي، أو نوعا من عدم الرغبة في الركون الى الاستسلام، فالمجتمع خرج من ربقة الصراعات الأهلية ليدخل في معاناة الاحتلال، وما إن شع الأمل في الخلاص حتى سقط من جديد في دوامة الصراع.. وهو صراع انحسم في نهاية الرواية بهزيمة الحركة الشبابية.
إنها مأساة مجتمع يبحث عن الهوية الداخلية والخارجية، ولئن نال الهوية الخارجية بعد لأي بقبوله عربيا من خلال الجامعة العربية سنة 1973م إلا انه ظل فاقد الإحساس بالهوية الداخلية يحاول أن يصنع لنفسه أسسا للتعامل تكرس مجتمع الدولة لا تجمع القبيلة. واذا كان الكاتب قد أوحى بعنوان روايته أن الأسماء تتغير وكل شي ء يتغير فإن تبدلا حقيقيا لا يطرأ، وبعبارة أخرى فالأسماء تتغير، وأما الجواهر فتظل ثابتة على حالها.
أما رواية "القبر المجهول" فتنحو منحى غير بعيد عن د«الأسماء المتغيرة» إذ أن مؤلفهما واحد، كما عرفنا، وهمومه في نهاية المطاف مترابطة، ومع ذلك فهما لا تسيران في المسار نفسه.. فاذا كانت «الأسماء المتغيرة» تنحو منحى البانوراما التاريخية للمجتمع الموريتاني عبر الزمن، فإن «القبر المجهول» تنتقي فترة زمنية محدودة لا تتجاوز عقدين من الزمن ينتميان للمرحلة السابقة للاحتلال الفرنسي فهي إذن تصوير لما يمكن أن نسميه المجتمع الموريتاني في عهد الفطرة، أي قبل ورود مؤثرات خارجية فعالجت أنماط حياته والصراعات التي تدور بين فئاته حول مناطق النفوذ العسكري والروحي، ولعل الفكرة العامة التي تحكمها هي أن الأصول متغيرة بينما الوظائف الاجتماعية ثابتة، فوظيفة القبيلة الحسانية (المحاربة) ثابتة، ولكن القبيلة نفسها كواقعة تاريخية متغيرة. كذلك وظيفة القبيلة الزاوية (العالمة) وقل مثل ذلك في القبيلة الزناقية أو التابعة. إنها بنية تتحول عناصرها وتنفير كما تتقلب رمال الصحراء التي تتمسرح عليها الأحداث.
ويذهب الأستاذ محمد ولد عبدالحي الى انه "إذا كانت رواية الأسماء المتغيرة" محكومة بنظرة التمجيد للمقاومة الوطنية والغيرة على الوطن فان رواية القبر المجهول محكومة بنظرة ترد كل شيء الى العامل الطبيعي وتتسم بالقلق إزاء الصراع القبلي وإيديولوجيته المهيمنة، والرواية الأولى محكومة بجو سنوات الأمل في بداية عقد السبعينات، والثانية محكومة بسنوات الإحباط في نهاية السبعينات وبدايه الثمانينات." (4)
أما رواية (أحمد الوادي) للشيخ ماء العينين فهي من ذلك النوح من الروايات العربية الذي يتجه الى تحليل العلاقة مع الأخر / الغرب وبعبارة أخرى كيف يمكن للمثقف الذي درس في الغرب وعاش فيه سنوات طويلة وتثاقف مع حضارة تتباين أشد التباين مع الحضارة التي ينتمي اليها ونمط الحياة الذي كان يعيش في بلده أن يعيد ارتباطه بوطنه.
وبطلها الأول أحمد، شاب تنقل بين بلاد الغرب وثقف علومه وثقافاته ثم عاد مصدوما يحمل أفكارا وتصورات أخرى للحياة مطالبا بالاكتفاء الذاتي والاعتماد على القيم القديمة النابهة من الأرض أما البطل الثاني القاسم فقد قام بنفس التجربة تقريبا ولكنه عاد متحمسا مدافعا عن الغرب وثقافته مطالبا بتطبيقها بحذافيرها:
"إن أهله (الريف) يعيشون في اتكالية عمياء ويؤمنون بالخرافات الى حد يثبط نشاطهم.. إن وضعيتهم الاجتماعية والاقتصادية يجب أن يقضي عليها. وتعيش جميع الشعوب والجماعات الوسائل والأنظمة التي توصلت اليها الإنسانية في القرن العشرين". (5)
والحق أن تجربة أحمد هي "تجربة الأصالة وصادق الإنتماء، وهي البناء الأصيل وريشة الفنان الأصيل، وكأن الهروب من المدينة الى الغابة الذي عرف عند الرومانسيين أصبح عند ابن الصحراء الذي لا يعرف الغابة هو الهروب الى (الوادي) حيث النخيل المنعزل في أعماق الصحراء وهو هروب يائس مصيره الفشل مسبقا ولكنه في نظر أحمد الوادي وأصحابه هو الملجأ الوحيد والطريق السليم ولا يضره بعد ذلك أن يكون الطريق المسدود". (6)
أما القاسم في مرحلته الأساسية، فهو مثل مصطفى سعيد في (موسم الهجرة الى الشمال) إنه (نموذج) لهؤلاء الذين ذابوا في حضارة الغرب وأسلموا أنفسهم لها، غائبين عن الوعي فاقدين للروح النقدية المبنية على أساس استيعابهم أصلا لقدرة شعبهم وإمكاناته بما يتيح لهم أن ينفذوا الى جوهر حضارتهم الأصلية، وجوهر الحضارة الغربية معا فيعرفوا ماذا ينبغي أن يأخذوا وماذا ينبغي أن يتركوا بمعنى إجراء جوار إيجابي مع هذه الحضارة. (7)
وفي كل الأحوال فإن نموذج أحمد كان متطرفا في انزوائه كما كان نموذج القاسم مبالغا في انفتاحه.
الهوامش
(1) أ.د طه الحاجري: شنقيط أوموريتانيا – الحلقة المفقودة في تاريخ الأدب العربي، مقال منشور في مجلة العربي – أكتوبر 1967 ص 28
(2) أحمد ولد.عبدالقادر: القبر المجهول (رواية) – ط الدار التونسية للنشر 1984 ص 113.
(3) أحمد ولد عبدالقادر: الاسماء المتغيرة (رواية) – ط ادار الباحث – بيروت ص 77.
(4) محمد ولد عبدالحي: التجديد في الأدب الموريتاني في العصر الحديث – بحث مقدم لنيل شهادة البحث المعمق بالجامعة التونسية 1989 ص 153
(5) الشيخ ماء العينين شبيه : أحمد الوادي (رواية ) – ط دار الفجر أبو ظبي ص 72.
(6) محمد ولد عبد الحي : مرجع سابق ص 151.
(7) د. عصام بهي : الرحلة الى الغرب في الرواية العربية (الهيئة المصرية العامة للكتاب).
محمد الحسن ولد محمد المصطفي (باحث موريتاني في مجال الأدب)