باتريك بيشورو*-كاتب فرنسي
ترجمة- إدريسية بلفقيه- كاتبة ومترجمة مغربية
ألا يتعلق الأمر بتناقض صارخ حينما ننظر، من الوهلة الأولى، إلى الرواية البوليسية كنوع مواتٍ للاحتجاج الاجتماعي؟ أليس تدخل رمز القانون والنظام في السرد الروائي، هو ما يجعل من فكرة الاحتجاج هاته مستبعدة؟
مع ذلك، ليس بمصادفة أن يجد هذا البعد ملاذًا له فيما بات معتبرًا لزمان طويل بــ«شبه الأدب» (para-littérature) ولو أن الرواية السوداء -وكما يذكرنا بذلك الباحث «كلود ميسبيلد»- “ليست في جوهرها تقديمية”، يمكن برغم ذلك القول بأن اللقاء كان مُعَدَّا له سلفا. أو أن ما يمكن تسميته من الآن فصاعدا بــ«بولار» (polar)، يحمل في ذاته النقد [الاجتماعي] كما تجلب السحابة الجشّاء الإعصار.
ما يجدر التذكير به في البدء، هو أنه من المستبعد أن يُشَكِّل “البولار” كلاًّ متجانسا.
في الحال، نُنَحيّ جانبا، رواية اللغز التي هدفها جذب القارئ إلى cluedo من ورق حيث الجريمة هي تَعلَّة لحلّ حبكة متشابكة الخيوط بمهارة. للنوع أساتذته، ووصفاته، وخاصياته. فهو لا ينمّي سوى رغبة تسلية جمهوره من خلال طرحه دائما لسؤال وحيد ومكرور: من يمكن أن يكون القاتل من بين هذين الشخصين: «الكولونيل موطارد»؟ أو «الآنسة بيرفانش»؟
يتعلق الأمر بمولعين باهرين، من نمط “أجاثا كريستي”، الذين يجدون في الـ murder parties طريقة حاذقة لتمضية الوقت. يحاول الإجراء أن يمزج عطر حمض الزرنيخ بنكهة الشاي، وينحصر في حدود الذوق السليم ويتجنب جيدا إفساد نظام الأشياء. حينما يسدل الستار و تكتب كلمة نهاية، تتعهد الشخصيات حين خروجها، بإبقاء المكان نظيفا كما تركته حين دخولها.
محركو الرواية السوداء يعملون بطريقة مختلفة جذريا. لا تُعيقهم التقاليد ولا الأحكام المنقوشة على رخامة القانون. فهم يتصرفون بالنسبة إلى النظام الاجتماعي كَـفيلٍ في محل الخزف الصيني، حتىّ أنهم يبدون أنهم متمتعين بذلك. وهي متعة عدوة للتقاليد ومقززة. لأنه إذا كان who-dunit («من قام بالفعل»)الإنجليزي قد أزهر في ظل إقامات البورجوازية الفيكتورية المتأخرة، فإن «العسير الطبخ» (hard boiled)، الذي ظهر في «الولايات المتحدة الأمريكية»، هو قبل كل شيء، أدب الشارع، أدب مدموغ بأصوله ومسار مبدعيه. هذا المسار الذي يخترقه حدثان مهمان: الحرب العالمية الأولى والأزمة الاقتصادية لعام 1929.
ما بين 1917 و1918، كان بعض آباء الأسود [الأمريكي] من أمثال «رايمون شاندلر»، و«هوراس مايك كوي»، و«جميس كين» يحاربون على الجبهة الفرنسية. وكما كتب «ك.ميسبيلد»، فقد عاد هؤلاء المحاربون “مصدومين ومشككين في مُثُلِ الإنسانية”. هذه الشكوكية، المتمثلة بخاصة في الدعابة المباعدة (humour distancié)، التي سريعا ما ستصبح ميزة النوع.
«حينما يبصق أشخاص من جيلك الدم من رئاتهم من جراء غاز المعركة [السام]»، كَتَبَ الروائي الفرنسي «ديدي داينينكس»، و«تعوض الأرجل التي سبق أن استخدموها بفنية عالية في الرقص بأطراف اصطناعية، ويمنعون من الشراب كما [عهدوا] في السابق، وينفذ الإعدام في حق «ساكو» و«فانزيتي» [العاملين النقابيين المنتميين إلى الأوساط الفوضوية]، بالكرسي الكهربائي، ويتصدر زعماء المافيا كـ«ديلنجر» و«آل كابون» الواجهة، لا يتبقى لك سوى كتابة أعمال أدبية من طراز «القتلة» [لـ«هيمنجواي»] أو «الحصاد الأحمر» [لـ«هاميت»].
بهذا الخصوص، يبدو من الأهمية بمكان أن نسجل بأن ولادة مجلة “القناع الأسود” (Black Mask)، التي ستنشر أولى النصوص السوداء، تعود إلى 1919. في هذه الفترة بالذات، ومن الجانب الآخر للمحيط الأطلسي، كان هناك كتّاب، هم أيضا قد اكتووا بجحيم الحرب، متأهبين لتأسيس المذهب السوريالي. لكن حينما اختار السورياليون التحريض للتشهير بالعالم الذي أوجد الفوضى، فَضَّل كتاب الرواية السوداء النظر إلى المجتمع وهو يتفكك.
أزمة 1929، التي ستضرب بشدة المجتمع الأمريكي، ستدمغ النوع بميزة ثانية من المتعذر محوها.
انتحارات رجال المال وأصحاب البنوك، فاقم عدد المقصيين، الفلاحين الصغار المنقوعين في البؤس، الضاربين في جهات الولايات الأمريكية بحثا عن العمل، جماعات العاطلين. هؤلاء الكتاب الذين سيصبحون فيما بعد منارات الأدب الأسود، سيتخبطون، بدورهم، في مصاعب مجتمع لا يرحم. لقد مارسوا في الغالب عشرات الحرف، واختزنوا بما فيه الكفاية العديد من التجارب لِيُسْقِطوا قوتهم الخلاقة في الواقع الاجتماعي.
الكاتب الروائي “داشييل هاميت” عَمِلَ متحريا خاصا “detective privé” بوكالة “بينكرتون” (Pinkerton)، الذائعة الصيت، و”سيستر هيمز” قضى سنوات في السجن، و”مايك كوي” و”طومبسون”، مارسا مِهَنًا صغيرة قبل أن يصبحا صحفيّين..اللائحة طويلة، كما يذكر بذلك “فرانك مايك شاين” ، هؤلاء الكتّاب، الذين “عانوا حقا”. بما في ذلك معاناتهم من وضعيتهم ككتاب (pulp)؛ (لُبّاب).
بعيدًا عن فضاء اللهو (أو التسلية) التي حاول بعضهم حجرها فيه، ابتنت الرواية السوداء نفسها إذًا قبل كل شيء كأدب الواقع. على ضوء معيشهم اصطنع مبدعوها أساطيرهم وصورهم التي ستلتصق بهم دائما. من بينها ستبرز شخصية مفتاح: المتحري الخاص. على الفور، سيتم وصفه ككائن متميز، وعلى هامش المعايير والقواعد الاجتماعية. فهو يتطور في عالم مواز في الوقت نفسه لعالم الذين يوظفونه (عموما، فهو لا ينتمي إلى نفس الطبقة الاجتماعية لموكليه)، ولعالم الشرطة (فهو، بخلافها، لا يخدم الوضع القائم). فهو ينظر إليها بكثير من الحذر لاسيما وأنه يجسد بُعْدا متحررا. حينما يقدم خدماته، فإنه يبقى سيّد نفسه والمسؤول عن قراره في العمل. فهو يختار قبول أو رفض المهمة التي تقترح عليه، ويمكنه، في أي لحظة أن يعمل على تطويرها، كما يحلو له. لا يقلقه كثيرا أن يؤنبه الضمير، أو أن يتجاوز إطار القضية التي تم تكليفه بها.
كما الرسام في “رصيف الضباب” (Quai des brumes) [لـ”مايك أورلان”]، الذي يرى شخصا مشنوقا كلما رأى شجرة، يتبين المتحري الخاص الأشياء الثاوية ما وراء الأشياء. وأيضا الشرّ في جميع مظاهره، من خلال نظرته الثاقبة.
مثل هذه الشخصية، إذا احتكمنا إلى الواقع، لا علاقة لها بكائن كـ”هرقل بوارو”. أكثر من هذا، فهي لا تشبه المتحري الأصيل (authentique) الذي وصفه “شاندلر” (Chandler) كمُكْد صغير حقير، ذراع ضخم لا يكل من توجيه الضربات وصاحب قيم أخلاقية متقلبة كإشارة مرور. كائن بمثل حساسية “مارلوي” (Marlouve) لا يمكن أن يقوم بمثل هذا العمل، يوضح الكاتب الكبير. فالمتحري الخاص إذًا يُصاغ من جديد لخدمة القضية الجديدة، وسيصبح، حسب تعبير “فرانك مايك شاين”، “تشخيصا لموقف تجاه الحياة (…) قوته المعنوية تأتي من جهة أنه لا يربح أكثر من مرتبه الشهري الذي من أجله –إذا أراد- يمكنه أن يحمي البريء، ويساعد اليائسين ويزهق الباطل. واقعة كونه يقوم بما يقوم به مقابل مرتب شهري هزيل في عالم فاسد هو ما يميزه عن الآخرين”.
عالم فاسد، مع ما في العبارة من ركاكة. لكن الأمر يتعلق بأمريكا، رجال السياسة الزائغين، والقضاة المرتشين، ورجال الشرطة المتواطئين “أول شرطي رأيته لم يكن قد حلق ذقنه لمدة ثمانية أيّام”، كَتَبَ “داشييل هاميت” (Dashiell Hammet)، في “الحصاد الأحمر”. “الشرطي الثاني كان يرتدي بدلة حقيرة وينقص صدريته زِرّان. أما الثالث، الواقف في ملتقى طريق المدينة الرئيس، فكان ينظم المرور وبين شفتيه سيجار. بعد ذاك توقفت عن استعراضهم”.
هكذا، حينما يغامر “سام سبيد” (Sam Spade) [بطل “هاميت”] و “فيليب مرلوي” [الشخصية الرئيسة لروايات “شاندلر]، وتقودهما أرجلهما إلى الصالونات الموسرة والفيلات الفاخرة، فإنهما لا يمتنعان عن طَرْق الأماكن المحرمة. فهما يرفضان إيقاف تحقيقاتهما في حدود اللياقة والأدب، ويرفضان التراجع والتنازل. فهما يمثلان في رمزيتهما الأبناء الضالين لهذه الفردانية ذات اللون الأمريكي التي اصطنعت رعاة البقر الفردانيين، والثوار ومعنى المبادرة الحرة. غايتهم ليست إعادة ترميم العالم، وإنما تحليله، ولو عَرَضِيا، من خلال رفضهم إغماض عيونهم. فهم يبينون للعيان ما يسعى البعض إلى تركه في الظل والتعتيم عليه.
في هذا المنحى أيضا، تكتسب شخصية أخرى وضعًا إشكاليًا: يتعلّق الأمر بالصحفي (journaliste). الموانع العديدة التي عليه تذليلها لإنجاز مهمة إعلام الجمهور التي يتبناها، تجعل منه مدافعا عنيدا عن الحرية، فهو مثل المتحري الخاص (لكن بأسلحة أخرى، ودون شك بكثير من الأوهام) يتدخل في مجتمع مشبوه إلى حد ما.
لكن الرواية السوداء لا يمكن أن تنحصر في نماذج بعينها. يمكن أن تأخذ مكانها كذلك بالتناوب في جلد المذنبين (الجناة لـ”تومبسون Thopson”)، و(المقصيون لـ”جوديس Goodis”)، و(الخاسرون الرائعون لـ”كروملي Grumley”). حينما يتقمّص دور رجال الشرطة الرسميين (“إد.مايك.بين (Ed.Mac.Bain”) فإنه يجعل منهم الفاعلين الحقيقين لمجابهة يختلط فيها الشر بالخير. وبالتالي يصبح النظام الذين هم سَدَنَتُهُ في الظاهر نوعا من البناء المعوجّ الذي يسحقهم، إن لم يحولهم إلى ملائكة استئصاليين.
يقول “جان باتريك مانشيط”(J-P.Manchelte):
“في الرواية الجنائية (roman criminal)، العنيفة والواقعية على الطريقة الأمريكية، نظام القانون ليس جيدا، فهو انتقالي وفيه عَوَر ومتناقض من نفسه. بتعبير آخر، الشر يهيمن تاريخيا. فهيمنة الشر هي اجتماعية وسياسية. السلطة يمارسها أوغاد. نتعرف في هذا الأمر على صورة مماثلة على التقريب لصورة النقد الثوري للمجتمع الرأسمالي […]. حينما لا يكون البطل نفسه وغدا […]، حينما تكون له دراية (كما لدى “شاندلر”و”هاميت”)بالخير والشر، فهو فقط فضيلة عالم بلا فضيلة. يمكن أن يُقَوِّمَ طبعا بعض الاعوجاج العام للعالم، وهو يدري بذلك، من هنا تأتي المرارة التي يشعر بها”.
دون أن نتخلى عن هذا الموقف الذي يمكن تعريفه مستعيرين تعبير “رايمون آرون” (R.Aron) بموقف “المتفرج الملتزم” (spectateur engagé) سيتأبط البولار، على مر الأيام، أجندة أسئلة القرن [العشرين]. كما لو أنه يريد أن يوحي بأن كتابة رواية سوداء هي مسألة اختيار.
يقول باتريك راينيل P.Raynal: “لنتخيل أنه في عام 3000، وأثناء تنقيب أركيولوجي في باريس لإعادة بناء حضارتنا وما تحكيه، سيضع الخبراء أيديهم على 2500 بولار من السلسلة السوداء. سيجدون كل تاريخ القرن [العشرين]؛ نتائج الحربين [العالميتين] الأولى والثانية وحرب فيتنام وحرب كوريا والجزائر، وتاريخ الفساد السياسي، والجريمة المنظمة والمافيا، وتلك، المذهلة، المتعلقة بتهريب المخدرات، والنقابية الأمريكية، والتجارب النووية…، السلسلة السوداء تُلْهِمُ الروايات حسب نغمة الزمن وأحداث العالم”.
لم يُشَكّل الروائيون الفرنسيون استثناءً، فالأرضية كانت -الحق يقال- ملائمة مادامت فرنسا تملك تقليدا أدبيا متينا يمزج الروائي (romanesque) والبعد الجنائي والمسألة الاجتماعية. الكتاب الطبيعيون، والرومانسيون أو كتاب المسلسلة للقرن التاسع عشر، كانوا من السباقين إلى فتح الأبواب على حقائق قاتمة، إلى الحد الذي يدفعنا إلى القول بأن سلسلة الكتب السوداء أو الصفراء التي أنشأها “مارسيل دوهاميل” (M.Duhamel) عام 1945، ولو أنها وجدت قبل مائة عام من تاريخ صدورها، لاحتضنت البؤساء، وغرائب باريس ومصائب “فوتران” البلزاكية. أيضا حينما اجتاز “العسير الطبخ” (hard-boiled) المحيط الأطلسي في نهاية الحرب العالمية الثانية، وجد تربة مواتية لهذا التطعيم. ولو أنه قد وجد من الكتاب من عَمِلَ إذن على ارتداء “القناع الأمريكي” وأعاد إنتاج بعض مظاهره (من عنف وإغرابية على الطريقة الأمريكية…)، المفصولة عن الواقع الاجتماعي الأصلي الذي يجهلونه. في مدة وجيزة، وبجانب المقلدين ومتعهدي رواية التجسس التي ازدهرت على خلفية الحرب الباردة والديغولية الاستخباراتية، سيأتي جنود الاحتجاج، وفي مقدمة هؤلاء نذكر(جان أميلا Jean Amila)،بعد أن عرف بدايات ملفتة للنظر على صفحات “المجلة الفرنسية الجديدة” تحت اسمه الحقيقي (جان ميكير Jean Meckert)، انتقل إلى “السلسلة السوداء “حيث شكلت رواياته أول إصداراتها الفرنسية، ووَقّع حتى نهاية الثمانينيات أعمالا جديرة بالملاحظة عالجت مواضيع شتى؛ منها: الأجهزة السرية، الجيش، العدالة، عقوبة الإعدام، النفاق الاجتماعي، الاستعمار، … سيكون قدره بحجم عمله: أثناء زيارته لــ”بولينيزيا الفرنسية” (polynésie française) تعرض لاعتداء شنيع بسبب كتابته وفضحه للتواجد الفرنسي هناك، الشيء الذي أدخله في حالة غيبوبة لفترة. إفلاته من موت محقق دفعه إلى العودة إلى الكتابة، وأنتج مجموعة من الروايات المهمة في سجله الإبداعي.
العالَمُ الروائي لــ(أندري هيلينا A.Héléna) مختلف تماما: شخصياته، البئيسة أو الشريرة الهاربة، تتطور في عالم قاتم بعناد ودون خلاص. «الأبطال لا يكترثون» «والأنذال حياتهم صعبة»…، أعمال بمثل هذه العناوين، تستبعد بروز أي بصيص أمل في إبداعاته الروائية. شاهدٌ على العصر بطريقته. مع ذلك يبقى الروائي “هيلينا” أحد القلائل الذين ألقوا بالبولار في حمأة عالم التحرير [من النازي] والحرب الأهلية الإسبانية.
آخر عضو في هذا الثلاثي “الفوضوي المتحرر”، والأول في كرونولوجيته: (يو مالي Léo Malet). مع هذا المبدع، كتب “روبير دولوز” يقول: [ابتداءً من 1943 ستغير الرواية البوليسية “صُنِعَ في فرنسا” (Made in France) انتقالها من الأبيض المكسور إلى الإسوداد]. مع بطله (نيستور بورما N.Burma)، نقل “مالي” شخصية المتحري الخاص الأمريكي إلى التربة الفرنسية المحلية، واستطاع، على هامش سلسلته الشهيرة الموسومة باللامبالاة الفردانية، أن يبلغ أوج الحنق الاجتماعي، مهما كان تطوره اللاحق.
تبقى ثلاثيته [الروائية] السوداء، من جوانب عديدة، مثالا ساطعا لوصف عالم دون خلاص حيث يتخبط أولئك الذين ولدوا في أوضاع صعبة وسيئة.
ضمن ما يمكن أن نسميهم بالموجة الأولى، نذكر كذلك “أوغست لوبروتون” (A.Lebreton)، الذي نَحَتْ رواياته منحى الرواية الاجتماعية، قبل أن تميل إلى الإنتاج الغذائي (“الحيطان العالية”، “قانون الشارع”…)، و(ألفونس بودار A.Boudard)، الذي -وإن لم تنل أعماله شرف الظهور في سلاسل الكتب البوليسية- فقد تضمنت ديكورها وفكرها، و(بوريس فيان B.Vian)، فضلا عن كونه مترجم “شاندلر”،الذي، وتحت اسم مستعار (فرنون سوليفان V.Sullivan)، سيمنح قراءة عدة بولارات مكتوبا زيفا على طريقة الـ “هارد – بوالد”، على رأسها روايته الذائعة الصيت “أنا ذاهب لأبصق على قبوركم”، وهي عبارة عن إدانة صارخة للتمييز [العنصري].
على صورة العسير الطبخ [الأمريكي] امتاز البولار الفرنسي، منذ بداياته، بأنه موسوم اجتماعيا. الكاتب “أميلا” اشتغل منذ سن مبكرة في المعمل بعد الملجأ، ويمكنه أن يشكل صورة للكاتب البروليتاري، “مالي” و”هلينا” قضيا جزءًا من حياتهما في تجرع مرارة الاشتغال في “البقرة المجنونة”. “بودارد” و “لوبروتون”، اللصان السابقان، قضيا سنوات [من عمرهما] في السجن… المحصلة هي، من جديد، تلك النغمة التي أسماها “جان فوتران” “موسيقى المخذولين” والتي عرّفها مؤلف “Billy Zeckick” على النحو التالي: “تتوجه إلى أشخاص يبحثون عن ثلاث فرنكات وست فلسات ليعيدوا صياغة العالم. إنها ليست ملائمة، فرائحة الخمر واللؤم تفوح منها”.
غير أنه، مع استثناءات بارزة، يختلف الكتاب الأمريكان عن الفرنسيين، فإذا كان الأولون يتصارعون في مجتمع مأزوم، فإن زملاءهم الفرنسيين في أغلبيتهم، يبدون أنهم يندبقون في رغد عالم في طور البناء. فالاحتفال بنصر التحرير لم تخفت أضواء فوانيسه بعد، والاقتصاد يتعافى، وفضائل الاستهلاك حسنت العديد من مناحي الحياة اليومية…
فالبولار، حينما، حتما، لا يفلت من نغمة العصر، سيفقد جزءا من البعد الدرامي الذي يقود الخارجين على القانون إلى مصير لا مفر منه. تحت تأثير المال الفاسد، سيشبه الزقاقيون (voyous)، بشكل غير ملموس، الوجهاء ويقترنون بأحلام هؤلاء الضّيقة وتطلعاتهم المتبرجزة.
الأمر الدّال هو أن الرواية البوليسية ستعالج بشكل طفيف -على الأقل في زمن حقيقي- أحداثا أساسية كالحروب الاستعمارية. إذا استثنينا “جان أميلا” الذي قدّم رواية “الرأفة بالفئران” في 1964 (السلسلة السوداء)، كان علينا انتظار (ديديي داكنينكس Didier Daenincks) في عمله الروائي المرموق “جريمة للذكرى”، الصادر في 1984، لنرى حقا دخول حرب الجزائر إلى الرواية البوليسية السوداء. صحيح أن الأجهزة الرقابية [الفرنسية] لم تكن لتسمح بذلك ما يذكرنا به “بوريس فيان” في بولاره البارودي المسمى “إنهم لا يهتمون” (Ils ne se rendent pas compte). مُدَوِّنا ملاحظة أسفل الصفحة، تتعلق بنقط الوقوف التي تُعَوّضُ الكلمات التي يعتقد بأنها فجة جدا لكي تنشر. الكاتب “ فيان” لا يتردد في الكتابة:
“ هذه النقط تمثل أفعالا مقبولة بشكل خاص، لكن غير مسموح القيام بالدعاية لها، ذلك لأن لنا الحق في تحريض الناس على التقاتل في الهند الصينية، أو في مناطق أخرى، وليس لنا الحق في تشجيعهم على ممارسة الجنس.”
بمجيء ثورة “ماي 68”، سيتعرض النوع لِرَجّة. وإذا كانت جماعة من الجنود غير النظاميين قد سبق لها أن أسمعت صوتها، فإن “كافروش” [ إحدى شخصيات “البؤساء] سيلتقي بـ “سام سبيد” على متاريس “الحي اللاتيني”. على النحو نفسه أيضا سيعرف [إيقاع] الجاز بعد ثلاث وعشرين سنة اختلاطا بالجاوية (Java). “كنا نضع كتابا أحمر [ نسبة إلى “ماوتسي تونغ”] في جيب، وفي الآخر رواية لـ “هاميت”، يتذكر “باتريك راينال”.
سَتَسِمُ السبعينيات الممزوجة بعبق الثورة انبثاق جيل جديد من الكتاب المهمين الذين سيجددون الأسلوب مع مواصلتهم الطريق الذي سطَّره الرواد القدامى، بما في ذلك تجديد البعد النقدي. سواء تعلق الأمر بـ”مانشيت” (Manchette) أو “راينال” أو “بوي” (Povy) أو “داينينكس” أو “فاجردي” (Fajardie)، أو “فيلار” (Vilar)، أو “جونكي” (Jonquet)… فهم، بلا استثناء، قد شيدوا عملا سيندرج بوضوح فيما وراء التسمية التي اعتاد النقاد إطلاقها على هذا العمل: “ النيوبولار” (néopolar)؛ (أي كل محكي بوليسي في اتصال مباشر(en prise direct) بالحقائق الاجتماعية أو السياسية) […] ثغرة جديدة قد فتحت من جديد، وفي الوقت الذي كان فيه الأدب الأبيض يرضى غالبا بتأمل ذاتي مُلَوَّن بالسرية (nombrilisme)، فإن الأدب الأسود لم يتوقف عن اكتشاف عالم متحرك، يفرز أخطارا وأعمالا جائرة. في الثمانينيات أمكن لـ(ج. ب، كوفمان J.P. Kauffman) أن يكتب: على غرار (خبر الآحاد fait-divers) التي تعكس جيدا الواقع الاجتماعي للمرحلة الراهنة أكثر من الخطاب السياسي، فإن البولار يعبر عن الظمأ إلى الملموس لجمهور بتزايد أكثر فأكثر.”
وفيةً لعصرها، ستعالج الرواية السوداء بالتناوب قضايا مركزية كالعنصرية والإقصاء والضواحي والرشوة والتلوث… بنوع من الغزارة غير المسبوقة في الإنتاج الأدبي. من بين سلاسل الكتب العديدة التي ازدهرت يمكن أن نرى حتى ولادة ساغا (saga). وإن لم تكتمل بعد، ببطل (héros) متواتر، بطلها الـ “le poulpe”. المقصود من إبداع هذه السلسلة يقول (جان-برنار بيوي J.P.Povy): “منذ البدء، أردنا خلق بطل ذي توجه يساري ليكون نظيرا [ونِدّا] لـ SAS وL’Exécuteur، الممثلين القويين لنوع من الكتابة [الروائية] الفاشية… بالنسبة لـ le Pouole، فهو نوعا ما نصير للحرية المطلقة، وقادر على أن يدغدغ بأحكام اليساريين القدامى، على سبيل المثال”.
وقد تناول هذه الظاهرة بالتحليل في “مجلة حركات” الباحثان (فيليب كوركوف Ph.Corcuff وليزون فلوري L.Fleury)، وذلك من خلال وضع رسم منظوري لـ “النيوبولار البولبيي” (le neopolar poulpien) والسلسلة “ميكري” [ لـ”جورج سيمونن”]. طبعا مع تفوق بَيّن للعميد السمح ذي الغليون الشهير، بحيث أنه في الوقت الذي كان هذا الأخير يمارس نوعا من “السوسيولوجيا المدركة للوسط الاجتماعي الذي يغوص فيه ويتأثر به […] متخذا من مفهوم الطبقة أداة أساسية لمنهاجيته”، فإن النيوبولار، في جذريته السياسية كان يثقل رواياته بمجرد “شخصيات اجتماعية أشباح، بل عبارة عن مستنسخات” مما يقود إلى “اختزال للتعقيد”. التحليل السابق لا يخلو من مصداقية، لكن صاحبيه ينسيان أن العديد من كتّاب البولار (les polardeux) قد وَجَدوا في طلب الجمهور المتزايد فرصة سانحة لتمتين صخور مجدهم [الأدبي] الأولى وأن هذه السلسلة الأخيرة في سباقها المحموم لفرض نفسها، قَرَّبَها أكثر من بعضها سلسلات الكتب الأمريكية (“Pulps” الشهيرة) والتي اشتقت منها لفظة (“pouple”)، وجعلها لا تستطيع أن تطاول روايات العظيم “ج.سيمونن” دون أن يرتد طرفها خاسئا.
مهما يكن، فالرواية السوداء، في بدايات الألفية الثالثة، تستمر في الصدح بموسيقاها على هوى العصر الذي يعيش فيه كُتّابها. موسيقى لم يتوقف البولار عن تجويدها بعد أن صاغ ثيماتها على صورة لحن جاز مرتجل. بهذا الصدد، وعلى شاكلة المرأة المحلوم بها للشاعر [الفرنسي] “فرلين”(Verlaine)، فإن البولار المستقبلي لن يكون مختلفا. حاليا، يعبر الكتّاب الجدد -والكاتبات الجديدات أيضا- بشكل مختلف عن رؤيتهم لعالم مشوش لا يسير نحو الأفضل. لكن من متحري الأزمة [الأمريكية] الكبرى إلى cyber loser ، (الخاسر السيبراني) فإن الارتيابية القوية للرواية السوداء تبدو رائدة بشكل نهائي.
على صورة أبطاله المتوحدين – المتضامنين، يمكنه هو بالذات، وبعد أن قرع آخر أجراس الأوهام [ الأيديولوجية] الكبرى، أن يُجَسِّدَ مُقَدَّما جوهر أنسية جديدة.
الهوامش
* باتريك بيشورو (فرنسا، 1953) كاتب روائي فرنسي. إنتاجه الأدبي متنوع، كَتَبَ في الرواية البوليسية وأدب الناشئة والمقالة النقدية. حاصل على الجائزة الكبرى في الأدب البوليسي(2003).
من أعماله التحليلية:
– أسود كالأمل أو الالتزام الجَلِيّ للبولار (2002).
– البولار مراَة إجتماعية (2003).