جمال القصاص
شاعر وكاتب مصري
تشكل الطفولة البئر الأولى التي منها وإليها يذهب ويعود أمجد ريان إلى الشعر. كما أنها مخزن الذكريات والرؤى والمشاهد، يلتقطها دائما بعين طفل، يبثها آماله ومخاوفه وهواجسه، حول فلسفة الوجود والحياة، ومعنى أن تكون إنسانا، تعرف كيف تلعب بطفولتك، تتأملها من شتى الزوايا وهي تومض في مرآتك الذاتية الخاصة، في عالم تعددت وتهشمت فيه المرايا، عالم تهرب منه دائما طفولة الزمن وهو يلهث نحو التبّدل والتغّير، دون حكمة ما، أو بقعة ضوء تسند الصورة في المرآة، أو تثبتها في الجدار، كدلالة ورمز على حياة كانت هنا، كان لها ماضٍ، أصبح غائما، لا يعرف ما يخبئه الغد.
يتعامل أمجد ريان مع طفولته بمحبة باذخة، يعايشها في كل مفردات الحياة من حوله، ويفرح بها وهي تنتقل من جراب الذكريات، وتسقط في حِجره كثمرة من ثمرات الوجود الإنساني، يعيد تشكيلها وإنضاجها في النص حتى تتكثف وتتحول إلى حقيقة ووعي متصل وحاضر، في مشهد اعتيادي ابن المصادفة الرخوة، في الشرفة، والشارع والمقهي، ومحطة المترو، وهو مشهد طازج وحي، مفتوح على البدايات والنهايات دائما، لأنه ابن اللعب مع الحياة، في شهوتها وبكارتها الأولى، كما أنه نتاج لرؤية الروح والقلب. ومن ثم فروح الشعر لديه، هي ابنة الطفولة بامتياز، تومض وتتوهج في النص، وتغمرنا بغزارتها، بعيدا عن دوائر العقل والمعرفة المغلقة. ففي وعاء الطفولة لا يضع الشاعر تصورات أولية لقصيدته، ولا يجترها كأثر مضى، إنما في لوحتها ومراياها يترك نفسه تنداح بحيوية في عوالم لا مترامية الأبعاد، فهي لوحة حية من تلقاء نفسها، جمالها يكمن في نقصها الدائم، وحريتها قادرة على أن تصنع نوعا من التجاور الحميم بين الماضي والحاضر، والمعلوم والمجهول، إنها الرنين الوحيد الذي لا تخطئه العين في اللوحة وفي الوجود معا.
عن هذا التأمل لوعاء الطفولة يقول في ديوانه “البيوت الصغيرة” الصادر عام 2013 عن المجلس الأعلى للثقافة، يقول:
“منذ طفولتي:
لا أتمادى في تأمِّلِ وجهي في المرآة
فقط،
بل كنتُ انفخُ خديَّ بالهواء
أو أبرِزُ أنفي
أو أضُمُّ الحاجبين
أو أفتحُهما
وأظلُّ هكذا:
أصنعُ ماسكاتٍ متباينة
كأنني أدرِّبُ نفسي
على بروفا
تتجدّدُ في كل مرة.
***
فى الطفولة
كنت أتحدَّى النصائح
وأظلُّ أحدِّقُ في عينِ الشمس
ولكنها كانت تهزِمُني شرَّ هزيمة
عندما تجبِرُني
أن أغمضَ عينيّ اللتين التهبتا.
تقريبا
وامتلأتا بالدموع.”
لا ينقضي ميراث الطفولة في هذه الشعرية، فهو ظلها العابر المقيم، ينعكس على المرآة كحقيقة وجود، تؤصل لبراءة الداخل الرابض في الذات الشعرية، وكأنه رجع صدى لما مضى من الذكريات، يتحرك على سطح الصورة الشعرية، ويمنح اللغة طاقة خاصة، تحرِّرها من أسر العادة والمألوف، وتشدها إلى ما تحت السطح، إلى ما يكمن في العتمة من سطوع مراوغ، مشرَّب بنزق آسر، تصبح فيه الصورة مرادفا للحرية والجمال. تشي بالتنوع والانفتاح على حقول مباغتة للدلالة والعلامات والرموز، وفي الوقت نفسه تؤكد مركزية الذات ودورها في صناعة الحلم والواقع معا، وكأنها (كوجيتو) شعري يشكل جوهر الرؤية للشاعر والشعر معا، فيقول على سبيل التناص الضد (أنا أتمرأى / إذن أنا موجود) معارضا بذلك (كوجيتو) ديكارت الفيلسوف الفرنسي الشهير (أنا أشك إذن أنا موجود)، منحازا إلى التعدد؛ ليس فقط كقيمة للمعرفة والوجود، إنما كسلاح للاعتزاز بالذات، والاعتداد حتى بشطحها ونزقها.
ليس بعيدا عن هذا ولع أمجد بالتفاصيل الصغيرة، واللعب على حبالها، والسعي إلى معرفة أسرارها وحكمتها، ومقدرتها على الصمود في مخالب الزمن. فهو دائم التأمل لصورها المترامية في الأزقة ومفردات البيت والعمائر القديمة، والأحياء الشعبية بوهجها وصخبها، وكأنه يأخذ قصيدته في نزهة مفتوحة على براح الخيال والحواس، لتكتشف جماليات المكان، حتى في غباره، ورقصته الأخيرة على مسرح الحياة:
“أريدُ أن أخمِشَ العتمة،
وأن أصلَ إلى حُلمي الذاتي.
تحاصِرُني السِّريةُ دائمًا،
وكانت هوايتي الأولى في الطفولة
فتحَ الأدراج
وقضاءَ الوقتِ أتفرَّجُ على محتوياتها
وأشمُّ رائحتَها الداخليّة:
كل “تسْريحَةٍ” تصادفني
أتسلَّلُ إلى أدراجِها
وأفتحُها ببطء
لأغرقَ في أسرارِها الخصوصيَّةِ
فأقلِّبُ أصابعَ الرّوج،
وعُلَبَ البودرة،
والكريماتِ،
والمرايا الصغيرةَ،
والأمشاط.”
من هذه المشهدية المشغوفة بوصف المشهد في إيقاعه الخارجي يدلف إلى الداخل، إلى كينونته الخاصة، وعالمه الواسع البسيط، وكأنه يريد أن يؤكد أن: للشعر هناءته الخالصة مهما تعددت صور الرثاء والشجن التي يصورها، مؤكدا على مفردات هذه الهناءة بشكل لا يخلو من القطع والوثوق، وكما يقول:
“فى طفولتي المبكرة
كان لي درجٌ في الشيفونيرةِ العريضة
كنتُ أضعُ فيه قِطَعَ الزَّلَطِ الناعمة،
وبقايا الأصدافِ التي حصُلْتُ
عليها في المصيف،
والأقلامَ الرصاص:
القصيرةَ، مقصوفةَ الأسنان
وعلبَ ألوانِ الشَّمْعِ التي لم تبق فيها
سوى حصواتٍ صغيرة
والبرَّاياتِ التي تلِمَتْ أسنانها
من زمان.
تابعوا المعمارَ الإيقاعيَّ
في نصي
لتعرفوا هذه النارَ التي
تتأجَّجُ في قلبي،
ولتعرفوا كم أريدُ
أن أقبضَ على اللّحْظَةِ السِّحْريّةِ التي
تخصُّ القصيدة.
الخوف،
أو شيءٌ يشبهُ الخوف
لم يفارقْ قلبي منذ زمنٍ بعيد
حتى وأنا أتناولُ القهوةَ
أحس بالخوف،
أو وأنا أندسُّ في الفراش
أو حينما أضعُ الهاتفَ على أذنيّ.”
بهذا التدفق النابض بالبساطة والتأمل فيما وراء الأشياء تولد الصورة الشعرية بعفوية وتتسامى الذات الشاعرة على ما يعلق بالروح من نوازع الخوف والقلق، بل تتعامل معه باعتباره معولا للهدم والبناء، للكشف والتعرية، مشحونة دائما بيقظة الأسئلة، وأنه ليس من الحكمة نسيان الماضي، وإنما لنتذكره دائما كقوة دفع للجديد المغاير، كما افتقاد القدرة على الخوف، يعني افتقاد القدرة على مساءلة الوجود:
“ما الذي سيحدثُ لو أنني
تمشيتُ نحو الماضي قليلاً؟
سأرى الشيخَ “خليل” الذي علَّمني النحوَ
مبتسمًا يطيرُ بجبتِهِ الواسعةِ
والأستاذَ لطفي بنظارتِهِ المستطيلةِ
واقفًا في حصةِ التربيةِ الزراعية
يعلِّمُنا صنعَ مُربى البرتقال.
قَصَصُ الحب
في البيوت القديمةِ أيضًا
حيث الفتياتُ البريئات
بوجوهٍ مليئةٍ، وبـ”توكةٍ” قماشية
وبصدورٍ نصفِ ممتلئة،
وكنا نتحايلُ حتى نحصلَ
على نظرةٍ واحدة.”
يلجأ أمجد إلى تكتيكات وحيل جمالية متنوعة شعريا، أصبحت بمثابة بصمته الدالة التي تخصه وحده، فهو يلتقط المشهد بتلقائية شديدة، كما تتسع اللغة بسلاسة للمفردات العامية المعتادة، وبيقظة المخيلة ينقي المشهد من الشوائب وربكة التفاصيل، ثم يحركه في الاتجاه القادر على الامتلاء به كفعل إبداعي يمنحه الدهشة ويثير في مخيلته دهشة أخرى كالتي تمنحها الحياة ذاتها.. لسنا هنا في سياق صراع مع عالم مجهول غامض، يمكن تأويله في أنساق هندسية وذهنية محضة، فلا شبح في النص، سوى شبح الشاعر نفسه، الذي يلاحقه كظله، وهو ينجذب إليه ويطارده بقوة اللعب مع الشعر والحياة، مدركا أن هذا اللعب سيظل حيًّا وقادرا على التنوع والعطاء طالما يعيشه، ويملك المقدرة على أن يفتح له نوافذ إدراك ومعرفة جديدة. فلا بأس إذن من أن يستثمر السرد، والحكي تحت مظلته بروح الشعر، أو ما يمكن تسميته بـ”الحدوتة الشعرية”؛ ويتعامل مع الصورة، وكأنها البيت الحاضن لها وللأنا في الوقت نفسه:
“هل رأيتم البناتِ الطفلات
وهن يَصْنَعْن
بيوتًا
وأسِرّةً
ودواليب
من بقايا الصناديقِ الورقيَّة
ويتخيَّلْن مطابخَ صغيرة،
ويُشَكِّلْن من الورقِ المعدِّنىيّ المُفَضَّض:
صحونًا وآنيةً وأكوابًا،
ومَخْرَطَةً للملوخية،
وبعد أن يُطْعِمْن عرائِسَهُنّ
يأخذونهنّ في أحضانِهنّ
وَيَرُحْنَ في نعاسٍ ثقيل.
لا يأتي هذا من فراغ، فثمة ولع بالبيوت في هذه الشعرية، لكنه ليس ولعا مطلقا، أو موضوعا حاملا لفكرة محددة من قبيل ثنائية الخفاء والظهور، بل ثمة انحياز لعنصر الكيف، لرائحة الماضي التي تفوح من فضاء البيوت القديمة، حيث جماليات المكان، تشع كوديعة من الذكريات والأحلام والأسرار بصيرورتها الإنسانية النبيلة. ومن ثم “فالبيوت أسرار” كما يقول المثل الشعبي الدارج، على الشاعر أن ينصت لخروشة الروح والجمال في تشققاتها وطلاءاتها التي تتقشر، وكأنها تحاول أن تلفت العين إلى ما ينبض تحت القشرة من حلاوة، هي عصارة الزمن والأيام:
” أبوابُ البيوت القديمة
كانت من الأخشاب المزخرَفَةِ
في سِيْمتريَّةٍ مذْهلة،
ومن ورائِها وضعوا باقاتٍ شعبيةً من الأزهار
وتظلُّ الشائعاتُ تتردَّدُ لحظةً بعد أخرى،
ولكن عند مدخلِ البيت
لم يكنْ مستحيلًا
أن تأخذَ المرأةَ بين ذراعيك
وأن تجعلَ صدْمَةَ الدَّهْشة
هي الإيقاعُ الرقيقُ للحياة.
اخرجْ تحت السماءِ الواسعة
وخذ الشهيقَ العميق:
حقًا تفيضُ العمائرُ القديمة
بالذكريات وبالحكايات
ولكنك
على موعدٍ مسبق
مع الشيء الباهرِ الذي لا يعرفُهُ سواك،
اركب العربةَ
واترك سَوادَ الإسفلت ينزلقُ
تحت العجلات،
فليس الوجودُ سوى حلم يقظة.”
في ديوانه “بروفايل جانبي أمامي” يتكثف الاهتمام باللحظات الهاربة، ومحاولة استعادتها والقبض عليها بروائحها وملمسها، بألوانها وملامحها التي انطبعت في مرآة الطفولة، ولا تزال تنعكس كذبذبات بصرية حانية في مرآة الحاضر. في غبار تلك اللحظات، يرسم الشاعر هذا البروفايل الشخصي ويحدد طبيعة الإطار الذي يحفظ الصورة، وزوايا النظر إليها، ليس من الأسفل إلى الأعلى أو العكس؛ إنما “جانبي أمامي”، ما يحفظ لمنطقة الظل هدوءها المشمس زمانيا ومكانيا. في الوقت نفسه تتسم الصورة الشعرية بملمح تشكيلي لافت، حيث يتحول التراكم الصوري والدلالي إلى كتلة، تشكل محور الإيقاع الذي يحكم فعالية بقية الظواهر في النص، كما يتحول هذا التراكم المرصوص بعناية فنية إلى ما يشبه شبكة الصيد، ويصرح باسمه بشكل مباشر(لم أعدْ “أمجد” القديم)، ليؤكد أنه الصياد، وأنه صانع هذه الشبكة، وأنها تخصه وحده.. وكما نرى في هذا النص حين يقول:
“أريد أن أصطادَ مشاهداتِ الواقعِ الصغيرة، وأن ألتقطَ الأسرارَ التي تختفي تحت مظاهرِ الواقع، وأريد أن أعلنَها واضحةً قويةً: لقد أصبحت الحداثةُ إحدى كلاسيكياتِ العصرِ الجديد، ولم تعد الثنائيةُ كافيةً اليوم للتعبيرِ عن هذا التعدّد العارم: ينبغي أن نتعرّفَ على الحقائقِ الجديدة، ينبغي أن نتعرّفَ على كل ما هو جميلٌ وصاعقٌ في حياتِنا، ينبغي أن نتعرّف على الجسدِ الذي نسكنُه، وعلى الصوت الذي نطلقُه من حناجرِنا، وأن نتعرّفَ على مشاعرِنا الحقيقيّة، الحرّة، المتمردة، المستقلة، هل نحن ننتمي إلى العالم، أم نحن أغرابٌ عنه.”
ولا يترك هذا السؤال معلقا في الفراغ، أو نهبا للتأويل المفرط، أو الظن بأنه ترجيع للحظة هاربة.. ببراءة البساطة الكامنة في الداخل يرد في ديوانه “عن الإسراف في الخيال”:
أريدُ أن أعرِّفَكُم بنفسي
أنا أكثرُ البَشَرِ حزنًا
في هذا الكون.
ملاذي قُبُلاتُ المحبين،
وسعيي
أن أمتلكَ بِنْيَةَ الكَلِمَةِ
وما يطرأ عليها من الزِّيادةِ
والنُقْصان،
فأظلُّ في النافذةِ
أراقبُ الفقراءَ
الذين يَقْصِدون الإسكافيين
لتركيبِ نصفِ نعْلٍ للحِذاءِ
وأراقِبُ الجميلةَ الناضِجَةَ
فى النافِذَةِ المُقابلةِ:
تقِفُ بجسدانيتِها النّهِمَةِ
وفوق رأسِها هالةٌ من النور.
وهكذا، منذ دواوينه الأولى وحتى الآن، تنفتح شعرية أمجد ريان على الحياة بمحبة خالصة للشعر، صنوها الأساس ليس إثارة الدهشة والأسئلة فحسب، إنما كيف يصبح السؤال عناقا حيًّا بين أمومة الألفة وأبوة الغرابة.