يبدو أن الزميل العزيز جان بول سارتر قد أوقعنا في فخ لانستطيع أن نخمج منه حتى الآن، بصياغته لمفهوم الالتزام، ومنذ صدور كتابه المعنون بـ "الادب؟" (Qu’est-ceque al litt’erature?) فبالرغم من ان هذا المفهوم – كحال معظم المفاهيم والنظريات النقدية – قد ظهر كنتيجة لحالة اجتماعية وسياسية وادبية سادت أواسط القرن العثسرين في فرنسا على وجه التحديد، وتميزت بتبادلية خصبة بين ما هو اجتماعي وسياسي وادبي، إلا أن هذا المفهوم – كحال معظم المفاطيم العبقرية – مازال حيا الى زمننا هذا متجاوزا سياقه الأصلي والسبب من وراء ظهوره.
لقد نشأت المفاهيم النقدية والنظرية في غالبيتها كصياغة لما يطرحه الواقع الأدبي والفكري، فالمفاهيم والنظريات تعتبر صياغة تالية مبنية على استقراء المنقب الأدبي نفسه. وبعبارة أخرى، فان النظرية لا تبتكر الكتابة وانما تبلورها وتحاول ان تفسرها وتحللها وتنظر لها. انها تنظر لما هو موجود بالفعل وان كان لا يتبلور في مسميات ومصطلحات الا من خلال النقد. من هنا جاء "الأدب الملتزم" (بقضية) تعبيرا ملائما لتلك الكتابة التي انتشرت في الموطن الأصلي للمسمى وانطلقت في ثقافات أخرى. انه الأدب الذي يكتبه المبدع بوعي نضالي يهدف الى مساندة قضية عامة يؤمن بها. ومن المرجح أن تكون قضية سياسية أو وطنية أو اجتماعية: فهو الأدب الذي يقوده الوعي بتلك الرسالة والايمان بتكريمي الوسائل المتاحة من اجل الترويج لها. هكذا يصبح الأدب رافدا في نهر كفاح تحرري ما، سواء كان كفاحا في اطار ايديولوجيا ما (ولا ينبغي بالضرورة أن تكون هي الماركسية او الاشتراكية كما جرى الحال، بل ربما قد تكون ايديولوجيا أصولية !)، أو كان كفاحا من اجل التحرر من الاستعمار، او مصارعة القمع والتدرج الطبقي، أو السلطة البطريركية (الأدب النسوي مثلا)، فالأدب الملتزم بمعناه العام اذن يتسع ليشمل كافة أشكال الكتابة التي يدفعها "وعي القضية"، الكتابة المكرسة منذ بذرتها لخدمة قضية من خارجها، هي قضية عامة تعمل الكتابة لساندتها وتمجيدها فيما يشبه الرواية ذات الاطروحة المسبقة LeRoman athese ومع ذلك، ولان هناك دوما استثناءات او هامش اختلاف، فقد رأى سارتر ان الشعر يخرج بالضرورة خارج حيز الأدب الملتزم، فالشعر لا يمكنه أن يكون ملتزما. وهكذا سمح سارتر بأن تفرض طبيعة الكتابة وجنسها الأدبي، معايير الحكم عليها مؤكدا عدم صحة الأحكام المطلقة، وكون النقد تاليا لما تفرضه العملية الأدبية، وكذلك ضرورة عدم التدرج أو التصنيف الطبقي للآداب وللأجناس الأدبية، وهي حسنات عديدة ربما غابت اليوم عن وعينا النقدي ونظرتنا للكتابة، تلك النظرة الانتقائية اكثر منها موضوعية، والمنعكسة في التصور المصري مثلا لمفهوم الأدب الملتزم، أو صياغتنا له.
لماذا اذن أصف هذا المفهوم بانه فخ ؟ خلال بضعة الأعو ام الأخيرة بدا لي أن الوسط النقدي والثقافي بشكل عام، يدورني دائرة مفرغة، فهناك محاولات مستميتة لتصنيف وترصيف الأدب الذي اتخذ من السنوات العشر الاخيرة محورا لارتكازه، والذي ارتاح الجميع بتسميته "أدب التسعينات"، وكانت أسهل وسيلة لملاحقة هذا الأدب الجديد بالتصنيف هي استخدام استراتيجية الثنائيات المتضادة، او تعريفه كضد و كتيار معاكس لما سبقه. وهي بالطبع الاستراتيجية التي لا تنطلق من الكتابة المطروحة ذاتها وانما من فرضية مسبقة تقوم على تقسيم الانتاج الأدبي ككل الى وحدات منفصلة (تسمى بأجيال او بفترات زمنية) وكان هناك قطيعة ما بين كل مرحلة وأخرى، ولا تنظر الى الظاهرة الابداعية في شموليتها وامتدادها، في هذا السياق أصبحت الكتابة الجديدة هي الكتابة التي لا تعني بالقضايا الكبرى ولا بالايديولوجيا ولا بالهم الوطني، في مقابل الكتابة التي سبقتها والتي كانت تعني بكل ذلك. وكانت الخطوة التالية بلا شك هي استنتاج ان هذا الأدب لا يمكنه ان يكون أدبا عظيما لانه لا يعكس أي شيء عظيم ! في وسط هذه المحاولات وهذه الاستنتاجات كنت أرى أن هناك مصطلحا غائبا من شأنه ان ينقذنا من فخاخ عديدة، هذا المصطلي هو تحديدا "الأدب الملتزم"، ففي الحقيقة ان كل ما طرح بخصوص أدب القضايا الكبرى والهم الوطني والتوجه الايديولوجي، يدخل تحت عنوان "الأدب الملتزم"، فكتابات عقود الخمسينات والستينات والسبعينات لم تكن تلتقي في تلك المحاور مصادفة، ولا بسبب تشابه المعتقدات الشخصية للأدباء، وانما كانت تلك المحاور ضرورة في أدبهم الملتزم بقضية قومية، قضية الاستقلال والتحرر الوطني (مثلما في رواية "الباب المفتوح" للطيفة الزيات) وقضية الوحدة الوطنية (مثلما نجد في رواية "خالتي صفية والدير" لبهاء طاهر) وقضايا الصراع الطبقي، والتنوير، وتحرير المرأة (مثلما نجد في كتابات فتحية العسال ومجيد طوبيا ونوال السعداوي ومحمود الورداي).. الى آخره. لقد كانت الكتابة بتلك العقود مرآة لالتزام المبدع تجاه الظرف التاريخي، السياسي والاجتماعي، الذي ينتمي اليه، أما الآن وقد تغير هذا الظرف تغيرا جذريا فقد اختلف بالتالي ما تعكسه مرآة الابداع، واختلف كذلك دور المبدع او علاقته بالأدب، فلم تعد تمر من خلال قناة التزام جماعي (أو التزام نحو الجماعة بكل أشكالها)، ولم تعد الكتابة وسيلة لخدمة قضية أو مساندة تيار ايديولوجي او تحريض الهمم (وان كان أدب المقاومة بتنوع صيفه – مازال كائنا طالما لم ينقشع سبب المقاومة)، لم تعد منبرا، مثلما لم يعد الكاتب يحمل على عاتقه تلك المسؤولية الطليعية، او على الاقل لم يعد يتحرك بدافعها، ذلك الدافع النضالي الاجتماعي قبل أن يكون دافعا أدبيا، باختصار، أصبح الكاتب مجرد فرد لا يجمد الا فرديته في مواجهة أفراد آخرين.
وبغياب مصطلح "الأدب الملتزم" تم تفتيت محقواه وتوزيعه في شكل المحاور التي أشرنا اليها قبلا، فكان ذلك تحولا للمصطلر على مستوى التعامل اللغوي النقدي، وهو التحول الذي اعتبره فخا – غير مقصود لانه يحول الأنظار عن المجال الحقيقي للمقارنة، يحولها من المقارنة بين "أدب ملتزم" (ونضالي ومسيس) وأدب جديد مجاوز لسياق ما سبقه، الى أدب جاد وتفاعلي مع المجتمع وأدب شخصاي مفتت ومعزول. ومن الجائز بالطبع أن يتخذ مفهوم "الأدب الملتزم" تحولات شتى، ومن الجائز كذلك أن يصل في هذه التحولات الى ما يتباين مع مكوناته الأصلية: وأعني بذلك مثلا ان نعتبر رواية التسعينات في مصر، والتي تعتمد اما على السيرة الذاتية، واما على تفاصيل الحياة اليومية والعلاقات الشخصية (لو جاز لنا هذا الاختزال المخل بالتأكيد)، أدبا ملتزما بقضية مثخصية، أو أدبا ملتزما نحو نفسه فقط، أو أدبا الالتزام الوحيد فيه هو الالتزام بالكتابة! ويمكننا اجراء هذا النوع من التحويلات على أي مفهوم أو موضوع وصولا الى إدراج المفهوم والمفهوم الذي ينفيا في نفسر السلآ بل المرادفة بينهما. وربما كان ذلك صحيحا على المستوى النظري والفلسفي، وربما كان صحيحا أيضا بشكل واقعي، فلكل شيء ظلال وتنويعات وأقران وتناسخات، الا انه في حالتنا يطيب لي الاعتقاد بأن التحول الحالي لمفهوم "الأدب الملتزم" هو تحول نحو الموت، وهو التحول الوحيد الذي يتراءى لي في سياق الأدب التسعيني وربطه بما حوله لا سيما وانا انتمي شخصيا الى هذا الأدب واستطيع استطلاعه من الداخل، وبالرغم من أن صياغته لتياراته لم تكتمل بعد.
لقد أصبحنا نكتب أدبا اليوم بدوافع مغايرة عما مبق، فأنا أكتب لأقيم علاقة شخصية مع كل قارئ، أكتب تاريخي الشخصي، وأحرض القراء- كلهم – على الامساك بالقلم وكتابة تاريخهم الشخصي أيضا، فلا أؤمن أن أحدا يمكنه أن يكتب حياة آخر بالنيابة عنه، أؤمن بلذة الكتابة كفعل مباشر وتلقائي (ولو اقتربنا من الكتابة الفورية Lecriture automatique). أؤمن بأن ما يجب تحريره ليس هو الوطن بل أنفسنا وارواحنا وخيالاتنا، فكيف نحرر وطنا اذا كنا نحن أنفسنا سجناء، اذا كنا نحن أنفسنا سجناء أنفسنا؟ كيف نحرر وطنا نحن – بهذا المعنى- سجانه الا اذا كنا نسعي الى خطوة مستعارة يسهل بعدها الرجوع أميالا الى الوراء أي خطوة على المستوى السياسي الظاهري بينما الشعب من داخله محتجز الحرية والخيال وراء محرمات ومعتقدات جائرة، وراء أسرار من زيف الاتصال والتواصل والأقنعة الاجتماعية.
في الأعوام القادمة لا أحب أن أرى القراء ككتلة واحدة، أحب أن أراهم أفرادا فاعلين، كتابا احتماليين، وأحب أن يروني أيضا ليس بوصفي أجسد صورة الأديب، وانما بوصفي نورا فقط، وليس حتى "نورا أمين"، فهذا هو الدافع الوحيد الذي يتجاوز في نظري تبدل الايديولوجيا والهموم والقضايا وعلاقات الفرد بالجماعة، او الجماعة بالفرد، هو الدافع الباقي- وان كنت أرفض القيم المطلقة بشكل عام – دافع أن يكتب فرد نفسه ليتعرفه فرد آخر، أو ليتعرف نفسه بالأساس، تلك النفس، أو الذات، الزاخرة بكل شيء، والمنعكمر فيها المجتمع والتاريخ والظرف الاجتماعي والحالة البلاغية والأدبية. وأقول "منعكسا" فقط أي انها كتابة غير مفرغة وغير معزولة، لكنها في الآن نفسه غير مدفوعة بأية نوديا التزامية او اية مسؤولية من الكاتب في توجيه المجتمع. ولعل أفضل مثال على ذلك كتابة "ماجريت دورا" التي ولدت في نفس سياق مفهوم "الأدب الملتزم" وجان – بول سارتر، لكنها اتخذت منحى مختلفا تماما في الكتابة التوثيقية والشخصانية يجعلني أراها منطلقا مناسبا لمنحى الكتابة الآن، وتحديدا كتابة الرواية في التسعينات ومنها روايتي المهددة اليها "قميص وردي فارغ" والتي تعكس التزاما وحيدا ناحية التراث الأدبي، والفني عامة، ناحية الذات الكاتبة والمكتوبة، الذات الكتابية، وكتابة الكتابة او ابداع هوية معاصرة بالكتابة.
أما السؤال الأبدي أبدية الكتابة، أي سؤال "ما الأدب ؟" والذي نطرحه على أنفسنا بشكل دوري محاولين تعريف ذلك الشيء الذي نتعاطاه منذ أن ابتكر الانسان الحروف، فهو سؤال يسهل الرد عليه في رأيي بالرغم من تعقد الأفكار والرؤى المطروحة وتعقد الثقافة بشكل عام، فأعتقد أن الأدب اليوم هو الكتابة المعتمدة على المجاز اعتمادا أساسيا. انه الكتابة بلفة المجاز والكناية والاستعارة، لكن ليس كتقنيات ذهنية بل بدافع من حالة بلاغية وتخيلية مكتملة. ولعل هذا هو تعريف الأدب منذ القدم أيضا، الا انه في اطار هذا التعريف الفضفاض لذلك النتاج اللغوي الكتابي، والشفاهي أيضا، يتغير مضمون الأدب وتوجهاته، تظهر أجناس أدبية جديدة، وتخفت أجناس قديمة، وتدمج أجناس في أجناس، يحدث تهجين من أدب ثقافة أخرى، يحدث تهجين على مستوى اللغة أيضا تتبدل بنى الخيال وآليات التعبير، تتحول الهموم والقضايا والقيم المحركة للأدب مثلما يحدث في تلك المحركة للمجتمع والواقع مادة النص الأدبي، وبالرغم من ذلك كله يظل الأدب هو تلك الكتابة المعتمدة على اللغة المجازية بدرجة أو بأخرى، اللغة التي هي مرآة بالضرورة لشيء ما (بما أن اللغة أداة تعبير في تعريفها الجذري) سواء كان داخليا أو خارجيا، شخصانيا او جمعيا، مستوحى من الواقع أو خياليا، الى آخره، ولا مناص من الاعتراف بشرط آخر لوجود الأدب، أي المتلقي، سواء ظهر مباشرة مع أو بعد- كتابة النص، او ظهر بعد ذلك بدهر، وسواء كتب المبدع نصه بدافع أن يقرأه غيره او بدافع أساسي من أن يفلقه على نفسه، أو يجعله نصا سريا! وبالنسبة لي، يعني شرط التلقي، شرط التواصل، او الاتصال، ايجابيا او مؤثرا كان، أم سلبيا، أي شرط وجود الآخر، ولو كانت فعاليته الوحيدة في تلقيه.
يقودنا وجود الآخر/ المتلقي اذن الى سؤال القراءة، فاذا كنا نكتب للتعبير عن تاريخنا الشخصي (المتقاطع حتما مع تواريخ أخرى)، وللتوثيق له (واذا كان هذا هو دافع صناعة الأدب اليوم)، فلماذا يقرأ المتلقي؟ ما هو دافع قراءته / مشاركته تجاه هذا الانتاج زي الدافع الشخصاني؟ ولا مفر من ان تكون الاجابة انه ايضا يريد هذا النوع من التعبير، ومن الأدب، يريد التواصل مع الخبرة الذاتية الأخرى، يريد أن يشعر انه في تلك العلاقة (الورقية ؟!) الخاصة مع آخر، وتتميز تلك العلاقة – ربما بسبب وسيطها الكتابي واللغوي الخاص – عن بقية العلاقات اليومية والمجتمعية، بميزتين، أولهما أنها تتيح قدرا من الصدق والصراحة – وربما الاعتراف – والحرية (وبالتالي التحرير)، والتجاوز، لا توفر» آليات الواقع والادوار الاجتماعية، وثانيهما أنها تضفي على ذلك كله سحرا وخيالا يجعل الروح تحلق في أفضية جديدة، وعوا لم لم تكلأها من قبل (جغرافيا وذهنيا ونفسيا). هكذا يصبح الأدب للمتلقي فعلا محركا للخيال، فعلا ابداعيا بمعنى آخر غير الذي يعنيه بالنسبة للمبدع الأصلي مما دفع نقادا حداثيين الى الاعتقاد بأن لكل قارئ نصه الخاص، طالما لكل قارئ قراءته الفردية التي لا تتكرر مئة في المئة، فالقراء هم خالقو تعددية النص وتكاثره، وحيث القراءة هي ذلك الفعل الذي نسعي الى متعته دوما لأنه يتيح لنا فرصة أن نكون أنفسنا ونكون آخرين في آن، نكون أنفسنا من خلال آخرين.
نورا امين (كاتبة من مصر)