1- تقديم:
1-1 تأتي رواية المعجزة (1) لمحمود طرشونة بعد روايته الا ولى دنيا (2) لترسخ اقدام هذا الكاتب في مجال الا بدا ح السردي، بعد ثبوت جدارته وتألقه في مضمار البحث الاكاديمي والنقد الا دبي. ولقبين لنا بوضوح أن الابداع لديه رديف البحث, وأن كلا منهما سيستدعي الآخر ويستلزمه في انتاج التجربته المتميزة. لقد اهتم طرشونة بالسرد العربي القديم من خلال بحثه في المقامات والليال… وفي روايته الأخيرة نلمس حضورا مهما لذلك الاهتمام, وتمثلا جيدا لروافد التراث السردي العربي، وتوطيفا واعيا لبعض سماته التخييلية والكتابية.
يبدو لنا ذلك في كون رواية "المعجزة " نصا عجائبيا بامتياز. لقد حبك الكاتب خيوط نصه بمهارة الصانع الملم بأسرار صناعة السرد، وترك للقارىء مناسبة ملاحقة بناء النص وتتبع عوالمه, وهو دائم التساؤل عن سر الحكي الذي يضبط مساره, ويحدد وجهته, اذ لا يمكن تكوين فكرة عامة عن هذا النص الا بعد الانتهاء منه. وحتى بعد ذلك يجد القارىء نفسره مجددا امام ما يتولد لديه من "حيرة " تبقي على اسئلته, وتضطره الى معاودة القراءة, وكلما اعيدت القراءة, تبينت له عوالم جديدة وتفاصيل اخري، وطفت لديه تساؤلات عديدة.
1-2. ان كل ذلك يجعلنا امام نص متكامل العناصر والبناء، فهو عكة واحدة, متراصة العناصر والاجزاء، واي اهمال لأي منها لا يمكن الا ان يسهم في تشويش الرؤية, كما ان اي اغفال لابسط علامة فيه لا يتولد عنه الا اختزال النص, وعدم النفاذ الى جوهره, او الكشف عن باطنه, والوقوف عند أهم ملامحه وخصائصه.
نروم في هذه القراءة البحث في مختلف عوالمه, وما يحدد البعد العجائبي الذي بني عليه هذا النص، وذلك من خلال الوقوف اولا على النواة او البؤرة التي تنظم مختلف عناصره ومكوناته. ثم ننتقل حد ذلك الى معاينة تلك المكونات, في ضوء تلك البؤرة, من خلال اهم تجسيداتها، لنقارب في النهاية الخاصية المحورية التي تسم هذا النص وتميزه, وتحقق جماليته وخصوصيته.
2- دعوى النص او العنوان:في البنيات الحكائية:
1- دعوى النص: لابد لأي نص, جدير بهذا الوصف, مهما تعددت مستوياته وطبقاته, وتنوعت جزئياته, وتفاصيله, واختلفت عوالمه, من بنية بؤرية تنظم ما تعدد وتنوع واختلف لضمان وحدته وانسجام بنياته. هذه البنية / البؤرة نسميها:"دعوى النص "(3). انها ما د.يدعيه "ويسعى جاهدا الى تقديمه من خلال عملية ابداعه, وهي من ثمة "الداعي" الى تأليفه وصياغته. انها الركيزة التي ينهض عليها النص بكامله. قد تكون هذه "الدعوى " ظاهرة او باطنة, مبرزة او موردة, وقد يكون الكاتب واعيا بها حينا، او غير واع بها احيانا اخرى. تتعدد صور تجليها، والمواقع التي تحتلها في نسيه النص.. لذلك كان على القارىء ان يبذل مجهودا للامساك بها وملا مستها ليتمكن من تشكيل صورة عن أبعاد النص ومراميه ؛ والا فشل في تحقيق التواصل مع النص موضوع القراءة.
2-2. المعجزة: نجد "دعوى النص" في رواية المعجزة كامنة في مناصه الخارجي (العنوان). فهو الذر يختزل مجمل عوالم الرواية وبنياتها الحكائية المختلفة: انه "يوحد" النص, ويضبط مختلف عناصره. ومعنى ذلك ان الكاتب وفق في اختياره إياه بجعله ينظم مختلف مكونات النص, وتتحقق من خلاله "دعوى النص "باعتبارها بؤرة الحكي، وركيزة السرد.
2- 1. المعجزة عملية تحويلية مفارقة للعادة. "اذ المعجز ما يكون خارجا عن طوق المخلوق "(4.). ويجسد لنا النص هذه "المعجزة » من خلال فعلين اثنين يتكاملان ويتضافران:
أ) تحويل العقم الى حبل. ب) تحويل الموت الى حياة.
انهما في العمق فعل واحد يتبدى من خلال الخارق للمألوف (المعجزة). ومن خلالهما تتجسد الأعوى النصية. ويستدعي جعل الدعوى مناصا اننا ما إن نمسك بالرواية لاول مرة, حتى نجد انفسنا نتساءل: ما هي هذه المعجزة ؟ وهل ستتحقق فعلا؟ وكلما تقدمنا في عملية القراءة تزداد الاسئلة الحاحا: هل تتحقق الدعوى فعلا؟ وكيف ؟؟.. ونتبين طبعا، في نهاية النص, تحقق هذه المعجزة. ويتجلى لنا البعد العجائبي واضحا عمليا من ناحيتين: فشخصيات عالم الرواية لم تسلم بتلك المعجزة, وظلت الامور عليها ملتبسة. فهي شككت في طهارة مريم عندما ظهر حملها (تحويل العقم), ويبدو لنا ذلك بجلاء من خلال اتهام عامر اياها: "هذا من أعجب ما رأينا: العاقر زوجة الميت تحمل بعد موته بسنوات "(ص. 131). كما ان الشخصيات نفسها، من ناحية ثانية, تصاب بالذهول بعد ظهور عبدالستار زوج مريم (تحويل الموت). يقول عبدالستار:
"واعجب ما رأيت من اهل الجزيرة يوم دخلت عليهم المقهى لأجلس معهم واحدثهم واسمع منهم. فما كدت اجتاز العتبة حتى خرجوا الواحد تلو الآخر فزعين " (ص 139- 140).
2. 2. 2. ان الحيرة (حصول العجب) تظل الطابع المهيمن لدى مجتمع الرواية في النهاية ؟ ونعاين الشي نفسه لدى القارىء الذي يظل يتساءل: هل هذا ممكن ؟ وباستمرار هذه "الحيرة " لديه, ولدى الشخصيات, تبقى الرواية نصا عجائبيا مفتوحا على القراءة والتأويل. ان البنية الحكاثية الكبرى للنص تتجسد من خلال دعوى النص (التي تجسدت في العنوان)، وتتحقق هذه الدعوى من خلال عملية التحويل (الحبل – الحياة)، كما يمكن معاينة ذلك من خلال هذا الشكل,:
دعوى النص = تحويل العقم الى حبل + تحويل الموت الى حياة = المعجزة.
2. 3. الكيس- المخطوط: هذه الدعوى النصية المركزية في ص تتولد عنها بنيات حكائية تتصل بها، وتصبه. بدورها قابلة لان تتضمن بنيات حكائية أخرى. ونعاين من خلال تيمتي الكيس والمخطوط, ما يحدد لنا بنيتين كبيرتين تتجسد عبرهما دعوى النص, وما يتفرع عن كل منهما من بنيات جزئية, تتضافر مجتمعة لتشكيل مختلف البنيات الحكاثية في الرواية. نتناول كلا من البنيتين, وننظر بعد ذلك في العلاقات التي تربط بينهما لابراز ما يضمن وحدة النص وانسجام عوالمه.
2. 3. 1. الكيس: نفتح الرواية (الفصل 1) على مريم وهي تمسك بكيس لا يختلف عن بقية الاكياس المحمولة في المركب المتجه نحو الجزيرة. وهذا التشابه جعله يشتبه على احد الحمالين, فيحمله مع أكياس اخري، كانت مريم مختلفة عن بقية الركاب – التجار. وبافتقادها الكيس تصر على البقاء قرب الشاطى؟ حتى يعود اليها الكيس اصرارا واملا. وفي الفصلين (2-3) نتبين من خلال مناجاة مريم لنفسها، وكلام التاجر الى خادمه ان الكيس يحمل عظام ميت (عبدالستار زوج مريم). انها بعد ان علمت ان المقبرة ستتحول الى حي سكني (ص 15)، قررت لفرط المحبة ان تبقي "زوجها" (او ما تبقى منه بالاحرى)الى جانبها. استلت الى المقبرة, ونجحت ليلا في نبش القبر وجمعت عظامه في الكيس, وعزمت على حملها معها الى حيث تقيم.
تبين التاجر اختلاف الكيس المحمول مع بضاعته, فلام خادمه على عدم انتباهه خشية ان يجر عليهم ذلك ما لا تحمد عقباه. تعجب لما يوجد فيه, وعمل على ارجاعه الى الشاطى؟ عسى ان يفتقده صاحبه, فيجد. حيث اضاعه. وفي الفصل ( 4) تسترجع مريم كيسها، فتنقله الى بيتها كما نعاين ذلك في نهاية الفصل (7). (ص 58)
2.3.2المخطوط: في الفصلين (9- 10) تظهر تيمة المخطوط لتشكل محور البنية الحكائية الكبرى الثانية, وتمتد الى الفصلين (15-16)، المخطوط كتاب قديم اشتراه عبدالستار من المغرب. وهو من مخلفات عائلة اندلسية هاجرت الى سبتة منذ ثلاثة قرون (ص 97). بعد ان صار عبدالستار تلميذ المغربي الشيخ العلوي، وساعده في جمع الاعشاب, واخذ عنه أصول مهنة المعالجة بواسطة الاعشاب, اوصده قبل موته بالحصول على هذا المخطوط, ونوه بشكل خاص بفصلين أساسيين: علاج العقم, وانعاش المصابين بغيبوبة الامرات. لكنه عندما حصل على المخطوط من خلال زيارة له للمغرب, ودفع فيه مبلغا مهما، لم يجد فيه بغيته: فالأول منهما يحتوي على معلومات معروفة ومتداولة. والثاني يحيل عليه المخطوط في نهايته, باعلانه عن وجوده في الجزء الثاني منه. لكن احد المشتغلين بالحرفة عينها، ادريس الطنجي، وهو من المغرب أيضا، كان على علم بحصول عبدالستار على المخطوط فجاء الى تونس لاسترجاع المخطوط منه بالقوة, ويضربه بخنجر، ويتركه يتخبط في دمائة, ويعود بالمخطوط وهو واهم بما يحويه. وعندما يتبين ما فيه يدرك انه خدع وان كل تعبه راح سدي؛ بل الادهي من ذلك انه يجد اضافات بخط عبدالستار حول العقم وانعاش الموتى.
اننا بالنظر الى الكيس والمخطوط في ذاتهما، نجد تشابها كبيرا بينهما، وعلى مستويات عدة. هذا التشابه يعضد مختلف العوالم التي يجسدانها، ويسمها بسمات تقوم على الانتظام والاطراد، كما يمكن تقديم ذلك من خلال المعطيات التالية:
– المخطوط:1- سفر عبدالستار من اجل الحصول عليه.
2- الحصول عليه بثمن غال.
3- عدم العثور على المقصود.
4- انتساخ المخطوط والاضافة اليه.
5- فقدان المخطوط.
– الكيس: 1- سفر مريم من اجل نبش القبر.
2- استخراج العظام بعد مغامرة.
3- الظفر بالعظام, وحملها نحو بيتها في الجزيرة.
4- ضياع الكيس (الخطأ).
5- الاستماتة في الدفاع عنه امام الاهالي.
نلاحظ من خلال هذا التشابه ان لكل من الكيس والمخطوط قيمة خاصة لدى طالبه. لذلك فهو يبذل أقصى ما ل وسعا للحفاظ عليه. ان كلا منهما له باطن وظاهر. ولا ينبىء باطنه على ما فيه الا بـ"تحويله " يفلح عبدالستار في قراءة المخطوط, والافادة منه, ويؤدي ذلك الى التجاوز والاكتشاف. كما تنجح مريم في تحويل العظام الى حياة عن طريق استفادتها من اعمال زوجها التي كانت تشاركه فيها. يقول عبدالستار مخاطبا مريم: "نعم الموت نفسه عاجز عن اطفاء شعله المحبة التي تلهب نفسينا. انت عرفت كيف تقهرينه باصرارك على دوام الحال حتى بعد ان ثويت بعيدا عنك, ثم جمعت ما تبقى من رفاتي ولازمتها، ونفخت فيها من روحك فاكتست لحما وشحما،،، فنبض القلب, وتردد النفس,،، فاذا هي حياة حية كأبدع ما تكون الحياة وأبقى…"(ص 44).
2-4. موجهات الخطاب: ان الكيس والمخطوط يشكلان بنية الحكي الكبرى على الصعيد الافقي. واذا كانت بنية "الكيس " تضمن بنية "المخطوط " على مستوى البنية السطحية, فان بنية المخطوط تتضمن بنية الكيس على مستوى البنية العميقة, ذلك لاننا مع البنية الأولى (الكيس) نجد أنفسنا عندما نشرع في قراءة الرواية امام "عظام " عبدالستار وهي ملموسة في كيس, ثم وقد عادت اليها الحياة. ومن ثمة نتعرف من خلال العرض المباشر بين مريم وعبدالستار، على كل ما وقع له قبل اختفائه, وحتى قدوم ادريس الطنجي لانتزاع المخطوط منه, وطعنه. اذ من خلال "ظهور" عبدالستار (الموت – الحياة)، يتحقق الفعل الثاني (العقم – الحبل) ما دام عبدالستار لم ينجب من زوجته في حياته "الاولى ".
اما على مستوى البنية العميقة, فان بنية "المخطوط " هي التي تتضمن بنية الكيس, لانه بسبب هذا المخطوط ينجح عبدالستار في الوصول الى "معالجة " العقم, و"الموت". ولما كان عبدالستار قد اختفى (مات) ولم يخلف, كان لكي تتحقق دعوى النص (المعجزة) لابد من ان يعود اولا الى الحياة, وبعد ذلك يظهر الحبل. بهذا التضمن المزذوج يبرز لنا بوضوح تحقق دعوى النص (المعجزة) من خلال ترابط الفعلين المركزيين: تحويل العقم وتحويل الموت, وهما يتآطران, ويتضمن كل منهما الآخر عبر توظيف الكيس والمخطوط على الصعيد الافقي لتجسيد البنية الحكائية الكبرى التي تنظم مختلف العوالم الحكائية والسردية المقدمة في الرواية.
ان "وجوب " تحقق الدعوى (المعجزة) ما كان ليتم في الرواية, لولا تضافر باقي الموجهات. وتقدم لنا الرواية, وبما لا يدع مجالا للبحث (وسنشير الى ذلك)، ان الشخصيتين المركزيتين (عبدالستار مريم) تختلفان اختلافا كليا عن بقية الشخصيات في الرواية. ان تحقق الدعوى وليد موجهي "الارادة " و" المعرفة " اللذين يتميز بهما عبدالستار ومريم. ومختلف الاشارات في الرواية بصددهما تركز كثيرا على حضور هذين الفعلين لدى كل منهما. لم يلق عبدالستار بغيته في المخطوط, لكنه اجتهد، وظل يبحث (تحصيل المعرفة) ويجرب حتى "اكتشف " طريقة جديدة في تحويل العقم الى حبل, والموت الى حياة. ونجد الشيء نفسه مع مريم. فرغم كونها ايطالية الاصل, فقد نجحت في ما لم ينجح فيه ابناء البلد: تعلم العربية, وقراءة المخطوطات, وكل ما كان يخوض فيه زوجها صار جزءا من اهتمامها، وعنا يتها. يقول الربان عنها: "وقد علمها عبدالستار قراءة الكتب, فبلغ ولعها بها مبلغا لم أجده عند انجب تلامذتنا".(ص 84)
اجتماع الارادة والمعرفة لديهما جاء وليد موجه "الرغبة " التي تجمع بينهما في الحصول على الولد بسبب الحب الجامح الذي كان بينهما. هذه الرغبة دفعت كلا منهما الى المزيد من التمسك بالآخر. ورغم كل العوائق التي اقيمت للحيلولة دون استمرار حبهما (رفض والدي مريم – رفض والد عبدالستار) فان حبهما كان لا يزداد الا استعارا، ونتبين من خلال المناجاة التي كانت تتم بينهما اننا فعلا امام قصيدة غزلية رائعة. هذا الحب الاقرب الى التصوف جعل الشخصيتين نادرتين في مجتمع الرواية, سواء من حيث العلاقة التي تجمعهما او الافعال التي يأتيان بها. انهما تتميزان بكل شيء. لذلك لا يمكن لمختلف موجهات أفعالهما إلا أن تنتهي بالتحقق: تحقق الدعوى، وتحقق المعجزة. ولذلك لا عجب ان يصاب مجتمع الرواية بالذهول امام كل ما تحقق. فالاختلاف واضح بين العالمين, وعلى كافة الاصعدة عل نحو ما سنبين.
هذا التحول الذي طرأ على صعيد المادة الحكائية من خلال دعوى النص (المعجزة)، وتحققه في النهاية يسم النص بالبعد العجائبي الذي اومأنا اليه, يبرز لنا كذلك من خلال ما سنعالجه تحت عنوان التحويل السردي الذي نجده يطبع النص بكامله, مادامت البؤرة التي ينهض على اساسها تلم مختلف عناصره ومكوناته.
3. التحويل السردي.
3. 1 التحويل الاسمي: ان الطابع الذي اتخذته الدعوى النصية يتجسد لنا بجلاء من خلال العديد من التحويلات التي مست النص. ولعل اهم التحويلات التي تبرز لنا متصلة بالشخصيات نجدها تهم عبدالستار ومريم باعتبارهما الشخصيتين المركزيتين في الرواية. فكل منهما كان يحمل اسما مغايرا للاسم الذي صار له منذ ان التقى بالآخر. لقد سمى كل منهما قرينه اسما مشتقا من اسمه السابق, ولكنه تحويل له. تقول مريم في بداية الرواية (الفصل 2): "كان الناس يسمونه عبدالستار، وكنت اسميه ساتر.. ولا ازال. لماذا اختصرت اسمه بهذه الطريقة ؟ لست ادري… وبعد، فهو لم يكن يعترض على الاسم الذي اناديه به, بل على العكس يستطرفه ويستطيبه.. هو نفسه استبدل اسمي القديم: مارية باسم جديد: مريم. وكم كان سروري عظيما يوم نطق باسمي الجديد لأول مرة "!(ص 16).
تبرر مريم تحويل اسم زوجها بسبب عسر نطق المعين في بداية أمرها، لكنها ظلت تناديه بـ"ساتر" حتى بعد ان اصبحت قادرة على نطق كل الاصوات العربية. هذا التحويل الاسمي له اكثر من دلالة عل مستوى ما يمثله في علاقته بباقي التحويلات, ولعل ابرزها يكمن في الدعوى النصية التي تضبط بنية النص, وتوجه مساره السردي. انه يقي بأن التحويل بمجرد ما ان تم حتى صرنا امام شخصيتين جديدتين (ولادة جديدة) مؤهلتين لانجاز البرنامج الحكائي المتضمن في الدعوى المركزية.
ابتدأ التحويل مباشرة بعد اللقاء الاول بين مارية وعبدالستار. فمارية بعد السؤال الذي طرحه عليها عبدالستار بشأن كلوديو، جعلها تحسم وتقرر انها لا تحب سوى ساتر. حولها هذا التعلق به وجعلها تتغير جذريا، فتقطع كل صلاتها بعالمها الاصلي (ايطاليا)، وبا سرتها، وبكل ماضيها. ونجد الشي ء نفسه عند عبدالستار، فتعرفه عليها جعله شخصا آخر، ولا سيما بعد تأخر الحمل. ان الحب الذي جمعهما كان بلا حدود، وجعل كلا منهما يصبح مختلفا عن الشخص الذي كان.
لقد برز هذا التحويل الاسمي ليس فقط على مستوى القصة, ولكنه امتد الى الخطاب, ليجعلنا على المستوى السردي امام طبقتين نصيتين, او عالمين نصيين يتداخلان, ويتكاملان لتشكيل بنية النص السردي في "المعجزة " وفق تقنية كتابية تعتمد توظيفا خاصا في صياغة العوالم الحكائية في الرواية, وتقديمها سواء من خلال اشتغال متميز لصيغ الخطاب, او الاصوات السر دية, او الزمن, على نحو ما سنعاين.
3. 2. طبقتان نصيتان: يتشكل نص رواية "المعجزة " من طبقتين نصيتين, تتضمن احداهما الاخري. تقع الأولى في المستوى الاول, وتجسد لنا ما يمكن تسميته بـ"حاضر الحكي". وتبتدى؟ من لحظة اخراج عظام ساتر من القبر، واختلاف الناس بشأنها؛ اذ يرون ان اكرام الميت دفنه. لكن الحاح مريم, جعلهم يبتعدون عنها، وتنتهي هذه الطبقة اولا بظهور حمل مريم, وتشكيك الناس في طهارتها، وثانيا بظهور ساتر. اما الطبقة النصية الثانية فتاتي في الخلفية "لتمثل الماضي بقسميه: ما قبل لقاء مريم بساتر، وما بعد اللقاء، والذي ينتهي بموت واختفاء ساتر بعد طعن الطنجي اياه بالخنجر.
تتضمن الطبقة الأولى الثانية, على المستوى العام للبنية الحكائية الكبرى. اما على صعيد الخطاب فيبرز لنا ذلك من خلال توظيف خاص للزمن, حيث يظل الحاضر (حاضر الحكي) هو مولد، ومحفز كل ما يتصل بالماضي بهدف اضاءة كل ما يبرز على المستوى الاول من احداث وافعال, لذلك نلاحظ ان كل ما يرتبط بحاضر الحكي، لا يقدم الينا الا وهو في صلة وطيدة بالماضي من خلال التجاور بين الطبقتين او التناوب بينهما.
تتحقق هذه العلاقة الزمنية بين الحاضر والماضي بشكل عام عن طريق التداعي، والتماثل حيث يستدعي وقوع فعل او حدث ما في الحاضر، لحظة من الماضي، وبذلك يتم التحويل السردي الذي اشرنا اليه, اذ يتحقق نوع من "التوازي" بين الطبقتين النصيتين: فساتر عندما تحمله, مثلا مريم (في الفصل 8)الى البيت, "يرى» اثاث البيت كما عهده اثناء غيابه, فيجعله ذلك يستحضر الماضي، فيمارس السرد عنه, ويقدم لنا صورا عن الايام التي كان يعالج فيها المرضى، وعودة ابيه لاسترضائه. كما ان حديثه عن اختفائه يستدعي قصة المخطوط وكل ما وقع له بسببه. وعندما تتوصل مريم برسالة من امها (الفصل 13)، تتحدث عن أبيها وملاعباته الطائشة لها، فيحصل التداعي عن طريق المماثلة, فيعود ساتر الى الماضي ليحكي عن والده, وايام شبابه, ورحلاته الى المغرب, الى ان حصل على المخطوط.
يتضمن الحاضر الماضي، ويتجاوران على صعيد الحكي، ويتكاملان لتجسيد البنية النصية الكبرى، وفق تقنية تقوم على التوازن بين الزمنين, الشيء الذي يجعل الحكي يتواصل بعفوية, واسترسال, ويؤكد تكامل العوالم وتداخلها، وهي تحقق في الزمان: زمان القصة والخطاب. هاتان الطبقتان وهما تشتغلان بهذه الكيفية, ما كان لهما ان تتحققا لولا التقنية التي وظفها الروائي على مستوى الاصوات ألسردية وما تعرفه بدورها من تناوب واختلاف وتعدد.
3. 3. الاصوات السر دية: لا تتقدم الينا الرواية من خلال الروائي الخارجي، وغير المشارك في الاحداث, والذي نسميه "الناظم ".. انها تتم من خلال مجموعة من الرواة يتناوبون في مجرى الحكي، وينتمي كل منهم الى عالم الرواية (الفاعل). ذلك لان كل فصل من فصول الرواية تضطلع به أحدى الشخصيات, وبالنظر الى علاقة الرواة بالشخصيات, ومواقعها التي تحتلها في السرد، امكننا التمييز بين سبعة اصوات سردية, تختلف عن بعضها من حيث تواتر ممارستها السرد، او درجة حضورها في القصة. هذه الاصوات السر دية قمنا بترتيبها عبر تصنيفها الى ثلاث دوائر على النحو التالي:
3. 3. 1. الدائرة الاولى: وتضم الصوتين السرديين الاساسيين: الفاعل الذاتي: مريم (8مرات) والفاعل الجواني: ساتر (6مرات). انهما محور الصوت السردي في الرواية, اذ انهما على صعيد التواتر والحضور يشغلان مساحة كبرى من ممارسة السرد، كما ان العالم الحكائي يتم تبئيره من خلالهما، سواء تركز عل الذات او على موضوع يتصل بها اتصالا وثيقا. ان كلا منهما في علاقته بالأخر يسرد عن ذاته, او عن علاقته بالشخصية الاساسية الاخري، يتحقق الفاعل الذاتي (مريم لم بصورة خاصة من خلال ما يمكن تسميته بـ"المناجأة السر دية " او الحكي الذاتي. ذلك لان صوت مريم السردي يصلنا عبر مناجاتها الذاتية, او من خلال "محاورتها" لساتر. ولما كانت مناجاة الفاعل الذاتي تتم عادة بصوت مرفوع, لكي يسمعها ساتر، امكننا التعرف عل وجهة نظرها، ومنظورها السرديين, اما الفاعل الجواني (ساتر)، فليس سوى استجابة لصوت الفاعل الذاتي، وتحقق هذه الاستجابة يولد المحاورة التي تلائم طابع المناجاة, الشي ء الذي يجعلنا امام مقاطع سردية طويلة: كل فصل تتحدث فيه شخصية, ويتخلل الحوار أحيانا هذا الفصل او ذاك.
يأتي التناوب بين الصوتين ليساهم في تطور الحكي، واضاءة عوالمه عن طريق التكامل او التطابق. ويبدو لنا:لك بوضوح من خلال افتتاح السرد بواسطة الفاعل الذاتي (مريم) وهي في المركب (الفصل 1) ومعها عظام ساتر، وننتقل في الفصل الثاني ال لحظة تتصل بما قبل وصولها المركب. وفي الفصل الرابع تبرز لنا المناجاة السر دية التي تتحقق مع الفاعل الذاتي (مريم)،. وهي تتحدث عن نومها، ولقائها الاول بعبد الستار، وكيفية حصولها على الكيس, وفي الفصل الموالي (الخامس)، يحضر الفاعل الجواني (ساتر)، ومن خلال الحوار بين الصوتين, نتبين تكامل الصوتين وتطابقهما. وتظل هذه العلاقة تحكم ما يتميز به الصوتان في تأطير المادة الحكائية وتطورها في نطاق اتصالها بباقي الاصوات السر دية.
ان صوتي الدائرة الأولى يظلان اساسيين لان الفعل السردي، سواء في الزمان او المكان, يتمحور بصورة خاصة عليهما معا. لذلك نجدهما معا يحتلان موئل السرد ومركزه, ويكون لهما تبعا لذلك دور هام في تأطير الاصوات الاخري وتضمينها كما يمكن ان نلاحظ من خلال هذا الشكل:
يتحقق الفعل السردي داخل الدائرة الأولى, ويتم من خلال الصوتين السرديين الذاتي والجواني، وتأتي الدائرتان الاخريان لتجلي ردود الفعل السر دية وأثارها التي تتحقق من خلال ما تجسد في الدائرة الاول التي تظل هي مركز السرد.
3. 3. 2. الدائرة الثانية: تضم الدائرة الثانية مجموعة من الاصوات السر دية التي تشترك جميعا في كونها شخصيات تنتمي الى عالم القصة غير ان هذه الشخصيات تختلف من حيث حضورها وموقعها من القصة, بالمقارنة مع صوتي الدائرة الأولى. ان كل سردها وأقوالها يتصل بعالم الشخصيتين المحوريتين (مريم ساتر). لذلك رأينا ان ما يجمع بين هذه الاصوات هو انها تنتمي الى فضاء وزمان القصة, وتأتي كل افعالها واقوالها رد فعل على ما يأتيه الفاعلان الذاتي والجواني. لذلك نسمي هذا الصوت بـ"الفاعل الداخلي ". يتحقق الفاعل الداخلي في رواية المعجزة من خلال البحار، والصياد عامر والربان منصور (ثلاث مرات). يتصل الصوت الاول ببداية الرواية حين تفتقد مريم كيسها، ويتم حمله خطأ. حيث نجد هذا الصوت في الفصل الثالث يعاتب الخادم, حين يتبين الكيس الخطأ، ويأمر بإعادة الكيس الى موطنه على الشاطىء. ان كل ما يقدمه لنا هذا الصوت هو إضاءة لجانب من القصة, وعالم شخصياته: فهو من جهة يكشف لنا عن الكيس وما فيه, ومن جهة ثانية يشير الى ان الاحتفاظ ببضائع الغير يعرض صاحبه للعقاب. وهذا هو السبب الذي حمله على التخلص من الكيس بالبحث عن صاحبه في الشاطىء وتركه في النهاية هناك. انه يضطلع بدور مهم في تطور البرنامج الحكائي، ولو احتفظ بالكيس لما تحققت الرواية "المعجزة "، او لاتخذت لها مسارا مغايرا. وهو في ممارسته دوره السردي، نجده وحده المتكلم, يعاتب, يعلق دون ان تكون اي استجابة من الخادم مخاطبه. ويبرز لنا هذا الصوت نفسه من خلال الربان منصور، وهذه المرة ليس بصدد الكيس, ولكن بشأن مريم نفسها حين كثرت عنها الاقاويل والاتهامات, فيأتي صوته السردي (الفصل 11) ليكون رد فعل على كل ما بدأ يدور بشأنها. ونتبين من خلاله ردود افعال الناس واقوالهم بصدد "علاقة " مريم بساتر "المتوفى ". ومن خلال التلخيص, والاسترجاع تتم استعادة القصة من اولها منذ رحلة مريم صاحبة كيسها، وما أثار ذلك من ردود افعال وتعليقات وتساؤلات. ونجد ذلك ايضا في الفصل 17 (ما قبل الاخير) حين يظهر حمل مريم, ويحصل التعجب, ويعمل الاهالي على اقتحام بيتها، فيتدخل الويس منصور لفائدتها، ويكشف من خلال حواره مع الصياد عامر، ومع البحارة عن طهارة مريم, وتنقلب الاتهامات ضد المتهمين (عامر)، ويبين ما يوجد عليه القوم من نفاق وتظاهر حتى يتم اخلاء ساحتها.
يأتي دائما صوت الفاعل الداخلي متصلا بمريم وعلاقتها بساتر على نحو خاص, وينتهي دائما بالابحار: ركوب البحر و"الخروج من عالم القصة ".
3. 3. 3. الدائرة الثالثة: تتحقق هذه الدائرة من خلال "الفاعل الخارجي". انه فاعل (مشارك في القصة)، ولكنه خارج عن فضائها وزمانها. وتأتي تدخلاته لتسهم في خلق فعل او اضاءة بعض جوانبه.
ويبرز لنا هذا بجلاء مع الصوتين السرديين: ادريس الطنجي وأم مريم. فالأول يأتي من المغرب مطاردا ساترا، وباحثا عن المخطوط, وينتهي بطعنه ايا0بالخنجر، ويعود من حيث أتى، ونتبين من خلال سرد0في الفصل ( 10) عددا من الاخبارات التي كانت تأتي متفرقة في احاديث ساتر عن رحلته ال المغرب, وحصوله على المخطوط, والى جانب هذه الاخبارات نجد تنظيما لها وتركيزا يساعد المتلقي على تشكيل فكرة شاملة عن شخصية ساتر المحورية. يحصل الشيء نفسه مع الفاعل الخارجي (ام مريم)، فهي تكتب (الفصل 13) الى ابنتها مريم التي غادرت اسرتها لتتزوج عبدالستار وتقيم معه. في هذه المراسلة عودة الى طفولة مارية, وتذكير بقصتها وعلاقاتها بأبيها،،، وعدد مهم من المعلومات التي تضيء لنا جوانب من حياة مارية قبل التحاقها بعبدالستار وقبولها العيش خارج فضائها الاول.
ان الدائرتين الثانية والثالثة, وبما تضمانه من أصوات سردية تأتي مجتمعة استجابة واضاءة لما تحقق في الدائرة الأولى. تظل الدائرة الأول مركزا يتحقق فيه الفعل والقول المفارق للمعتاد، وتأتي الدائرتان الاخريان للتعليق والتبيين. ومن خلال ذلك تبرز لنا صور الشخصيات ومنظوراتها السر دية واضحة من عالم القصة الذي تحتل فيه شخصيتا مريم وساتر المكانة الرئيسية كما يمكن ان نعاين ذلك من خلال هذا الشكل:
واذا اردنا تبين ما يتضمنه الصوت السردي بغض النظر عن موضوعه او محتواه, نجده يتحقق من خلال: السرد الذاتي (او المناجاة السر دية)، وخاصة مع مريم, ونسبيا مع ساتر، والعرض المباشر مع ساتر ومريم, وعامر ومنصور، والرسالة. تتعدد هذه الاصوات السر دية وتتكامل لتجعلنا امام منظورات وتصورات مختلفة ومتباينة من بؤرة الرواية ومركز توجيهها (المعجزة). لكن اللغة التي تستعملها هذه الاصوات وتوظفها للتعبير والابلاغ وتظل واحدة وموحدة, بتركيبها وصورها وجما ليتها. ويمكن للفة الروائية عند طرشونة ان تكون موضوع دراسة خاصة لما لها من خصوصية وغنى بارزين. غير ان ما يستوقفنا هنا، ونحن بصدد الاصوات السردية, ان هذا التعدد السردي مورس باقتصاد شديد، وساهمت التنويعات السر دية, وخاصة مع الفاعلين الداخلي والخارجي في اضاءة العديد من الجوانب التي ما كان من الممكن تحقيقها لو تم الاكتفاء بصوتي الفاعلين الذاتي والجواني.
هذا الاصطفاف الجديد الذي ننتهي اليه من خلال هذه الاصوات السر دية يجعلنا امام مجموعتين متقابلتين: الذاتي والجواني من جهة, والداخلي والخارجي من جهة ثانية. يتحقق في المجموعة الأولى الفعل السردي المركزي، وتأتي المجموعة الثانية للاضاءة والتنوير وانجاز رد الفعل. ويفرض هذا الازدواج تعميق بحثنا عن التحويل السردي والحكائي في الرواية من زاوية أخرى نقف من خلالها على مجموع العوالم الحكائية, وما يمكن ان يتولد عن ذلك مما يتعلق بسؤال المعنى، ودلالة الرواية, وما تفرضه من أفاق تأويلية عديدة بناء على البعد العجائبي الذي يستوقفنا منذ بداية الرواية.
4. العوالم الحكائية ونحقق الدعوى:
4. 0. يظل التمايز مركزيا في رواية المعجزة وقائما بين عالمين مختلفين: عالم ساتر ومريم من جهة, وعالم باقي الشخصيات من جهة اخري. ويتأسس هذا التمايز على قاعدة الوصل والفصل بين العالمين, وينظم مختلف العلاقات التي تحقق التآلف والاختلاف بينهما. ويمكننا تجسيد ذلك من خلال النقطتين التاليتين:
4. 1. الشخصيات: يبرز لنا الوصل واضحا في عالم الشخصيات الاول الذي يضم مريم وساترا. فمنذ التعرف الاول الذي تم بينهما سيحصل الفصل التام بين عالمهما وبقية العالم. انه عالم منغلق ومتميز، ويحيط به الكثير من السمات التي تجعله مختلفا عن عالم الشخصيات الاخري. ومنذ التحول الاسمي (مارية – مريم) و(عبدالستار- ساتر) الى اختفاء ساتر، و" عودته " العجائبية, يتجلى لنا كون الوصل بينهما لم يؤد الا الى الفصل مع باقي الشخصيات: تنقطع الصلات بين مريم وعائلتها وبلدها، وساتر وأبيه. لكن الوصل داخل هذا العالم, وهو يقوم على الحب المطلق الجامع بينهما، ظل يحيط به "فصل " بينهما بسبب العقم الذي نجم عن تأخر الانجاب. وتتدخل شخصية من العالم الثاني (ادريس الطنجي) لتضع حدا للعلاقة الوطيدة الجامعة بين مريم وساتر. ويحصل اختفاء ساتر و" موته ". لكن مريم تصر على مواصلة البحث حتى تظفر برفات زوجها، وتعيد اليه الحياة, فيتحقق الوصل من جديد وينجم عنه "الحبل " الفعل المؤجل.
تحكم علاقة الوصل في العالم الاول اواصر وثيقة, ورغم صلات الفصل التي تحصل بسبب تدخل فئات من العالم الثاني، فان الوصل يظل هو الطابع الأساس, وما سبق أن رأيناه تحت عنوان "موجهات الخطاب " دال على ذلك. ويظل هذا الوصل السمة الاساسية التي تحدد هذا العالم وبرنامجه الحكائي الذي يتحقق بالكامل رغم الفصل الذي تسعي فئات من العالم المقابل القيام به, والحيلولة دون استمراره (أم مريم – ادريس الطنجي..) لكن فئات, وهي قليلة بالقياس الى نقيضتها تساهم فيه وتؤكده بطريقة مباشرة حينا (الريس منصور) وضمنية أحيانا أخرى (الشيخ العلوي).
4. 2. الفضاءات: تتعدد الفضادات الحكائية, وتتنوع, وتتقاطب بناء على اصطفاف العوالم الحكائية وتناقضها. فهناك من جهة البحر ومن جهة أخرى البر (الجزيرة – المدينة). وتتحقق في المدينة القضية الاساس, او حافز الحكي، والمتمثلة في نقل "الموت " الى "حياة " عن طريق تحويل "المقبرة " الى "حي سكني". هذا "التحويل" هو الذي سيؤدي بمريم الى نقل "رفات " زوجها، والانتقال به الى فضا، شبه منعزل حيث ستمارس حياتها الخاصة بعيدا عن عالم الناس وحياتهم الخاصة. ونجد الشيء نفسه في العلاقة بين الفضاءين تونس والمغرب: فانتقال عبدالستار الى المغرب كان بهدف امتلاك "المعرفة " وتحصيلها عن طريق التعلم او الحصول على المخطوط النادر. وحمل المخطوط من فضاء الى أخر، لا يمكن الا ان يثير حفيظة ادريس الطنجي، فينتقل بدوره من المغرب الى تونس, لاسترجاع المخطوط, وضرب "سارق المعرفة " بالخنجر.
ان الصراع هنا يتحقق بين مغربيين (العلوي- الطنجي)، وامتداد اولهما في عبدالستار، وتتأكد صورة التجاذب الفضائي بالايقاع عينه بين الغرب "ايطاليا" والشرق "تونس". فالمرأة (مريم) كالمخطوط فعلا هي بنت فضائها الاصلي, وعليها الا تخرج منه الى غيره, لذلك نجدها تتعرض لمحاولة اختطاف من لدن حبيبها كلوديو ويموت احد اصدقائه في هذه المحاولة تماما كما وقع لساتر مع الطنجي، وتطالبها امها بالرجوع ما دام زوجها قد توفي (الفصل 13). لكن كل هذه التجاذبات الفضائية, وما تزخر به من تناقض لا تؤثر على الشخصيتين المحوريتين, فلا يكون للاصرار الذي تمارسه "مريم"، وقد صارت امتدادا لـ«ساتر"، الا ان يخلق المعجزة, بكامل ما تحمله من دلالات وايحاءات.
5. تحقق الدعوى وسؤال المعني:
5. 1. لا يمكن لقارىء رواية "المعجزة " وهو يواكب معنا هذا التحليل الا ان يتساءل عن مجمل التحويلات التي اقيم على اساسها النص الروائي، وما تتضمنه على مستوى القصة والخطاب معا، وما تؤدي اليه على صعيد المعنى الذي يطل يولد الحيرة والعجب لديه. ونحن ايضا نطرح هذه الاسئلة بناء على ان الكاتب حمل روايته بكثير من الابعاد الموحية الى خصوصية العالم الحكائي الذي يقدمه لنا من خلال هذه الرواية: فالسحر، والعلاج بواسطة الاعشاب, والبحث في المخطوطات القديمة, وممارسات عبدالستار المختلفة في علاج المرضى ورؤية الناس الخاصة اليه كمنقذ من العديد من الامراض التي عجز عنها أمهر الاطباء، يضعنا منذ البداية أمام شخصية عجائبية فذة. كما ان معاناة عبدالستار من العقم, وتعرضه للموت, ثم تحول الفعلين معا الى نقيضهما من خلال "ظهوره " بعد موته وجمع "رفاته "، وحصول الحمل بناء على ان من الاعمال الرئيسية التي كان يكرس لها كل حياته من خلال عمله الخاص وبحثا الدائب هو: علاج العقم, وانعاش المصابين بغيبوبة الموت. ومواصلة زوجته البحث نفسه وقد صارت تشاركه العمل نفسه، كل ذلك لا يمكن الا ان يضعنا فعلا امام نص "عجائبي". ويتحقق لنا هذا البعد العجائبي بجلاء من خلال ردود افعال شخصيات الرواية التي ظلت "تتعجب " من ظهور عبدالستار بعد وفاته, وظهور الحمل على زوجته, باستثناء الاطفال الذين فرحوا به وتعاملوا معه.
5. 2. ان "دعوى" النص تضعنا منذ البداية امام سؤال مركزي يتصل بعمل عبدالستار كمعالج للامراض بالطرق الشعبية التقليدية وهو: كيف يعالج العقم ؟ كيف ينعش الموتى؟ ويكون بحثه الدائب, ومعه زوجته مريم, من اجل الجواب عن السؤالين: يسافر الى المغرب ويحضر المخطوط, ويجتهد ويعمل باستمرار حتى يتحقق الجواب عن السؤال المزدوج في نهاية النص. وبذلك تتحقق "الدعوى النصية "، ويكون بطلها هو عبدالستار نفسه لانه بعد الزواج لم يتم الحبل, وتعرض للحوت من جراء طعنات خنجر الطنجي. وتحمل زوجته رفاته وتناجيها و"تعود" اليها الحياة, ويتحقق الحبل بناء على الطريقة التي اكتشفها عبدالستار نفسه, وسخر منها الطنجي عندما اطلع عليها.
5. 3. يمكننا، من ناحية اول, بناء على هذه المعطيات ان نؤكد البعد العجائبي للرواية, وذلك على اعتبار ان تحقق العجب وليد عدم القدرة عن الجواب "الواقعي" او "العقلي" للظاهرة – الدعوى. وبذلك يكون المعنى المركزي الذي توجهنا اليه الرواية (او أحدى القراءات الممكنة) يكمن في ان "الحب " الحقيقي والصادق, بما يختزله من طاقات لا حدود لها قادر على تحقيق المعجزات. وذلك ما تحقق فعلا بين مريم وساتر، والرواية حبل بالاشارات الدالة على ذلك.
5. 4ويمكننا، من ناحية اخري، وبناء على استثمار المعطيات التي أتينا عليها ان نلفي البعد العجائبي للرواية, وذلك بتقديم تفسير مقبول لظاهرة اختفاء عبدالستار، وظهوره بعد ذلك, وتحقق الحبل, بناء على اسباب عادية وطبيعية, بالذهاب الى ان عبدالستار لم يمت متأثرا بجراحا، وانه ظل حيا، وأتى من سحبه عندما غابت عنه مريم لتجلب له الدواء، وحمله الى مستشفى او مكان بعيد للاستشفاء، وانه بعد مرور زمان, عاد الى زوجته, واقام معها، وظهر الحبل بناء على علاقة طبيعية. وبذلك ينتفي العجب, وتزول الحيرة. وان عدم لجوء الكاتب الى ابراز المظهر الطبيعي للتفسير، وتجلية كل ما غمض من هذه العلاقات بواسطة السرد او العرض, يدخل في صميم تقنية الكتابة وحيلها او لعبتها الخاصة. وتتحقق بذلك "روائية " الرواية, وطابعها التخييلي الذي يترك فسحة للقارىء للبحث والتأمل.
5. 5. ان احتمالات القراءة, وتوليدات المعنى متعددة في الرواية ومفتوحة في هذا النص الذي يستثمر فيه الكاتب العديد من العناصر المتصلة بالسرد العربي، ويوظفها بمهارة الكاتب, وحس الناقد. ويبرز لنا ذلك بجلا0من خلال بنا0النص ولغته التي اضفت عليه جمالية خاصة, ومن خلال مختلف عوالمه التي شيدها بكثير من الدقة والرقة, وبكثير من الغموض والبساطة والعمق. كل ذلك لا يمكن الا ان يسهم في اغناء التجربة الروائية العربية, ويخلق أفاقا متعددة للقراءة وانفتاحا معقولا على البحث والتأويل.
هوامش:
1- محمود طرشونة, المعجزة (رواية)، ديميتير، تونس, 1996.
2- محمود طر شونة, دنيا (رواية)، ديميتير، تونس, 1993.
3- سعيد يقطين, قال الراوي: البنيات الحكائية في السيرة الشعبية, المركز الثقافي العربي، بيروت / الدار البيضاء، 1997، ص 26. 4
4- الكفوي (ابو البقاء أيوب)، الكليات: معجم في المصطلحات والفروق اللغوية, مؤسسة الرسالة, بيروت 1992، ص 149.
سعيد يقطين (ناقد واستاذ جامعي من المغرب)