يعتمد أسلوب الشاعرة "عائشة أرناؤوط " في مجموعتها الشعرية "من الرماد الى الرماد" على خصائص لغوية بمتحولات اجتماعية وجمالية مشتركة – مسوغة بلغة رمزية وبدلالة محددة وواضحة، ويقوم التعبير لديها على التهويم الأدبي، ويعكس موضوعات ذاتية بعيدة عن الحاجات الانسانية العامة، خارجة عن نطاق التصنيف الأسلوبي النقدي ومستعصية على الخضوع لنموذج وضعي ثابت.
ولابد للناقد الأدبي أن ينطلق من هذه النقطة لدراسة الأبنية الشعرية لدى الشاعرة، بحكم أنها تكون لفة خاصة على منظور التعبير وخصائصه، والقدرة على التوصيل، معتمدة على أن الخطاب الشعري في الواقع هو خطاب مزدوج يقوم على المستويين التعبير والمضمون وطبيعة العلاقات بينهما.
وعلى الرغم من أهمية فكرة التوصيل الجمالي ومحوريتها في التعبير الشعري لابد من الاعتراف بأن التواصل ذو طبيعة نسبية بين الشاعرة وقرائها، فالقاريء يتدخل في خلق القصيدة من خلال تصورها الأول ممارسا فعاليته من داخل الشاعرة ذاتها، فيتابعها بفهم خاص وذاتي، وأن تقبل القصيدة هو الذي يمنح القاريء استعدادا أوليا للقراءة قبل الدخول في النص، ثم ينمو هذا التقبل ليغدو لونا من المشاركة في اكتشاف وممارسة لذة النص التي قد تصل الى حد التماهي معه، وقد يجاري القاريء الشاعرة دون أن يكون قادرا على تحليل النص بالأدوات النقدية الاجرائية، ونظرا لصعوبة المادة الشعرية التي تقدمها المجموعة الشعرية فإن ذلك يفرض محاولة للشرح والتفسير لأن مجاراة الشاعرة لا يقدر عليها إلا القراء المتميزون، يختلف فهمهم باختلاف قراءاتهم ومستويات نضجهم الفني.
واذا كان التوصيل الشعري مرتبطا بالعناصر المعقولة وغير المعقولة في الشعر المعاصر، فإن كثيرا من القراء يتوهمون أن الشاعرة لا تعرف عقليا ما تدل عليه قصائدها، وسرعان ما ييأسون من التواصل معها، علما بأن الشاعرة شأنها شأن أي شاعر يستخدم في تعبيره التكثيف الشعري. وتعرف تماما ما تقول ولكن بطريقة الحدس لا بالطريقة العقلية التي تقوم على الوضوح والمباشرة.
ومهما يكن فإن التعبير الشعري في شعر "عائشة أرناؤوط" يقوم على دلالات مضمرة يتلقاها القاريء وكأنها ضباب كثيف يخفي تحته البعد الذهني الذي يستعص على التحليل إلا بالدراسة الجادة، التي قد لا تصل الى تطابق في النتائج بحكم أن التواصل الأدبي يضفي على الأثر معاني عديدة حسب ظروف التلقي ومستوى التواصل. ولا يجد القاريء عسرا في متابعة الشاعرة حين تكون الوحدة الكلية للقصيدة واضحة، مما يساعد على تمثل معناها الكلي مهما بلغت نسبة التكثيف والتشتت حدا من الغموض في قصيدتها "النرد" وهي مرثية لأخيه الفنان المبدع الراحل " عبدالقادر الأرناؤوط " لا تعوق الانزياحات الشعرية فهم القاريء المزود بحد أدنى من الثقافة. تقول:
وراء طاولة النرد
قدماك تلتحمان برطوبة العشب
لم نكن نعرف أنك تحث الخطى
نحو تكور الجنين
لم نكن نعرف أنك
تنجز ما تبقى من الدائرة
في فراغ يشع برماد النجوم
الماء وقشر الليل
يقفان منذ الفجر لحراستك
أزحت نظرتك الأرضية جانبا
لترصد رغوة كوكب يكتمل
ووردة الشوك تتوج حجابك الحاجز
وعلى الرغم من احتواء النص بنى تنتمي الى الخيال، وغموضا في بعض تراكيبه السطحية، وتشتتا يتصل بمستويات المنطق اللغوي وبعض الإشارات الى رؤية خاصة للوجود "تنجز ما تبقى من الدائرة" فإن هذا التشتت وذاك الغموض لا ينفيان وضوح المقاصد الخفية للشاعرة، فأخوها الراحل أصيب بالسكتة القلبية وهو يلعب بالنرد، فاتحد جسده بتراب الأرض، وأسرع في الرحيل نحو "تكور الجنين". والشاعرة تربط بين الولادة والموت، وتتصور الوجود على شكل دائرة يرتد فيها الانسان الى نقطة البدء مثلما تحترق النجوم في المجرات لتولد كواكب جديدة من رغوة السديم، فليس غريبا أن يكون الماء "وهو بداية كل الكائنات " وقشرة الليل " وهي رمز الموت والنهاية" يتضافران معا لحراسة الراحل الذي ربما لم يكلف نفسه عناء السؤالين:
لماذا أبقى ؟؟
لماذا لا أبقى؟
لأنه كان منصرفا عن وجوده ومعناه في عملية الانجاز الابداعي، فكان موته قمة إكتماله. لأن في موت الفنان تحريرا له من قيود الأرض (ليرضع لبن المجرات) وليكون " أكثر أمنا". ونلاحظ أن النص يملك حدا من الحسية قيدت التجريد، وخففت من حدة الكثافة الشعرية والتشتت اللغوي وأسلوب الشاعرة فيه هو ذلك الأسلوب الحيوي الذي يصفه الدكتور "صلاح فضل" بقوله "هو أسلوب يرتكز على حرارة التجربة المباشرة المعاشة، لكنه يوسع المسافة بين الدال والمدلول نسبيا لتشمل بقية القيم الحيوية مع أنه ينمي درجة الايقاع الداخلي.. ويطمح الى بلوغ مستوى من الكثافة والتنويع دون أن يفرط في التشتت ويستخدم أقنعة أسطورية تحتفظ بكل طاقتها التعبيرية وقد يميل الى الاصطباغ بمسحة ملحمية بارزة". على أننا قد نجد لدى "عائشة أرناؤوط " في مجموعتها أساليب تعبيرية أخرى كأسلوب التجريد الكوني الذي، "تتضاءل فيه درجات الايقاع والنحوية الى حد كبير مع التزايد المدهش لدرجتي الكثافة والتشتت واستيعاب التجربة الوجودية الكونية باستخدام بعض التقنيات السريالية وترتفع درجة الصورية اللامعقولة" وقد عبرت "عائشة" عن ذلك النمط من التجريد الكوني في المقدمة فهي تقول: "تحولات الكلمة تهاجم احتمالات الحواس.. نحو هذا الطقس العلوي ترفع النصوص جذورها وتتطاول قشور الكلمات خارج المادة محمومة باللاتجانس الاخاذ، ملغومة بالنور تتجاوز إمكانية الحدس " إلا أنها كانت تشعر بالألم حين لا يسعفها تعبيرها لبلوغ هذه القدرة التجريدية الكونبة:
أيتها الكلمات المعكرة
في مهاجع الصيغ الرسمية والألقاب
أيها القلم الذي غادرني
وكان مرصودا للانتفاض في سمت النجوم
الذي كان له أن يتحول الى سنبلة مكتنزة
هو ذا غيابك يرميني
في جائحة الروح
الظلال تقتلع بتلات الكلمة
في معسكرات الصباح
اللغات باتت لا اتصال
وأطراف الجناح مروحة للمتحذلقين
وهي تعبر عن قلقها وعجزها عن امتلاك لغة (اللالغة) التي تفر من أصابعها:
"ربما كان الحلم مفرا يباعد بيني وبين تأصلي
في عبيثة اليومي
ولكن الجحيم الأشقر الذي يتضاعف في
وحولي يمنع اجنحتي الشمعية من عبور
تلك المسافة الضوئية بين جلدي
وحلم يسكنني "
ومع غياب الايقاع الخارجي في قصيدة النمر تعمد الشاعرة الى ألوان من المقابلات والتناظر الذي يوفر لقصيدتها بعض الايقاع النفسي المتقابل أو المتعارض مع تكرار اللازمه:
لا شيء هنالك
لا شيء هنا
الفراغ المليء باحتمالات الكون
يمر من موشور جسدي
لا شيء هنا
كرملة الصحراء
سعيدة في مكانها تحت الشمس
لا شيء هنالك
لا شيء هنا
الوردة الانية تشرق.. تتأمل
ثم تدع بتلاتها تسقط دون عناء
دون حزن
ودونما غاية
ولادتي وموتي متعادلان مع النظير
معا كانا دائما هنالك
أينما وجدت
هنا.. أينما أوجد
اللحظة الحاضرة
اللحظة التي تجمع الأبد والأزل
التي تغلفني لأنتشي
لأعرف نفسي فيها
ولأعرف ذاتي بها
وهذه القصيدة نموذج لقصائد حفل بها الديوان تستبطن فيها الشاعرة ذاتها، في رحلة الى أعماق اللاوعي، حتى ليقف المرء مذهولا أمام قدرتها على تحميل اللغة ما لا طاقة لها به للوصول الى وصف التجربة الداخلية بصدق كقولها:
خريطة جسدي لم تعد تحمل أسماء مدنها
ولا مخمل كثبانها الرميلية
أتسابق مع العناصر التي كنتها
أحاول العبور الى صورتي
وشم الأبجدية يتلاشى عن الأدمة
وثغاء حارات الطفولة يتمعدن في أحشائي
كما لو انني أتعامد مع العظام
أدخل الكلمة وأخرج من جهة الصمت
أتهجى قافلة الخلايا التي تغادرني
هكذا تتحد اللغة بالجسد، فتصبح خلاياه هي المتكلم، ويتحد الشكل بالمضمون في اندماج كلي بين المرئي والمتخيل في إطار عمق الفكرة وجمال التعبير عنها.
واذا كان الاستبطان الذاتي لا يتيح للقاريء أن يحكم على صدق التجربة، لأنها تجربة خاصة، فإن بمقدوره أن يكتشف فرادة اللغة الشعرية وقدرتها على التحليق في القصائد التي تتناول موضوعات خارجة عن الذات كقصيدة "عائشة أرناؤوط " بعنوان "ورقة التوت " وهي تهديها الى "ليلى حسين صادق " المرأة الصومالية التي تعرى شعبها حين عراها" وفيها تقول
الرماد تحت الأسنان
وأنت عارية
كجمرة في الريح
كيف أعطي هيئة للمكان
وعلى أنقاض الخلايا
تتبوغ ألعاب الرجم
كيف أتهجى الزمان
لحظة تهرئه
كيف أعبر المسافات
وما بيننا لوح من الزجاج لحظة التهشم
ينفرد به موشور اللوثة الجمعية
يحثا عن طريدة مضادة
الرجمات تملأ خزف جسدك
وتسكن مخمل عريك الجاف
تحت شمس بلا وريث
لم يكن بإمكانك الرحيل في ظلك
أصابعك تتعامد مع تغضن الروح،
حواف لورقة توت أخيرة
نستنجد بها لحظة العري
فالشاعرة تستغل عري آدم وحواء في الجنة، ومحاولة ستر عورتهما بخصف ورق التوت، حتى غدت تلك العادة متأصلة في جنسنا البشري، فالمرأة الصومالية التي مورس عليها عمل الرجم وهي عارية، تمتد أصابعها لتشكل بحكم الغريزة "ورقة توت " تستر بها عريها لكن راجميها كانوا أشد عريا منها في ملابسهم ولم يشعر أحد منهم بضرورة ستر عورته النفسية. وهكذا تصبح مقولة "مالارميه" االشهيرة في "أن الشعر مبادرة اللغة في الخلق" بعيدا عن التعبير المنطقي المباشر أو الاستثارة العاطفية الساذجة لتصبح اللغة وسيلة للكشف عن الأعماق وراء الظواهر الخارجية، ولا شك أن جمالية هذا اللون من الشعر جمالية خاصة لا تستسيغها إلا فئة من الناس يجدون متعة في تحليل الشاعرة البعيدة، ورموزها المستغلقة.
عبداللطيف الأرناؤوط ( كاتب من سوريا)