هذه العاجلة محبوبة والرفاهة مطلوبة والمكانة عند الوزارء مخطوبة
أبوحيان التوحيدي
أفاق السيد ابراهيم هذا الصباح فزعا يرتعد:
– "هل تأخرت عن عملي ؟".
نظر الى ساعته:
– "غير معقول، حتى الساعة توقفت، ان النهار قد طن في الخارج، يجب أن أطير الى عملي طيرانا، لن أعطيه فرصة أخرى، ذلك "النذل" كي يسود ملفي أكثر…
ثلاثون سنة لم أتأخر فيها ولو دقيقة واحدة عن المؤسسة، أصل أول الموظفين وأخرج آخرهم.. وهو يعرف ذلك جيدا.. والمدير العام يعرف ذلك أيضا وإلا كيف رد علي التحية يوم اعترضته في الدرج… نعم لم أصدق في البداية أن الرئيس المدير العام يرد علي التحية إنه لم يفعلها من أحد من الموظفين منذ سنوات، لا شك أنه يعرف ملفي الأبيض الناصع جيدا. تحيته ليست مجانية ولا يمكن إلا أن تكون إشارة واضحة الى عزمه على تعييني في منصب رئيس قسم الموظفين الذي أحلم به طوال حياتي.. وإلا فما معناها؟ وهل يمكن أن يكون لها معنى آخر؟
أنا واثق أن الرئيس المدير العام لم يحييني ذلك اليوم إلا بعدما درس الأمر جيدا وعرف أنني سأكون الرجل المناسب ل المكان المناسب وذلك النذل يعرف طموحاتي أيضا ويعرف أنه لا يستحق منصبه لأنني منضبط أكثر منا لذلك عمل على عرقلتي فلم يجد ثغرة في حصني الحصين حتى جاء ذلك اليوم الذي اصطحبت فيه ابني الى مارسته لأمر ضروري جدا.
ورغم أنني لم أتغيب سوى ساعتين و 10 دقائق و 30 ثانية فقد استغل "النذل" الفرصة ووجه لي توبيخا رسميا، ورغم أنني شرحت له الأمر فقد أمر على موقفه وأفهمني أنه يقوم بواجبه وإن ألمحت أكثر فسيوجه لي انذارا يرفعه الى الرئيس المدير العام.
ولكن كيف وصلته الأخبار بهذه السرعة ؟ ومن نقل له نية المدير بترقيتي ؟ لاشك أن أحد أتباع "النذل" رأى المدير يحييني!… كلهم يتجسسون علي. ومادام الأمر قد وصل الى حد التوبيخات والتهديد بالانذارات لابد أن ترقيتي أصبحت مؤكدة لذلك أراد "النذل" نسفها، المهم الا أتأخر اليوم يجب أن أسرع..
نادى زوجته كي تعجل له بالقهوة فلم تجبه.. توتر.. التفت نحوها ليخضها ظنها نائمة.. فإذا هي صاحية.. أعاد عليها طلب القهوة فلم ترد عليه.. اشتد غضبه يبدو أنها لا تعبأ بكلامه ولا تهتم به. لكنها قامت بعد برهة، دخلت المطبخ أحضرت القهوة ورجعت بها، وضعتها على "الكمود" على عادتها ووقفت أمامه:
– "الى متى ستطل نائما اليوم ؟ أنسيت توبيخ البارحة ؟ قم يا رجل وأقصد باب الله"
ثم تركته وخرجت..
– ماذا دهاها المرأة اليوم ؟ هل أصيبت في عقلها أم أنها تريد أن تفقدني صوابي؟ إني لست متفرغا لها الآن، سأهتم بأمرها عندما أعود من الشغل المهم أن أخرج بسرعة.
لا يعرف كيف تناول الفنجان ؟ القهوة خالية من كل طعم أو رائحة رغم بخارها المتصاعد لا يدري، كيف لبس ثيابه وصار بالشارع.. تذكر أنه لم يغسل وجها.. هل شرب القهوة ؟ عندما مر بدكان العم "قدور" حياه فلم يرد عليه التحية..
– "هذا العجوز قد خرف ! لم يعد يسمع ولا يرى.."
واصل مسرعا حتى خرج الى الشارع الرئيسي شارع 20 مارس وقف بمحطة الحافلات بباب سعدون، رأى بعض الوجوه التي يعرفها، حياها.. فلم يرد عليه أحد…
– "ماذا يحدث اليوم ؟"
فجأة قدمت الحافلة تزحف مائلة جهة الرصيف لكثر حملها..
– "يبدو أنه لن يفتح الباب.. سنرتاح عما قريب من الحافلة وزحامها. ثلاثون سنة وأنا أركبها يوميا وأحلم بسيارة رئيس المصلحة.. إن ذلك شيء معذب أشد من عذاب الحافلة.. لقد كرهت حياتي قبل ذلك اليوم الأغر يوم "التحية" ولكني لم أشعر انني متعلق بها، متلهف عليها مثلما هو حالي الآن…" توقفت الحافلة، فتح الباب، رغم اكتظاظها، تدافع الناس، وقعت امرأة بين الأرجل لم يرفعها أحد مخافة أن تذهب الحافلة… احتار كيف سيصعد، لقد تأخر كثيرا، انقبض… تذكر التوبيخ.. لم يدر كيف صار فجأة وسر الحافلة واخترق ذلك الزحام كأنه شبح، ولا كيف نزل بعد ذلك بمحطة نهج روما قرب مؤسسته..
لما دخل وجد الحاجب يقرأ الجرائد بمكتب الاستقبال
– "صباح الخير.. ما هي الأخبار اليوم ؟"
لم يرفع الحاجب عينيه عن الجريدة..
– "غريب ! حتى الحاجب !.. لقد اشتراه النذل.. هل ينتظر مني رشوة كي يرد السلام!…
في الدرج وفي الأروقة.. لا أحد من الزملاء ينتبه له ولا يشعر بوجوده ولا يرد تحيته.. كاد يفقد صوابه..
– "أوصل به الأمر الى حد تأليب جميع زملائي علي بين عشية وضحاها". اشتد غضبه، دخل مكتبه، احتل مقعده… وبقي يفكر في الأمر.. كان في منتهى الحنق والحيرة والخوف… فجأة رن التليفون..
– "الو هل السيد ابراهيم التركي موجود؟
– "نعم أنا نفسي تفضل !.."
– "ألو هل السيد ابراهيم التركي موجود؟"
– "نعم تفضل قلت لك أنا نفسي !"
– "ألو هل السيد ابراهيم التركي موجود؟"
– "نعم موجود الا تسمع؟"
مرت برهة انقطع الخط بعدها… وضع السماعة..
– ماذا يحدث اليوم ؟
أخذ يعيد الشريط من بدايته منذ قام في الصباح. تذكر أنه نادى زوجته فلم تجبه لكنها خاطبته فيما بد كأنه لم ينادها.. القهوة ؟ لا يذكر أنه شربها… العم قدور… الناس في المحطة.. الحافلة.. الحاجب.. الزملاء.. ثيابه كيف لبسها؟ لا يتذكر أنه فتر خزا نته واختارها بنفسه. كما يفعل كل يوم.. نظر الى نفسه.. أين ثيابه ؟ بل أين نفسه ؟.. جال ببصره في المكتب أين هو؟ كرسيه شاغر.. لا يوجد أحد بالمكتب.. طار الى بيته..
بالباب سمع عويلا.. عندما دخل وجد زوجته وأولاده ملتفين حول سريره ينشجون بالبكاء…
كان جثمان "ابراهيم التركي" بينهم مسجى.
حياة الرايس ( قاصة من تونس)