مهدت التقارير التمهيدية التي تم إعدادها في عامي 1992 _ 1993 السبيل امام مزاولة التقنيات الأثرية في ظفار تحت الرعاية السامية لجلالة السلطان قابوس بن سعيد المعظم سلطان عمان ، وتحديدا تحت الإشراف الرئيسي لمعالي عبد العزيز بن محمد الرواس وزير الإعلام ورئيس اللجنة الوطنية للحفاظ على الآثار في ظفار وقد استمرت فحوصات عام 1994 من شهر يناير الى شهر مايو مركزة بؤرة اهتمامها على منطقة نجد/ شصر بالاضافة الى القيام بمسوحات وبأ عمال تنقيب تركزت على منطقة شصر – وادي غدون .. وبذل اهتمام خاص على مدى شهر مارس بربط البلدات الساحلية بخارطة بطليموس التاريخية (القرن الأول ا لميلادي). وأخيرا فاننا في الفترة الحالية التي ابتدأت في شهر يونيو واستمرت حتى السابع من اغسطس 1994 نجري تنقيبات في عين حمران بمصاحبة مسح ساحلي محدود على المنطقة المجاورة للموقع .
(محافظة ظفار)
انصبت الجهود التي بذلت في مجمع الموقع عام 1994م على تعيين التاريخ الثقافي الأكثر تحديدا للموقع ، وعلى طبيعة الاستيطان ، وتعيين المواقع المترابطة في الإقليم . وقد تبين ان المقصورات الجدرانية شهدت إعادة استخدامها منذ بدايات ازمنة العصر الحديدي (حوالي 500 ق.م ) وحتى الماضي القريب . وقد لفت العديد من بدو المنطقة النظر الى بعض ذكريات طفولتهم حين عاش اباؤهم في العديد من تلك المقصورات مضيفين اليها اسقفا من الخشب ومن قماش الخيام ، ومزيلين في ذات الوقت كل المظاهر التي تعكس ما مضي من استيطان ، وقد استيقنا من دقة حديث هؤلاء البدو بالتنقيب على طول السور الشمالي الرئيسي والكشف عن عدة غرف جديدة، حيث توصلنا عن طريق ربط هذا العمل بأعمال التنقيب التي تمت في عامي 1992 و 1997 الى اكتشاف مقصورتين جداريتين فارغتين ، ومقصورتين اخريين ذات تعاقب اسلامـي (900- 1400م) ومقصورة أخرى بمحاذاة البرج الأوسط الكبير ذات تعاقب كلاسيكي ( 380م – باستخدام تقنية كربون 14) وما ان ربطنا البقايا الحيوانية والزجاج والأدوات الحجرية والفخار حتى أسفرت من ظلمات الغموض صورة جلية عن بدايات المجمع الجداري الكبير الذي يحيط بحصن شصر/وبار ومراحل تطور هذا المجمع ونهايته .
وقمنا – ابتداء من منطقة الجدار الواقع على الغرب مباشرة من القلعة – بالتنقيب في الجزر الاكبر من منطقة الجدار الجنوبي الملاصق للمدخل المتداعي ، وهنا وجدنا ان بقايا الفترة الممتدة من العصر الحديدي الى الفترة الكلاسيكية مازالت على حالها لم تشبها اي شائبة قط حتى عمق 70سم ، وتتكون هذه المخلفات من بقايا منصة بخور بنيت من الحجر الرملي ، وقطع من أوان صنعت من حجر الأستيتيت (حجر صابوني المترجم ) وكذلك بضائع مصقولة مميزة بدمغة مكونة من نقطة ودائرة . ووجدنا – بأعلى هذه الجدران المواد اللاحقة التي تعود الى الفترة الإسلامية .
وبداخل القلعة / المركز التجاري تركزت معظم الجهود على الزاوية الجنوبية الغربية من منطقة الحصن حيث قمنا بالتنقيب في البرج الجنوبي الغربي (البرج رقم 5 في المخطط ) الذي تعرفنا عليه لأول مرة 1992. وقد كشفت التنقيبات التي تمت في هذا الفصل عن ان تراصف الطبقات الداخلي (internal strqtigraphy ) كان على عمق يربو على المتر من بقايا الجدران الموجودة الى قاعدة أسس هذه الجدران . ولاحظنا ايضا وجود سلم داخلي تمت اضافته لاحقا ، ووجدنا قطعا من أوان فخارية تحت قواعد البرج فيما قد يمثل استيطانا اكثر قدما ، وقد تعود المستويات السفلي من البرج الى الفترة الكلاسيكية (حوالي 100 ق،م – 400 بعد الميلاد) وقد تم التنقيب ايضا في الغرف الملاصقة من ناحية الشرق ، حيث تتصف الجدران العليا بأنها بنيت على نحو أقل اتقانا وبأنها أقل سمكا ، وبأنها ربطت بالجدران السابقة على زوايا ناشزة غير قائمة . ولوحظ في غرف عديدة وجود درجات مؤدية الى غرفة علوية غير موجودة في الوقت الحالي . وترتبط الجدران والغرف العليا على نحو واضح بما بعد 1400 بعد الميلاد ، ويمكن ان ترجع على نحو لا غبار عليه الى بدو الإقاليم ، وفي حالات كثيرة وجدنا جدرانا مجصصة في حالة ممتازة حيث انه من المحتمل انها قد استخدمت كأعمدة مساندة لغرف الفترة الوسطى من المرحلة الإسلاميــة (900- 1400 بعد الميلاد) وتتكون منتجات المرحلة الإسلامية من عملات معدنية وزجاج ومواد خزفية نموذجية من بينها واردات صينية . وتحتوي ا لمستويات السفلي والأقدم على مواد يرجع تاريخها الى الفترة الممتدة من العصر الحديدي الى الفترة الكلاسيكية (500ق .م – 400 بعد الميلاد) والتي تم التعرف عليها أساسا من خلال وجود الخزفيات المصقولة ودمغة «الدائرة – النقطة المتكررة».
انقضت نسبة كبيرة من عام 1994م في فحص دواخل المغارة المتداعية في شصر وقد وضع اول مربعين من المربعات التي يبلغ قطرها ثلاثة أمتار تحت البوابة العليا للحصن تماما ، وتكون أول مترين من الرواسب من روث الماشية والجمال ومن العديد من الاحواض المجصصة ، وقد عزونا هذه المستويات الى الفترة البدوية (حوالي 1400- 1990 بعد الميلاد) ، ثم إذا بنا فجاءة نعثر على حجارة شبه مشكلة تعود الى انهيار البوابة ، وتحتها مباشرة ونجدنا قوالب كبيرة من الحجر الجيري تعود الى انهيار رئيسي شهدته المغارة .، وصادفنا للمرة الثانية على عمق أربعة أمتار أسفل هذه القوالب الكبيرة وجود رمال وحجارة صوان صغيرة وقطع من أوان فخارية ، وهذا يوحي بأن زلزالا صغيرا ضرب الموقع وتسبب في انهيار اسرار المدينة ومبانيها ، أما التفسير البديل ، القائل بأن توسعا بطيئا قد طرأ بمرور الأيام على التجويف ، فإنه لا يبدو صائبا، حيث اننا قمنا – لإثبات سقم برهان هذا التصور – بحفر مربع قطره ثلاثة امتار تحت الجزء المتدلي الحديث . وهنا وعلى بعد يفوق الخمسة امتار من الحفر وجدنا ثانية روث ماشية وجمال يعود الى البدو الذين كانوا يقومون بسقي قطعانهم ، ولم نعثر فى الحفرة على اي حجارة سقطت من أعلى ، وهذا يثبت مرة أخرى بأنه لم يحدث اي تساقط منتظم للصخور منذ حدوث الهزة الأرضية في القرن السادس او القرن السابع الميلادي على الأرجح ، وأخيرا وفي سبيل تحديد المغارة الأصلية الاصغر حجما قبل انهيارها بفعل الهزة قمنا بحفر مربع آخر يبلغ قطره ثلاثة امتار مباشرة خارج المنطقة التي وقع فيها الزلزال لاحقا ، وبعد خمسة امتار من الحفر لم نجد سوي رواسب رملية دون اي اثر لحجارة او منتجات صناعية .
وخلاصة القول انه حدث في وقت ما فى العصر الجليدي الأخير منذ مضي حوالي 50.000 عام ) أن انهارت المغارة الكلسية الأصلية مما نتج عنه الكشف عن نسق طبقات مائية في الصخر والي انبثاق عين ماء هناك ، وقد قام الرائد توني بولتر بإعداد استكشاف تحتمائي في داخل منطقة المخور المائية ، وقد اتضح ان التجويف الأول كان على عمق يزيد على ثلاثة امتار. وعن طريق الغوص نحو الفتحة الصغيرة الواقعة الى الشمال دخل الرائد بولتر تجويفا طبقيا يزيد عمقه على خمسة امتار مليئا بماء ينبوعي ، وقد أكد تحليل كربون 14 المشع السابق (يستخدم لتقدير عمر الآثار – المترجم) بأن ماء الينبوع في هذا المستوى يعود الى السلسلة المؤرخة ( 9000-4000 ق.م) وقد اجتذبت المنطقة الناس نحو عام 5000 ق.م فقطنوا منطقة المغارة ، وهذا ما اثبته العثور على رؤوس سهام ومكاشط وأدوات أخرى تعود الى العصر الحجري الحديث ، وعلى حجارة مسننة عثر عليها فيما بعد في المغارة المنهارة ، وعلى السطح بجوار الجدران الحالية ، وفي وقت ما بين العام 1000 ق،م ، وعام 500 ق،م شهدت المنطقة بناء أول المباني الرسمية في المنطقة ، ثم تم توسيعها ، ومن ثم تدميرها بفعل زلزال ضربها في حوالي 600 بعد الميلاد، ومن المحتمل ان القرآن الكريم قد جاء على ذكر قصة هلاك المنطقة ودمارها ، وبعد فترة من هجران الناس للمنطقة الذي استمر حتى عام 900 بعد الميلاد تم توسيع الموقع فوق مغارة اكبر حجما واستمر هذا الوضع الى ان هجرت المباني في عام 1450 بعد الميلاد على وجه التقريب ، ومنذئذ وحتى يومنا هذا فقد استغل البدو الموقع لسقي حيواناتهم ، وفي زمن احدث لري الحقول . وقد قام فيليب بوتشارد بتجهيز رسومات تصورية للمراحل السابقة في حياة شصر وإضافة الى التنقيبات في شصر تم فحص عدة مواقع أخرى في الإقليم ، ففي هيلة الراكة Hailat Araka ، التي تقع على بعد 25 كيلو مترا ناحية الشرق قمنا بحفر ثلاث حفر صغيرة في موقع كبير يعود الى العصر الحجري ( 5000_ 3000ق .م ) مما اثبت وجود طبقة يزيد عرضها على المتر وهذا يعني انه بإمكاننا القيام بتحديد دقيق للتغيرات التي حدثت في العصر الحجري على مدى 3000 عام في هيلة الراكة ، الأمر الذي لم يكن في السابق ممكنا في منطقة ظفار وقد تم تصنيف المواقع ائكتشفة حتى تاريخه على انها مواقع سطحية (surface sites ).
وفي منطقة شصر قام الدكتور كورتيس لارسون من بعثة المسح الجيولوجي الامريكية بدراسة العديد من نظم الأنهار والبحيرات التي تعود الى فترة البلايستوسين / الهولوسين ، ودرس انحدار السفح وتغيرات الامتداد الجيولوجي وقام بربط التغيرات المناخية بالنحت النهري ، وبالاستعانة بخرائط فضائية للاستشعار عن بعد ، وبالخرائط الجيولوجية الفرنسية المعدة لمنطقة شصر وقام بتصنيف دراسة جيومورفية وجيولوجية متأخرة موجزة للاقليم وفي هيلة شصر Haliat Shisur وهيلة الراكة اختبر الدكتور لارسون العديد من القنوات المحفورة بواسطة الجرافات التي قطعها السكان المحليون بهدف الوصول الى مستوى الماء وكان عرض الكثير منها ستة امتار وعمقها يربو على 18 مترا ، وفي منطقة هيلة شمر لاحظ الدكتور لارسون وجود تعاقب لم يطرأ عليه اي تغيير ، وقد قدمت القنوات التي يبلغ عمقها 18 مترا الدليل على نظام نهري أكثر مطرا منذ مضي حوالي ثلاثين مليون سنة ، وقد حل محله تعاقب ترابي عمقه خمسة امتار يعود مصدره الى الرياح الموسمية الصيفية الشديدة المطر خلال اواخر عصر البلايستوسين (حوالي000. 50- 000. 10 ق .م .) ويمكن رؤية هذا في تبادل طبقات المخور الصيفية الرطبة بتلك الشتوية الأكثر جفافا . وأخيرا فإن أعلى متر من الرواسب يتزامن تاريخه مع رياح الهولوسين الموسمية الضعيفة ( 9000- 3000ق .م) التي تشاهد في الرواسب الرملية ، ان عينات التربة التي تم جمعها من مستويات يبلغ عمقها 20سم تدلنا على الظروف المناخية التي سادت في الماضي، ويتم ذلك بإستخدام أسلوب تحليل اللقاح الذي خلفته النباتات، حيث تبرز التغيرات المناخية في التحويلات التي شهدها النبات عبر الزمن في جوانب التربة ، وستقوم أن ب ، المسلماني من Seattle Washington، بتحليل هذه العينات وستنجز اول تصور من نوعه عن مناخ ظفار.
وفي المنطقة العامة ذاتها وبالتحديد شرقي شصر بالجنب من نبع صغير يعود الى العصر الجليدي قمنا باكتشافه بإستخدام الصور الفضائية للاستشعار عن بعد ، عثرنا على اول موقع محتمل يعود الى العصر الحجري القديم الأعلى ، حيث ان النمال نوى الثمار قد تعود الى 50.000- 30.000 عام مضت وهذا يمثل أقدم مظهر للإنسان الحديث في عمان .
وبالاتجاه ناحية الغرب أكملنا مسحنا المركز لنظام وادي غدون حيث ان النهر السابق الذي يمتد من عيون Ayun، وحتى مابعد مقشن Maghshin، يمثل سجلا حقيقيا فريدا للعصر الحجري الحديث ( 5000- 1500ق .م .( في عمان على وجه الخصوص ، وقد اكتشفنا حتى تاريخ كتابة هذا المقال عددا يربو على الخمسين موقعا . وبالإضافة الى ركامات من الأدوات الحجرية البسيطة اكتشفنا ايضا مواقع قرى دائرية الشكل تتكون من قواعد حجرية ومن رواب بسيطة واخري معقدة كانت تستخدم لدفن الموتى )كلتا الاثنتين مبنيتان من قوالب ضخمة ومن غرف مركزية ومبان ذات جدران جافة وملاجىء بيضاوية الشكل مبنية من الحجارة الضخمة (قطرها 4امتاردد ومقابر). في توابع عديدة وجدنا مواقع مصانع Factory sites، مكونة من المئات من الفؤوس والمجارف وهذا يشير الى وجود مراكز للتوزيع ، وفي مواقع أخرى وجدنا مواقع محاجر quarry sites ، حيث كان سكان ما قبل التاريخ من العصر الحجري الحديث ينقبون في الطبقات الأفقية لاسترجاع العقد الصوانية الصغيرة ، وقد تم تعيين كل هذه المواقع على خطي الطول والعرض، ومن ثم تم وضعها على خارطة شمولية وتم تسجيل مجموعة تمثيلية منها ، وتشير التواريخ التي اظهرها كاربون 14 المشع في مواقع بهذا النظام عام 1993 الى سلسلة زمنية تمتد من 6000ق .م . الى 5500ق.م بالنسبة للموا قع المبكرة ،أما في حالة المواقع المتأخرة فإن تاريخها هو 2700ق.م. وتمدنا خصاف النعال القديمة المحفوظة تحت احد ركامات القبور بدليل واضح على مناخ رطب ساد الإقليم ، أما تواريخ كاربون 14 المشع المستخرجة من نظم طبقات الصخور المائية في النجد فتوحي ايضا بفترة مطيرة غطت مرحلة 9000- 3000ق.م . وهكذا فإن العصر الحجري الحديث في ظفار وثيق الارتباط بشرقي شبه الجزيرة العربية عن طريق تجارة الأبسيديان (صخر بركاني زجاجي النسيج – المترجم ) ويشرق شبه الجزيرة العربية الى بلاد الرافدين بتجارة البخور.
ومن المحتمل ان اكثر المكتشفات بروزا للعيان في وادي غدون هي تلك المكتشفة بلدة متافة Matafah، الواقعة في منطقة مرتفعة بأعلى الوادي ، فعلى سفح يزيد ارتفاعه على 25 مترا قمنا بتحديد اول موقع يعود الى الفترة السفلي من العصر الحجري القديم يتم اكتشافه في عمان ، حيث وجدنا فؤوسا يدوية ورقائق مصنوعة من حجر الكوارتز ومطلية بالحديد تعود الى الفترة الأشولية (حضارة تعود الى العصر الحجري القديم الأعلى استمدت اسمها من كهف سانت اشيل بشمال فرنسا -المترجم ) كانت مشتتة على نحو يكتنفه الغموض في منطقة مربعة يبلغ قطرها 250 مترا، وقد اتضح من خلال استخدام مطرقة قوية وبإزالة بعض الرقائق ان الفؤوس اليدوية تعود الى العصر الأشولي الأسفل .
وقد تمتد التواريخ التي تم تعيينها الى مليون سنة للوراء ، وهذا الاكتشاف ، ثانية يربط عمان بشرق افريقيا بشكل fossile hominid، المسمى عموما بإسم Homo erectus، ومع اننا قد وجدنا عددا قليلا من الفؤوس اليدوية في منطقة حنون Hqnun غير ان موقع المتانة يمثل موقعا من العصر الحجري القديم الأعلى متكاملا نادر الوجود نقيا من اي تشوه اساسي.
قضينا يومي 17و 18من ابريل 1994 في فحص المخلفات الأثرية في وادي انظور Wadi Andhur، فبالإضافة الى مباني الفترة الكلاسيكية الإسلامية الشهيرة التي كتب عنها مستكشفون قدماء عديدون فقد وجدنا دليلا على نشاط انساني اقدم ، ففي العصر الحجري ، استغلت المنطقة -كما دل عليه وجود رؤوس السهام والنصال وحجارة المطارق كمحجر (منجم حجري -المترجم ) وقد لوحظ وجود حفر عديدة بداخل الصخور الكلسية العمودية في كل انحاء المنطقة مما يوحي بوجود نظام ينابيع كان في الماضي انشط بكثير مما هو عليه الآن . وتخمينا فقد يكون ذلك في العصر الحجري الحديث ، وتشير الحجارة والخزفيات الاخرى من منحدرات الجزيرة المرتفعة في الوادي الى افق استيطاني بشري حدث خلال العصر البرونزي والحديدي ، وتساعد دراسة اكثر تفصيلا لهذه المادة في توضيح هذا التعاقب ليس فقط في وادي انظور بل ايضا لمعظم اقليم ظفار.
سهل صلالة / عين محمران
في فبراير 1994 قام الدكتور برونو ماركولونجو وهو عالم جيومورفولوجي من جامعة بادوا بإيطاليا باستكشاف سهل صلالة الساحلي لتحديد التاريخ الجيولوجي للساحل وربط هذا بالاستيطان البشري ، وقد تراجعت نظم انهار البلايستوسين المتأخر من جبال ظفار للمحيط الهندي لصالح جداول الهولوسين وهذا ما أبطأ من سرعة النحت بقدر كبير . وخلال التقدم الفلانداري Flandarian transgression )5000- 2500ق .م .)، كان مستوى سطح البحر أعلى بمترين وكان خط الشاطيء موجودا على بعد كيلو مترين الى الداخل، وقد اجبر سكان العصر الحجري الحديث على السكني في اراض أعلى قرب جبال ظفار ، وحتى الآن لم يتم استعادة الا عدد قليل من نقاط شصر النموذجية التي تعود الى العصر الحجري الحديث قرب عين حموان ، ولم يتم حتى الآن تحديد مواقع واسعة النطاق .
وبنهاية التقدم الفلانداري Flandarian Trqnsgression ، تراجع مستوى البحر وتكونت مستنقعات كبيرة من اشجار المنغروف (المنغروف شجر استوائي يتميز بجذور تخرج من اغصانه -المترجم ) في سهل صلالة من مرباط الى ريسوت ، وتم تقفي اثرها ابتداء من الا خوار الموجودة باستخدام صور الاستشعار عن بعد وصور جوية وفحوصات للموقع.
وأظهرت عمليات ازالة البلدية للتربة قرب عين حمران ايضا مستنقعات منغروف قديمة ممتدة وعلى طول الخطوط ضفاف هذه الاخوار الكثبانية المتحجرة . قمنا بتحديد مواقع اثرية تحتوي على مواد مصنوعة من الليثيوم وبقايا حيوانات صيدت برا وبحرا (قام بتحليلها الدكتور جولييت كلتون-بروك من متحف التاريخ الطبيعي البريطاني بلندن ) بالاضافة الى ادوات برونزية نادرة . وقد جاءت هذه الأدوات البرونزية على احتمال اكبر من مناجم النحاس القديم اما في جزيرة مسيرة او من شمال عمان . وتقع المواقع الكبرى (93Ta .82 TA93 ) ، قرب خور ارزات ، غير ان مواقع أخرى وجدت في أقصى الغرب عند المحيط Al Muhit (خور الكبير) بغرب صلالة . ولا ريب في ان استيطانا كبيرا قد وجد في خور شحلتوت (البليد) وهو اكبر الا خوار غير ان المدينة الاسلامية تفعليه في الفترة الحالية .
يمثل العصر الحديدي في شصر ذروة ازدهار سهل صلالة حيث تم انشاء الحصن الداخلي لقلعة تل عين حمران وسلسلة من المواقع الاخرى التي تعاصره في السهل .
وبدون شك فإن عين حمران هي مقبرة سافارا Saffara Mrtropolisاالواردة في خريطة بطليموس كما ذكرنا انفا.
حيث ان الخزفيات المصقولة والمطلية هي من مميزات الفترة الممتدة من منتصف الألف الاول قبل الميلاد ، وتتواجد الآن في مواقع على طول الساحل نفسه في المستوى الاول الذي يطو المستوى الحالي للبحر ، اما الخزفيات (ذات الدائرة والنقطة ) البارزة الموجودة في شصر فتندر في عين حمران غير انها قد وجدت في منافذ عديدة على الساحل مما يوحي بأن الشحن على الساحل كان يتم عبر منافذ متعددة (وتحديدا خور القرم وخور صولي ). وقد اظهرت المسرحات في خور ووري ايضا ان الميناء كان قد استخدم كوسيلة للشحن خلال العصر الحجري قبل حدوث التدخل الاجنبي الجنوبي القادم من سبأ.
وترسم البضائع الحمراء وصناعة صوان Microlithic، التي وجدت في عين حمران ايضا صورة واضحة للفترة الممتدة من العصر الحديدي وحتى العصر الكلاسيكي في سهل صلالة . حيث وجد اكثر من خمسين من امثال هذه المواقع في السفوح المتوسطة المواجهة لسهل صلالة من مرباط الى وادي عدونب Wadi Adownib ، الواقع غرب ريسوت . وفي معظم الاحيان وجدت البضائع – المواد مع مخلفات مشكلة احتوت على منازل دائرية وحظائر واسوار حقول وقبور ، كلها مبنية بقوالب من الحجارة الضخمة ، ويبدو من الواضح ان السكان المحليين الذين عاشوا في جبال ظفار وسهل ملالة سيطروا على تجارة العطور البحرية بالإضافة الى الطرق الشمالية عبر شصر وبار نحو الربع الخالي ويوجد بعض البضائع الحمراء والأدوات الحجرية المكتشفة فى شصر قد تقابلها مثيلات لها بمكتشفات صلالة .
استمرت اعمال المسح عام 1994 لتحديد مواقع قابلة للاستخدام كمواني، بحرية وربط المواقع الأثرية بخارطة بطليموس . وتعتبر المستوطنة القديمة في حاسك من اهم هذه المواقع . فقد اثبتت المستوطنة القديمة الواقعة على الجنوب الغربي من المدينة المعاصرة انها تحتوي على مخلفات من الفترة الكلاسيكية ، وهذه دون شك هي "هاستش" في خريطة بطليموس ، أما المواقع التي تم تحديدها عن طريق التنقيبات الأثرية فتكونت من محلة Mahalla، وجبل جنجري gabel qimqari و، ووادي فشري Wadi Fisheri، وحابين Hadbin، وبعد ربط هذه المواقع مع مواقع أخرى مثل طاقة القديمة ، وخور صولي وخور جنيف وخور ارزات وخور البليد لم يتبق الا تثبيت بياناتنا الأثرية بخريطة بطليموس وبالمصادر الكلاسيكية الاخرى وقد وجد وضع مشابه في غرب صلالة . وقد كانت كل من قلعة ريسوت والمستوطنات بالمغسيل دون شك بلدتين بحريتين وقد تأكد ذلك حينما قمنا لأول مرة في ابريل 1994 بجمع خزفيات تعود الى الفترة الكلاسيكية من البليد من منطقة القصر . وتكونت هذه من بضائع "الدائرة النقطة " الشصريه النمط (الموجودة ايضا في خور روري بالإضافة الى بضائع مصقولة سوداء اللون تعود الى العصر الهيليني.
أما البضائع الإسلامية فإنها ممثلة على نحو جيد في الساحل بالإضافة الى البليد. أضف الى ذلك أن الفترة الاسلامية ممثلة جيدا في عين حمران ، فالعملات المعدنية الكثيرة العدد التي اكتشفت في الموقع قد تماثل المكتشفات من المواقع الساحلية ومن شصر ذاتها، كذلك فإن البضائع الاسلامية المحلية المكتشفة في قلعة ريسوت ثانية توحي ان الطريق الساحلي كان شديد الازدحام في فترة الدولة العباسية ، وتحديدا الى البحر الاحمر وعلى طول الساحل الشرقي لافريقيا ، غير ان أفضل الأدلة على الفترة الاسلامية تعود الى الفترة من القرن 12الى القرن 15، فكلتا النقوش والمواد التاريخية بالإضافة الى الخزفيات الكثيرة وخزفيات منح تشير الى وجود تجارة مزدهرة على طول ساحل صلالة وقد تم تكملة اكبر المواقع البليد (المنصورة ) بمجمع كبير في خور القرم حيث يعود تاريخ الخزف والخزف ذو المحاكاة الإسلامية والعملات المعدنية الصينية والخزفيات المحلية الى القرن الرابع عشر ويشير الخزف المتشظي وبعض قطع منج من عين حمران ايضا الى استخدام المجمع بصورة جيدة حتى القرن الرابع عشر ويشير وجود الاسورة الزجاجية في عين حمران ومثيلاتها في شصر الى روابط تجارية مع مناطق الداخل وكذلك الساحل ، وقد استمرت هذه الروابط حتى القرن الخامس عشر.
تم هجر موقع عين حمران مباشرة بعد افول شمس القرن الخامس عشر كما هو الحال في معظم المدن والمواني في السهل الساحلي ، يعتبر وصول البرتغاليين غالبا السبب الرئيسي وراء انهيار شبكة التجارة العربية التي تربط الشرق الافريقي وجنوب الجزيرة العربية وغرب الهند والصين ، وما يتبقى علينا سوى ان ننتظر لنرى ان كانت اعمال التنقيب المستقبلية في سهل صلالة تثبت هذه الفرضيات ، الا انه حتى كتابة هذه السطور فانه من جلي الأمور ان سهل ظفار شارك في شبكة تجارية طويلة السلسلة عبر الربع الخالي وعلى طول المحيط الهندي لمدة خمسة الاف عام . وستساعد دراسة كل من موقع عين حمران / مقبرة سافارا وكذلك موقع شصر / وبار في اظهار تفاصيل نمط التجارة القديمة هذا اعتقدنا في عين حمران ذاتها عام 1993 بان الموقع عرف باسم مقبرة سافارا Saffarah Metropolis، عند بطليموس (مدينة ظفار الرئيسية ) ولأن الموقع يقع على جرف تلي كبير على بعد كيلو متر واحد جنوبا من جبال ظفار فإنه وبهذا التشكيل يشبه الى حد كبير مجمع شصر/وبار . ويدل على هذا وجود البروج والجدران والحواجز الداخلية والمبنى المركزي المستطيل الشكل . وقد تركزت تنقيبات 1993 على إعادة رسم نظام البوابة الذي يشبه كثيرا بوابة شصر (المنهارة في الوقت الحالي ) ، وتم حفر اربعة مربعات قطر كل منها 3كيلو مترات في قاعدة المبنى المركزي لتسجيل المعلومات الستراتوجرافية من الفترة الاسلامية والعصر الحجري / الفترة الكلاسيكية .
في هذا الفصل كان الهدف هو فحص المبنى الإداري المركزي ومسح تفصيلي للمنطقة المحيطة ، حيث بدأنا التنقيب في المبني المركزي في 8 يونيو 1994 وخططنا ان نستمر في اعمال التنقيب حتى نهاية شهر يوليو 1994 وحسبما توضح الخارطة الملحقة فإننا بدأنا التنقيب في المدخل الرئيسي (المربع رقم 951) والغرف المتاخمة مباشرة ( 900و 902) كذلك فإن الدرج الرئيسي المكون من 3- 4 قوالب من قطع الحجر الجيري خلال المربعات 818 و 860 و 908 ولا شك أن البناء الأخير قد امتد الى دورين وسقف ، وبمضي العمل قمنا بإزالة القوالب للتنقيب في الغرف في المربعات 899 و 815 و 857 و 816 و 776 و 818.
وقد استمرت اعمال التنقيب في النمط الشبكي ذي الثلاثة امتار مع عمق عمودي وقد حوفظ بصورة جيدة على جدران المرحلة الأخيرة ، وتتميز قوالب الحجر الجيري بأنها مقطوعة بدقة حيث بالامكان رؤية علامات الأزميل، كذلك فإن كل القوالب مركبة في بعضها بصورة حسنة ، الفؤوس المستقيمة والتقسيم الثلاثي الواضح المعالم والممرات لا تؤدي الا الى الممر المركزي . وقد وجدت قوالب على شكل أنقاض سدت كل الغرف والمدخل . ويأتي أول استخدام محدد للغرف في المباني المنهارة على عمق متر واحد تقريبا تحت الأنقاض المز الة . وتتميز الأرضيات التي وجدت في غرف عديدة بأنها تحتوي على طين احمر اللون ملصق بالجدران الحجرية . ويختلف بناء هذه الجدران غلى نحو ملاحظ عن الأفاق المبكرة ولذا فإن مبنى المرحلة الأولى يعود تاريخه الى الجزء الاخير من الموقع اي حوالي 1200- 1400 بعد الميلاد حيث عثرنا على بضائع حمراء نموذجية وزجاج وبضائع اسلامية مصقولة ، ويشير خزف منج الصيني الى تاريخ اولي يعود الى 1300 بعد الميلاد.
واستمر مبنى المرحلة الأولى تحت الأرضية نزولا الى حيث حدث تغير في حجم الجدار وفي البناء. وهنا فإن حشوات الطين كانت اكثر صفرة قاتمة ، وعلى وجه الاحتمال فإنه يمثل استخداما للبناء في الفترة 900- 1200 بعد الميلاد حيث تحسنت طريقة وضع الخزف واحتوى على حواف بنفسجية اللون حسنة الصقل .
وتحت مبنى الجدار الموجود وجد نظام اقدم لا يتلاءم مع الأخر المتأخر حيث ان القوالب أضحت اكبر حجما وأفضل تقطيعا وتركيبا . وأعتبرنا هذا الأفق المرحلة الثالثة حيث ان الخزف يمثل بضائع مصقولة على نحو ممتاز وبضائع منقوشة وتشكيلات
مفصلة وردية اللون وجدناه في الأجزاء الأعمق من بدائن 1993م _ ويشير العديد من خزفيات، " لنقطة – الدائرة " المكتشفة حديثا الى تاريخ كلاسيكي متأخر (حوالي 300_ 0 60 بعد الميلاد) وسيتم الكشف عن المواد الاكثر قدما بالتعمق في الموقع على الأرجح .
وخارج الموقع المركزي ومكان السوق لاحظنا في اوا خر 1994 وجود نظام حقول قائم على السدود بشمال الموقع على قاعدة التل ، وقد تكون السد من قوالب مشكلة وتغطي واديا صغيرا تتفرع منه فروع من نبع عين حمران تم تشكيله على هذا النحو ليكون نظام حماية من الفيضان ، وكانت منافذ في جدران السد قد قطعت الى قنوات كبيرة والتي بدورها ادت الى اراضي حقول زراعية مرتفعة الحواف اصغر حجما ، وما زالت تلك القنوات وجدران الحقول قابلة للرؤية . وفي يونيو 1994م قمنا بوضع خارطة للنظام بأكمله وتم العثور على قطع الأواني المتناثرة هنا وهناك في الحقول وكانت خشنة ومتفتتة ، وإنه مما يبدو ان نظام الحقول بلونه الاحمر والرسومات البنفسجية الطلاء كان يمكن ان يمتد الى الألف الأول بعد ا لميلاد ، وبدون شك فإن استخدامها استمر في الفترة الاسلامية ، ان سمة تلال النمل الابيشي في اقليم الوادي تؤخر تاريخ السد ونظام الحقول ، وبالاتجاه الى الغرب وجدت قرية صغيرة يمكن ان تكون الموقع المسؤول عن بناء السد ونظام الحقول ، وهنا فإن البيوت الدائرية الحجرية والمواد الخزفية الحمراء قد تكون متزامنة التاريخ .
وأخيرا في يونيو 1994 قمنا بوضع خارطة المباني القاربية الشكل الاقدم في قاعدة عين حمران، ويبدو انها جمعت على شكل عناقيد حيث بنيت من صخور كبيرة الحجم ، وفي بعض الاحيان بطول يربو على 6أمتار ويغطي الحصى الصغير دواخل المباني . وتتناثر الحجارة الصغيرة في المنطقة ويوحي إناء فخاري منقوش صغير من المباني بتاريخ يعود الى عصر الحديد. هذا وقد تمت ملاحظة تشكيلات مشابهة ايضا في خور سولي وخور روري.
يوريس زارينز: استاذ بجامعة دميسودي-بأمريكا،.
ترجمة : عبدالله الحراصي
عبدالله الحراصي: باحث ومترجم من جامعة السلطان قابوس