الهوية لا تكتسب سلميا وتطرح في مواجهة خطر الابادة من قبل هوية أخرى
ما دور الثقافات والأديان في تشكيل الهويات وكيف تكتب المؤسستان الدينية والوطنية كينونة الأفراد؟
مدخل
أصدرت شركة Routiedge للنشر في 1995 كتابا بعنوان The Identity in Question ((الهوية تحت المجهر) من اعداد John Rajohman تضمن عددا من الدراسات عن قضية الهوية في علاقاتها المتداخلة معا بالجانبين السياسي والثقافي. وقد صدرJoan W. Scott الكتاب بمقدمة عامة عن التعددية الثقافية وسياسات الهوية وكيف أثر كل منهما في الأخر. يقول سكوت إن "الاصلاح السياسي" كان المعنى الدلالي الذي ألصق بأي بونا هج أو موقف يهاجم أو يطرح سؤالا عن الوضع الراهن. ذلك المصطلح الذي ابتكره اليسار كنقد داخلي للجزميات الأخلاقية حجمه أليمين في نفس الوقت مستخدما إياه للتعبير عن عدم القدرة على التقييم والنقدس. ويواصل الكاتب أطروحته قائلا "إذا كان الاصلاح السياسي يحمل دلالة ربطت باتجاهات وسلوك نقدي فإن "التعددية الثقافية هي البرنامج الذي يعتبر محاولة لسن قانون لذلك الاصلاح". (The Identity in Question: PP.4-5) ويبقى السؤال هو كيف يمكننا تحقيق مفهوم موحد للهوية في ظل تعددية ثقافية بمنى التناقض أو التضارب بين المصطلحين؟ وفي هذا السياق يشير Scott في معرض حديثه عن التعددية الثقافية والهوية الموحدة في الولايات المتحدة الأمريكية على سبيل المثال إلى قوتين – ليبرالية ومحافظة – تتجاذبان صراعات الرفض والقبول. فالمؤيدون يصرون على أن التعددية الثقافية سوف تزيد من العدالة (بعرض متنوع وغني لمختلف الأثنيات الأمريكية) والتسامح (بتقديم عدد من الرؤى في معنى التاريخ). بهذه النظرة تجمع التعددية الثقافية لمفهوم الهوية الأمريكية بالإصرار على اثارة الانتباه إلى الأفارقة الأمريكيين والأمريكيين الأجانب، لكن هذا المفهوم يترك فراغا لمفهوم موحد للهوية. (المصدر السابقP.5). وفي نهاية مناظرته التي وضعت كمقدمة للكتاب يطرح Scoot خياره الاستراتيجي حول سؤال الهوية المتمثل في تقديم تحليل منتج الهوية وبالتالي تحليل بناء وصراعات القوى.
وسوف أقدم فيما يلي ترجمة لإحدى الدراسات التي ظهرت في هذا الكتاب بعنوان الثقافة والهوية (مدونات عمل) كتبها Etinne Balibar بالفرنسية وترجمها J. Swenson إلى الانجليزية. حيث تلخص الدراسة جزءا كبيرا من المناظرات حول سؤال الهوية في العقدين الأخيرين من القرن العشرين، وتطرح الدراسة أسئلة أساسية عن علاقة الثقافة بالهوية ثم لماذا تدمج الهوية الثقافية ضمن الهوية الوطنية؟ كيف تلعب الأديان والثقافات دورا في تشكيل الهويات؟ كيف يصبح التفرد الثقافي لأمة من الأمم طرحا مضادا للتعددية الثقافية؟ متى تقف انتقادات الفرد أو الجماعة في وضع منافس لبعضها البعض؟ كيف يمثل الاختلاف الجنسي بين البشر نموذجا للإقصاء الداخلي الذي تمارسه الهويات في مواجهة بعضها البعض؟ ما هي مضامين الخطاب النسائي وهل يطرح ذلك الخطاب أي جديد لم يسبق طرحه من قبل الرجال؟
نص الدراسة: الثقافة والهوية (مدونات عمل)
أولا: الهوية الثقافية، الهوية الوطنية
كيف يمكننا اليوم أن نقيم الدور الذي يلعبه مصطلح الهوية الثقافية؟(2) سأحاول القول هنا إن ذلك الدور يكمن في الثقافة. وللاجابة على السؤال السابق سوف أدرس استخدامات مصطلح الهوية الثقافية في الوثائق الرسمية للمنظمات الثقافية الدولية. ذلك أن تلك المنظمات تعتبر مؤسسات نموذجية للخطاب الشامل، كما أنها تتميز بكونها أماكن انتاج وتلقي خطابات عامة. بالاضافة إلى ذلك تعد هذه المنظمات الدولية الثقافية أماكن عامة لاستقبال واصدار الملاحظات والتعليقات بل فرضها بطريقة جبرية.(3)
لقد أفرزت تلك الخطابات الثقافية العديد من القضايا التي تأثرت بها – نذكر على سبيل المثال "الحقوق الثقافية" للأفراد والجماعات، "الديموقراطية الثقافية"، زالتنمية الثقافية س والعلاقات بين زالثقافة س و "التنمية" "تعزيز اللغات الوطنية"، العلاقة بين "الحفاظ على التراث الثقافي" وبين "الخلق" أو "الإبداع"، الإعلام في علاقته بحرية التعبير أو التأكيد على السلام، وغيرها من القضايا- سواء على شكل تصورات نظرية أو حتى على شكل بعض الممارسات السياسية. ويمكن تحديد تلك القضايا على شكل مصطلحات ضمن أربع فئات أساسية:
1- الموضوعي والشخصي
تظهر الهوية الثقافية كمجموعة من الميزات والبنى الموضوعية، كما هو الحال في التفكير العفوي ضمن الإطار الجمعي، والإطار الاجتماعي والإطار التاريخي. كما أنها تظهر كمبدأ أو عملية موضعة للأشياء (كما هو الحال في التفكير العفوي في إطار "الخبرات المعاشة"، "الوعي و اللاوعي الفردي"). بين هذين القطبين المتضادين يظهر عادة بعض التوافق أو التبادلية، لكن في حالات معينة يظهر بينهما نوع من الصراع أيضا. الفكرة التي يمكن التأكيد عليها هنا أن ذلك التناقض قد يترجم إلى كارثة (أو حتى حالات مرضية)، وفي المقابل يمكن اعتبار التناقض أو عدم التوافق قاعدة. إن التوافق الذي سيسمح بتمييز أفضل للموضوعية الفردية في الهوية الثقافية أو إدراك أفضل لمعايير الثقافة الجمعية لهوية الموضوعات، سيظهر كمحدد يمكننا أو يجب علينا تحقيقه.
2- العالمية والفردية
توصف الهوية الثقافية عادة بأنها ما يعبر عن تفرد "المجموعات"، أفرادا أو مجتمعات، وما يمنعهم من الصراع الفكري أو العملي، وما يمسح ببساطة ونقاء "الحدود" التي تفصل بينهم، وما يترجم ميل العلاقات المتبادلة بين الحقائق اللغوية، والحقائق الدينية، وحقائق النسب، والحقائق الجمالية بمعناها الواسع (اذا قلنا بوجود أنظمة للحياة فإنه يوجد أيضا أنظمة موسيقية وأدبية)، والحقائق السياسية. لكن في المقابل تطرح الهوية الثقافية سؤال العالمية أو الشمولية. وذلك لعدد من الأسباب، أولها أن الثقافات لا يمكن التفكير فيها ضمن التنوع الاجتماعي والإنساني دون عقد مقارنة شاملة لها لم سواء كانت موضوعية أو علمية ~. ثانيا، هذا التنوع يتضمن اتصالا بين الثقافات أو بين الحدود الفاصلة بين الثقافات الفردية التي تجتهد لتعبر الحدود. ثالثا، وبالإضافة إلى الأسباب السابقة، تطمح الهوية الخاصة بكل ثقافة إلى اعتبارها إطارا من القيم لها صفة العالمية. هذا السبب يرتبط مباشرة بالاسباب السابقة بل ويذكر بها. هذا الاطار القيمي يتيح لنا التفريق بين مصطلحات "الخير" و "الشر" في الشمولية الثقافية، بين الأخلاقي ووجهات النظر السياسية. كما يتيح لنا التفريق بين صيغ "الخير" و "الشر" في الاتصال: تلك التي تحاول التأسيس للعالمية بالانتباه إلى الفردية أو التي تبحث عن توحيدهما بشكل متوازن، كمقابل لتلك الصيغ التي تقضي على الفردية بذريعة الاتساق أو الانتظام (في الوقت الراهن يخشى من تأثير ثورة وسائل الاتصال الجماهيرية ومن سيطرة نماذج – معينة على المستوى العالمي) أو في المقابل المتطرف تماما تحاول التأكيد على الفردية لدرجة الوصول إلى حد العزلة. وبين هاتين الصيغتين المتضادتين، سيوظف البعض وسائل الإعلام في خدمة إنتاج الاختلافات، تلك التي تؤكد الفردية بتوسط العالمية، أو بشكل عكسي تؤكد حقيقة العالمية بتوسط الفردية.
3- النخبة والعوام (الصفوة والشعبي)
هذه الفئة من القضايا موجودة في كل مكان، لكن بصياغات مختلفة بتفاوت علاقات التناظر الوظيفي بين الفترات الزمنية المتعددة. لعل أهم هذه الصيغ في الحديث عن النخبة والعوام صيغة كلاسيكية – على الأقل منذ القرن التاسع عشر- للتفريق بين الثقافة لم العلمية، التقنية، الأدبية) والثقافات التعبيرية للجماعات الاجتماعية (أو بشكل أفضل انتماءات الأفراد إلى الجماعات). وفي هذا السياق تسقط هذه الصيغة الجدل السابق الذكر بشأن العالمية والفردية في حقل علم التاريخ الاجتماعي. كما تضيف هذه الصيغة دلالات جديدة أخرى، أهمها إعطاء السلطة للمعاها والأنشطة التربوية (في المجال التطبيقي، المدارس) لتكون هي الجانب الأهم لحل التوترات التاريخية بين الثقافة العلمية – التقنية وبين الثقافة الجمالية، وبين التطبيقات اللغوية على مستوى الإعلام الدولي وبين ضرورات اللهجات غير القابلة للاختزال، بين الحفاظ على التقاليد وبين التجديد الثقافي، وأخيرا بين أدب المشاعر وتطوير الملكات الذهنية. هذه النقاط جميعا تقود مباشرة إلى الفئة الرابعة.
4- الثبات والتحول
يعكس مصطلح الهوية الثقافية هنا بشكل معين نفسه تحت معيار الزمن، بفض النظر عن تحديد مرجعية التقدم أو نقد علاقة ذلك المصطلح – الهوية الثقافية – بالسلطة الزمنية للتاريخ والمفترضة سلفا في أي بحث عن تاريخية الثقافة.
يبدو أنه يمكننا طرح المطالبة التي تأخذ شكل التعارضات المتحدة: الهوية الثقافية تقاوم الزمن كرمز للتغيير، كما أنها تعتبر نفسها أساسا ضمنيا لأي تحول (بمعنى إعطاء صلاحية التمييز، والتسمية "المناسبة" للموضوعات الجمعية). كما أن الهوية الثقافية تظهر بنفسها كنموذج للتغيير (تسمى ابتكار، حياة، تطور، التي تظهر في النهاية وكأنها مطلب لمعظم مصطلحات ز الثقافة س). هناك حضور لبعض المسلمات الواهنة التي تحاول بشكل منتظم تثبيت أو مقارنة أثار الثبات بالآثار التاريخية، وتغير فردية الجماعات. في المقابل هناك حضور لمسلمات قوية دفعت بوحدة الجماعات إلى ما وراء النقطة التي يمكن تسميتها- في المفاهيم الهيجيلية – هوية الهوية والاختلاف.(4)
ودون الرغبة في طرح جدال حول الاستخدام الدقيق أو غير الدقيق، المعقد أو البسيط لهذه الفئات الرئيسية السابقة والتي تعتبر استخدامات ومصطلحات كلاسيكية في الفلسفة، سوف أطرح هنا سؤالين أساسيين على اعتبار أنهما يتضمنان تفاصيل خطاب المؤسسات في الهوية الثقافية، كما أن السؤالين يطرحان مقدما إطارات الاختلاف المحتملة.
أولا.. السؤال الأساسي
هل الثقافة شيء مكتسب أم عمل مؤسساتي؟ يمكن التشكيك في ذلك فقط عن طريق متابعة الملاحظات السلبية للنمط: فمصطلحات "الثقافة"، و "الهوية الثقافية" لا يمكن الإمساك بها دون توضيح البعد الذاتي والموضوعي، العالمي والفردي، دون الحاجة إلى التضحية بالثقافة الجماهيرية لصالح ثقافة النخبة أو العكس. قد يبدو من المفيد مراجعة مصطلحات الثقافة وحتى مصطلحات الهوية الثقافية من الناحية الوظيفية، كمصطلحات تشير اليوم إلى إطار بالأمن الإشارة إلى مضمون أو موضوع.
ويظل الأفضل: إشارة هذه المصطلحات إلى المكان الفارغ الذي يحتوي عددا من المضامين والموضوعات، والتصميم على تعارض الخطابات التي صممت وفق الفئات سالفة الذكر. يتضح مما سبق أنه يمكننا القول إن أي شيء يمكن التفكير به بمرجعية الفئات القطبية السابقة، وفوق كل ذلك بضمها مع بعضها البعض بكل ما يتصل بحقل الثقافة.
لابد لنا من ملاحظة أن أي واحد من الأقطاب السابقة، يضع بشكل مباشر أو غير مباشر حدودا بين حقول مختلفة يتم من خلالها التفكير في "البشرية": الجانب النفسي (أو النفسي- الاجتماعي) الجانب العلمي لم أو العلمي- المنهجي)، الجانب السياسي والجانب التاريخي. لقد ظل سؤال الهوية، على الأقل في العقدين الأخيرين، يطالب بمحاولة تعريف الهوية سواء من الناحية النفسية، أو العلمية، أو السياسية، أو التاريخية. لكن إذا كان هناك من يريد تجميع أو تركيب هذه الأطراف المتباينة -الوثيقة الصلة أيضا-، ويوجد أيضا من لا يريد التضحية بأي من تلك الأطراف، فإنه أليس من المحتوم اليوم، أن تحدد "الهوية" بشكل دقيق وكأنها زثقافة س؟ أو بشكل عكسي، أن تحدد الثقافة وكأنها أكثر العناصر عمومية في تحديد الهوية؟
ثانيا- السؤال التاريخي
إن ما يسمى بالهوية الثقافية يقارن باستمرار بل ويدمج إلى حد معين بالهوية الوطنية، وبالرغم من ذلك تفصل الهوية الثقافية في بعض الأحيان عن الوجود الفعلي للأمم، وعن حدودها، وتاريخها السياسي-العسكري.(5) إذن نتحدث باستمرار عن زالثقافات الفرنسية والإيطالية والأمريكية والصينية وغيرها، بل إننا نصل إلى حد استخدم تلك الترجمة للهوية في مصطلحات تخص الوطنية من أجل تقييم واقعية وقوة بناء المؤسسات الوطنية م هل هناك وجود لثقافة إسرائيلية أو سوفييتية أو فلسطينية؟
لكننا في ذات الوقت يجب أن نراعي دائما عدم اختزال الهوية الثقافية في "طابع وطني" أو في معالجات معيارية تقدمها مؤسسات الدولة. هذا الاختزال متحقق في الكثير من المناقشات التي تتناول العلاقة بين "الهوية الثقافية والهوية الأثنية"، بدرجة أكثر أو أقل إلحاحا اعتمادا على درجة التماثل في الوضع التاريخي المعطى، بين الأثنية والوطنية. ومما لا شك فيه أن هذا النوع من التقارب المتضارب بين خطابات الهوية الثقافية والهوية الوطنية يتضح تحديدا عندما تكون أطر هذه الخطابات مقدمة من المؤسسات الدولية للثقافة والتي قدر لها البحث عن الهوية (وعن هويتها الخاصة هي أيضا) بين "الأمة" و "الثقافة". هذا الدور الذي تضطلع به تلك المؤسسات هو أكثر ما يمكن فهمه عن تلك المؤسسات التي تم إنشاؤها واستخدامها في مواجهة المشاكل الاجتماعية والسياسية مثل إزالة الاستعمار، التنمية أو التعايش السلمي بين جبهات الأمم بمعاني الثقافة. لكن هذا التصور يقدم فهما عاما، ويبدو لي أن هناك ثلاثة أنواع من المشاكل هي:
أ- مشكلة العلاقة بين الأمة والدولة: تعتبر الثقافة عنصرا مهما يتيح تجنب خلط الأمة بالدولة، وحتى بشكل عملي، يواجه الأفراد الأمة من خلال الدولة (أو على الأقل من خلال الدولة الممكنة) التي "تمثلها" مؤسسات وهيئات معينة. وتبقى الثقافة هي الاسم الذي يعطى للأمة "الأساسية"، وهي التي تحدد الفرق الجوهري بين الأمة كدولة وطنية وغيرها من "الأمم" التي يمكن تمييزها من أي دولة، تماما كما تميز الجماعة الداخلية أو الجوهرية من الجماعة الاصطناعية. الثقافة بهذا الاتساع يمكنها استباق الدولة، أو رفضها، أو تحديد الهدف النهائي لدستورها.لكن بما أن الهوية الوطنية مدينة للثقافة بأنها هي التي أوجدتها، يصبح الواجب الأول للدولة، وقبل كل شيء، أن تعطي للأمة هويتها الثقافية بل وتعمل أيضا على تنميقها.
ب- مشكلة العلاقة بين الأمة التاريخية، المرتبطة بشكل أقل أو أكثر بتشكيل الوحدة السياسية، ومجموعات دول الحراك التاريخي لم غالبا الأمم العظمي) والتي خصص لها اسم الحضارات. أما معالجتها الدائمة لثقافتها فهي بما يرتبط بالأمة، سواء "كبيرة" أو "صغيرة"، أو لنماذج –لا نقول الطراز البدائي- من الحضارة التي يمكن أن تصبح مثالا مجسما ومتنوعا.
لابد لنا أن نلاحظ هنا أن هذا التحديد الام يمكنه أن يخضع بشكل مستقل وكامل أي اختيار قد يقدم عليه أي فرد في تفضيله "لنظرية" معينة للحضارة – حتى وان كان الاهمال هو الخيار المثالي لذلك النوع من التورطيات السياسية – الحضارة كإظهار لروح المادة أو التركيب المعقد لقاعدتها، الحضارة كتراث للأصل القديم أو كأنها منتج للاسهابات والتقاطعات، الفكر الحضاري فوق كل ذلك إطار مميزات القيم، والدين والجغرافيا. لكن زيادة على ذلك، هذه المرجعية لفكرة الحضارة تأخذ مكان القلب في التفكير بشأن الألفاظ – في الساحة الوطنية – "بين ثقافتين"، أو إذا كنت تفضل بين مفهومين للثقافة، الأول يرجع إلى الهوية التقليدية للجماعة والتعبيرات عن خصوصيتها، والثاني يعود إلى بناء وتنمية الأطر الفكرية للفن والمعرفة. الحضارة (حضارة المرجعية، سواء تمت مشاهدتها أو ببساطة من الممكن تصورها) هي الوسيط التي بدونها يصبح من الصعب التقريب بين جانبي الثقافة في البحث عن الذات وتحقيق العالمية.(6)
جـ- أخيرا، مشكلة العلاقة بين الجماعات القومية والجماعات اللاقومية. هذه العلاقة قد تكون علاقة صراع وقد لا تكون، وقد تعني كذلك بالمواجهة مع الأمة، أي أنها بشكل عملي في مواجهة مع الدولة -التي تقدم نفسها على أساس أنها دولة قومية – سواء كانت جماعات متخطية للحدود (على سبيل المثال جماعات التوحد الديني) أو جماعات مناصرة أو رفض القومية لم على سبيل المثال، التي تناقش حدود الدولة، أو التي تصارع الظلم السياسي والاقتصادي وفق قاعدة "إثنية"، وتطالب بإعادة التفكير بالحقوق، وبالحكم الذاتي أو الاستقلال). الأمر المدهش هنا هو ذلك التعميم في العالم اليوم فيما يخص خطاب الثقافة من أجل تشخيص الهوية واللاهوية، وتشخيص مبادئ السيطرة الوطنية واستقلال الجماعات اللاقومية. وعندما تأخذ هذه العلاقة إطار الصراع بين الجماعتين القومية واللاقومية، يمكن تلخيص مطالبهما على الرغم من الاختلاف بينهما في الصفات الشخصية والعزم التاريخي في تأكيد حقوق الأفراد: اتخاذ قرار "الاختيار"، أو حتى على الأقل المفاضلة بين عدد من "الانتماءات" المتنافسة. وبالتالي لا يمكننا إلا أن نفرض السؤال التالي: ماذا إذا كان مصطلح الهوية الثقافية اليوم ليمر أكثر من استعارة للهوية الوطنية؟
بالاستعارة يجب أن نفهم الترجمة، والتعبير، والعرض، بالإضافة إلى ضرورة إزالة تعبيرات الضعف التي قد تطلق على المؤسسات الوطنية، والتي تهب نفسها والمجتمعات التي تنتمي اليها "هوية" أحادية أو عامة أو متحدة بصورة مطلقة. هذا لا يعني أبدأ أن الأفراد لا يرغبون بهذا النوع من الهوية أو لا يطالبون به، خاصة أولئك الذين يعدون الأمة "أمتهم"، ولا تحتوي على أثار جمعية، لكن فضلا عن ذلك تتعامل هذه الهوية باستمرار مع تناقضاتها، ومع تفريعاتها الداخلية والخارجية، والتي يمكنها الانتصار عليها فقط بتخيل نفسها ضمن عناصر الوحدة الثقافية.
هذه الوحدة الثقافية لن تكون أكثر من ثنائية الأمة التاريخية التي تقف بجانبها. أو التي تقف أمامها (كالحضارة التي تسمح للماضي والمستقبل بأن يتحكما في الحاضر) أو تحتها (مثل هويات الجماعات التي تثابر وتظهر ضمن المجموعات الوطنية من أجل المشاركة في اختلافاتها أو رفض توحدها).
بالتالي يمكننا ببساطة تفهم كيف أن الثقافة، في الوقت الذي لا يمكن الإمساك بها نظريا كموضوع يوصف أو تحدد بتعريف علمي، لا يمكن أيضا المرور عليها عمليا وكأنها خط أفق دلالي لكل الخطابات التي تحاول تحديد الهوية في عالم من القوميات (المسيطر والمسيطر عليه، المعترف به والمرفوض، في بحثهم عن وحدتهم أو إظهار توحدهم أو انضمامهم إلى مجموعات أكبر). كما يمكن الفهم أيضا، أن كل كلمة ثقافة، بعد فترة طويلة من ما قبل التاريخ وفترة تبلور نقطة التحول في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر اكتسبت وظيفة استراتيجية تملكها اليوم. وفي لحظة معينة تفوق شكل الدولة على غيره من الأشكال في أوروبا، وبدأ تعميم المصطلح على مستوى العالم. منذ ذلك الوقت أصبح أي امتلاك جمعي للمعرفة، حقوقا أو تقاليد لابد من التفكير فيها على أساس أنها ثقافة: سواء على مستوى النظام الثقافي المؤسساتي، أو الخلاف حول النظام الذي أقامته الثقافة. وهنا يجب أن توجد الهويات في أصول ثقافية موجودة أملأ، أو يتم بناؤها في مستقبل ثقافي، وتظل تلك الهويات دائما تحت استجواب مستمر حول الأصول التي تنتمي اليها. (7) هذه المكانة مقترحة بشكل واضح لوظائف قديمة /حديثة، وفي الدين، أو ما تسمى بالديانات العظمي، وبشكل أدق، الأديان العالمية. لكن كيف يمكننا اليوم التعامل مع هذا التشابه الجزئي بين دور الثقافة ودور الدين؟ يمكن توضيح ذلك من خلال طريقتين -على سبيل المثال، الأولى بمناقشة المحاولات لتسليم الصيغ الدينية للسيطرة الثقافية، كأن تصبح الممارسات الدينية ورموزها الفكرية إثباتا للهوية الثقافية، أو كنقاط تمركز مميزة لنسبة هوية ثقافية معينة للآخر، والثانية إلى جانب مناقشة عالمية الثقافة والثقافات، لابد من مناقشة ما يترجم إصرار النموذج الديني، وهنا نحتاج للتفكير بشكل أقل في عودة الدين أكثر من عودة الثقافة كأن يصبح لدينا دين الفن، دين العلم، دين التاريخ، دين الاتصال. وبشكل عام، فإنه مما لاشك فيه أن عدم الاتساق أو التماثل بين النموذجين تبقى النقطة الأكثر اثارة للانتباه.
دعنا نتفق على تسمية تلك المؤسسات التاريخية القادرة بالمسيطرة أو الجمعية، والتي تدفع ثمن صراعات العنف وتفرض فردية "الجماعات المتميزة" على كل الأفراد الذين يعتبرون أنفسهم أعضاء في جماعات مختلفة – عائليه، لغوية، مهنية، محلية – وتمنح بالتالي محددا أخلاقيا عاما لتعددية الممارسات وعمليات التبادل التي يقتنع الأفراد من خلالها بأنهم موضوعات (8) إذا يقدم التاريخ المعاصر لنا نموذجين عظيمين متنافسين من المؤسسة الجمعية هما: المؤسسة الدينية والمؤسسة الوطنية. لكل واحدة من هذه المؤسسات في حقيقتها طابع سيطرة، فهي قد لا تقمع تعددية الانتماءات – في مقابل المؤسسة الجمعية إذا ما وجدت – لكنها تنجح لأوقات قصيرة أو طويلة في حدود معينة في تزعم واشباع تلك التعددية.(9) والمؤسستان جمعيتان في عدم ترك أي مظهر للحياة أو أي سبب لها خارج سلكتها كمؤسسة، وكثمن لذلك لابد من تمييز مناسب مؤقت أو دائم، عام أو خاص، كما يمكن لهذه المؤسسات أن تكتب كينونة الأفراد ضمن حد الموت وبالتالي تعطي الموت أهمية رمزية لا تعطى للموت في العادة. ثم أن هذه الديانات والأمم وجدت طرقا لتشريع القتل الجمعي وتحويله من سيطرة الانتقام الفردي، وعندما يقبل الموت تقف الديانات والأمم لتطالب بالتضحية من أجل إنقاذ أو تخليص الأخر.
لكن الفرق واضح، فأي أمة من الأمم، هي في الاصل مؤسسة سياسية تمضي فعليا وباستمرار حتى إذا لم تكن هناك مطالبة حقيقية بالفصل بين الدولة والكنيسة، ولا تتوقف عند حدود فرض صيغ الجمعية أو السيطرة على الخطابات والممارسات والأساليب الفردية ("لعبة اللغة" و "أنماط الحياة" في مصطلحات Wittgensteinian)، وبالرغم من ذلك استطاعت الدولة أن تطرح نفسها بشكل لا يضاهى وبطريقة أكثر فعالية من أي ديانة عالمية في تقليص الانتماءات الجماعية".( 10) ماذا يمكن أن يسمى ثقافة في الفكر الحديث، على مستوى استخدامات المصطلح، هل المناظر الديني ضمن المؤسسة الوطنية عندما يصبح مسيطرا؟ أليس من الأفضل أن تصبح الثقافة الاسم الذي يجب أن يعطى لكل "الديانات الوطنية"؟ أو مرة أخرى: آلا يصبح بناء أو تطوير المؤسسات الوطنية مضادا للدين أو من أجل فرض السيطرة على الأديان؟ لكن توازنات معينه للقوة تلزمنا التفكير، مرة أخرى، كتعبير لجوهر الديانات، أو تطوير الطقوس الدينية. على أية حال، هذا الوضع يشير إلى تناقض مستمر.
إن المرجعية إلى الأمة والى المقارنة المؤسساتية مع الدين سوف تسمح لنا على الأقل بطرح سؤال عن السبب الذي من أجله تتأرجح مرجعية "الهوية الثقافية" حول الصدق (الحقيقة والمصطلح) بمعنى أنها دائما أقل من التصديق – إلزامية أو متوقعة – حتى وان كانت الهوية الثقافية طرحت بشكل معياري، وفي معنى أخر هي أكثر من التصديق كنسبة أو وجود-حتى وان كانت قضية وجود مشترك أو مكتسب.(11) وبطريقة مماثلة قد يطرح أحدهم تساؤلا: لماذا الخطاب الفلسفي في الهوية الثقافية نفسها متذبذب بين قوة الروحانية (صبغة عالمية الثقافة، التي تعرض في أي ثقافة، تقدم نفسها وكأنها عودة للطبيعة، انعكاس لقيمها، حتى وان كانت لا تشير بمرجعية محددة إلى العقل) وقوة الطبيعة (التي تمثل الثقافة من حيث الاصطلاح على الأقل المساحات العمودية والأفقية للمؤسسات مع الجنس البشري).(12)
ثانيا: الهوية واثبات الهوية في حقل الثقافة
تبدو هذه المشكلة إلى حد ما مكملة للمشكلة السابقة. لكن في الحالة الأولى تمكنا على الأقل من صياغة فرضية اعتمادا على السؤال الأول، هنا نكتفي فقط بطرح الأسئلة، التي لا ندعي شموليتها، ثم نحاول تصنيفها. كل واحد من هذه الأسئلة سوف يستدعي مناقشات مطولة، وبالتالي لابد من الاختيار، خاصة إذا ما توافرت صياغات أخرى أجدر بالتفضيل.(13)
من الهوية في الثقافة الى الهوية في المؤسسة
السؤال الأول الذي يبدو بديهيا ولا يمكن تجاهله: هل هناك أية أهمية أو معنى للحديث عن الهوية في حقل الثقافة، في الوقت الذي لاحظنا سلفا ازدياد التشابك أو التداخل في كل معنى "للثقافة" بحيث يدل كتعريف لموضوع أكثر من المكان أو الوظيفة التي لا تزال غامضة كعناصر في التعريف. إن إضافة نعت "ثقافي" لمصطلح الهوية لا يعطيها صفة التأهل أو القبول، بل على العكس من ذلك يضيف لها ذلك النعت مشكلة التعريف. أما الانتشار المعاصر للخطابات التي تتحدث عن أزمة الهوية الثقافية من الأفضل لها الحث على إدراك الفصل بين المصطلحين (الهوية والثقافة).
من أنا؟ من نحن؟ من هم؟ هذه أسئلة أساسية ومهمة والإجابة عليها تحاول ترجمة معرفة الهوية، تلك الاجابة لا تتحدد بشكل دقيق بمجرد مرجعيتها الثقافية، لأن حالة انتماء "الأنا" أو "الأخر" وارتباطهما بحقل الثقافة أمر مبهم. أما حل هذه الاشكالية فيتم إما عن طريق اعتماد التشابه الوظيفي بين الثقافة والواقع لم الهوية في الثقافة تقارن بالهوية في الواقع، تلك التي يمكن تصنيفها وتحديد خصوصيتها المحلية)، أو عن طريق تبني منهج التضاد أو التناقض بين الواقع والثقافة لم تصور الهوية في الثقافة وكأنها رفض للشيء الخارجي أو الوجود الطبيعي للأشياء في الحالة العقلية أو الروحية). في الحالة الأولى نظام من الاستعارات، وفي الثانية نظام من حالات الرفض والإنكار. لكن لا يوجد مبرر للقيام بإعادة تعريف زالشيء الطبيعيس من أجل التأكد من أهمية البحث عن السؤال: من أنا؟ الذي لا يعطي خصوصية للفردية بشكل دقيق ولا رفض راديكالي للموضوعية. بل على العكس من ذلك سيفتح ذلك السؤال مشكلة قد نتمكن وقد لا نتمكن من حلها: كيف يمكنني (كيف يمكننا، كيف يمكنهم) التلقي من الأخر أو من مجموعة الآخرين إشارات عن خصوصيتي (خصوصيتنا، خصوصيتهم). هذا السؤال لا يتواكب مع ماهية الهوية في حقل الثقافة أو مع الطريقة التي تحدد بها الثقافة الهوية، خاصة عند تعريف الثقافة كحقل من الخبرات التي يمكن من خلالها تمييز الهويات، أو ذلك الحقل الذي يمكن وصفه بعدد من الإجابات الفلسفية من قبيل: وجودي، منطقي، وواقع وراء الخبرة.
لكنني سوف ألزم نفسي هنا بالاقتراح التالي: إن أي مصطلح يتضمن الهوية والثقافة يحتاج إلى ربطه بأكثر من مصطلح وبمتغيرات أصلية تفترض سلفا: الموضوع والمؤسسة – أو أي مصطلح أخر معادل – وبالتالي سأفترض هنا للتوضيح الفرضيتين التاليتين:
– هناك هوية عن طريق الموضوعات وللموضوعات فقط.
– وهناك ثقافة عن طريق المؤسسات وللمؤسسات فقط.
وبشكل واضح يمكن أن تكتسب هاتان الفرضيتان أهمية إذا لم يكن "الموضوع" تعبيرا أو كلمة أخرى للهوية – الهوية الذاتية – و "المؤسسة" ليست فقط مجرد كلمة أخرى للثقافة. ويبدو أنه يمكننا القول إن الموضوع يحمل مرجعية لأفراد يمكن تمييزهم من خلال اللغة، من مثل القول "أنا"، "نحن" و "هم" في السياق. أما المؤسسة فهي عادة تهتم بأي نشاط إنساني يتضمن نشاط توزيع محدد ´ لأوضاع بعينها أو تعهدات ووظائف منفعية، فعالية، واتصال. والمؤسسة قابلة أن تكون معبرة ومشرعة في خطابات معينة سواء عن طريق رموز، قصص أو برامج.
وفي هذا السياق يصبح سؤال الهوية أساسيا ويطرح بطريقة رسمية، لأن "أنا"، "نحن" و "هم"، تعبيرات متساوية لموقف ذاتي، ثم أن الموضوع -كاصطلاح – لا يمكن نسبته إلى أي من أولئك الأفراد (أنا، نحن، هم) لكنه يظل عائما باستمرار بين تلك الفئات الثلاث. كما أن سؤال الثقافة أساسي أيضا، لأنه باختلاف الزمان والمكان، لا تتقاسم كل المجتمعات – حتى وهي تمتلك طابع الدولة الوطنية بشكل عام – الأوضاع، ووظائف الإنتاج، واعادة الإنتاج، والاتصال، والذاكرة، والمعرفة وغيرها بطريقة واحدة. لكن ينتقل الموضوع من اللغة إلى الممارسة، وتنتقل المؤسسة من الممارسة إلى الخطاب.
إنه ليس من الضروري قبل أن نبدأ التأطير النظري للهوية الثقافية، السؤال عماذا يعني للأفراد أو الجماعات موضوع المواجهة مع المؤسسات، وما هي صيغ وأنماط تلك المواجهة، وهل هناك مخاطر من وراء تلك المواجهة؟ هذه المشكلة ليست لها علاقة بعلم الاجتماع أو النفس، أو حتى بشكل أقل بنظرية الفردية أو الأنظمة مثل علاقتها بنفعية اللغة أو الجانب السياسي لعلم دراسة الإنسان. لكن ليس من الضروري أيضا من حيث المبدأ تعطيل الافتراض المسبق الذي ينظر إلى الثقافة "ككل"، وبالتالي ينظر إلى علاقة الأفراد بالثقافة إما كعلاقة كلية أو أنها غير موجودة يحكمها منطق الهوية والاختلاف، والاندماج والإقصاء. لأن السؤال التالي لاستبعاد مثل ذلك الافتراض، ماذا يمكننا أن نضع مكانه؟ ببساطة نضع محله تلك الفكرة التي تؤكد أنه في مجال الممارسات الإنسانية، تزيد المواقف الذاتية من المعالجات المتعددة الإشكاليات في توزيع الهوية الثقافية. ثم أن تلك الإشكاليات في المعالجات كنظام أو كمجموعات تبادلية شاملة يمكن أن تصبح منطقيا ظواهر ثانوية.
2- تجربة لغة
تؤكد أكثر الأفكار انتشارا للتفسير الفلسفي لقضية التنوع والتعدد الثقافي أن الأنماط اللغوية ليست فقط أنظمة وانما هي عوالم بشرية أيضا. ذلك إن الصبغة البشرية لأي لغة، انفلاقها أو انتقالها المفاجئ، أصبحت هي الواسطة المهمة لتعيين علاقة الأفراد بالفرق بين الثقافات. اللغة – مؤسسة المؤسسات – هي التي تحدد انتماءات الأفراد لثقافة معينة لكن ما يخدمها أيضا بشكل مناسب هو إمكانية تمييز علاقة كل فرد بلفته وكأنها جوهر العلاقة التي تساعده على تملك ثقافة معينة. إن التمكن من اللغة يعني التمكن من الثقافة: لكن لا يتمكن من اللغة ويسيطر عليها بشكل حقيقي الا أولئك الذين يملكونها منذ لحظة الميلاد. وفي المقابل، فإن الدفاع عن الثقافة التي هي هوية، مقلدة كانت أو مبتكرة، سيتفوق على كل الدفاعات عن اللغة (الرسمية، المستقلة، الأدبية، الشعبية). من هذه النقطة هناك تحول طبيعي وعادل لفكرة أن الموضوع يميز نفسه ككائن مستقل لم الدلالة العاكسة للهوية) إلى درجة يصعب معها تمييز لغته -الموضوع -وثقافته عن الأخر لم الدلالة المنطقية للهوية). يبدو هنا أننا عبرنا عن الحقيقة العملية باستخدام نموذجين. هناك أولا الفكرة القائلة بأن حدود اللغة تعين أو تحدد الثقافة، والى حد معين تمنع تلك الحدود القضية اللغوية من الحركة من ثقافة إلى أخرى دون ضياع للمعني. أما الفكرة الثانية فتقول بأن الموقف في اللغة يوصف ذاتيا في الثقافة، وهذه الفكرة قد تدعو إلى تمييز "الهوية الثقافية" كقضية تسكن عوالم اللغة. وبالتالي يصبح من الضروري السؤال عن قيمة أو أهمية استحضار اللغة "كعلم أو كون". هذا السؤال لم يتوقف أبدأ، فهو مطروح في الفلسفة المعاصرة بشكل مباشر أو غير مباشر. نجد ذلك السؤال حاضرا في مناقشات عما يمكن وما لا يمكن ترجمته: إذا كانت هناك جوانب من اللغة لا يمكن اختزالها ضمن وظائف اللغة كأداة للاتصال، ماذا يمكن أن نقول بشكل عام عن قوتها الشعرية، الا تنتمي أو ترتبط تلك القوة باللهجة؟ لكن هل اللهجة "هوية" لغوية؟ بشكل مواز نجد هذا السؤال حاضرا أيضا في مناقشات عنصر الحرية أو التفوق العرقي والمنطقي والسياسي التي يهدف الاتصال إلى تقديمها في كل لفة أو لهجة. وكما تساعد اللهجة على الاتصال أو القدرات الاتصالية، فإن نهاية اللغة الأم لا يؤدي بالضرورة إلى انغلاق عالمها لكن على الأقل انغلاق عالمية البشر.
يكرر جاك دريدا Jacques Derrida من جانبه الاقتراح بأن زالرمزس الذي يعيد تقديم الأفراد في اللغة، والذي يضم أحادية الموضوع وأحادية اللهجة، لا يعتبر في الأصل وبشكل دقيق إشارات لغوية. وبناء على ذلك لا يمكننا القول بشكل دقيق أن موضوع اللغة ينتمي لغويا إلى اللغة.
حيث يشير دريدا باستمرار عندما يكتب على سبيل المثال عن التوقيع، مؤكدا أن اللغة تستخدم كقوة لنشر أو إذاعة البيانات ونقل المعاني، وأنها أداة معيارية أكثر من كونها أداة للتعبير عن الأفكار. في جانب أخر من الأفكار المطروحة في هذا المجال يمكن ملاحظة أنه لا توجد تجربة للغة أساسية – التي تحدد أمس التجربة لإمكانية أو عدم إمكانية الترجمة، والحدود الدنيا والقصوى لصعوبات التلاؤم مع الثقافة الخارجية – إنها في الأصل تجربة بسيطة لاستقرار تلك اللغة، أحاديتها أو انغلاقها، أو أنها باستمرار ضم أو دمج بشكل مهذب، وتعددية لأكثر أو أقل تبادلية لاستخدامات غير متنافسة لنفس اللغة سواء كانت تلك الاستخدامات لأغراض وظيفية أو اجتماعية، بالإضافة إلى تمثيل تلك اللغة -الطبيعي أو التصادمي، الشفاف أو الغامض – وملكيتها لعناصر مأخوذة من لغات أخرى.(14) مما تقدم يتضح لنا أن سؤال الخبرة ليس موضوعا أحاديا لكنه يطرح مشكلة ما، حيث تتسع الهوة باستمرار بين اللغة بشكل عام ولغة ما في وضع معين.
وبالتالي فإن تجربة الداخلي والخارجي في عنصر اللغة لا تستطيع تأكيد الانتماء بشكل دقيق إلى عالم مستقل أو حتى التمكن من تحديد أو رسم ذلك العالم. وتعمل اللغة باستمرار على إضفاء وتنشيط طابع الأصالة والألفة لكل موضوع لا يحمل صفة الداخلية أو الخصوصية. أما الهوية المتحدث عنها هنا فهي ليست ممنوحة ولكنها متخيلة فقط من خلال تأثير وقع الكلمة: إنها -الهوية – مصنوعة من اختلافات محكمة ومتقنة ورسائل اتصالية تم بناؤها بدقة.
3- الهوية أو إثبات الهويات
أليس من الضروري أن يستحضر أصحاب نزعات الاختلاف في صراعات أو أزمات معينة موضوع الهوية الثقافية؟ الهوية لا يمكن أن تكتسب سلميا: إنها تطرح كضمان في مواجهة خطر الإبادة أو الإلغاء من قبل هوية أخرى. وبالتالي يجب علينا أن لا نعمم ما وصف به علماء الاجتماع وعلماء النفس على حد سواء "صياغة الهوية" في الوقت الراهن سواء كانت عرقية أو دينية قائلين بأن الهوية التي تتم المطالبة بها -شكل علني أو صامت- إنما تتم دراستها كوظيفة للأخر، واستجابة لرغبته، وقوته وخطابه الذي يعرض قوته متفوقة على رغبته. إلى حد معين سيصبح مفهوم "الهوية التقليدية" (أو الهوية الموروثة) متناقض في معانيه. ونصبح أكثر دقة إذا قلنا أن الهوية هي خطاب التقليدية. في الحقيقة لا يوجد هويات وانما إثبات للهويات: سواء مع المؤسسة نفسها أو مع موضوعات تمر من خلالها، أو كما يفضل البعض، الهويات هي مجرد الهدف المثالي لعمليات إثبات الهوية، ونقاط ملكيتها، وهي تأكيد أو عدم تأكيد الشعور بها وبالتالي مرجعيتها المتخيلة. لكن هذا لا يعني أن عمليات إثبات الهوية مجرد عمليات متخيلة. ويمكن ببساطة وصف تأثيرات عمليات إثبات الهوية في بناء التمثيل أو الطريقة التي من خلالها توفر تلك العمليات مكانا يسمح للفرد بتصور نفسه "كذات"، بأنها تأثيرات غير كاملة. في الجانب العملي، نجحت بعض أنواع إثبات الهويات بطريقة متناقضة وسقطت أخرى بل أن التعايش معها أصبح صعوبة. فإلى جانب طابعها العام لابد من مراعاة هذا الاختلاف. إنه لا يتوافق ببساطة وبوضوح مع الاختلاف بين المطابقة أو عدم المطابقة، التلاؤم أو عدم التلاؤم مع الطقوس، الحكم والمعتقدات الموضوعة عن طريق المؤسسة المسيطرة. ويمكن الاقتراح بأن بناء الهوية ليست عملية ´ متخيلة إنما هي إعمال للخيال: سلوك، تاريخ أو استراتيجية فردية للموضوع في علاقته بالخيال (هو في علاقته بـ "الأخرين"). إذن، لماذا يجب أن يبلغ ذلك السلوك، الإستراتيجية أو التاريخ ذررته في إثبات مبهج لهوية ما، أو مقاومة عدائية تجاه ذلك الإثبات بعض الافراد مع أحادية وضخامة "نحن" أو مع رموز وشعارات تصور السلوك والإستراتيجية والتاريخ التي تحدد المقترح ككل متكامل أو لا يكون. في هذا الصدد أيكني تصور الفكرة العامة في الهيمنة أو السيطرة، او التفكير في التخيل كلحظة أو أداة لتوان ن القوة؟ لا يوجد ما يؤكد لنا أن التأثير العملي للحظة التخيل تلك، في أي ظرف، تعتمد على ضعف قدرة التمييز أو الفصل بين "الأنا" و "نحن".
4- مشكلة الائتماء
إذا تصورنا أن قضية الهوية على درجة من الأهمية، هل يعني ذلك أنها قضية متفردة؟ نفس هذا الخطاب هو الذي جعل كل ثقافة في كل الأطروحات صعبة الانتماء إلى عدد من الثقافات: وبالتالي فإنه لا يوجد مجتمع مؤسس – بشكل أدق لا توجد أمة – يمكن اعتبارها متعددة الثقافة.
لكن نقاد هذا الموقف – متأثرون بروح الحركات السياسية – ببساطة وبشكل واضح مترددين في اتخاذ موقف مضاد لها. وإذا غامروا باتخاذ موقف ما فإنهم يظلون مترددين بين عدة طرق للتعبير أو اتخاذ ذلك الموقف الناقد: هل يجب علينا الافتراض أن كل فرد ينتمي دائما إلى أكثر من ثقافة؟ (15) أو أنه يجب علينا افتراض أن مصطلح الثقافة إذا نظرنا اليه بشكل معزول متناقض المعاني وبالتالي فإن الانتماء إلى ثقافة ما يعني الانتماء إلى وحدة متكاملة تمثل نقطة تقاطع والتقاء لثقافات؟(16)
يبدو أن هذه المعضلة لا يمكن حلها دون السؤال عن كيفية عمل "منطق الانتماء" الذي يبدو أنه يربط الهويات بالثقافات. هنا يفترض جين ملينز Jean-Claude Milnerx (17) التمييز بين نوعين من الطبقات أو المجموعات: طبقات التخيل وطبقات الرمز. ويضيف اليها نوعا ثالثا هي طبقات التناقض أو التعارض. بالنسبة لطبقات التخيل يمكن إيجادها متفوقة على نسبة الملكية أو الملكيات العامة للأفراد، على افتراض أنها تميز وتوجد مستقلة عن قضية النسبة تلك. بعبارة أخرى تجمع طبقات التخيل أولئك الأفراد على افتراض الشبه المرئي (الأسود أو الأبيض، العاري أو المكتسي) أو بشكل عام الشبه القابل للعرض (الشبه الشخصياتي أو الأخلاقي) بين أعضاء تلك الجماعات. أما طبقات الرمز فتكمن في الحقيقة التي يصعب عرضها من أن الموضوعات تستجيب لنفس الاسم الذي تستجوبه ويستجوبها. ولذلك نقول "رجل فونسي"، "مسيحي"، "شيوعي".( 18) وبالتالي فإنه لا يتم تمييز أو تحديد الموضوعات على أساس تشابه الإفراد، بل على أساس أنهم أفراد متكافلون بالإضافة إلى أنهم مطلقا غير متشابهين (متفردين).
إن النموذجين السابقين لإثبات هوية الأفراد عن طريق المصطلح الاتصالي، لا يمكن منطقيا اختزال أحدهما في الأخر. هذا التمييز بين النموذجين يمكن تطويره والفائدة منه بتوضيح كيف أن وظيفة دمج الشعائر أو الطقوس تدخل ضمن الجانب الرمزي، بينما تدخل وظيفة دمج السلوك النموذجي ضمن الجانب التخيلي.(19) لكن ذلك يطرح عددا من المشاكل: هل طبقات المتخيل أو الرمز مستقلة وتعمل بمعزل عن بعضها البعض؟ يتحدث Milner بنفسه عن خيالية طبقات الرمز كعملية منتهية بشكل أقل أو أكثر لدعم التقلبات في السياسات والتاريخ. لكن Milner يعكس السؤال عن رمزية طبقات التخيل، الذي يبرر ماذا يحدث في المؤسسات: على سبيل المثال عندما يكون نوع "الجنس" محددا قضائيا أو مؤسساتيا أو بعبارة أخرى كيف تقسم هويات الجنس تلك بدعوى ضرورات قضائية وأسطورية أساسية إلى رجل وامرأة. وهنا يظهر سؤال أخر، لا يجب التهور أو التسرع في الإجابة عليه، إذا سمحنا بعرض الأطروحة أو الرأي القائل بأن تفرد الهوية يأتي كنتيجة طبيعية لإقحام الفرد فيما يسمى بالجماعة الأولية أو الأساسية والتي ستكون عالما محدودا ونظرة عالمية، أليس من الضروري الافتراض بأن تلك الجماعة سوف تستند – من حيث الفكرة على الأقل – على احتمالية قداسة كل الانتماءات. الأمر الذي يعني، أولا، أن تقف تلك الانتماءات في وضع منافس لبعضها البعض. الا يوضح ذلك بدقة كيفية عمل المؤسسات الجمعية أو الأيديولوجيات كما ناقشنا ذلك آنفا؟ وبالتالي "أن تكون فرنسيا" لا يعني أن تكون فرنسيا فقط، لكن تكون فرنسيا من بريتون (مقاطعة في شمال غربي فرنسا) أو فرنسيا من اللورين (من المستحيل أن تصبح فرنسيا سكسونيا لكن ليس من المستحيل أن تصبح فرنسيا بربريا)، أن تكون فرنسيا "عماليا"، فرنسيا "رأسماليا"، أو "كاتبا فرنسيا"، "فرنسيا ليبراليا" أو "فرنسيا اجتماعيا"، أو بشكل أدق تعني أن تكون كل ذلك اعتمادا على النموذج الفرنسي بالتحديد أوالى حد معين تعني أن تكون رجلا أو امرأة أو طفلا فرنسيا). وبنفس الطريقة، أن تكون مسلما هذا لا يعني أنك فقط تطيع الله باتباع قول الرسول، لكن أن تكون عربيا، أو أسود، أو تركيا، مصريا أو إيرانيا، سنيا أو شيعيا من أجل اتباع الدين، وبالتالي تعاون كل تلك الأطراف ضمن جماعة المؤمنين.
إن وحدة الهوية، ونظام التنافس وكهنوتية الانتماءات يماثل تأسيس الجماعة الأولية الواحدة: يبدو واضحا أن تلك الافتراضات الأساسية المسبقة تشكل نظاما. لكن أي نوع من تلك الطبقات تصنف الأخريات، وتحمل ما يمكن تسميته بمجموعة المجموعات؟ هل طبقات التخيل تصنف تحت ضرورات الرمز (وبالتالي فإن الأفراد الذين يملكون كل أنواع الملكيات ويدركون بداهة ملكية الآخرين لها، جميعهم يستجيبون إلى نداء اسم مفرد: الله، الجمهورية الفرنسية، الاتحاد السوفييتي؟) أو فضلا عن ذلك، في التخيل الأخير، هل يجب أن تحدد تعددية النداءات أشكال التخيل الأخير، هل يجب أن تحدد تعددية النداءات أشكال الولاء والعقائد بالغرض الإتصالي الضمني (جوهر التخيل أو الشخصياتي مناسب أو ملائم لكل أعضاء الجماعة) أو مرة أخرى، هل السؤال في عموميته لم يحدد بعد لأنه يعتمد على الحالة، ذلك أن وظيفة الدين والأمة في هذا الصدد متعاكسة أو متبادلة من واحدة إلى أخرى، بشكل يحول دون أن يصنع التاريخ من محاولات توحيد أو دمج الديانات الوطنية والأمم الدينية؟
أما ما يطلق عليه Milner "طبقات التناقض" فيمكن أن تساعد هنا لإثبات للضد. طبقات التناقض بالتالي يجب أن تكون أقرب إلى الحقيقة من طبقات التخيل أو الرمز السابقة. يطرح Milner مثالا بفئات "العصابي"، "المنحرف"، و "التسلطي" في التحليل النفسي، المرتبطة كتصنيفات لـ "طب العقل" التي ترفض أنماطها الطبيعية من قبل أطباء النفس من أجل الوصول إلى طريقة تأثيرها على اقتراحات العلاج:(20) وبمجرد أن تطرح باقي الأمثلة، سرعان ما يتبادر إلى الذهن أسئلة أخرى: هل تؤسس طبقات التناقض اعتمادا على قبول الولاء المؤسساتي وما المعايير أو القيم التي تواجه تهديدا هنا في الواقع؟ أو بصياغة أخرى، ما هو نوع الانتهاك الذي يجب أن يظهر كامتياز غير قابل للتنافس مع ترتيب الانتماءات، بواقعيتها الشديدة، أو وضع الحدود التي من خلالها يظهر النظام بشكل لا يطاق لانفعال الهوية: هل طبقات التناقض تلك تظليل، أم جريمة، أم بدعة، أم كذبة؟ أم هل هي اختلاف خارج عن المألوف، ضخم أو منحرف قابل للعرض أو التصوير؟ ولماذا تلجأ كل الأدبيات باستمرار سواء تلك التي ترفض أو تثبت التناقض إلى ترجمة واحدة من تلك الصيغ السابقة الذكر ضمن الصيغ الأخرى.
5- الهوية الثقافية والهوية الجنسية
لنعد مرة أخرى إلى بعض نقاط الغموض التي طرحتها بعض طبقات التناقض، الطبقات التي تظهر في واقع عدم الانتماء. يمكننا هنا الاقتراح بوجود صيغ تربط كل أشكال الدمج أو التوحد الشامل. كأمثلة لذلك، وفي ظروف تاريخية معينة، يتم إخماد أو استثمار الظروف الاجتماعية في حالة الدمج الشامل ثم مثال السلالات أو الأعراق. أما النموذج الأمثل للاقصاء الداخلي فهو الفرق بين نوعي الجنس البشري -ذكر وأنثى- أو بصيغة أخرى . هويات الجنس وكأنها تؤسس كفرق أو كما هو في التاريخ المعروف، ما يسمى بالسيطرة. لكن بقراءة انعكاسات هوية الجنس تلك، يتضح أن هناك أمرا أخر غير النموذج الأصلي مستبعد من المناقشة. إن الهوية الثقافية والهوية الجنسية مصطلحان غير قابلين للانفصال. يعود المصطلح الثاني إلى الطبيعة، ويبدو كأنه المقابل المضاد تماما للأول. ولن يصبح من الصعوبة هنا تقديم الانعكاسات الجدلية للعالمية والخصوصية: الطبيعة العالمية للاختلاف الجنسي، خاصة في الثقافات، وبالتالي فإن دخول الثقافات إلى العالم يتعذر اختزاله بالهوية الجنسية أو بشكل خاص الهوية الأنثوية. لكن بالالتفات إلى حقيقة عدم التجانس التي تغطي تعبير "الهوية الجنسية" أو اختلاف الهويات الجنسية، يتضح أن كل مصطلح أو مفهوم للهوية الثقافية في عموميته يعتمد على تلك الصبغة من عدم التجانس. ويصبح من المهم الإشارة إلى أن وظيفة خطاب الثقافة الذي يحدد دائما نشر الثقافات الأصلية منها والفرعية كما هي طبيعة المجموعات البشرية ممكنة في زمان ومكان ما. وبالتالي يصبح لدينا الثقافات العرقية، والأرستقراطية، وثقافات طبقة العمال والبرجوازيين، وثقافات الأجيال وغيرها. (21) ولم يتم الاستشهاد -في حدود معرفتي- بفكرة التفريق بين "ثقافة الرجال" و "ثقافة النساء" حتى وان كان علم دراسة الإنسان يفرق بدرجات قصوى ودنيا اعتمادا على الحالة الاجتماعية والدينية: بين نشاطات وأعمال الرجال ونشاطات وأعمال النساء، لتصبح تلك النشاطات المتغير الأساسي لثقافة الطرفين. هذا التفريق أو التمييز يتدخل فقط في حدود معينة، في استفزاز كاتبة معينة فتقول: "يمكننا المساعدة في تعريف وتحديد الثقافة وحرية الفكر عن طريق تعريف ثقافتنا وحريتنا الفكرية"(22) أو في الأغراض الأسطورية لتاريخ الحركة النسوية، وعلم دراسة الإنسان الذي يهدف إلى البحث فيما وراء الإخضاع أو التبعية والصمت العام المفروض من الرجال على النساء، ومتابعات "حرب الأجناس" المشابهة لحرب حضارتين، أو أمتين أو سلالتين.
على أية حال يبدو أن استعارة الصراع الذي تتضمنه كل هوية ثقافية، هو الذي سوف يحرر التوتر الداخلي بين الحياد الظاهر لصياغة ذلك الصراع والواقع الذكوري لمؤسسة الصراع السلطوية وبطبيعة الحال لكل مفاهيم الانتماء. ومرة أخرى، نتيجة لما تقدم، فإن نموذج "الأيديولوجيا المهيمنة"، بدون شك، نموذج بسيط للغاية: وبالتالي من الأفضل ملاءمتها لتعيين أو تحديد ما يحتاج إلى تفسير أكثر من استخدامها فيما يمكن أن يفسر العلاقة بين تفاوت الجنسين وموقع الهوية "الذاتية" في الثقافة.
بالنظر إلى فكرة عالمية السيطرة الذكورية وحضورها في التركيبات الموضوعية أو القدرات الذهنية الجمعية، نجدها تقترب من الحشو. إلا إذا تم التركيز وبدقة، عند تحليل أي بنية اجتماعية على دور النسب العائلي في "كلية" الانتماءات، والتركيز على الوظائف التي تعرف بإنتمائها إلى الرجال والنساء من أجل تأكيد سيطرة المتأخر على المتقدم.
في الحقيقة أنه في حالة عدم وجود "نظام اجتماعي" الذي هو جزء أساسي بما يسمى بالحضارة، هل يشكل هذا النوع من النسب العائلي هوية عامة؟ لا يمكن تحقيق الصبغة "الكلية" إذا كانت القوانين العالمية للنسب العائلي لا تلفي كل الانتماءات. وبالتالي فإن النظام الثقافي للأمم البرجوازية تمكن من التغلب على هوية "ثقافات الطبقة" في القرن التاسع عشر، عندما تم تمديد معايير العلاقة العائلية والألفة بنفس الطريقة في علاقة ملأك الأراضي بالعمال. أو في الفترة الواهنة، حيث تواجه التسوية التاريخية بين الدولة والمسيحية خطر الفصل بين (الكنيسة والدولة)، كما تعرضت زالثقافة الوطنية س لنفس الخطر عندما اختلفت تلك المؤسسات حول أسئلة الطلاق والإجهاض والحمل الصناعي وغيرها.
إضافة إلى ذلك حقيقة أن الأسرة واحدة من أهم المصطلحات المؤثرة التي تلعب دورا مفصليا في الربط بين "الثقافة الراقية" التي هي بالضرورة هدف المؤسسة العامة والبنية العامة، و "الثقافة الشعبية أو العامة" التي يبدو أنها تقع ضمن الإطار الخاص. ويتم تحديد أدوار النساء على شكل امتياز وكأنهن المحافظات على التقاليد.(23) كيف يتم بالتالي في بيان ما يناسب الثقافة، إدراك أو عدم إدراك ذاتية الحركة النسوية التي تم تأسيسها؟ الحركة النسوية سوف تسمح لنا على الأقل بالحديث بأن ثقافتنا التاريخية والغربية – من دون شك كما فعلت الثقافات الأخرى- مارست رفضا ثنائيا لخطاب النساء ورغبتهن: بربطها بجنس بشري واحد أو علاقة قدرية بالجنس واعادة الإنتاج، وقياسها اعتمادا على الطراز البدائي لنموذج الحركة النسوية. وبالتالي لا تملك النساء هوية أكثر من تحديدها وتمييزها بالفرق الجنسي، والذي يقود (كشيء غير جوهري) كل أشكال الاختلافات الفردية وسط النساء من أجل صالح الفرق الجوهري مع الرجال، كما أدى إلى حرمان الجنسين اشتراكهما، في وقت كانوا في حاجة شديدة، في هوية الرجال.
هنا يطرح السؤال التالي: إذا كانت هناك طبقة أو جماعة للنساء، هل ستكون أي شيء أكثر من طبقة تغالي في التناقض؟ طبقة لديها نفس الوظائف التي أسندت إلى مجتمع الرجال: توحيد الجماعة مع بعضها في الواقع بالعمل والوجدان ونشر الهوية الثقافية -حتى بعرضها على الآخرين بتفاخر متواضع – وفي مناسبات معينة تأكيد درجة التحضر الذي أحرزته ثقافة ما حسب ما تسمح لهم قدراتهم ومواهبهم وتعليمهم أيضا. وفي المقابل ستعمل الثقافات على تأكيد صفة "الخارجي" على كل الهويات الأخرى بنقد المكان "الآخر الذي سمح للنساء إتباع نموذج تم استخدامه بالفعل بين الإغريق والبرابرة. تقنية الإسقاط هذه في تمييز "الآخر" أو "الأجنبي" تبدو لي أكثر فعالية من تلك التي تحدث عنها ليفي سترايوس Levi-Strauss كثيرا والتي تقول بإعادة عرض أو تقديم أعضاء الجماعة الأخرى تحت اسم أو صفة الحيوانية. لكن قد يطرح هنا سؤال أخر وربما أخير: هل ستنجح النساء في عالم اليوم أو الغد في تحقيق "الانتشار بين الثقافات" بطريقة لم تتحقق للرجال ولم تستخدم من قبلهم، إلا إذا نجحن في التغلب على منع الاتصال فيما بينهن دون ترخيص أو تفويض بذلك؟ نفس هذا السؤال تم طرحه في التاريخ على "طبقات التناقض" الأخرى، لكن بمستوى أقل أساسية. وقد طرح ذات مرة الإقصاء الداخلي في سؤال: آلا يستطيع أولئك الذين يحملون الانتماءات المنطقية البدء بتلقين ثقافة داخلية؟ هذا السؤال يفرض بدوره سؤالا أخر عن معرفة كيف يفهم الإلحاح المعاصر على الاتصال وحتى الاتصال العالمي: كمواجهة بين ثقافات مختلفة – أو بطريقة أدق مواجهة بين مؤسسات؟ أو كمواجهة بين أفراد من ثقافات مختلفة، تتبعها إيماءات مركبة لاستخدام وسائل الاتصال ضمن ثقافات معينة، تحارب بدورها العقبات التي توضع في طريق تلك الوسائل.
الهوامش
1- المقال الأساسي الذي أقوم بترجمته هنا كتبه Etinne Balibar باللغة الفرنسية J. Swenson بترجمته إلى الإنجليزية تحت عنوان Culture and Identity (Working Notes) ونشر ضمن كتاب The Identity in Question أعده John Rajchman .. Routledge: 1995
2- المدونات التالية تمثل برنامجا بحثيا. وكانت قد كتبت في الاعداد للنقاش حول الهوية والثقافة نظمته اليونيسكو في 14، 15 ديسمبر 989ا وتحديدا قسم الفلسفة والعلوم الانسانية الذي أغتنم الفرصة هنا لتقديم الشكر له.
3- على سبيل المثال اليونيسكو، التقرير الختامي: المؤتمر العالمي لسياسات الهوية، مدينة مكسيكو 1982 (باريس: اليونيسكو: 1982)، اليونيسكو علامات مشوقة للمستقبل: خطة اليونيسكو النصف السنوية 1984-1989 (باريس: اليونيسكو. 1982)، الجزء x1 "الثقافة والمستقبل".
4- يبدو أننا تجاهلنا الجانب التاريخي حيث يلعب التاريخ وعلم دراسة الانسان بالتعاون مع مصطلح "الثقافة" دورا في الفصل بين ثقافات الثبات وثقافات التغيير وبالتالي نوعان متميزان من الهوية (وبالتالي أيضا نوعان من المجتمعات).
5- هذه الازدواجية يمكن ملاحظتها أيضا فيما يخص اللغة (وفي الحقيقة يتحدث الناس عن الهوية اللغوية) لكن يبدو أننا ازاء حالة خاصة من الهوية الثقافية.
6- يمكن القبول بهذا عندما يطرح الغرب من خلال نماذج معينة للمؤسسات دعاوي توحيد كل الثقافات ضمن صبغتها العالمية، وعندما تعاني الأمم من سيطرة الغرب لكي تطرح عالميتها هي، أو عندما يطرح فرد ما سؤال اتصال الثقافات ضمن اطار "الحضارة العالمية".
7- حاولت ربط هذه الأسئلة باشكالية "الاثنية الخيالية" في مجموعة مقالات جمعها Etinenne Balibar and Immanuel
Wallerstein, Race, Nation, class: Ambiguous Identities, trans. Chris Tumer. London: Verso, 1991
8- أؤنست جلنر”Tractatus Sociologic-philosophicus,” في Culture, Identity and Politics (كامبردج: مطبعة جامعة كامبردج، 1987).
9- لهذا السبب يصبح تأسيس السلام بين الأمم رمزا للسيطرة الدينية، كما أن تأسيس السلام بين العقائد والكنائس يرمز إلى السيطرة الوطنية. وكلتا الحالتين يصعب تحقيقهما عمليا.
10- عندما لا يشكل رجال الدين طبقة خاصة كما يفعلون دائما، فإن الطبيعة المعرفية لأنشطتهم ستظهر معزولة عن غيرها من الممارسات.
11- ذر بول فين Paul Veyne مؤخرا زما اذا كان الاغريق قد امنوا بآلهتهمز هل آمن الاغريق بأساطيرهم (Did the Greeks Believe in Their Myths) شيكاغو: مطبعة جامعة شيكاغو، 1988. هذا التردد كان من مميزات الفلسفة الحديثة من البداية ليس فقط من منطلق زالدين الفطريس ولكن كلما طرحت علاقة المعتقد بالعادة للمناقشة.
12- من الصعب هنا عدم التفكير في حيوانية العقل التي وصفها هيجل فيما يتعلق بالمفكرين.
3ا- سوف أبرر اختياراتي لهذه الأسئلة بالقول إنها جميعا تظهر مشكلة معقدة للموضوع كفلسفة تحتاج إلى إعادة التفكير بها بعد إدراك نقص عنصر النقد في زالعوالم النقدية س كما هو الحال في عنصر التاريخ في زفلسفات التارينس.
14- على وجه الخصوص جاك دريدا Jacques Derrida "التوقيع – الحدث -السياق، Signature-Event-Context في كتاب حواشي الفلسفة. Margins of Philosophy الن باس Alan Bass (شيكاغو: مطبعة جامعة شيكاغو، 1982) الصفحات 307- 330، by Richard Rand Signsponge (نيويورك: مطبعة جامعة كولومبيا، 1984)، وأخيرا limited Inc. من اعداد Gerald Graff (إيفنستون: مطبعة جامعة نورث ونسترون)
15- وبنفس الطريقة اقترحت سابقا أن كل فرد ينتمي إلى "أكثر من لغة". هذا الكلام لا يمكن تفسيره أو ترجمته مباشرة بالانتماء إلى لغتين أو ثلاث لغات.
16- يجب أن نلاحظ هنا أن مصطلح "الحضارة" يمكن أن يوظف في حل هذا النوع من المأزق: هذه الثقافات المتداخلة والتي تؤثر في بعضها البعض سوف تصيغ حضارة "مفردة": وبالتالي تتراجع مشكلة الانتماء إلى الوراء.
17- جين – كلاود ميلنر. indistincts (Paris: Editions du seuil, 1983 Jean-Claude Milner, Les noms
18- هذه الأسماء تستجيب بالاشارة إلى أسماء أخرى: فرنسا (أو الجمهورية)، المسيح (أو الكنيسة)، الثورة (أو الحزب).
19- في كثير من الجوانب يتقاطع تحليل Georges Devereux للفرق بين "طبيعة السلالة أو العرق" و "هوية العرق" مع Milner. انظر and Anthropology as Complementary Frames of Reference Ethnopsychoanalysis: Psychoanalysis (بيركلي: مطبعة جامعة كاليفورنيا، 1978)
20- بنفس هذه الطريقة فلا يمكن أيضا القول بأن التكهن أو التخمين قد يأتي بعد تحليل أو تشخيص الداء بشكل محدد.
21- وحتى الثقافة المعينة للعبيد أو من كانوا عبيدا (Voodoo, candomble, etc.) بشكل عام هي ثقافة السيطرة أو ثقافة المسيطر عليه.
22- Virginia Woolf, Three Guineas: (New York: Harcourt Brace 1966 88 Jovanovich)
23- ونتيجة لضياع دور الأسرة في المجتمع المعاصر بقيت الدولة والمدرسة المؤسستين الوحيدتين القادرتين على المشاركة في هذه العملية.
يتين بليبر
ترجمة عبدالله الكندي (باحث واكاديمي من سلطنة عمان