غداة زيارته الى لبنان، والى ومنزل الزعيم الدرزي وليد جنبلاط تحديدا، كتب الروائي البيروفي فارغاس يوسا، مقالاً بعنوان «في ظلال الأرز» قال فيه «ان في لبنان سراً غامضاً آخر، بين الأسرار الكثيرة الغامضة التي تخبئها بلاد التناقضات تلك»، فهي «قطعت شوطاً طويلاً، في التحديث مستبقة الشرق الأوسط بأسره. ولكنها أيضاً، وفي الوقت نفسه، بلاد وفيّة بصورة لا يمكن تفسيرها للإرث القبلي». هذه هي الخصوصية اللبنانية العصية عن الفهم والغامضة والسهلة الفهم، هي خصوصية نستشف مكنونها من كتاب «مدخل الى الخصوصية اللبنانية» للباحث نبيل خليفة الذي اعتبر انه في مواقع من الأرض تكونت جماعات إثنية قلقة بعضها منفتح على الآخرين وبعضها منغلق، وبعضها الآخر يحمل طابعاً توفيقياً. وتميز السكان بتميز أماكن اقامتهم، فسكان الساحل مرتبطون بعالم خارجي، وهم منفتحون، بينما سكان الداخل كثيراً ما ينعزلون وينغلقون، وهذه الثنائية كثيرا ما تحدث عنها مهندس النظام اللبناني ميشال شيحا في كتبه وتنظيراته وهي التي شكلت بنيان الأمة اللبنانية وثقافتها، ربما كانت سبب فصامها وتأرجحها بين الحداثة الغربية والتعلق بحبال الماضي «القبلي»، وكانت واجهتها حداثة غلب عليها الطابع الريفي والجبلي.
ولما كان موقع لبنان في قلب منطقة الشرق الاوسط او قلب العالم، فقد جعله هذا الموقع نقطة التقاء وتصادم لمعظم شعوب العالم القديم والحديث. وخصوصية لبنان الأدبية والإثنية، باستنادها الى الأنتروبولوجيا اللبنانية في واقعها الإثني والمادي والثقافي، أهم من التأكيد على أسماء الامكنة والعائلات كمعايير أساسية لإثبات الانتماء والهوية لدى اللبنانيين كما يقول نبيل خليفة الذي يعتبر أن الدم وفئاته تحدد العرق، وأن الاجتهادات الايديولوجية والتنظيرات لا يمكن أخذها في الاعتبار، وأن التوزيع الجغرافي لسكان لبنان ليس له سوى تأثير ضئيل جداً في عرق سكانه. وقد عرف لبنان الانفجار الإثني والهجرة. لا ندري لو عرف يوسا الجذور العرقية لوليد جنبلاط ماذا كان سيكتب عنه، فهو الذي تعملنا ان اسرته من اصول كردية واسمها «جانبولاد» لا نعرف ان كان هذا يعني وليد جنبلاط، ولكن في شكل من الاشكال مرآة لأحوال التركيبة اللبنانية الاجتماعية والثقافية.
الصورة بمنازل كثيرة
تختصر الشخصية اللبنانية صورة المصور الأميركي سبنسر بلات التي فاوت بـ«الجائزة العالمية للصورة الصحفية». تلك الصورة التقطها في ضاحية بيروت الجنوبية في 15 آب (اغسطس)، اليوم الاول لوقف العمليات الحربية بعد «حرب تموز» 2006، والتي تُبرز تناقضات هذا «اللبنان» على ما قالت لجنة التحكيم، وفيها تعقيد الحياة الحقيقية، في كنف الفوضى. تبرز الصورة الفائزة تناقضات بلد يتجاور فيه على نحو لا يُطاق الدمار والخراب والولع باللهو. جمال يطل على الخراب والحياة الرتيبة، والسيارة المكشوفة التي في الصورة كأنها في مشهد هوليوودي، خصوصا لناحية لونها، وثمة فتاة تنتظر بدهشة وترتدي «تي_ شيرت» ابيض في مشهد لا يخلو من الملمح الاغرائي والايروتيكي، فتاة اخرى تضع المنديل على انفها وقاية من الروائح والغبار المنبعثة من فعل الخراب، فتاة اخرى كانت تلتقط الصور للمباني المدمرة. أما الشاب سائق السيارة المكشوفة، فأشبه بمغني بوب ذي لحية يسارية، واللافت انه لصق على «تبلوه» السيارة «ستيكرز» لجمعية «صامدون» وهي الجمعية التي برزت في مساعدة النازحين في «حرب تموز». ثمة من وصف الصورة بأنها مشهد من فيلم «التمرد بلا قضية» لجيم دين، والغريب هو تلك التعليقات التي استغربت الصورة، شاهدوها وقالوا «يا إلهي». اخذهم العجب والدهشة، وأغدقوا في تأويل الصورة واستنباط معانيها او نقدها وتوجيه الاتهام الى ملتقطها، مع انها صورة عابرة بالنسبة للمواطن، لكن يمكن تفسيرها من منظور ثقافي لبناني، فهي تفصح الصورة عن تلصص المصور، عن فعل التقاط الصور في أوضاع مأسوية: إن وُجد من تناقض، فهو في ذلك اللقاء بين الفن والجمال والمأساة. تغطية الكوارث من أجل إبداع صورة مثيرة، ذلك ما برع فيه المصور روبيرت كابا.
يوضح بلات أنه عندما تعرّف على لبنان، ادرك تناقضاته العظيمة «في اي وقت يمكن ان تقع حوادث اطلاق نار، وفي اللحظة التالية قد يجد المرء نفسه في فندق فخم موصول بشبكة الانترنت. نادراً ما تفرغت الغلافات الصحافية لمثل هذه التباينات. هناك أيضاً طبقة فاحشة الثراء لم يضيء عليها احد. ان صورتي تقاوم نمطيات الحرب وماهيتها. الحرب بالغة التعقيد، اختصرناها دائماً بمشاهد لـ«حمامات الدم». لا يمكن مقارنة لبنان بالعراق أو إيران، تلك بلدان مختلفة، ان صورتي تجمع لبنان بكل تناقضاته الساخرة، من الاثرياء الاسطوريين الى الفقراء. كثير من الفوتوغرافيين يبنون شخصيات نمطية للحديث عن هذا الجزء من العالم، لكنهم في النهاية اناس يشبهوننا. «هل هذا هو لبنان»؟ سؤال وحيد أواجهه كردة فعل على صورتي الفائزة. هذا ما يناقض تصنيفي للحروب ولضحاياها». يقول بلات معلقا على الصورة: «بالنسبة لي هذا هو لبنان: رياء وسخرية وجمال وهمجية. لديك هذه الصفوة من الناس وفي الخلفية أناس مُعدمون يتمازجون بطريقة غريبة. قد يعتقد البعض أن أشخاص الصورة مسيحيون، لكن يبدو أنهم من الشيعة لأن المنطقة التي التقطت فيها الصورة معقل شيعي». الارجح ان الصورة رواية، انها اكتمال للمشهد الثقافوي اللبنانيوي الذي يسحر يرعب في آن معا، يسحر عندما يكون «ملتقي»، ويرعب عندما يصبح «ساحة»، يقتل عندما تأسره الاوهام الايديولوجية ويغدو طائر الفينيق عندما تحكمه الافكار. وتلميح بلات الى تفسير اشخاص الصورة يوحي بموضة الاستشراق السائدة في تأويل الشرق واستنباط معانيه السطحية، فبلات الذي يقول انهسقد يعتقد البعض ان اشخاص الصورة مسيحيون» يعرف نمطية التفكير الغربي في الحكم على الآخرين.
ساحرة بورتوبيللو
صورة اخرى تعبّر عن الشخصية اللبنانية في رواية «ساحرة بورتوبيللو» للروائي البرازيلي باولو كويليو، ترجمت وصدرت لدى دار المطبوعات للتوزيع والنشر. تبدأ أحداث الرواية في بيروت ثم تنتقل الى لندن مع الأسرة اللبنانية، وبطلتها شيرين خليل لبنانية بالتبنّي، وهي طفلة الميتم الغجرية التي تتناوب على جسدها انياب البرد في رومانيا، تتبناها اسرة لبنانية، معروفة دبلوماسيا! تتمرد… تتخطى الحدود الحمر بحثا عن ماضيها. تسطو على عقول الكثيرين من مديري مصارف وممثلي مسرح واصحاب شأن، لتجعل من بيروت ولندن ودبي وترانسلفانيا مسرحا لافكارها الغريبة وقدراتها الفذة. تنسج علاقات كثيرة بعضها مريب، وتختفي في ظروف غامضة. يجعل كويليو أسرة خليل اللبنانية الثرية تبحث عن طفلة للتبني في رومانيا قبيل سقوط النظام الشيوعي. تنطلق الاحداث من بيروت السبعينات وتشهد اندلاع الحرب اللبنانية العام 1975 وتنتهي في منتصف التسعينات من القرن الماضي في لندن التي كانت العائلة اللبنانية لجأت اليها بعد «حرب السنتين». تجري حياة شيرين التي حملت إسماً ثانياً هو «أثينا» ولقباً هو «ساحرة بورتوبيللو»، اختارتها أمها بالتبني بين مجموعة من الأطفال وترددت في اختيارها بعدما قالت لها مديرة مركز التبني في مدينة سيبيو في مقاطعة ترانسلفانيا الرومانية إنها من نسل غجريّ. عندما اشتعلت الحرب اللبنانية كانت تردد أمام أهلها المتفائلين إن الحرب ستطول. تلتحق أثينا أو شيرين بجامعة في لندن لدراسة الهندسة، لكنّها لا تلبث أن تهجر الدراسة لتتزوج في العشرين من عمرها من زميل لها، دنماركي يُدعى لوكاس. وعندما وضعت ابنها الذي سمّته فايورل لم تستطع أن تواصل حياتها الزوجية فسعت الى الطلاق.
في لندن تدخل عالم المصارف ثم تنتقل الى دبي موظفة في مصرف، ومن هذه الوظيفة تنطلق الى عالم العقارات وتنجح. لكنّ هذا النجاح لم يملأ «الفراغ». عندما ترجع الى لندن تقرّر البحث عن أمها الحقيقية، والبحث عن الأم يعني لها البحث عن الجذور والعودة الى المكان الذي ولدت فيه. وعندما وجدت أمها في مدينة سيبيو. أمها التي تدعى ليليانا وتعمل في الخياطة داخل المنزل تروي لها قصتها كاملة. إلا أن التعرّف الى الأم لم يكن حدثاً كبيراً في حياة أثينا أو شيرين، فهي سرعان ما غادرت مسقط رأسها عائدة الى لندن ولكن الى حياة أخرى، غامضة. لا ندري اذا كان كويليو يعرف سر المرأة اللبنانية في الشرق، الارجح ان لديه شيئا من ذلك، فان نقول المرأة اللبنانية نصبح امام سحر آخر للخصوصية اللبنانية، هذا السحر الذي بدأ مع هجرة آسيا داغر الى مصر، ثم مع «الاسطورة» صباح والشقراء ليز سركسيان (او ايمان) وجورجينا رزق في الافلام المصرية، ولم ينته السحر مع هيفاء وهبي ونانسي عجرم ونيكول سابا ونور ومايا نصري، وغيرهم مثل هؤلاء اللواتي يخطفن الجمهور من المتعطش الى التلصص، ما يقوله السطح هو الجوهر كما يعبر احد نيتشه، «المرأة المتلفزة» جزء من الشخصية اللبنانية، وبقدر سحر هذا المرأة في النسيج الاجتماعي بقدر ما تشكل إرباكا للمجتمع نفسه، فالذي يحب هيفاء وهبي يقف حائرا اما صوتها واغرائها، وهي ورطة الشعار نفسه، انها فعل الحداثة مقرونا بالوفاء للارث القبلي.
سانتياغو نصار أو انتهاك شرف العائلة
تجمع بطلة كويليو تناقضات العالم في شخصيتها، وهي لا تذكر القارئ ببعض الفتيات اللبنانيات وصورتهن المتلفزة، وشهرتهن الاباحية والاغرائية والفضائحية فحسب، بل تذكر بسانتياغو نصار بطل رواية «قصة موت معلن» للكولومبي غابريال غارثيا ماركيز، وان اختلف البطلان، قصدنا القول ان الشخصيات اللبنانية باتت تستلهم الروائيين خصوصا في اميركا اللاتينية، لم يكن غريبا ان نقرأ فصلا كاملا عن اللبنانيين في البرازيل في رواية لخورخي امادو، او في رواية لايزابيل الليندي او ماركيز وغيرهم. ربما بقي بطل ماركيز ساطعا لانه «السهل الممتنع»، او لأنه المثل على حياة التناقض نفسها، فسنتياغو نصار اتهمه الاخوان بيدرو وبابلو فيكاريو بانتهاك شرف العائلة المتمثل في أختهما إنجيلا فيكاريو والتي حصلت على الطلاق بسبب عدم عذريتها بعد خمس ساعات من زفافها من باياردو سان رومان ولهذا قرر الأخوان بيدرو وبابلو فيكاريو قتل سانتياغو لغسل شرف العائلة بمديتين تستخدمان لذبح الخنازير. ولم تكن توجد أدلة قاطعة تثبت بأن سانتياغو نصار تحديداً هو الذي قام بانتهاك شرف إنجيلا فيكاريو. ورغم أن جميع أهل القرية كانوا يعلمون بنية الشقيقين بيدرو وبابلو فيكاريو لقتل سانتياغو إلا أنه لم يحذره أحد بنواياهما. بعيدا عن الموت المعلن، بماركيز يبدو انه اختار شخصية لبنانية حقيقية وكتب عنها.
«الشقيقان»
الشخصية اللبنانية او الحداثة الوفية للإرث القبلي نجدها في روح ابداعات كتاب من جذور لبنانية. حين كتب الروائي اللبناني الاصل ميلتون حاطوم المولود لمهاجر لبناني وأم برازيلية روايته «الشقيقان» ترجمت الى العربية وصدرت لدى دار الفارابي، كان يدرك التناقض اللبناني، او الثنائية بين الالتحاق بالغرب الحداثوي والتعلق بالشرق التقليدي. تدور احداث الرواية في مدينة مانوس البرازيلية داخل مجتمع المهاجرين اللبنانيين والعرب الذين يشكلون اليوم أقلية مؤثرة جدا في البرازيل. ويطلق على المواطنين في أميركا اللاتينية من ذوي الأصول العربية إلى اليوم اسم الأتراك نظرا لقدوم أوائل المهاجرين إلى هذه الدول خلال فترة الحكم العثماني وكانوا لذلك يحملون وثائق سفر صادرة من الدولة العثمانية. وبطلا رواية الشقيقان هما عمر ويعقوب، ابنا مهاجرين لبنانيين، تعرض الرواية لحياتهما وتطورها كجزء أصيل من تاريخ البرازيل، واحد منهم يبقى في البرازيل والآخر يعود الى لبنان حرصا على الجذور هنا تبرز مشهدية الواقع اللبناني والوفاء للإرث القبلي.
تعود جذور حاطوم الى منطقة برج البراجنة في الضاحية الجنوبية قبل مجيء «حزب الله»، لكنه ولد في البرازيل عام 1952. غادر جدّه بيروت الى الامازون في بداية القرن العشرين خلال حقبة اكتشاف المطّاط. بقي لبضع سنوات في ريو برانكو (عاصمة ولاية آكر في الامازون الغربية)، ثم عاد الى بيروت. اخبر اولاده عن مغامرته البرازيلية، فراودت والد الروائي رغبة في ان يكتشف البرازيل بدوره. هكذا سافر اليها مع نسيبه سعيد فرحات عام 1939. وفي مانوس، تزوّج من امرأة مولودة من اب مسلم من جنوب لبنان وامّ لبنانية كاثوليكية من البترون تدعى اميلي حوّاط. خلال السبعينات من القرن الماضي، عاش في ساو باولو حيث درس الهندسة. عام 1980 حصل على منحة للدراسة في مدريد، وبين عامي 1981 و1983، عاش في باريس حيث درّس الادب الاميركي اللاتيني في جامعة «سوربون نوفيل» (باريس ٣). كتابه الأول، «قصص من الشرق»، حاز جائزة «جابوتي» لافضل عمل تخييلي لعام 1990، بالاضافة الى اهم جائزة برازيلية للأدب القصصي.
تعددت أسباب الهجرة العربية (اللبنانية والسورية) إذ هرب المسيحيون (الكاثوليكيون، المارونيون، والأرثوذوكسيون) من الإمبراطورية العثمانية، إلا أن الغالبية العظمى، هاجرت سعيا وراء حياة أفضل. قلة هم المستعدون لترك بلدانهم للأبد وللتكلّم لغة أخرى مع علمهم أن لغتهم الأم ستكون محصورة في حلقة صغيرة من الأهل والأصدقاء داخل جماعتهم.
كان العجائز المسنون يروون حكايات عن الخروج، التنقلات، الرحلات الطويلة، الأعمال التجارية على ضفاف أنهار بلاد الأمازون. وكانت تلك وقائع ملأى بالمغامرات والأخطار تخيّم عليها، كالحتمية، رغبة الاستقرار والنجاح في البلد الجديد. كان والدا ميلتون وجدّاه لأمه يتحدثون العربية، إلا أن والدته لم تلفظ كلمة واحدة بلغة والديها، لكونها برازيلية. لذا كانت العربية بالنسبة لي أشبه بلحن مصنوع من نغمات أليفة، لكن قصية، ما لبثت أن تحوّلت شيئا فشيئا إلى مجموعة من الأصوات تستدعيها الذاكرة تدريجيا مع رحيل القدامى. كانت اللغة الفرنسية أسهل متناولا لأنها أقل صعوبة، ولأن جدته إميلي كانت تحكيها بالتناوب مع العربية: لقد تابعت تعليمها في ثانوية فرنسية في بيروت. كان جده يسألها دائما: «لماذا تتكلمين الفرنسية مع حفيدنا؟ إنها لغة المستعمر». فكانت تجيبه بالفرنسية: «حسنا يا كبيري»، مقلّدة بامتياز اللكنة العربية.
الهجرة من خصوصية الشخصية اللبنانية قال ميشال شيحا قائلا: «بدون هجرة لا يمكننا الحياة، لكن إذا أضحت الهجرة كبيرة فيمكن عندها أن نموت»! المهاجرون بشكل عام يجهدون لإيجاد مكان لهم في البلد المختار. إنهم يعملون ويوفرون مبلغا من المال حالمين باللحظة التي ستمكنهم، ولو مؤقتا، من العودة إلى مسقط رأسهم. وهم يقيمون على الحدود الثقافية: بين لغتين، وبين ثقافتين. جملة طويلة تقال بالعربية، تتبعها أخرى قصيرة ببرتغالية غير متمكّنة، مترددة، غير دقيقة. ومع ذلك، تنتهي الأغلبية العظمى إلى خلق جذور لها في البلد الجديد، في حين يتخلى الأبناء تدريجيا عن الأواصر التي تربطهم بأرض آبائهم. لذا تعني الهجرة فقدان جزء من الأصول والاندماج في الثقافة الجديدة. إن موسيقية وإيقاع اللغة العربية والفرنسية أليفان بالنسبة لي، إلا أن لغتي الأم هي البرتغالية؛ البرتغالية البرازيلية، مع لكنة الأمازونا»، تراكيب جملها ومفرداتها». يقول حاطوم «يصعب تحديد من نحن، إلا أن برازيليا من أصول مهاجرة، أيا كانت أصوله، لن يشعر بالغرابة وبالغربة اللتين قد يحس بهما ابن مهاجر تركي في ألمانيا أو باكستاني في إنكلترا. ذات يوم خلال محاضرة لي في مكتبة الكونغرس في واشنطن حول روايتي الأولى، رأيت ملصقا كتب عليه: «الكاتب اللبناني ـ البرازيلي». فلفتتُ نظر رئيس الجلسة إلى أن هذه الصيغة لا تملك أي معنى في البرازيل.
– لماذا؟ سألن.
– لأننا لا نعتبر أنفسنا أفريقيين ـ برازيليين، إيطاليين ـ برازيليين، يابانيين ـ برازيليين أو عرباـ برازيليين. نحن لا نقيم هذه الفوارق ولا نصنّف الناس تبعا لأصول أو لإثنيات هذه المجموعة الاجتماعية أو تلك، بهدف تمييزهم عن الآخرين. إن تمييع الأصول هو في أساس تكوين المجتمع البرازيلي. وهذا معناه الخليط، رفض الهويات الصارمة المتحجرة، واستيعاب ثقافات متنوعة غير مصنفة تراتبيا. من هنا أهمية تعايش مختلف الإثنيات، من مختلف الأصول، حتى ولو بدا ذلك طوباويا. ففي مطلق الأحوال، التهجين والاختلاط ليسا حكرا على البرازيل أو على أميركا اللاتينية، هما أيضا جزء من ماضي أوروبا».
ثمة اسماء كثيرة من اصول لبنانية في اميركا اللاتينية من رضوان نصار الذي لم يحظ إلا بترجمة إحدى قصصه القصيرة إلى العربية وهي «اليوم فجرا» بالرغم من أنه يتعرض في روايته «الِفلاحة العتيقة» للأقلية اللبنانية التي هاجرت إلي البرازيل وأصبحت جزءا أساسيا من ذلك المجتمع، والعمل يعكس وينقد أيضا الوضع السياسي بالبرازيل في السبعينيات. رضوان نصّار (يتقاطع اسم العائلة مع عائلة سانتياغو نصار بطل رواية ماركيز). عرفنا عنه للمرة الاولى عندما كتب عنه الراحل سلام الراسي، عن بلدة ابل السقي تحديدا البلد الاصلي لنصار، يمثل هذا الكاتب حالة خاصة في الحركة الادبية البرازيلية الحديثة، لكنه لم يترجم الى العربية.
رحلة عائلة من لبنان
باتت العالمية اللبنانية حاضرة بقوة في الادب العالمي، ليس عند ميلتون حاطوم ورضوان نصار فحسب، فاللبناني الذي ارتبط اسمه بالهجرة بات له ادبه المهجري، الذي يعكس خصوصية ما عن لبنان، بل ويعكس حداثة ما ثمة من وصفها بأنها اقرب الى «الضيعوية»، فجبران ابن بلدة بشري تأثر بوليم بليك، الريحاني المهاجر الآخر والملقب بـسفيلسوف الفريكة» تأثر بوالت وايتمان وحققا ثورة شعرية في المدرسة التقليدية. وهناك عشرات العالميين من اصل لبناني من امين معلوف الى ديفيد معلوف وجورج شحادة واندره شديد وربيع علم الدين وايتل عدنان وياسمينا طرابلسي والماظ ابي نادر وخايمي سابينس وياسمين غاتا، والكثير من الكتاب والكاتبات. المتأمل في نماذج من اعمالهم يبين واقع الشخصية اللبنانية واصلها وفصلها، فإلماظ أبي نادر مثلا التي ولدت وترعرعت في بلدة صغيرة في جنوب غرب ولاية بنسلفانيا تدعى كارمايكل، تشتهر بمناجم الفحم، قد روت قصة عائلتها في مذكراتها التي شكلت معلماً أدبياً وظهرت بعنوان «رحلة عائلة من لبنان». يدور الكتاب حول المجاعة التي حلت في لبنان إبان الحرب العالمية الأولى. كما يتحدث عن رحلات عائلتها ذهاباً وإياباً بين لبنان والعالم الجديد، بما في ذلك عمل والدها كبائع متجول على نهر الأمازون في العشرينات من القرن الماضي. تقول إلماظ في حديثها عن حياتها وتجربتها الإبداعية. «لم ينقض وقت طويل قبل أن أدرك أن إظهار عروبتي قد عمل على جعلي أبدو دخيلة، ففي منهاج الدراسة لم يكن هناك أي شيء عن الكتابة العربية وفي التلفزيون لم يكن هناك شخص له علاقة بلبنان سوى داني توماس، وأصبح لورانس العرب الإشارة المميزة لثقافتي. في الوقت نفسه كشفت الأحداث في الشرق الأوسط عن مشاعر مناوئة للعرب، وازدادت هذه المشاعر سلبية بمرور الزمن ووصلت حد الريبة وعدم الثقة حتى من جانب زملائي. واصلت الكتابة. قصيدة عن هجرة أمي من لبنان وتوطنها في الولايات المتحدة، وقصة عن حياة جدي كلاجئ خلال الحرب العالمية الأولى، ومغامرات والدي كتاجر مطاط في البرازيل أيام شبابه أصبحت مواضيعي المفضلة وانطلقت مني تلقائياً هذه القصص والأشعار كما لو أن التاريخ برمته كان محتبساً في داخلي. على أن كتابتي كانت لا تزال داخل الباب. في الخارج، في قاعة المحاضرات، في برنامج البكالوريوس والماجستير، بعد عدة سنوات، كان الأدب الذي نقرأه غريباً عن إحساسي الطبيعي غربة باربي في سنوات طفولتي، كانت نماذج الكتاب تشمل عدداً لا بأس به من المؤلفين المنتمين لهوية أوروبية والذين كتبوا بإجادة حول مواضيع تتصل بالثقافة الأميركية السائدة. أما أنا فقد انصرفت في كتابتي إلى رواية قصص الأطفال الذين ماتوا خلال الحصار العثماني لقريتنا في لبنان. كنت أحس في شِعري بموسيقى غريبة عن السمع الأميركي، وجاءت الصور التي نسجتها في كتابتي موشاة بالتفاصيل اللامعة وأكثر ثراء من الكتابات الأخرى في السبعينات. على أني لم أشعر بالترحيب خارج الباب»، ما تقوله الماظ جزء من صورة اولية للشخصية اللبنانية.
ربطة العنق
يخبرنا الروائي الاسترالي ديفيد معلوف عن نفسه في سيرته «12 إدموندستون ستريت» انه مولود في برزبن لأب لبناني وأم بريطانية إلا انه لا يفخر ولا يتحمس لأي من هذين الانتمائين كما انه لا يتحمس للانتماء الى استراليا، كما جاء ذلك التنكر صريحا في إحدى المقابلات التي أجرتها معه إحدى الصحف المحلية العربية التي قدمته لقرائها معتزة بجذوره اللبنانية فكان رده: «أنا لا انتمي لأي بلد او عرق او جغرافيا. إنّ انتمائي الوحيد هو للغة». وجاء أيضاً على لسان بطله في رواية «جونو» التي يعتبرها النقاد شبه سيرة ذاتية: «ما هذا الامر الغريب في ان اكون هنا بدلا من اي مكان آخر، لو ان والد والدي لم يحزم حقائبه هربا من التجنيد الاجباري الذي كانت تفرضه تركيا لو ان اهل امي لسبب من الاسباب لم يتركوا منزلهم الارستقراطي في نيو كروس ويأتوا إلى مناجم الذهب في جبل مورغن، لما كنت استراليا. إنه أمر حصل لي بالصدفة فقط».
وخلافا لما نراه في ادب الكثيرين من إعلاء لقيمة المكان الذي نشأوا وتربوا به فإن معلوف هجا برزبن واستخف بقيمتها المادية والمعنوية على حد سواء، فهي عنده المدينة البليدة الغارقة في التقليد والتحجر، بيوتها واهلها واسواقها لا تثير في النفس اية مشاعر خاصة، ما هي بالرومانسية ولا الكريهة البغيضة. إنها مدينة عادية كأي مكان اخر في العالم: برزبن لم تكن شيئاً. مدينة لا تنفث حراً ولا صقيعاً. نشأ معلوف مقيداً بقيود الطبقة الوسطى وتوحي كتاباته انه لم يكن فخوراً بهذا الانتماء: «عندما أفكر بنفسي وانا في سن الثالثة عشرة، أرى صورة مرتبة جادة بربطة عنق مستقيمة حسب التقليد الشائع (والدي يكره ربطة عنق وندسور) أظافر نظيفة كنت أُمنع من قضمها بان يوضع عليها مادة مرة. فرق (في الشعر) واضح على الشمال، قمصان حرصت كاسي (الخادمة) على تنشيتها بحيث اصبح من الصعب علي التحرك بداخلها، إحساس بالرضى عن النفس الى درجة الاعجاب الشديد. لم ازل امقت السيد منزيس، وعصبة الادخار الكمونولثية، وشيء ما التقطته من اجتماعات عصبة الامل على شاطئ سكاربورو «حتى العبد حر تحت العلم البريطاني». ولكني فقدت كل ايمان بسانتا كلوز وبقوة سائل الاوكسجين في شفاء الثآليل. بدأت اشكك بتعاليم الكنيسة الكاثوليكية وحررت نفسي من خلال التجارب العملية المتكررة من المفهوم الغريب الذي يقول انني في مداعبة نفسي زمن تحتز قد يؤدي الى سقوطه. ولكني لم اكن كليا قد اسقطت الاحتمال من ان هذا قد يقود الى العمي».
طرد اتاتورك الاله من البلاد
تكتب ياسمين غاتا في «ليلة الخطاطين» قصة شغف جدتها العثمانية بالخط العربي وتكريسها حياتها له بينما كانت تركيا من خلال جمهورية كمال اتاتورك قد تخلت عنه. وهي في الوقت نفسه تسجل بحسرة وألم رومانسي زوال ذلك المناخ الفني وروحيته وهالته التي مثلها الخط العربي ومتفرعاته الفنية العديدة وتلتقي دون قصد كما يبدو، رجال النهضة العربية الذين وقفوا في وجه التتريك من خلال تمسكهم بلغتهم التي انزل بها القرآن. فالجمهورية التركية استبدلت عام 1928 الكتابة العربية بصيغة معدلة للابجدية اللاتينة. وقدمت الابجدية الى مصطفى كمال على لوح من ذهب. الخط العربي كان يتسم بالقدسية كما يحلو للجدة ان تعبر، فالاله لا يهتم للابجدية اللاتينية: نفسه الكثيف لا ينزلق فوق هذه الحروف المفصلة والقصيرة القامة». ويرد الخطاطون القول: «طرد اتاتورك الاله من البلاد». فـ«الذئب الرمادي» المعجب بالثقافة الغربية وعدو الامية بات ممسكا وحده بزمام السلطة فاصلح الكتابة باستبدالها كما يستبدل حليب الأم. انجرح الخطاطون وكذلك القرآن. منع استخدام العربية في المعاملات الرسمية، والكاتبة ان الخطاطين كانوا يقدسون الخط العربي.
ياسمين غاتا هي ابنة الشاعرة والروائية اللبنانية فينوس غاتا الخوري. وقد ولدت في فرنسا عام 1975 ودرست فيها تاريخ الفن الاسلامي. ترصد جذورها المتعددة من الابوين والاجداد. عاشت حياتها في فرنسا ولم تتقن اللغة العربية. لكن منذ طفولتها «بدأ الشرق مفعوله السحري، بوجهييه اللبناني السهل المنال من خلال عائلة لا تزال على قيد الحياة من خالات وابناء خالات، وتركيا الغامضة بأشخاصها الذين رحلوا». وضعت ياسمين سيرة العائلة من خلال مهنة الخطاطين، اجواء الرواية تحمل شبها بأعمال تناولت «حرفا» تحولت الى نوع من الفنون قبل ان تقضي عليها الحديثة ومن ذلك عمل الروائية اللبنانية هدى بركات «حارث المياه» وحديثها عن شغف بطلها بالاقمشة شغفا كأنه تعبد فني وقد ورث هذا الحب عن ابيه واجداده. يرافقنا في الروايتين شعور متشابه بالفقد والالم وبعمل الزمن في النفوس والحرف والمهن ومن خلال ذلك بحياة الناس وتوازنهم النفسي احيانا. فالشغف بالأقمشة انتهى مع صعود «من النفط والبولياستر. ايضا تذكرنا رواية ياسمنيا بأجواء رواية الفراشة الزرقاء التي كتبها ربيع جابر عن صناعة الحرير في جبل لبنان.
تقول غاتا «انطفأت في 26 نيسان (ابريل) 1986 عن ثلاثة وثمانين عاما. كانت اسطنبول تحتفل بعيد الزنبق في امير جان. صبيحة اليوم نفسه ابلغ ابني نديم وفاتي الى الدوائر البلدية في بكلربكي القرية الساحلية المتربعة على الضفة الاسيوية للبوسفور. كان رحيلي بلا مشاكل كما كانت عليه حياتي. لم اخف الموت مرة فهو لا يقسو الا على من يخشونه. لا صراخ ولا دموع. جاء موتي لطيفا لطف القصب عندما تغط اليافة في المحبرة. وجاء اسرع من الحبر يشربه الورق. حرصت على ان لا اخلف ورائي اي فوضى. رتبت حياتي وادوات الخطاطة التي كنتها».
في وصفها عملية الكتابة نجدها مستغرقة في حالات فنية وتنقل الينا تجاربها فنجد انفسنا في عالم «تشخيصي» تعرضه بهدوء ولطف مؤثرين وتتحدث عم عمل عادي فتحوله الى حالة جماة حية. تقول مثلا «طلابي يرصدون حركاتي الدقيقة. صبغت الورقة. غطيتها بمحلول لاصق. بللتها بالمغلي وطليتها بطبقة تحول دون تغلغل الحبر في اليافها. رسمت السطور بواسطة خيطان مشدودة على مسافات متساوية وسلمت يدي الى لغة النبي والى القلم الذي راح يرسم الذيول السوداء السميكة لحروف حديث شريف. رأيت الحبر يرقد ويستبق الاوامر. شرعت في التدوين فانكمش رأس القصب حزنا ليغرق ألمه في المحبرة. فجأة بدت له المهمة فوق طاقته. يقال ان بعض الأقلام تخدش طرفها. تجدعه. حتى يسيل الدم فتضع حدا لوظيفة الجلاد المناطة بها».
شاكيرا او قوة ارضية في خدمة السحر
شاكيرا، الاكثر تعبيرا عن الشخصية اللبنانية، هذا هو واقع الحال هذا واقع التناقض والتعقيد والسحر، حين اشتهرت المغنية الشقراء كثر الحديث عن جذورها، او عن اصلها وفصلها. السؤال ماذا لو كانت شاكيرا فاشلة وغير مشهورة هل سنعود الى نسبها ام ستبقى في مغمورة في المنفى؟ هكذا اللبناني شديد الحماسة لمغادرة بلاده وشديد الحماسة لاعلان الانتساب اليه لأن في ذلك شيئاً من التقليد والفصامية، او شيئاً من «السحر الثقافي». لقد عبر القاص الفلسطيني محمود شقير عن هذه ظاهرة شاكيرا والنسب، من خلال قصته «صورة شاكيرا» التي صدرت عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر. قصة تبين مشهد الحماسة القبلية للشهرة والنفور التقليدي من «البنت المتحررة»، فالجد لا يحتمل ان تكون قريبته راقصة، ولكن ابناء عائلة شاكيرات الفلسطينية يصبحون ابناء ذوات لأن شاكيرا منهم، هكذا تقول قصة شقير، وهذا هو الواقع.
شاكيرا العالمية من السلالة اللبنانية، اسمها الكامل هو شاكيرا إيزابيل مبارك ريبول، وقد ولدت في الثاني من شباط (فبراير) 1977 في بارانكولا – كولومبيا، من عائلة فقيرة. طردت من المدرسة لأنها كانت ترقص بطريقة «خلاعية» لم تعجب إدارة المدرسة، فانتقل أبوها للعيش عام 1990 في العاصمة الكولومبية بوغوتا لتبدأ بالبحث عن عمل في مجال عرض الأزياء. لا نريد الحديث كثيرا عن فنها، فهي غنية عن التعريف، ما نود التلميح اليه انها مزجت بين حركات هز البطن الشرقي بموسيقى البوب اللاتينية، قالوا انها كانت سببا في «عولمة الرقص الشرقي»، اخرجته من إطاره الضيق، الى رحاب العالمية والفن، جعلت هز الارداف والبطن سحر الشعوب، تقف على المسرح، تقول «إني أسد في غابة»، «تشفط» عقول المحبين ليس برقصها فحسب بل بلكنتها الهجينة ولغاتها المتعددة، انها تشبه لبنان نفسه، بل تزيده سحرا وعالمية، هي الاتية من جذور «زحلاوية» ينطبق عليها القول السعيد عقلي، «فلنزحلن لبنان ولنلبنن العالم». شاكيرا «ابنة عمنا»، تقول أحب أن أرى عيون الناس وأنا أغنى لهم. وبعض الوجوه التي لم ترها قط سوى بين الجمهور تتذكرها دائما فيما بعد كوجوه أصدقاء حميمين.
تتكلم شاكيرا الاسبانية والانكليزية والبرتغالية بطلاقة. ويمكن لها أن تدير شؤونها بالإيطالية والعربية تعرف بعض الشتائم بهذه اللغة الأخيرة فقط. تمتلك إحساساً شاعرياً بالأشياء من حولها، فهي سريعاً ما تقتبس كلمات من بودلير وماركيز.
سألت أنت رمز جنسي أيضاً. ما الذي يعجب الرجال فيكِ؟
اجابت:
ـ أنا لا أتعاطى بالأوهام. رجال أميركا اللاتينية يُعرف عنهم ولعهم بكرة القدم، وهم يريدون أن يشاهدونني فحسب. تضيف: أنا فتاة مطيعة. تربيت على أيدي رهبان كاثوليك. أقدم موسيقى بملابس مثيرة. هذا هو كل شيء. أنا لا أبيع أفلاماً هابطة في غرفة ما في أحد الفنادق مثل باريس هيلتون».
تعتبر شاكيرا المراوغة مكانها المفضل للاستماع إلى الموسيقى هو سيارتها الخاصة وبصوت عال ولكن دون إزعاج أحد، عندما سألها أحد الصحفيين: متى تتزوجين؟ اجابت ضاحكة :سإني أخاف من الزواج أكثر مما أخشى الموت». اما ماركيز فكتب عنها «انها النموذج الأمثل لقوة أرضية في خدمة السحر».
خاتمة
لا يسعنا سوى ان ننهي هذه العجالة حيث بدأنا. والحال ان قارئ نص «في ظلال الأرز» ليوسا يحسب أن كاتبه عاش في لبنان ردحاً من الزمن وعرف مكنوناته وتركيبته قبل ان يحمل قلمه ويشرّح الشخصية اللبنانية في مقالة مقتضبة ومكثفة، ربما هي زبدة كتاب او مسودة لمشروع مستقبلي وإضاءة على نموذج من احوال المجتمعات في العالم. يوسا الأميركي اللاتيني الذي زارنا اخيرا، بدا من خلال مقالته كأنه يعرف لبنان من قبل، يفهم تركيبته وحين قدم إليه عليه إلا ان يلمسها من خلال نصه، كأنه سبق له ان قرأ ميشال شيحا وسائر الذين تحدثوا عن «الهويات اللبنانية». كان على يوسا ان يشاهد كورنيش بيروت البحري غير المتناهي، بناطحات سحابه، وأنهار السيارات التي تذرعه، والحشود المتنوعة على أرصفته حيث تظهر، جنباً إلى جنب، نساء محجبات من القدمين حتى الرأس، وفتيات جميلات تتطاير شعورهن مع الهواء، ويكشفن عن بطونهن، وأذرعهن، وأفخاذهن، وظهورهن، بطلاقة الباريسيات أو النيويوركيات، وليس صورة الكورنيش في عيني يوسا ببعيدة عن الصورة التي التقطها بلات في الضاحية الجنوبية، او صورة الفتاة التي شخصها كويلو في رواية «ساحرة بورتبلليو» او في شخصية المغنية صباح. ما لاحظه يوسا في مشواره اللبناني هو اجتماع التناقضات في مكان واحد، وفي الشخص الواحد، يسأل أي شيء هو أمين معلوف؟ أهو لبناني، لأنه ولد في قرية جبلية في هذه البلاد، حيث تقيم أسرته منذ قرون، ولأن العربية هي لغته الأم؟ أم أنه فرنسي، لأنه يكتب بهذه اللغة ويعيش منذ ثلاثين سنة في فرنسا؟ ليست التناقضات في اجتماع الكورنيش البحري او في هوية أمين معلوف بل في منزل وليد جنبلاط الذي زاره يوسا، حياة زعيم الأقلية الدرزية المحاطة بالموت لم تحرمه من السخرية، إنه شخصية مثيرة للفضول يبدو كما لو امتزج فيه سيد إقطاعي، ومثقف متهور وكزموبوليتي، نبي وحتى في بيته علق الصور المتناقضة بين الداعية الى الحرية والدكتاتورية.
الارجح ان النسيج اللبناني، والتناقضات اللبنانية تشبه كتابات يوسا نفسها وصولا الى مواقفه السياسية، بات «على الموضة» كما يكتب بعضهم لا سيما منذ زيارته الأخيرة «التفقدية» لبعض بلدان المشرق العربي، وتصريحاته الملتبسة عموما، وهو اصدر كتابا عن فلسطين وإسرائيل خلال اللاحقة الأخيرة عن مشاهداته خلال زياراته، والمعروف أن يوسا بدأ يبدل موقفه جذريا في بعض المجالات منذ إخفاقه في الحملة الرئاسية التي خاضها في بلاده ضد الياباني الأصل فوجيمورا، متهما يومها الأميركيين بخذلانه والتسبب، في خسارته، مهما يكن من أمر فإن يوسا السبعيني اليوم، كان دائما متقلبا من الناحيتين الفكرية والسياسية. في المقابل لا يمكن إنكار انه ثابت على أمر محدد، وهو كونه واحد من كبار كتاب الرواية في العالم، وفي نصه عن لبنان يتراءى لنا انه «لبناني أبا عن جد».
محمد الحجيري
كاتب من لبنان