تتميز اللغة بأنها رغم الثبات النسبي لمددتها، والمتمثلة في الحصيلة المعجمية للكلمات وذلك في مدى زمني محدود ،بأنها تستطيع أن تضفي على نفسها أشكالا عدة من خلال تعدد وظائفها (البلاغية – القانونية – الطقوسية – العاطفية …) وما يهمنا في مجال دراسة الخطاب الشعري بالأساس ، هو رصد الازاحة اللغوية التي تنشأ نتيجة للانتقال من المستوى الابلاغي للغة الى مستواها العاطفي.. في الأول لا تقدم اللغة سوى المفاهيم المجردة ، أما الثاني فيتطلب الرؤيا، ومن الطبيعي أن الانتقال من المفاهيم إلى الرؤيا يؤسس إزاحة ما داخل اللغة ، كلما اتسعت تلك الإزاحة اقترب النص خطوة أخرى من الشعرية . فكل فن – من خلال الإزاحة – يتجه الى الشكل الخاص المميز له : الشعر نحو الشاعرية ، والفن نحو التجريد. وقد يتصور البعض أن شاعرية الشعر هي مرادف لتجريد الفن ، لكن الشعر يتجه في لحظة اكتماله _ باتجاه التجسيد، حيث إنه انتقال من التفكير بالتصورات الى التفكير بالصور ، التصورات هي تجريدات ذهنية ، أما الصور فهي تجسيد لتلك المجردات داخل الذاكرة ، وبالتالي فإن الازاحة اللغوية لا تبتعد عن الواقع ، لكنها تتخلله ، فاذا كانت الوظيفة الابلاغية تصف الأشياء كما تدركها الحواس ، فإن الشعر يصفها كما يدركها الحدس ، وبينما تطمس الحواس حقائق الأشياء ، فان ادس ظيفة الانفعالية منوطة بأن تجعلنا نتحقق منها .
ومن الطبيعي إذن أن الإزاحة اللغوية ، بمعنى الخروج عن العرف اللغوي للوظيفة الإبلا غية للغة ، لابد أن يتبعها نوع من الغموض ، يتسع كلما اتسعت مساحة تلك الإزاحة ، على اعتبار أن تغيير وظيفة اللغة يستتبعه تغيير منطقها داخل تلك الوظيفة . وتصبح مشكلة الغموض الشعري رهنا بالتعامل مع الوظيفة العاطفية الانفعالية للغة ، بنفس منطق الوظيفة الابلا غية ، ولأن المنطق الابلاغي يعتمد أساسا عل القياس وعلى روابط السببية بين عنامو الكلام ، وكذا على العلاقة المعجمية الثابتة بين الدال والمدلول ، فإنه ان الطبيعي لمنطوق اللغة العاطفي الذي يعتمد على المجاز والخيال المنتج وفض الاشتباك بين الدوال ومدلولاتها، أن يعطل فعالية الذاكرة ، ليؤسس بدلا منها فعالية المخيلة .. الأولى تعتمد على الرصيد التاريخي للفة والثانية تصنع لها رصيدا عاطفيا مغايرا، كذلك فإن الذاكرة الشخصية هي جزء من الذاكرة الجمعية لكن المخيلة الشعرية على العكس – فردية بطبيعتها لذلك فإنها تصطدم بذاكرة الجماعة ، كلما كانت فعاليتها – وبالتالي عريتها – أكبر.
وربما للأسباب السابقة وحدها ، تظل الذاكرة الجمعية متعاطفة ومرتبطة مع الشعر الكلاسيكي، حيث إن منطق )القصيدة الكلاسيكية يطل هو نفسا منطق الحياة ، ويصبح الشعر هو حامل الحكمة والمثل الأعلى الاجتماعي، فمن خلال تلك القصيدة ، فإن الشاعر كما يرصد ابن رشد _ يرتبط بالسامع من خلال "فكرة التوقع"، ونظرا لأن هذا الشعر موزون ، فإن "قائله إذا ابتدأ بصدره فهم السامع عجزه للمناسبة بينهما والمشاكلة قبل أن ينطق به القائل . واذا نطق به بعد، فكأنه لم يأت بشيء جديد لم يكن عند السامع من تبار" وحين يتصور ابن رشد أن هذا السامع يقل اقتناعه – نتيجة للتوقع – بالمضمون الشعري للقصيدة ، فإن نفس هذا التوقع هو الذي يجعل السامع يتعاطف أيضا مع تلك القصيدة لأنها تمنحه لذة من نوع خاص .. لذة مطابقة أفق القصيدة مع أفق الانتظار لديه ، لأن كلا الأفقين ينتظمهما منطق واحد، وهو المنطق الابلاغي للغة .
وعلى العكس من القصيدة الكلاسيكية ، فان الشعر الحديث ينفي تماما فكرة التوقع بين النص والقاريء، حيث تتخذ فيه فعاليات الرؤية الحديثة _وهي المعادلة للمنطق الفني_ عدة أشكال للازاحة :
"الشكل الأول : شكل الازاحة المكانية ، حيث يزيح النص الشي ء عن المركز، ليركز بدلا منه على ما يرتبط به ارتباطا مجازيا.
الشكل الثاني : هو شكل التغييب عن طريق تحويل الشي ء ال وجود رمزي صرف ، وتنمية النص حوله عن طريق استعاري.
الشكل الثالث : هو شكل الحوار الدائب بين محورين يمثلان إحداثيا الشي ء: محور العادي / الكنائي ومحور السامي/ الاستعاري، أي محور الدال ومحور خفي الدلالة .. محور التسمية ومحور الترميز. ويمكن إعادة تسمية هذه الأشكال على نحو آخر، كالآتي:
الانحراف عن الشي ء ، وتحويل الشي ء الى وجود رمزي والانحراف بالشي ء من محور الى آخر. وهذه الأشكال طرق مختلفة تسهم في النهاية في انفتاح النص " (2) وعلى ذلك ، فإن الغموض في القصيدة الحديثة ينتج عن عدة أنواع من الازاحة اللغوية :
"تركيبة : تتعلق بتركيب الجملة الشعرية .
دلالية : تتعلق بدلالة المفردة التي تعيد انتاج دلالية السياق لم النسق . مضمونية : حيث تتأسس للجملة عناصو دلالية جديدة .
شكلية : وتتمثل في اتساع مساحة العلاقة بين مفردات الجملة ودلالاتها على المستوى التركيزي.
إحلالية : وتنشأ عن إحلال الخيالي محل البلاغي"(3).
ولعل أهم هذه الأنواع من الازاحة هو الازاحة الدلالية ، لأنها تتعلق بدلالة الكلمة المفردة الواحدة ، وهي الخلية الأ ولى للنسق ، السياق ومن الطبيعي أن أي تغيير في طبيعة الخلية سوف يؤدي – بالضرورة – الى تغيير في طبيعة النسيج . وتلك المفردات (العلامات ) تنتج أشكالا ،تحدث إزاحات متعددة بدورها وهذه الأنواع من الازاحة _ كما يتصورها جون بيرس _ تتمثل في :
"الأيقون : وهو علامة تشير الى موضوعها، على أساس تشابه بينهما. فخريطة مصر هي علامة أيقونية لجغرافية مصر.
المؤشر : وهو علامة تشير الى موضوعها من خلال ارتباطها الوجودي به – فمثلا الحمى مؤشر للمرض .
الرمز : وهو علاقة تشير الى موضوعها من خلال عرف ، أو اتفاق جمعي. فاللون الأحمر _ حسب الاتفاق المسبق _ يشير الى نظام التوقف في آليات نظام السير"(4).
وعلى الرغم من أن ما نصطلي عليه اليوم سر"الغموض"، و "الرؤية " لم يلتفت اليه النقاد العرب الأ تدمون ، إلا أن الفلاسفة . نتيجة إطلاعهم على أرسطو – والمتصوفة الذين ربطوا مفهوم الظاهر والباطن ان النص ، كان لهم أراء مهمة في هذا الصدد فابن عربي يدرك فكرة تعدد وظائف اللغة ، وهو – نتيجة لهذا الفهم – يشبه الرؤيا بالرحم فكما أن الجنين يتكون في الرحم ، كذلك المعني في الرؤيا . فالرؤيا نوع من الاتحاد بالغيب ، يخلق صورة جديدة للعالم أو يخلق العالم من جديد ، كما يتجدد العالم بالولادة (5)إذن ، فالرؤيا عند ابن عربي، كما يرصدها أدونيس،" هي نوع من الكشف أو هي ضربة تزيح كل حاجز ،ونظرة تخترق الواقع الى ما وراثه ، وهذا ما يسميه ابن عربي (علم النظرة ) وبما أنا يتم دون فكر أو رؤية ، ودون تحليل أو استنباط فانه يجيء بالطبيعة كليا، أي لا تفاصيل فيه ، ومن هنا يجيء بالتالي غامضا. فالغموض ملازم للكشف ، إلا أنه غموض شفاف ، لا يتجل للعقل أو لمنطق التحليل الفعلي وانما يتجل بنوع أخر من الكشف ، أي من استسلام القاريء له فيما يشبا الرؤيا، فنحن لا ندرك الرؤيا إلا بالرؤيا. فما يتجاوز منطق العقل لا يصح أن نحكم له أو عليه بهذا المنطق ذاته(6).
ومن خلال مجمل التصورات السابقة ، الحديثة أو الصوفية ، فإن اللغة تسزى مستويين للاتصال من خلال مظهرين للتعبير: "إما نقل حقيقة ، أو توليد عاطفة . والشعر هو مزيج بنسبة ما من هاتين الوظيفتين"(7) وللانتقال بالشعر من نتل حقيقة ما الى توليد عاطفة ، فان ارشيبالرماكليش يتصور أنه في الشعر يقال ما كان يعرفه الجميع من قبل ، بحيث لا يفهمه أحد ، واذ ينجح في ذلك يصبح ما يقوله مهما. وعلى ذلك فإن على الشاعر الا يترك نفسا لكي تجرفه الكلمات ، لكنه يتحدث عن حقيقة ما ليست خالية من المعنى، إلا منن وجهة نظر القانون الموضوعي وهي لابد أن تظل كذلك ، حتى ينسحب القانون الموضوعي من الذهن ليحل محله قانون آخر"(8).
لذا فانه يمكننا أن نعتبر أن الشعر لفة داخل اللغة ، ولهذا تختلف وظيفته التعبيرية عن باقي وظائف اللغة الأخرى، وهذه (اللغة الأخرى) ليست منقطعة عن باقي الوظائف ، ولكن يتم تحقيقها بمنهج الشعر، لا
بمنهج التعبير اللغوي. فدلالة الشر "تختلف عن دلالة اللغة الاتصالية وتلك الدلالة التي تنبع من بنيته الخاصة ، هي قيمة مضافة تكون أكبر من مجموع عناصره المكونة له . . لذا، فان الشعر ليس مجرد فعالية جمالية فقط ، وانما فعالية دلالية أيضا تنتج عن القيمة الدالية " المضافة " وفي مجال العلاقة بين اللغة والفكر، التي هي انعكاس للعلاقة بين الكلمات والتصورات الذهنية الناتجة عنها، تتعدد – بل وتتناقنى الآراء التي تفسر تلك العلاقة ، والتي يتأسس عنها بالضرورة إزاحة L. . فبينما يرق جون كوهين أن القصيدة لا يجب أن تحلل إلا عن المستوى الفكري فقط ، بإعتبار أن المستوى اللغوي لا يعدو أن يكون عرضيا ، فإن مالا رميه في المقابل يقرر أن الشعر لا يصنع هن الأفكار بل من الكلمات . وبالتالي ، فإن مستوى الاماتة عنده هو الأساس ، أما الأفكار فمجالها النثر. وهذا التصور لا ينفي عن مالا رميه أنه يستهدف أن يكون هناك معنى ما في الشعر، ليس ذلك المعني المبني على قواعد منطقية ، لكنه الناتبى عن العلاقة بين الصور في تزاوجها معا. فالصورة الواحدة تحدد شيئا ما إذ تتحدث عنه أو تصفة ، لكي ندركه بإحدى الحواس ، ثم توضع صورة أخرى الى جوارها، فينفجر معنى وهذا المعنى ليس معنى صورة منهما و( هو مجموع المعنيين معا، لكنا نتيجة للعلاقة فيما بينهما. وهذا التصور يتفق مع تصور جاكوبسون عن النص الشدي الذي يرى أنه نص يتميز بتقييم الامكانات اللغوية ، بحيث إن وظائف الكلام الأخرى تكاد أن تنمحي لتترك المجال لنظام من العلاقات الدقيقة بين عناصر الكلام .
وعلى جانب آخر فإن جون كوهين يتصور أن اللغة الشعرية ليست إلا مؤديا مقننا عن التجربة وبالتالي فإن أي خطاب تنتر عنه محميتان متوازيتان : الأولى : تذهب من الأشياء الى الكلمات ، وهي (التقنين ).
الثانية : تذهب من الكلمات الى الأشياء وهي (فك التقنين ).
لذا ، فإن "فهم الني .أي استري الفكري له – معناه الإدراك الجيد لما يختفي وراء الكلمات ، بالذهاب من الكلمات الأشياء ، وبالتالي فصل المحتوى عن التعبير ". أما أرشيبالد ماكليشر "حين يتناول بناء المعنى في الشعر، فإنه يفرق بينه وبين بناء المعنى في النثر، حيث إنه في الشعر" يفتقر الى النظام والارتباط المنطقيين ، وكذلك المقيتة المنطقية . وعل ذلك ، فإنه إذا أنفصل عن القصيدة أصبح بلا معنى. لكن هذا اللامنطقي يصب داخل القصيدة منطقيا ، حيث ندركه بلمسة من الشعور".
وهكذا يتفق ماكليشر مع الشكلانيين . خاصة شلوفسكي – في أن لغة الشعر لا تعمل من أجل أن يسهل علينا فهم معناها، بل تعمل على فلق ادراك متميز للشيء : خلق رؤيته ،وليس مجرد التعرف عليه وهذا ما جعل شلوفسكي يقرر أننا "عند الحديث عن مغزى كلمة ما، بحيث تكون هذه الكلمة صالحة بالضرورة لتيين مفاهيم ، فإن الأبنية غير الفعلية تبقر خارج اللغة . فالوقائع تدفعنا الى التفكير في التساؤل التالي : هل كان للكلمات دائما معنى في اللغة الشعرية ؟ ربما اذا استطعنا الاجابة على هذا التساؤل ، فإننا نكون بالفعل – قد استطعنا أن نتفهم الازاحة ، وأن نقنن مفهومنا عنها.
واذا كان تصور ما لارميه عن أن الشعر لا يصنع من الأفكار بل من الكلمات ، يستدعي أن نتعامل – ببعض الحذر، فإن تصور كوهين أيضا عن أن الشعر يصنع من الافكار لا من الكلمات ، يبدو بدوره متطرفا في
الاتجاه النقيض . فأحيانا ما تكون صيغة الشرط (إما .. أو) صيغة خادعة في مجال الشعر، ربما لأن الاختيار الأصوب قد يكون من خارج حدي الشرط ، وليس لأحدهما. وربما يكون الاختيار هو للعلا مات التي تربط بين الحدين . فنحن حين نقرر أن نشرب ماء، لا نختار جزيئا من الأيدروجين أو ذرة من الأوكسجين ، لكننا نختار التفاعل بينهما الذي هو _ في النهاية ~ ليس ايدروجين أو أوكسجين لكنه العلاقة (الكيميائية ) فيما بينهما. كذلك فإننا في الشعر لا نختار الإماتة على حساب الفكر، أو العكس ، لكننا نختار العلاقة بين الصوت (كإطار للفكر) والفكر (باعتباره محتوى الصوت )، على أن تكون العلاقة غير خاضعة للأبنية العقلية التي تحكم الوظيفة
الابلاغية للغة .
إن مفهوم الازاحة عند كوهين هو المحور الأساسي ، الذي تدور حوله فكرته عن بناء الشعر وللازاحة عنده وظيفة أ،مماسية هي (المجاوزة ) وكومين يحاول الاجابة على تساؤل شلوفسكي السابق ، من خلال تصور أن الازاحة هي عملية ذات شقين : المجاوزة وتخفيض المجاوزة وهو يفرق بين العبارة الشعرية والعبارة اللامعقولية طبقا لعملية المجاوزة ، فعلى الرغم من أن العبارتين معا تقدمان نفس اللون من عدم الملاءمة اللغوية (أي الازاحة )، فإن عدم الملاءمة في العبارة الأولى قابل للتخفيض ، على العكس من العبارة الثانية . إذن ، فالتشابه بينهما – من الناحية البنائية – لا يتحقق إلا من خلال التقابل السلبي باعتبار أنهما ينتهكان معا قانون العرف اللغوي فهما نتفتان في موقف المجاوزة ، لكنهما تختلفان في تخفيض تلك المجاوزة "(10). ونحن نختلف مع كوهين في تفريقا بين العبارة الشعرية والعبارة اللامعقولية ، حيث إنهما في النهاية شيء واحد: فكلتاهما تتجاوز العرف اللغوي، نفس الوقت الذي لا يمكن لنا فيا تخفيض تلك المجاوزة لكلتيهما معا. فالفارق بينهما ليس في المجاوزة اللغوية وامكانية فض تلك المجاوزة ، لكن في أن طبيعة العبارة الشعرية تتميز بالفاعلية والتأثير أما العبارة اللامعقولية فهي عبارة سالبة : تخرج على مستوى الابلاغي للغة ، لكنها لا تستبدله بالمستوى العاطفي. فهي قفزة في الفراغ ، على العكس من العبارة الشعرية ، التي هي الالتجاء الى وطن آخر داخل اللغة .. أكثر رقيا وسموا، ولكي نؤكد على أن العبارة الشعرية حين تتجاوز العرف اللغوي بحيث . لا يمكن أن نفض تلك المجاوزة ، فإننا نضرب مثلا بتلك العبارة الشعرية لأدونيس :
دعوا الاشجار تتبادل العصافير
ففي هذه العبارة تم تجاوز العرف اللغوي، واستبدال المنطق الابلاغي بالمنطق العاطفي ، ولم تعد هناك حاجة لنقل حقيقة وانما تأسست العاطفة طبقا للحاجة الشعرية – وبعد أن تمت تلك الآليات داخل النص الشعري، تحققت المجاوزة ، على أن هذه المجاوزة أصبح من الصعب – بل من المستحيل فضها أو تخفيضها، حيث لا يمكن أن نستبدل عنصري المجاوزة (الأشجار – العصافير) بمعادل لهما، على الرغم من أنهما من عناصر الواقع الخارجي بالفعل – وبالتالي ، لا يمكن فهم تلك العبارة أو التفاعل معها إلا من خلال موقف المجاوزة وحده. فإذا حاولنا تخفيضه ، فلن يتبقى لنا من الشعر سوى بعض الانقاض النثرية ، فإننا نجد موقفا مشابها حين نقرأ عبارة محمود درويش :
للحصى عرق وللخطاب قلب يمامة
فالعبارة هنا – طبقا للمنطق الصوري – هي عبارة لا معقولية ، وهي تتجاوز العرف اللغوي، ولا يمكن فض هذا التجاوز مرة أخرى لكنها تتميز بالفاعلية والتأثير نتيجة لعلاقات التراسل . المضمرة داخل اللغة ، بين الحصى (الجماد) والعرق (الانساني). فالحصى من الناحية المنطقية – لا يعرق ، وبالتالي فإن هذا العرق لا يمكن ايجاد بديل واقعي له ، كما أنه ليس في الواقع الخارجي ما يشير اليه .
إن مفهوم كوهين عن الازاحة من خلال المجاوزة وتخفيضها لا يمكن أن يكون صحيحا الا فيما يتعلق بالشعر الكلاسيكي فاذا ضربنا مثلا ببيت أبي تمام الشهير:
السيف أصدق أنباء من الكتب
في حده الحد بين الجد واللعب
فإننا نجد أن أبا تماما قد تجاوز – من خلال المحسنات البديهية – العرف اللغوي. لكننا إذا قمنا بتحرير هذا البيت من الطباق والجناس والاستعارة ، فإنه يعود مرة أخرى الى الواقع بعد فض مجاوزته فالسيف يظل هو السيف ، والكتب تبقى هي نفس الكتب والرسائل التي تتبادلها، ويبقى (الحد) الأول مرتبطا بالسيف و(الحد) الثاني مرتبطا بعلاقة الفصل بين الأشياء وتؤدي عملية تخفيض المجاوزة الى الحقيقة العقلية التي تقرر أن القوة تخلق الحق وتحميه .
ولهذا فإننا – على العكس من كوهين – نقرر أن الازاحة اللغوية تجعل من العبارة الشعرية عبارة لا معقولية ، تهدم المنطق العقلي لتؤسس بدلا منه المنطق العاطفي ، وهي تتجاوز المواقع ولا تهبط اليه مرة أخرى الا من خلال كونها واقعا آخر موازيا أو معاكسا له . ومن خلال هذه الآليات النصية ، فإن العبارة الشعرية يجب أن تتميز بالفاعلية والتأثير: الفاعلية داخل النص ، والتأثير داخل المخيلة التي تتفاعل معه . فإذا تحققت تلك الشروط ، نتج عنها بالضرورة (إزاحة ) ما ، وكلما اتسعت زاوية الازاحة ، التي يحصرها المنطق الابلاغي والمنطق العاطفي للفة ، فإننا نقترب خطوة أكبر في اتجاه الشعرية .
الهوامش:
ا – عاطف جودة نمو – نظرية الشعر عند الفلاسفة المسلمين – ص256الهيئة المصرية العامة للكتاب .
2- كمال أبو ديب -الحداثة / السلطة – مجلة فصول – يوليو 1984 – ص 56.
3- فخري عن الجوهري في القصيدة العربية الحديثة – مجلة المهد
-العدد 3/4-45 . (تم استبدال كلمة الانزياح اللغوي عناد بكلمة الازاحة اللغوية لتتفق مع السياق ).
4 – فريال غزول – فيض الدلالات -مجلة فصول – يوليو 1984 _ ص 178 .
5 – أدونيس – صدمة الحداثة – دار العودة بيروت – ط 3- ص 166 . 6- نفسه -ص 228.
7- مجلة الفكر- العدد94 -ص 24.
8 – بناء لغة الشعر- جون كوهين -ترجمة : د. أحمد درويش _ص46 – ط 1 مكتبة الزهراء بمصر.
9- أرشيبالد ماكليثر – الشعر والتجربة – ترجمة سلمي الجيوسي – ص52 10- نصوص الشكلانيين الروس – ترجمة.
عبدالعزيز موافي( ناقد من مصر)