ألتقي بها بعد أن قرأت روايتها. ولو التقيتُ بها قبل ذلك، لكان اللقاء غيره، والموقف ليس عينه.
فقد تعرّفت، عبر الرواية، الى شخصية ثانية، منطلقة، متدفقة، محلقة، شاعرية، مبتكرة، بينما بدت في الواقع، جادّة، متحفظة، مقتصدة في الكلام والعاطفة، بل بدت سجينة الفكر مشلولة الطاقة.
وفي هذا شاهد على أن العمل الادبي، الخلاق، إنما يتيح للمرء على الوجه الاقصى، وبصورة لا نعهدها فيه او لا نتوقعها، لكي يمارس وجوده بكل حيويته وتألقه.
ومؤدى هذه الحكاية اننا لا نقرأ الرواية لكي نتعرف الى حياة مؤلفها (أو مؤلفتها)، اي الى ما نحسبه حياته، مما هو ظاهر او واقع، او الى ما سبق ان وقع، وإنما لكي نعرف ما يمكن ان يكون، فنغير رأينا فيه، بقدر ما نعرف من امره ما لم نكن نعرفه، مما يفاجئ او يدهش، او مما هو غير منتظر او لا متوقع. وهذا شأن العمل الخلاق والمبتكر، إنما يفتح امكاناً للحياة، يجعل صاحبه يقدر على ما كان يعجز عنه، بابتكار وجه او اضافة بُعد او شقّ درب، مما يغني حياته، بقدر ما ينقله من حال الى حال او من طور الى آخر.
ولكن الامر ليس كذلك على الدوام، وفي كل الحالات. واليوم وفيما يروج نمط السرد القائم على استعادة الحياة الشخصيّة، على سبيل التخييل الذاتي، رأيت أن أتحدث عن بعض السلبيات والعوائق التي يمكن ان تعرقل عملية الخلق الروائي. ومن ابرز هذه العوائق:
1. العائق الايديولوجي
ومفاده أن تُمسي الرواية مجرد تجسيد لفكرة يريد صاحبها ايصالها الى القارئ أو أن تتحوّل الى استعراض للمعارف او بيان بالحقائق. ولا اعتقد أن هذا هو مناط الرواية، بل هو ميزة العمل الفكري في الفلسفة وعلوم الانسان.
طبعاً ان الروائي هو شأن كل عامل منتج في احد مجالات الثقافة، إنما يتغذى بثقافته ولغته من التجارب والخبرات، بقدر ما يفيد من بقية الحقول والميادين المعرفية والعلمية او الادبية والجمالية. وهو الى ذلك يمارس حيويته الفكرية على نحو مبدع. فالعمل الروائي المبتكر يصدر عن فكر حي وخلاق، شأنه شأن اي عمل مبتكر. ولذا قد يُلهم العمل الروائي العلماء والفلاسفة، باجتراحاته الدلالية وابتكاراته الأسلوبية، كما اعترف فرويد بالاثر القوي التي تركته اعمال ديستويفسكي في بلورة نظريته حول اللاوعي.
ولكن على الروائي أن يعمل يخصوصيته، كي لا يتحول إلى منظّر. ولذا فالاولوية في الرواية ليست لخلق مفاهيم او مقولات، بل لخلق شخوص وحيوات، عبر تشكيل عوالم سردية. ومن الامثلة على ذلك الفرق، عند نجيب محفوظ، بين رواية «الثلاثية» التي هي خلق نابض بالحياة، عبر السرد المبتكر، حيث نشعر، عندما نقرأها، بأن أبطالها يحيون في أزقة القاهرة وحواريها، وبين رواية «اولاد حارتنا» التي هي اقرب الى المشروع الايديولوجي، وأبعد ما يكون عن عالم الحارة المُعاش.
هذا التمييز بين الفكرة والشخص، هو ما يجعلني لا انجذب لروايات أمبرتو ايكو، بقدر ما يطغى عليها الطابع الفكري. صحيح انها تشكل عمارة سردية متقنة بهندستها، ولكني اعتقد او اشعر بأن ابطالها يفتقرون الى الحيوية الوجودية، قياساً على شخصيات «أنّا كارنينا» لتولستوي او أبطال هاروكي موراكامي في روايته «الغابة النروجية».
2. العائق النسوي
والمقصود به أن تعامل الرواية، كما لو انها مشروع نضالي او رسالة تهدف الى تحرير النساء من سلطة الرجال.
هذا وهم كبير وقعت فيه الحركات النسوية التي كانت في فشلها الوجه الآخر لفشل حركات التحرر الوطني ووصولها الى مآزقها. تشهد على ذلك الكتابات التي صدرت في العام الفائت، بمناسبة مرور مائة عام على ولادة رائدة الحركة النسوية واسطورتها التحررية سيمون دوبوفوار. انها تكشف النقاب عما خفي من حياتها، او عما تعمدت هي اخفاءه، مما يكسر الصورة التحرّرية والتنويرية، المثالية والزاهية، المكوّنة عنها في الاذهان. ولا عجب، فالأسطورة تُخفي ما تنبني عليه من الوقائع، والمثال يتستّر على الانتهاكات والفضائح. ولذا كلّ يصنع فضيحته.
لا يعني ذلك ان تستعاد الآن حياة دوبوفوار على سبيل التجريح والتهشيم. انها مناسبة لممارسة التواضع الوجودي الذي يحملنا على ان نعترف بأننا ادنى شأناً ومعنى، مما ندعي، لجهة علاقتنا بالمثل والمبادئ والقيم، الامر الذي يحملنا على التحرر من مزاعم الاسطورة والبطولة او الالوهة والقداسة.
والاهم أن مآزق الحركات التحررية تحمل على اعادة النظر في مفهوم الحرية بالذات، لأن الحرية ليست ماهية، بقدر ما هي رابطة او علاقة تتجسد في البنى المجتمعية والانساق الثقافية بكل محرّماتها وشيفراتها ورموزها. ولذا لا يمكن للرجل أن يكون حراً، ما دامت العلاقات المجتمعية هي علاقات هيمنة او عبودية. واذا كان ثمة معنى للتحرر، فهو تفكيك البنى الثقافية الراسخة بكسر منطقها الحتمي وأطرها الجامدة وآلياتها القاهرة ومعاييرها الجائرة، على نحو تطلق معه امكانات لدى طرفي العلاقة: الذكر والانثى.
وأنا عندما اسمع ما تتحدث به بعض النساء عن تصرف رجالهن، أقصد غيرتهن القاتلة، أشفق على هؤلاء الرجال، الذين يقعون فريسة هواجس تحيل حياتهم الى جحيم، او تجعل من سلطتهم الذكورية مجرد قوة عمياء.
هذا ما يحدث، اليوم، حيث المرأة تجد نفسها في اوضاع تجعلها مساوية للرجل، في الحقوق، سواء من حيث مزاولتها للعمل خارج البيت، او من حيث استثمار مواهبها وقدراتها. وهذا ما لا طاقة للرجل على تحمّله، اي ان تصبح زوجته نداً له، فكيف اذا اصبحت تتميز عنه، كما هو شأن النساء الكاتبات والمشهورات. هنا تنقلب الآية، ويصبح الرجل هو المقهور، خاصة اذا كان يعيش في مجتمع محافظ، تسيطر عليه القيم والنماذج الذكورية الابوية او المملوكية.
3. العائق الفوتوغرافي
ومفاده أن يأتي العمل الروائي، كما لو انه عبارة عن تحقيق يخبرنا عن وقائع الحياة، او يصف فيه الواقع المجتمعي كما هو عليه. والروائي الذي يقع في هذا المطب، لا يضيف شيئاً جديداً. إذ تغنينا عن ذلك المعلومات الصحفية او الدراسات المجتمعية او التحقيقات التاريخية التي تقدم توصيفاً ادق وأشمل عما هو واقع.
بالطبع الروائي هو منخرط في واقعه، بقدر ما هو شاهد على عصره، ولا ينجح في الكتابة عن الحياة او عن المجريات، اذا لم يكن قد لاحظ وعاين وخاض المعترك، فراكم المعلومات او اكتنز الخبرات. ولكن اهمية الرواية ليست في تقديم وصف مطابق لواقع الحال، إذ هي سرد ادبي او خلق فني، يتجسد في نص يخلق واقعه اللغوي والاسلوبي، بقدر ما يصنع عالمه الرمزي والدلالي، لكي يترك أثره في تشكيل عقول القراء.
والمثال على ذلك تقدمه رواية «مدام بوفاري» لغوستاف فلوبير. فما فعله الروائي الكبير، باستعادته حياة بطلته، هو انه قدّم قراءة لحياتها، اعاد من خلالها بناء المعطى الذي عاينه او حفّزه أو ألهمه، بالاشتغال عليه وتحويله، لكي يخلق حياة اخرى موازية، فيخترع لبطلته صورة تتجلّى فيها فرادتها بأخصّ ما يميّزها. وهنا بالذات تتجلّى أهمية العمل الروائي وميزاته. إنه يسلّط الضوء على البُعد الوجودي وسْط الكمّ الهائل من المعلومات والحقائق حول الأشخاص.
ولأن مدام بوفاري في الرواية هي ابداع وخلق، فإن الروائي يتماهى مع مخلوقه، اي مع نصه الذي يصبح فردوسه وعالمه الاثير. ولعل هذا ما جعل فلوبير يقول قوله المشهور عندما سئل عن هوية مدام بوفاري، فأجاب انا مدام بوفاري. مما اربك النقّاد يومئذٍ وما زال يُربكهم. وما قاله فلوبير يشبه ما قاله قبله قيس بن الملوح عندما سئل عن ليلى: فقال: انا ليلى وليلى انا ما افترقنا قط. وكما أن ليلى في الشعر هي الاكثر جمالاً وسحراً، فإن مدام بوفاري في الرواية، هي الاكثر غنًى وحيويةً وجاذبية.
حتى عندما يستعيد الروائي وقائع عيشه، فإنه لا يسترجعها بحرفيتها، وليس بإمكانه أصلاً أن يفعل ذلك. ولذا فهو يستعيدها على سبيل التخييل الذاتي، تركيباً وتوليفاً او اختراعاً واخراجاً، فيغربل ويختار، باستبعاد اشياء والابقاء على اشياء، وكأنه يخلق حياة اخرى، كما فعل الروائي الكبير نجيب محفوظ في الثلاثية.
والرواية، إذ تحكي حياة صاحبها، او حياة اخرى عاينها، إنما تستعيد كل حياة، إذا نجح مؤلفها، في تحويل ما استعاده او خبره وعاشه، باجتراح الامكان لحيوات اخرى، بالعوالم التي يشكلها، والشخوص التي يخلقها، والمصائر التي يُحسن تخيّلها وقوْدها الى نهاياتها الفاجعة او المفرحة. وذلك عبر نص يضجّ بالحياة بقدر ما يُجسّم عالماً للمعنى بكلّ كثافته وتعدّده وتوتّراته.
وهو في ذلك لا يرسم احلاماً وردية او يغرق في الطوبى، وإنما يخترع كائنات تعيش حياتها بكل بما تنطوي عليه من الالتباس والمفارقة او التعارض والشقاق او السقوط والاحباط او الفضيحة والمأساة.
ولعلّ هذا هو مبعث الاحساس بالبهجة او الروعة او العذوبة، عندما نقرأ رواية تستولي على عقولنا ووجداننا، كما هو شأن الروايات الخارقة التي تتحدث عن الحياة بما تختزنه من الحيوات الكثيرة او تفتتحه من الآفاق الوجودية… وهذا شأن الخيال الخلاّق الذي هو ميزة الانسان، معه تتحوّل المعطيات، أكانت طبيعية ام ثقافية، الى أعمال خارقة تصنع حياة تصبح اولى من الحياة العادية، بغناها وقوتها وجمالها وتحرّرها.
4. العائق المثالي والخلقي
ومفاده أن تنزلق الرواية في الوصف والسرد، المنزلق الخلقي، فتقع في فخ ثنائية الخير والشر، او الطهر والخبث. ففي هذا تبسيط واختزال لكينونة الكائن البشري. فالحياة تختزن ما لا يتناهى من الصور والاطياف، بقدر ما هي متعددة، متراكبة، متشابكة، ملتبسة، متوترة، من حيث الوجوه والابعاد او الاطوار والاحوال أو الميول والمنازع.
من هنا فالرواية الجيدة هي وصف للتجربة الوجودية بكل اشكالاتها والغازها ومآزقها، عبر خلق شخوص تحيا حياتها بكليتها، بأوجاعها ومسرّاتها، بهشاشتها وقوتها، بمصادفاتها وأقدارها… بذلك تتحول الكتابة الروائية عند صاحبها او عند صاحبتها الى هم وجودي يجسد نمطه في مواجهة قدره او تدبر مشكلته، بقدر ما يجسد كيفية اهتمامه بذاته واسلوب تعهدها وسوسها او تذوقها والتلذذ بها. وهذا هو معنى القول: إننا نكتب لنعيش: أن تتحول الكتابة الى اسلوب حياة، الى فن للعيش، او الى نمط في صنع المصائر ومواجهة التحديات والازمات الوجودية.
يمكن للرواية ان تجسّد أملاً عظيماً او حلماً جميلاً او درساً مفيداً، ولكنها تسقط عندما تتحول الى مجرد وعظ او ارشاد، او عندما يطغى عليها الهم النضالي او المثال الخلقي.
فالشاغل الاساسي هو أن تنجح الرواية في أن تسرد حياة الواحد، بصرف النظر عن مهنته أكان رئيساً أم موظفاً عادياً؛ او عن مكانته أكان بطلاً ام صعلوكاً؛ او عن جنسه أكان ذكراً أم انثى. من هذه الزاوية، فالرواية التي تكتبها امرأة تكون ممتازة، عندما تنسى مؤلّفتها كونها امرأة، فتنخرط في كتابة تجربتها الفريدة التي لا تشبهها تجربة، ولكنها تعني في الوقت نفسه كل من يستمتع بقراءتها، بما تنطوي عليه من جِدّة او طرافة او مفاجأة او إثارة او أصالة، أسلوباً ومعنًى، عالماً وشخوصاً.
5- الشواهد
فأنت إذ تقرأ رواية «حرّاقة» لبوعلام صنصال، لا تشعر انها بطلتها تتحدث كإمرأة تواجه رجلها المهيمن، بقدر ما تشعر أنك إزاء كائن بشري يستعيد وقائع حياته بوصفها غابة من الهموم او مسلسلاً من المآزق يحاول صرفها او تدبّرها.
أو رواية «مدينة الاعاجيب» لادواردو مندوثا تقف أمام بطل يواجه قدره او يخترق شرطه لكي يحيله من عائق او ظرف معاكس الى عامل ايجابي، اي الى مكان وجودي،
أو رواية «مائة عام من العزلة» لماركيز تدهشك تقنية جديدة في السرد، بقدر ما يسحرك فضاء دلالي يحيل الى واقع متخيل هو اكثر واقعية من الواقع من فرط سحره.
أو رواية لجمال الغيطاني، تكتشف كيف يستحيل التراث من معطى جامد او نص ميت الى ثراء لغوي أو غنى دلالي يتجلى في سرد خارق يجمع الأزمنة ويؤلف ما بين الأمكنة بقدر ما هو سرد ممتع يدهشك بجماليته وراهنيته.
أو رواية «غرناطة» لرضوى عاشور، لا تنتقل معها الى اجواء التاريخ، بالعكس. فالسرد المشوّق يُثمر عملية احياء يجعل غرناطة بأجوائها وناسها حية وراهنة.
كذلك، أنت إذ تقرأ روايات «موراكي هاروكامي» ترى كيف تتحوّل تفاصيل العيش الحميمة وذرّات المعنى المنسيّة، او المُهمَلة، أي كل ما تتقوّم بها الحياة، الى نصوص سردية خارقة ومدهشة.
أو رواية «أصل الهوى» لحُزامى حبايب، ترى كيف أن السرد الجميل والمُبتكَر لا يتعامل مع البُعد الإيروسي والعُشقي بمنطق إباحي بورنوغرافي، بل يحيله الى عمل أدبي رائع.
أو رواية «شيطنات الطفلة الخبيثة» لماريو فارغاس يوسا، تشدك البطلة التي تحيا حياتها الاستثنائية، بكل صدفها ومطباتها، بكل عبثها وجنونها.
أو رواية «دنيا» لعلويّة صُبح، يفاجئك السرْد بتقنيته المبتكرة وتعدّد أصواته وبُعده الوجودي، كما يتجلّى في نمط جديد من التعبير وفي طريقة مغايرة في التعامل مع الذات، تعريةً لطبقات المسكوت عنه، او تفكيكاً لشيفرات الدلالة ومرجعيات المعنى.
وأخيراً، لا آخراً، فنحن إذ نقرأ عملاً روائياً لألفريده يلينك، لا تخدعنا التعابير الإيروسية الواردة في النص، وانما يستوقفنا سردها الكاشف في تشريحه المرعب لعلاقات الأبطال برغباتهم وسلطاتهم وملكياتهم وقيمتهم ومكانتهم… نحن إزاء وصف وجودي خارق للوضع البشري نتعدى معه النظرة التبسيطية المثالية والطوباوية لتناول الحيوات والمصائر بهمومها وأحلامها وهواجسها وكوابيسها وعثراتها ومآزقها… هذا ما يطالعنا في روايتها «العاشقات»، وذلك حيث الحب والكره هما وجهان يختفي الواحد منهما وراء الآخر، بقدر ما يتغذى منه أو يستدعيه ليكون حصيلته.
وهذه مفاعيل الخلق الروائي الذي تتفتق معه قدرات نتحول بها عما نحن عليه، بقدر ما نفعل ما كنا نعجز عن فعله. أليس هذا ما فعله السرد العجيب في «ألف ليلة وليلة»، حيث استطاعت شهرزاد أن تحول الطاغية من قاتل إلى كائن خاضع ومروض. مرةً أخرى إنه الخيال الخلاق، به نخترع سيناريوهات لحيوات وامكانات للوجود، أو نقتحم مناطق جديدة للوجود، أو نفتتح منافذ وأبواب جديدة للمعنى، او نحفر في بئر الذاكرة عما هو خفي او قصي، او نكتشف من الاسرار ونفك من الالغاز ما يجعلنا نعرف ما لم نكن نعرفه من احوالنا، او نبتكر اساليب وأدوات في التعبير تفك المستغلق، او نخترع أنماطاً من المواجهة تحيل العجز إلى قدرة. ولذا فإن التخيل الخلاق يسهم في تغيير علاقتنا بمفردات وجودنا، بالمعنى والحقيقة، بالتراث والهوية، بالعالم والواقع…
علــــي حـــــرب
مفكر من لبنان