(1)
عبر صحوة خاطفة، سمع صوت الصهيل الغامض، في البعيد، يتلاشى مبتعدا، ويعقبه خيب خيول، يتلاحق كالامواج، عبر صمت الصحراء. وفي الجمرة الجلاتينية ذات السطوع البرتقالي، لشمس الغبش الشاحبة، شاهد آخر الخيول، يجري بين انعطافات الافق الصحراوي الساكن، محدثا صهيلا في المكان الذي يجاوره، ملامسا رأسه الملقى على الرمل. حركة جسده، كانت بطيئة، وذاكرته مضطربة، وثمة ما يشبه الغيبوبة الباردة، تغمره، وكأنه أصيب بمرض، أو ان كابوسا، انتشر عبر أفق نومه البارد.
كان يرغب في النوم، لانه لم يستطع ان ينهض او يتحرك، وشاهد كفل أحد الخيول الراكضة في الصحراء، كان ينطلق بخبب متلاحق، وثمة سوط لامع، مخترق الهواء الهاديء، ورثاثة الصمت، ثم ينزلق، ضاربا كفل الحصان ووجهه، واعقب ذلك، ان ران الصمت الرمادي،
مرة أخرى، كان متلاشيا بين انهمارات الشمس، ولم يكن يدرك بوضوح، ماهية تلك الاصوات الغامضة المكتظة.
كان صدره يرتفع ويهبط بصعوبة، كأنه يختنق، وثمة مسبحة من عرق بارد، تغمر وجهه، وتنزلق، منسرحة، أسفل عنقه، ويغمغم بقنوط: (يا له من كابوس!) وكان حبب الخيول، يخترق طبلتي أذنيه، والشمس تسري، حيث مكانه، بلهب ساخن، فيكتظ بها جسده.
(2)
في الفراغ السائل الذي يكتنفه، تحركت أصابع يده، بتؤدة، تزيل حبات العرق، أسفل ذقنه، وفتح عينيه بعض الشيء، في سكون الغرفة الراكد. كان مكتئبا، والاشياء في الزوايا، تتحرك حركة عشوائية، مضببة، كحركة أشباح الليل. ونهض في فراش السرير الدافىء، وغادره، بحركة متعثرة، وازاح الستارة، عن مثلت الشباك. حدق في الشارح العام، حتى نهايته البعيدة، لم يكن هنالك من شيء، وادرك في الحال، بكل وضوح، أن يفكر بالاشياء التي يترتب عليه انجازها، بشيء من الطمأنينة، لكن شيئا غامضا، دفعه لانصات غير مبرر، أحال الى سمعه، أصداء جامحة، تتلاحق في البعيد، كالامواج الهادرة، تلطم الساحل بقوة، وتعاود ارتطامها بالتعاقب، مرة أخرى، وبدا مستفزا، وكأن رأسه يكتظ بيقين غريب،. إن الخيول ستهاجمه، عبر نافذة الغرفة، في الساعات اللاحقة من النهار، وكان مندهشا بهذه الحقيقة: (يا الهي، بحق السماء، ماذا هناك ؟ ان ثمة احساسا ينبئني، مريض، او ان ثمة خللا في طبلتي الاذنين !). وسمع فيض احساسة الآخر المضاد، كان حادا، كعاصفة في بحر، ملأ فراخ الغرفة الارجواني الذي كان يهيم فيه، مثل غريق: (أيها الرجل، انك بكامل قواك الجسدية والعقلية !). كان منهمكا في الاسى، متدثرا به، كما يتضح بشكل جلي، وكانت بقع الضوء تتقاطر بتؤدة في الغرفة، فتمد الزوايا بلون دافيء من فيبض ضوئي شفيق، كرذاذ الزجاج، وفي الضوء المنزلق، مثل ماء رقراق، بدا مندهشا، بالاشياء التي من حوله، وكأنه لم يشاهدها الا لماما، حتى قراءاته انحسرت، فهو لم يستطع احتواء أي شيء، بذاكرة معطوبة، وقبل أن يغيب النهار، متلاشيا بسرعة جدا، كما هي عادته، ومع حلول المساء كان يرتاد أمكنة اخري، بمساحات فسيحة، وفضاءات مطلقة، مثل المتنزهات العامة، وملاعب كرة القدم، والانهار، وسوأها، وفي الساعات المتأخرة من الليل، يكون قد استمع الى شيء من الموسيقى الرائعة، حينئذ يتبدد احساسه العميق بالاسى بعض الشيء، لكنه يسمع ضجيج الصهيل الغريب، مرة أخرى، ينبثق عبر موج الصمت الراكد، مخترقا رثاثة الشارع الذي يصل بالشرفة من الاسفل، فيثب من مكانه مذعورا، وقد استحوذت عليه رغبة جامحة في طلب الخلاص: وكان نبض قلبه يتلاحق، كنبض ساعة جدارية كبيرة، واعصابه مشدودة.
وذات مساء هاديء وفاتن، يشبه أساسي الربيع، احتوته فكرة غير مألوفة: (… ان يخرج الى الصحراء!) ومع ان القرار كان غريبا، لكنه كان مثل نداء غامض ودافىء، يتوسله ان يصفي اليه، فاستشره يسري في جسده الذي اكتظ به، مع انه كان مندهشا ازاءه.
الآن، هو في الصحراء، صحراء كما هي، بفضاء غير متناه، ورمال متراصة، كساها سطوع الشمس، بحمرة فاقعة، وكانت الرمال تتحرك ببطء، بحركة متماوجة، كأنما تفز السير، حيث هو، وانتشر جسده، بين ذرات الرمل المخدد، ومساقط الشمس،.. فوق الاكمات وانعطافات أفق الصحراء. وكانت الشمس الباهرة، تنتشر فوق كشبان الرمل والاكمات المرتفعة، فتغمر جسده حد الانتشاء الرائق، وحين تغيب في الجانب الآخر، تتركه معتما، فيفور رأسه في الرمل، حينئذ يشاهد ضوء الشمس، بشكل غير واضح، كأنه يتحرك بتتال متدرج، وراء زجاج ندي.
وعصفت الرياح تسف فوق الرمل المنتشر بغزارة، فاحدثت تغييرا واضحا في خارطة تضاريس الصحراء، وكان ينصت بشغف الى هدير الرياح العابثة، وبدا له، ان كل شيء، سيكون هادئا الآن.. وعبر ساعات أخر، تساقطت من زمن الصحراء، كان صهيل الخيول السائم، يسحق رأسه بدوي مكتظ، فوثب، يطرد بفزع الوحشة ورهبة السكون الخادع. وكانت الخيول الجامحة، تجري بحركة غير جلية، كحركة الزمن، فوق الاكمات الصخرية الناتئة، او كشبان الرمل المتفرقة، كأشباح، حيث منحدر في الغرب.
كانت الشمس منتشرة بغزارة، وحارقة مثل جمرة، والخيول تجري بحركة غير مرئية، كحركة الشمس، حيث أحالت الصمت المحس اوي المدهش، الى صخب، كصخب ارتطام السلاحف ببعضها.، وكان مكتظا بالصهيل، بشكل باذخ، فنهض باحثا عن مكان آخر ينحدر باتجاه جدار رملي بارز، كأنه هضبة، تجنح في امتداد كسول، من الشرق حتى الغرب، والشمس في سيولة جلاتينية دائمة في منعطفات الصحراء المؤدية الى اللاشيء.
وتجلت هذه المرة، الاشياء بأشكالها، وكما هي، أمامه، كأي انسان آخر! ولم يعد تفكيره يتواصل، مع ذلك الصهيل الغامض، وما يسمعه الأن، هو صوت الصحراء والرياح وحركة الرمل الدائبة، وبهذا الاحساس الدافىء والمفاجىء، ظل في مكانه، يرقب حركة الاشياء بوضوح، عبر متاهة الصحراء، التي تشبه غابة من الضباب الخادع. وكان يدرك بكل وضوح التناقض بين ما يسمعه ويشاهده الآن، وبين ما يوحى به اليه، وان الزمن الذي استغرقه وجوده، هنا كان قصيرا، لم يدر ماهية مداه، فكان يتبدد ببط ء، من بين اصابعه وذرات جسدا، ويتلاشى بعيدا، في موج الرمل الفائض، هكذا يحدث كل يوم، بين أسار الشروق والغروب، بحركة متراتبة دائبة، تنتهي مه بزوخ نجمة المساء الرمادي، وراء الكثبان والاكمات الجرداء.
(3)
واستيقظ مرعوبا على صوت صهيل في الجوار، وكانت راحتا يديه، تفترشان الرمل اللاهب، والشمس أبعد الى رأسة، من كفل حصان رمادي، ينفض عرفه الكث، فتتساقط ذرات الرمل فوق وجهه المكفهر، وعينيه البارقتين، صهل بقسوة، وانعطف مسرعا، حيث امتداد الشرق، من الافق الصحراوي، الساكن آنذاك.
وعبر عينيه الغائمتين، اذ، لم تتجل الاشياء، بشكل مرئي، شاما الحصان، وكتلة رمادية، او سوداء، او بلون الرمل، من خيول اخري، تجري فوق رأسه الفائر في الرمل، فيكتظ به اخ غير مسموع، كأنه طشيش غناء ساخن، او نشيج هادىء، كان عاجزا عن النهوض، او الحركة، فأغمض عينيه ونام، وكان وجهه في مسرى تنفسه الساخن، والوقت الآن، في الصحراء، أصبح عصرا كالمساء.
عبدالصمد حسن (قاص من العراق)