يقول القاضي الجرجاني في كتاب
"الوساطة.. واللذين بمعزل عن الشعر" ص64
الشعر هو سحر ايحائر يحتوي الشئ، وضده,لأنه حساسية جمالية مغايرة للمألوف ومرادفة
للخلق وابداح على غير مثال سابق! انه في أبهي تجلياته خرق للعادة ومحاولة مستمرة لهدم
الاحتذاء وقد جرى العمل في ممارسته من قبل الشعراء مجرى قلب العصا حية. إنه تشكيل
جديد للكون بواسطة الكلمات.
الشعر ليس التعبير الأمين عن عالم غير عادي بقدر ما هو تعبير غير عادي عن عالم عادي، وخطابه في هذا المدى وصل ممتد خال من أدوات الفصل. والشعر ليس اللغة الجميلة التي كثيرا ما راهن النقاد على اثبات علاقتها بالشعر؟ فلغة الشعر لغة من نوع خاص يبدعها الشاعر من أجل التعبير عن أشياء لا يمكن قولها بشكل آخر، ومن هنا كثر فيه القول فقد ورد في كتاب"
الوساطة بين المتنبي وخصوصه " للقاضي الجرجاني المتوفي عام 366 هجرية قوله، وهو بصدد الحديث، عن الشعر والعقيدة، أو الشعر والدين، هذا الرأي النقدي الفريد من نوعه والذي يمكن أن يحسب له أو عليه، محددا من خلاله رأيا أو موقفا نقديا نادر الوجود في كتب النقد الأدبي الأخرى، أو حتى في كتب الصحاح والسنن واللغة وما إلى ذلك… وهذا الرأي الجريء يتعلق بإشكالية "الدين والشعر" والى أي حد يمكن الجمع بينهما أو الفصل بينهما.
يقول القاضي الجرجاني:… فلو كانت الديانة عارا على الشعر، وكان سوء الاعتقاد سببا لتأخر الشاعر لوجب ان يمحى اسم أبي نواس من الدواوين، ويحذف ذكره إذا عدت الطبقات، ولكان أولاهم بذلك أهل الجاهلية ومن تشهد عليه الأمة بالكفر ولو جب أن يكون كعب بن زهير وابن
الزيعري وإضرابهما ممن تناول رسول الله صلى الله عليه وسلم وعاب من أصحابه بكما خرسا وبكاء- بكسر الباء- (أي مفحمين )، ولكن الأمرين متباينان، والدين بمعزل عن الشعر".( 1) ففي آخر هذه الفقرة الدقيقة نقف- وربما لأول مرة في النقد الأدبي العربي- على إشكالية الدين والشعر يتضح من خلالها رأي احد كبار نقاد الشعر العربي القدامي، وأحد الفقهاء البارزين الذي تقلد في حياته مهمة القضاء والتحكم في ذمم المسلمين.. انه اقرار علني وصريح يدعو بموجبه الى ضرورة الفصل بين الدين والشعر- وعدو اتخاذ الدين- الايمان به- كمعيار لتقييم أو تقويم الشعر. انها دعوة الى تحرير الشعر من تبعات الدين..
المهم قد يحمل هذا الرأي على اكثر من محمل، لكنه يؤكد ضمنيا على عدم وجود ما يسمى بشعر إسلامي أو شعر كافر، أو غير اسلامي، وليس معنى ذلك انه يريد التأكيد على وجود علاقة تنافرية، او علاقة تضاد بين الدين والشعر، بل ما يمكن الا يختلف فيه اثنان، او نقاد الشعر عامة، هو أن الشعر في صميمه هو أحد المدارج الضرورية لاعتلاء منصة التدين القصوى؛ لأن الشعر في جوهره، هو ذلك التشوق الروحي الذي عمل، ويعمل الشعر منذ ظهوره على محاولة استكناه أسراره- وما الشعر في آخر المطاف الا انعكاس صريح لذلك القلق الروحي الذي يعذب النفس في أشكال متنوعة، أما موقف الجرجاني هذا، والقاضي بوجوب ابتعاد الدين عن الشعر ربما يحمل في طياته بذور اشارة الى تلك المحاولات العديدة التي ما فتنت منذ ظهور الدعوة الاسلامية تعمل على احلال قيم الدعوة الاسلامية في ذاكرة الشعراء محل ما علق بها من شوائب عصور الجاهلية. لكن مسيرة الشعر التي واكبت الدعوة الاسلامية وما تلاها تثبت عكس هذه المحاولة، فظل الشعر والشعراء عامة يعملون من خلال ابداعاتهم على تأكيد مقولة الجرجاني الداعية الى فصل الدين عن الشعر؛ ولعل موقف الجرجاني هذا جاء بعد نظرته النقدية المتفحصة في متن الشعر العربي الى غاية عصره والتي وصل من خلالها الى النتيجة التي يقر فيها بصريح اللفظ والمعنى على ضرورة الفصل بين الدين والشعر؟ لأن الشعر، ان جاز لنا التصور والتقدير، ذو طبيعة ملكية فإما ان يكون وحده صاحب السيادة والا فانه يتنازل عنها لغيره وذلك رغم المحاولات الجادة والمتتالية من قبل الدعوة الاسلامية التي سعت جاهدة الى ادراج الشعر في سلم القيم الاسلامية بصفته أحد مكارم الأخلاق التي أكد الرسول صلى الله عليه وسلم أنه جاء ليتممها. فالشعر العربي كما يقول أحد رواده يندرج ضمن هذه القيم التي تمثل مكارم أخلاق العرب فقال:
ولولا خلال سنها الشعر ما درى
بناة العلا من أين تؤتى المكارم قلت، لقد عملت الدعوة الاسلامية على ادراج الشعر في سلم قيمها، أو على الاقل جعله يتمثلها ويصبح ناطقا باسمها او متشبعا بمثلها او منافخا عنها الأمر الذي اوشك ان ينجح فيه الرسول صلى الله عليه وسلم حين عمد الى الشعر ليجعل منه احد الاسلحة المبشرة بالدعوة، وأحد الناطقين باسمها والمروجين لتمكينها وذلك بصريح الحديث النبوي القائل: "ما يمنع القوم الذين نصروا رسول الله بسلاحهم ان ينصروه بالسنتهم "(2)- ويقصد هنا ألسنة الشعراء- ومن هناك توالت أصوات الشعراء المنخرطين في سلك الدفاع عن الدعوة الاسلامية ليحظى بعضهم بتأييد من الله ونصرة الرسول صلى الله عليه وسلم ومؤازرة روح القدس، جبريل عليه السلام. ويطلب الرسول صلى الله عليه وسلم من بعضهم علانية ان يذب عنه بشعره، او يأمر شعراءه المناصرين للدعوة الاسلامية ان يردوا على اعداء الدعوة ويحرضهم على التعرض لهم بالهجاء المقذع الذي ينضح مضاؤه في وجوههم كآثار السهام. ويمكن أن نذكر هنا "برواية الترمزي ان النبي صلى الله عليه وسلم حينما دخل مكة في عمرة القضاء وكان يمشي بين يديه عبدالله بن ابي رواحة- وقيل كعب بن مالك- وهو يقول:
خلوا بني الكفار عن سبيله
اليوم نضربكم على تنزيله
ضربا يزيل الهام عن مقيله
ويذهل الخليل عن خليله
فقال له عمر: يا ابن أبي وواحة بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي حرمه تقول الشعر؟ فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: خل عنه يا عمر فلهي اسرع فيهم من نضح النبل. (3) فما يمكن تعليقه على هذا الموقف النبوي الشريف هو ان الشعر مباح في الحرم، وبين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومباح فيه التعريض المقذع بأعداء الدعوة ان دعت الضرورة لذلك. أما تساؤل عمر بن الخطاب المستنكر فلا معنى له، والا فكيف يتعجب من قول الشعر في حضرة الرسول صلى الله عليه وسلم، الذي اتخذ منه سلاحا للرد على اعداء الدعوة. وما نحسب موقف عمر المستنكر سوى عن محتوى الشعر المهين لكرامة كفار قريش. فكان كل ذلك، وغيره كثير في زمن الرسول صلى الله عليه وسلم، وهو يتصدى لاعداء الدعوة بكل ما أوتي من تأييد ونصرة. (4)
وسار خلفاؤه، الى حد ما، على نهجه دون ان تتمخض الدعوة الاسلامية عن ميلاد قصيدة اسلامية غير مشوبة بآثار الجاهلية، ولا بآثار نزوات النفس بنزقها تارة وتألهها تارة أخرى، حتى عند الشعراء الذين يعدون من رموز الدعوة الاسلامية، فقد بقي في قصائد حسان بن ثابت شيء من روائح الشعر الجاهلي وخاصة وهو الذي منحه الرسول صلى الله عليه وسلم اجازة حق التجاوز في حق اعداء الدعوة الاسلامية والثناء عليه ان أصاب وأوجع. وقد تزايد اعجاب الرسول صلى الله عليه وسلم بشعر حسان حتى انه يروى عنه هذا الموقف الذي قال فيه صلى الله عليه وسلم: "أمرت عبدالله بن وواحة فقال وأحسن، وأمرت كعب بن مالك فقال وأحسن، وأمرت حسان بن ثابت فشفى وأشفى "(5) شفى غليل نفسه أولا وشفى غليل الرسول صلى الله عليه وسلم من اعد ائه ثانية وهو حكم لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
هذا الموقف المؤيد للشعر جعل الرسول صلى الله عليه وسلم لا يتردد في استنهاض حسان بن ثابت دون غيره ليقول له: "أهجهم فوالله لهجاؤك عليهم أشد من وقع السهام في غلس الظلام، أهجهم ومعك جبريل روح القدس "… (6) بل كان الرسول صلى الله عليه وسلم يعمل على أن يبلغ هجاء حسان مداه، كأن ينصحه بأن يستأنس بمعارف ابي بكوفي علم الانساب والمثالب عله يسعفه بما يفيده في شعره من استهداف صائب لعزة قريش وتسفيه أحلامها الى درجة جعلت الرسول صلى الله عليه وسلم يختبر شاعره حسان فيسأله كيف تسبهم وأنا منهم ؟ فقال حسان: «الأسلنك منهم كما تسل الشعرة من العجين " ولا أدري كيف أمكن ذلك حسان وهو المعروف اذا استوى لهجاء قريش تحول كالمرجل يفور غضبا فشفى وأشفى؟!
لا أريد استرسالا أكثر في هذه القضية ولا يمكنني كذلك أن أعود الى المتن الشعري العربي كله لاستنطقه في هذه المناسبة، لكنني سأحاول أن أقف عند بعض المحطات التي عملت بطريقة أو بأخرى على منح الشعر اجازة التحرر جعلته يكون بمعزل عن سلطان الدين، وجعلت قصائده الشعرية غير حافلة في مضامينها بأخلاقيات وقيم الدعوة الاسلامية، ولا بتعاليمها! لا لكونها معادية لمفهوم الدعوة، بل لكونها خلقت طليقة من كل قيد أو شرط يحد من فورانها ويكون بمثابة الموجه لنفحاتها وطقوسها. لقد فضل الشعراء على مختلف مشاربهم المضي في أودية مسالك القول- في كل واد يهيمون- بحثا عن الجديد واختراقا للمحظور كما نبه على ذلك الذكر الحكيم في سورة الشعراء غير مبدلين بتأكيد الاستثناء الوارد في سياق الآية الكريمة من سورة الشعراء لعلمهم أن المقصود هو استثناء الضرورة الذي لا يزعزع القاعدة العامة للشعر؟ قاعدة الشعراء يتبعهم الغاوون، الذي هو الجمهور الذي لا يمكن للشعر أن يكون بمعزل عنه ؟ وهي حكمة ربانية خولت للشعر دون غيره هذا الامتياز الذي لم يقدره بعض المفسرين حق قدره.
تسامح الرسول صلي الله عليه وسلم مع الشعر والشعراء
ان الشعر في ميراثنا الثقافي قد حصل على العديد من الاجازات وأولى هذه الاجازات كانت في نظري- بعد الذكر الحكيم طبعا- مع الرسول صلى الله عليه وسلم الذي نظر الى الشعر دائما نظرة متسامحة، ونظرة اعجاب وتقدير لدوره، الى درجة جعلته يقرنه في العديد من المرات بالحكمة بغض النظر عن قائله سواء كان كافرا أو مؤمنا؟ والحكمة كما نعلم هي صفة من صفات النبوة التي كثيرا ما نسمع الله عز وجل يقول في مدحه لداود عليه السلام مثلا: (وآتيناه الحكمة وفصل الخطاب )، او يقول عن لوط: (ولوطا آتيناه حكما وعلما)، اما الرسول صلى الله عليه وسلم فمقولته: "ان من الشعر لحكما"، فهي ذائعة الصيت. ومن هنا لا نعجب اذا قرأنا في كتب الأحاديث "برواية عائشة رضي الله عنها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يضع لحسان منبرا في المسجد فيقوم عليه يهجو من قال في رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ان روح القدس مع حسان ما نافح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. (7) فلا أظن حسب علمي المتواضع ان هناك من حظي بتقدير من طرف رسول الله صلى الله عليه وسلم مثلما حظي الشعر والشعراء: فقد اجاز لهم القول حتى الشفاء والتشفي، ونالوا العفو والمكافأة بالبردة، ووضع للشعر منبرا وأبيحت له الساحات حتى ولو كان الحرم الشريف، وأكبر من هذا كله، ان جبريل عليه السلام، الروح القدس، يبدو انه استنهض من قبل الله سبحانه وتعالى الا في مواقف معدودات: مرة لحمل الرسالات الى الانبياء، ومرة لمرافقة الرسول في مسيرة الاسراء والمعراج ومرة لمؤازرة الشعر والشعراء. ألم يقل رسول الله لحسان: قل وروح القدس معك!. فهذا تقدير لمنزلة الشعر والشعراء ما بعده تقدير، وهو امتياز لم يحظ به غير الشعر والشعراء الامر الذي جعل حسان بن ثابت دائم الزهو بهذا الامتياز الرباني والنبوي فيروى " ان حسان جاء الى نفر فيهم أبو هريرة فقال: أنشدك الله، أسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: أجب عني"، ثم قال: "اللهم أيده بروح القدس، قال ابو هريرة: اللهم نعم ".(8)
ومما يروى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم انه كان يستحسن على وجه الخصوص، سماع شعر شاعر كافر، وهو أمية بن ابي الصلت شاعر ثقيف، وكان يتذوق شعره ويطلب الاستزادة من سماعه، لانه ربما كان يلامس ذوق الرسول صلى الله عليه وسلم، او يدور حول أفكار كان يستحسنها وتدخل ضمن مكارم الاخلاق المتوارثة التي عمل الرسول صلى الله عليه وسلم على اتمام صرحها. بل ثبت عنه انه كان يصدق كثيرا مما ورد فيها فتروي لنا كتب الحديث انه:.أحدث عمر بن الشريد عن ابيه قال: ردفت رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما فقال: هل معك من شعر أمية بن ابي الصلت شيء؟ قلت: نعم. قال: هيه، فانشدته بيتا.
فقال: هيه، ثم انشدته بيتا. فقال: هيه، حتى انشدته مئة بيت ".(9) ويقال ان الرسول صلى الله عليه وسلم سمح برواية شعر أمية الا قصياته الحائية ( 10). فالسماح برواية شعر شاعر كافر فيه دلالة على عدم ارتباط الشعر بالدين. فكان حب رسول الله لشعر هذا الشاعر الذي تميز بوصف عالم الغيب كما ذكر ذلك الاصمعي، جعل الرسول الارحم صلى الله عليه وسلم يجعل له مخرجا جميلا لانقاذ الشعر من حامله الذي اصر على كفره عنادا وحسدا للرسول صلى الله عليه وسلم فقال فيه قولته المأثورة: " "آمن شعره وكفر قلبه "، فلم نعلم، ولم ندر مخرجا مثل هذا لتحرير الشعر والعفو عنه وادخاله مدخل صدق ليحشر في زمرة نفحات الخلود. فلا ندري كيف تم هذا إلانشطار في نفس واحدة تمرد فيها الشعر عن قائله ؟! لكن هذا المخرج الرائع يبقى من قبيل الاجازات التي منحها الله للشعر واكدها سيد الخلق الرسول صلى الله عليه وسلم تطبيقا وعملا، فالشعر في آخر الامر يبقى ذلك التوهج الذي يترك لوطة بالقلب عند سماعه وأثناء تشييعه بالمسامع ان مضى. هذه اللوطة التي لا يدركها الا من أوتي الذوق الفني والحكمة وفصل الخطاب.
وربما قول رسول الله صلى الله عليه وسلم في شعر أمية هذا هو الذي مهد الطريق لميلاد الاسطورة التي حيكت حول تجليات هذا الشاعر والقائلة على لسان اخته: "تقول ان امية كان نائما عندما اقبل طائران أبيضان سقط أحدهما على امية وشق بطنه، وثبت الطائر الآخر على السقف، قال الطائر الاعلي للاسفل "أوعي" ؟ قال "وعى"، قال "أقبل" ؟ قال: "أبى". فرد عليه قلبه، وطار الطائران ".(11)
في هذه الاسطورة تأكيد على الانشطار الذي عاشه هذا الشاعر الذي تمرد عليه شعره فآمن ونال البقاء وتركه كافرا ونال الفناء. فالامع هنا لا يختلف كثيرا عن موقف حسان بن ثابت الذي استل الرسول صلى الله عليه وسلم من خميرة الهجاء كما تستل الشعرة من العجين!
متاعب الحليفة عمر رضي الله عنه مع الشعراء
اذا كان الامر هكذا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قد ختم بما يشبه المصالحة بين الدين والشعر، فان الامر كان غير ذلك مع أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقد وجد هذا الاخير عنتا كبيرا من قبل بعض الشعراء من أمثال حسان بن ثابت وابي محجن الثقفي والحطيئة، فحسان بن ثابت شاعر الدعوة الاسلامية والمؤيد باجازات ربانية ونبوية، اذ ظفر شعره بتأييد الله ورسوله والروح القدس، نجده يجيز لنفسه ان يحلق الناس حوله ويعتلي المنبر الذي منحه اياه رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد وينهمر مرجعا مفاخر انتصارات الرسول صلى الله عليه وسلم واصحابه على قريش، وكذلك مفاخر أحسابه من بني العنقاء وابني محرق.. ومناصرتهم للدعوة الاسلامية حتى احرج باستفزازاته هذه، التي لا تخضع لقيد أو حد، عمر بن الخطاب فعاتبه مرارا بقوله المأثور:"أرغاء كرغاء الابل يا حسان!"؟(12)، لكن حسان الذي يمتلك طوع يمينه تأييد السماء لشعره، وفي يساره اعجاب الرسول ومؤازرة الروح القدس لم يتعظ بزجر عمر المتكرر بل تمادى في تحرر شاعريته او يرد على عمر وهو خليفة المسلمين "كما حدث بذلك سعيد بن المسيب، فقال: مرعمر- رضي الله عنه- بحسان وهو ينشد في المسجد فلحظ اليه- وجه اليه نظرا شزرا- فقال حسان: قد كنت انشد وفيه من من هو خير منك!.(13) فما كان من عمر، وهو الخليفة العادل الصارم في الحدود والحقوق سوى ان تخلى عن سبيله، وهكذا ينفلت الشعر ثانية من رقابة الدين رغم حضور احرص الناس على حرمة الدين ونعني بذلك الخليفة الاجل عمر بن الخطاب رضي الله عنه!.
هنا تتأزم الامور بين مرجعيتين فينحاز خليفة المسلمين وحامي حمى الدين الى موقعه، وينحاز الشعر الى حريته فلا نجد للدين سلطة عليه، ويواصل حسان نهجه الى آخر حياته ويحظى، بل يفتك لشعره اجازة التحرر تجعله في بعض المناسبات يشفي ويستشفي كعادته من قريش ومن شعرائها التائب منهم والكافر وذلك في حضرة عمر بن الخطاب نفسه، فتقول الاخبار المتواترة في المصادر القديمة " ان شاعري قريش القداس عبدالله بن الزبعري وضرار بن الخطاب قدما المدينة في عهد عمر ونزلا عند ابي أحمد بن جحش وطلبا منه ان يستدعي لهما حسانا، فلما حضر طلبا منه ان يتناشدا الشعر، فخيرهما حسان فيمن يبدأ بالانشاد، ففضلا ان يكونا البادئين " " "فأنشداه حتى فار فصار كالمرجل غضبا، ثم استويا على راحلتيهما يريدان مكة"، فرفع حسان امره الى
عمر بن الخطاب فأرسل من ردهما من الطريق، فلما حضرا أمر حسانا بأن ينشدهما، فانشدهما حتى اشتفى، فسأله عمر: أفرغت ؟ اكتفيت ؟ فأجابه حسان: نعم، فقال عمر: أنشداك في الخلا- أي كنتم لوحدكم – وأنشدتهما في الملأ".(14)
وكانت هذه الواقعة بحضور الملأ من الصحابة، وفيها دلالة قاطعة على امتثال عمر لغريزة الشعر المشربة بحب التحرر والرغبة في التشفي والتشهي في ركوب القول، او الفعل الشعري، الامر الذي جعل عمر على اعقاب هذه الحادثة ومثيلاتها وكأنه يترجى الشعراء بقوله: "اني قد كنت نهيتكم ان تذكروا مما كان بين المسلمين والمشركين شيئا، دفعا للتضاغن عنكم وبث القبيح فيما بينكم، فأما اذا أبوا فاكتبوه واحتفظوا به " (15) وهو اقرار بالليونة من قبل عمر امام ارادة الشعر الممعنة في ركوب التحرر والتي لم تتشرب كما ينبغي قيم الدعوة الاسلامية.
لكن امر عمر بن الخطاب مع الشاعر الفارس ابي محجن الثقفي فارس القادسية كان لا يقل درجة عن سابق الاحداث ؟ فهذا الشاعر الفارس الذي رفض الرضوخ الى تعاليم الدين الاسلامي، والامتثال لحدودها، نجده يواصل الادمان على شرب الخمر ولما ضايقته ملاحظات عمر رد عليه بقولته المأثورة: مال عمر ومالي: "لساني للخمر وسيفي للاسلام ". وتعود ثانية اشكالية الانشطار التي وجد لها الرسول الأعظم مخرجا مع أمية بن أبي الصلت، لكن عمر عجز عن ايجاد مثل المخرج الذي ألهم الله به الرسول الأعظم من أجل الغفران للشعر تكريما وتقديرا لهذه المادة الأثيرية التي تعلقت بالحكمة وأسرار الغيب.
لكن أمر أمير المؤمنين عمر بن الخطاب يبدو انه كان أيسر الى حد ما مع الشاعر الخطيئة المتمرد الشاعرية فنجده في آخر الأمر يساوم الخطيئة في ذمم المسلمين الذين يمكن ان يطالهم بشعره، فيصلان الى اتفاق ويقدران الأمر نقدا وعدا بمبلغ تقول عنه المصادر أنه كان ثلاثة آلاف دينار.(6ا) فيقبل الخطيئة الثمن- بعد التعزيز طبعا- ويعد بالكف عن التشهير باعراض المسلمين وغيرهم. لكنه قبل ابرام الصفقة، نجد عمر بن الخطاب يحاول ان يعظ هذا الشاعر المارق المؤمن بحرية قول الشعر بدون رقيب، فيقدم له النصح والطريقة الفنية التي يردها الخليفة مناسبة للشعر أثناء معالجته للقضايا. فقال عمر بن الخطاب ناصحا الخطيئة: "إياك وهجاء الناس، قال الخطيئة: اذن يموت عيالي جوعا. هذا مكسبي ومنه معاشي، قال عمر فإياك والمقذع من القول. قال الخطيئة: وما المقذع ؟ قال عمر: ان تخدير بين الناس فتقول فلان خير من فلان. أجاب الخطيئة: فأنت والله أهجى مني؟" (17) ومن هنا تظهر ميزة الشعر التي لا يدركها الا ذو الاختصاص والشعراء أنفسهم. فالشعر في جوهره ليس الصياغة المكررة الحقائق بقدر ما هو المعبر عن التماس الذي يقع بين الرؤية الابداعية والواقع ؟ إنه السمو بتعبيرية الأشياء والسعي الى احداث عملية تشويش مقصود في قاموس اللغة والمعاني فتسند صفات لأشياء غير معهودة تربك القرائن بين الدال والمدلول أو بين المسند والمسند اليه، أو قطع صلة الرحم بين المشبه والمشبه به واحداث وظائف تعجز اللغة عن أداء معانيها؟ لان قانون اللغة الشعرية يقوم أساسا على مخاض تجربة باطنية، الامر الذي جعل عمر بن الخطاب لا يدرك كنه هذه الصنعة التي يكون فيها الشعر الحقيقي بعيدا عن ركوب المباشر، وهو ما جعل عمر بن الخطاب في موقف آخر يقع في نفس التداخل فظن هجاء الخطيئة للزبرقان بن بدر مجرد عتاب ولوم حين خاطبه بقوله المركب:
دع المكارم لا ترحل لبغيتها
واقعد فانك أنت الطاعم الكاسي
فرفض الزبرقان تصور عمر البعيد عن ادراك كنه المقصود، او المحمول في خطاب الخطيئة. فلجأ الخليفة كما نعرف الى حسان بن ثابت الخبير بمواقع الكلم واستأنس برأيه فكان جوابه: انه لم يهجه فحسب بل سلح عليه، وهو طبع أفظع من الهجاء، نحد عمر ثانية يقف حائرا أمام إرادة الشعر القوية ولا ينبهر مثلما انبهر رسول الله صلى الله عليه وسلم الخبير بمجامع الكلم وهو يستمع الى ابن الاهتم وهو يمدح ويهجو الشخص الواحد فيجيد في الحالتين فيقول الرسول منبهرا ومعترفا بمفعول القول الشعري الساحر: ان من البيان لسحرا (18) ويبقى الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه، كما تصنفه بعض المصادر، "أعلم الناس بالشعر"(19)، حائرا أمام الأثر الشعري الذي يصدر عن كنه الاشياء وليس عن حقيقتها.
تقدير الرسول صلي الله عليه وسلم للشعر والشعراء
هكذا يصر الشعر على التمرد وعدم الاستجابة الى شروط العقيدة واخلاقيات الدعوة الإسلامية، رغم الزجر والتعزير والرقابة ؟ وخاصة تلك التي وضعها عمر بن الخطاب على الشعراء. فاذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم قد كفر عن سيئات كعب بن زهير بمنحه بردته الشريفة كعلامة نادرة الوجود في مكافأة الشعر، فإننا رأيناه كيف وجد مخرجا لشعر أمية بن الصلت الكافر ليدخل شعره مدخل صدق، وظل طوال سيرته النبيلة مؤيدا للشعر والشعراء، فاسحا أمامهم كل أبواب التوبة دون اكراه أو إلزام فقد صفح عليه السلام عن كل الشعراء المعادين للدعوة الإسلامية بدون استثناء والذي يزعم بعض المفسرين لآية الشعراء انهم المعنيون في قوله تعالى: (والشعراء يتبعهم الغاوون…) وهم عبدالله بن الزبعري الذي أسلم ومدح الرسول واعتذر له فأحسن.( » 2) وكعب بن زهير صاحب المكافأة والجائزة التاريخية، كما غفر للشاعر ضرار بن الخطاب الفهري الذي تاب ومدح الرسول صلى الله عليه وسلم بقوله:
يا نبي الهدى اليك لجا
حي قريش وأنت خير لجاء
حين ضاقت عليهم سعة الأ
رض وعاداهم إله السماء
فكانت نهاية هذا الشاعر الفارس الشهادة باليمامة، أما الشاعر أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب فقد رق الرسول الرحيم صلى الله عليه وسلم لحاله وعفا عنه، وكذلك الحال بالنسبة لشعراء آخرين كالحارث بن هشام بن مغيرة المخزومي. أما الوحيد الذي حكم عليه بالقتل من طرف الرسول صلى الله عليه وسلم فهو الشاعر عبدالله بن خطل "الأنه كان مسلما فبعثه الرسول صلى الله عليه وسلم مصدقا ومعه رجل من الانصار وكان معه مولى مسلم، فأمره ان يصنع طعاما فلما استيقظ وجده لم يصنع شيئا فعدا عليه فقتله ثم ارتد مشركا" لذا أمر الرسول بقتله حتى ولو وجد متعلقا بأستار الكعبة. فعلق ابن تيمية على الحادثة قائلا: أدله ثلاث جرائم صبيحة للأم، قتل النفس والردة والهجاء".(21)
لكن الرسول، رغم هذه الحادثة المنفردة فانه كان رحيما بالشعر والشعراء، بل ذهب به الحد الى أبعد من ذلك حين يعمد الى التذكير ببعض الشعراء الذين لم يدركوا الإسلام فيأسف لحالهم مثل قوله صلى الله عليه وسلم: " ما وصف لي أعرابي قط فأحببت أن أراه إلا عنترة "(22) وكان عزاؤه لهم هوا لتنويه بأقوالهم الشعرية المأثورة مثلما كان يفعل مع شعر طرفة بن العبد الذي كثيرا ما كان يستشهد ببعض منه كقوله:
ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا
ويأتيك بالأخبارهن لم تزود
فتقول عائشة رضي الله عنها كان الرسول صلى الله عليه وسلم يقول في حق هذا البيت: "هذا كلام من كلام النبوة" (23)، وهذا ما أكد معناه فيما بعد جابر بن مهدان في قوله من كتاب "بهجة المجالس ": "أكل حكمة لم ينزل فيها كتاب، ولم يبعث بها نبي ذخرها الله حتى تنطق بها ألسنة الشعراء". (24) أما قصة الرسول صلى الله عليه وسلم مع ابن الاهتم واعجابه بسحر بيانه فهي التي أوحت له بالحديث النبوي الشريف الذي سبق وأن ذكرنا: إن من البيان لسحرا "(25) كما يؤثر عنه قوله صلى الله عليه وسلم: إن من الشعر لحكمة. وكانت أقوال الرسول صلى الله عليه وسلم في مناصرة الشعر و الشعراء في كتب الأحاديث والسنن تربو على الثلاثين (26) لم يشذ منها عن مناصرة الشعر و الشعراء سوى حديثين وفيهما قول واحد خاص بامرئ القيس الذي قال في حقه النبي صلى الله عليه وسلم: "ذاك رجل مذكور في الدنيا شريف فيها، منسي في الآخرة خامل فيها، يجيء يوم القيامة معه لواء الشعراء الى النار" فأنا اتفق مع الأستاذ سليمان الشطي في تعليقه على هذا الحديث بقوله: " ان هذا الشاعر جاهلي، لم يدرك الإسلام، ومن ثم لم يبلغ بالدعوة، فلا يختلف وضعه عن الجاهليين الذين ماتوا قبل الإسلام، الذي لم يبزغ نوره بعد، فهل هؤلاء يدمغون بنفس صفة الكفر ويلزمون بالاسلام مثلهم مثل الذين أدركوه، أم انهم يعاملون على أساس الديانات السابقة ؟ او انهم يمثلون أجيالا ما بين دينين ؟… على كل لن نخاطر بالاجابة على أمر لا نملك علما فيه.".(27)
أما الحديث الآخر والأخير فهو برواية أبي هريرة والقائل: " لأن يمتليء جوف أحدكم قيحا يريه خير من ان يمتلئ شعرا". لكن في الاصابة وفي باب المستدرك يروى ان عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها لما سمعت هذا الحديث قالت: "لم يحفظ أبو هريرة الحديث، إنما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الأن يمتلئ جوف أحدكم قيحا ودما خير له من أن يمتلئ شعرا هجيت به ".(28)
وهكذا يرفع اللبس حول هذا الحديث الذي كثر الجدال حوله، وان كنت أنا شخصيا غير مطمئن لكلمات الحديث الذي كثرت فيه عبارات كالقيح والدم واعتقد أن الرسول صلى الله عليه وسلم وهو الذي أوتي الفصاحة وفصل الخطاب يربأ أسلوبه عن مثل هذه العبارات، والله ورسوله أعلم، فالمهم أن الاضافة التي استدركتها أم المؤمنين جعلت الحديث معروف القصد. وهو ما حال عمليا دون وصول هذا النوع من الأشعار الينا.
وتبقى مواقف الرسول صلى الله عليه وسلم جملة وتفصيلا مناصرة للشعر والشعراء ومنسجمة مع مضمون الرسالة السماوية فيما يتعلق بموضوع الشعر وموقف الإسلام منه.
فالرسول صلى الله عليه وسلم كان رؤوفا رحيما بالشعر وقال: "إنما حسن الشعر كحسن الكلام وقبيح الشعر كقبيح الكلام "، ولولا مواقفه الايجابية من ديوان العرب لما روى الرواة ما وصل الينا من ذخيرة شعرية فذة، ولما وصلت الينا كل هذه الأشعار بالتواتر والتمحيص، ولما استعملت كأداة مباشرة من قبل الفقهاء واللغويين والمفسرين لفهم مقاصد القرآن واعجازه البلاغي وهذا ابن فارس يقول: "والشعر ديوان العرب، وبه حفظت الإنساب، وعرفت المآثر، ومنه تعلمت اللغة، وهو حجة فيما أشكل في غريب كتاب الله وغريب حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وحديث صحابته والتابعين ".(29) ففي مناصرة الرسول صلى الله عليه وسلم للشعر يكمن السبب المباشر في وصول الشعر الجاهلي وأيام العرب واخبارها الينا. وهو ما يقره الرافعي بدوره في اعجاز القرآن حين يؤكد انه لو لم يكن للرسول صلى الله عليه وسلم موقف ايجابي من الشعر لما كانت رواية الشعر في الإسلام، وما استنكاره للشعر الذي هجي به الا دليل على انقراضه وعدم احتفاء الرواة بنقله الينا.
تكريس مبدأ الدين بمعزل عن الشعر
ان سماحة الرسول صلى الله عليه وسلم وتقديره للشعر ومنحه الشعر والشعراء اجازات لفظية ومضمونية لا لشيء سوى لأن الشعر أدرج ضمن الامتياز الخاص الذي لا يحاسب فيه الشاعر عما يقول طبقا للا رادة الربانية العظمي. إنها قمة الجزاء والاحتفاء بفن الشعر، وهي نعمة من نعم الله على فن الشعر وفن القول عامة والفنون كذلك. هذا الامتياز الذي لا يحاسب فيه الشاعر على قوله نجده بمثابة السنة التي درج عليها الخطاب الشعري بين احضان العرب كجزء من مكارم أخلاقها، وهو ما نبه اليه النقد العربي قديما دون ان تؤخذ اشارته النافذة مأخذ الدرس والتأمل. واعني بذلك قول أحدهم: "وجدت العلماء بالشعر يعيبون على ابيات الاغراق، ويختلفون في استهجانها واستحسانها، ويعجب بعضهم بها، وذلك على حسب ما يوافق طباعه واختياره، ويرون انها من ابداع الشاعر الذي يوجب الفضلة له، ويقولون: ان أحسن الشعر أكذبه. وان الغلو انما يراد به المبالغة قالوا: وإذا أتى الشاعر من الغلو بما يخرج به عن الموجود ويدخل في باب المعدوم فانما يراد به المثل وبلوغ الغاية في النعت واحتجوا بقول النابغة وقد سئل من أشعر الناس؟ فقال: من استجيد كذبه ".(30)
إنها مقولات مأثورات لم تحظ بعناية النقاد رغم ما تحمله من ابعاد فنية توجه وتحدد ماهية الشعر الحقيقي، ونرى انها تتوافق الى حد ما مع مفهوم الآية الكريمة التي تحدد مفهوم الشعر في اطاره العام البعيد عن التخصيص ؟ فآية الشعراء تقدم لنا الشعراء على انهم مخلوقات تقول ما لا تفعل وبتعبير الذوق العربي، او الفهم العربي فانهم اناس يحسنون في فنهم الشعري إذا وفقوا في الكذب او اذا استجادوا الكذب. والكذب هنا هو توافق عرضي مع "يقولون ما لا يفعلون "… وهو الاستعداد الفني المطلوب والمباح والمستحسن في صناعة الشعر؟ لانه من الأهداف الجوهرية التي تجعل الشعر يبتعد عن التصور الأوسطي القاضي بوجوب المحاكاة في الفنون، بما فيها الشعر، وهو ما لم تعمل به العرب وما لم يقره القرآن.
ان الطقس الشعري هو برزخ تتوحد فيه الكائنات وتمحى في جلالته الفواصل وبحث دؤوب على كل ما هو ليس شائعا ولا مطابقا للمعيار العام ؟ واللغة فيه تبلغ أحيانا درجة من الشذوذ، وشذوذها هو الذي يكسبها رؤية واسلوبا من نوع خاص ؟ لذا نجد نظرة الإسلام، والنقد العربي للشعر، وللفنون عامة تنفي عنها حتمية الوقوع في شراك محاكاة النماذج الجاهزة وتفسح أمامها مجال القول للفعل العربي المتخيل الذي ينقاد في لغته ليقين الحس الذي يساعد على استعذاب الفن كحقيقة نابعة من الإحساس وليس من الواقع، وهي المعبر عنها في الآية الكريمة بالقول دون الواقع الفعلي" أو بالكذب المستعذب النابع من رحم الاساس بحركية الأشياء، وهو ما ادركه النقد الاوروبي بعد خمسة عشر قرنا أو أزيد، فجاء اقرارهم بهذه الظاهرة الفنية المناقضة للظاهرة
الارسطية على لسان أحد النقاد المعاصرين المشاهير وهو رومان جاكبسون في كتابه الرائع "قضايا الشعرية" فقال كما قال النابغة: "الشعر هو في جميع الاحوال كذب، والشاعر الذي لا يقدم على الكذب بدون تردد بدءا من الكلمة الأولى لا قيمة فيه .(31)
أعتقد ان هذا التوافق فيه أكثر من دليل على أن عبارة "الكذب" و" يقولون ما لا يفعلون " هي من خصوصيات فن الشعر الرفيع المتحرر من قيود الواقع بما فيها القيم والشعائر الدينية والأشياء الثابتة، وهو أحد المظاهر الانقلابية في ماهية الشعر بوصفه طاقة مسكونة بحساسية جمالية محايثة، وغزيرة ممهورة بمبدأ الرفض وهدم الاحتذاء مهما جلت قدرته، ومن ثم كان، ولا يزال، مال الشعر هو البحث والتجريب المستمرين لخلخلة البنيات الذوقية والجمالية السائدة، انه القلق الدائم الذي لا يعفو عليه الزمن مهما.
فكلمة "الكذب" هنا لا تعني صعناها الخطي، بل يجب ادراك معناها الانزياحي الذي يعني مجانبة الحقيقة المجردة في صياغة الشعر وتعلقه بالحقيقة المجازية. لذا قيل عن الشعر انه استعارة موسعة. ومعنى. مجازيتها هو استعمال اللفظ في غير ما وضع له في اصطلاح المخاطب العادي. ولعل كلمة الكذب التي تعني "يقولون ما لا يفعلون" هي الانزياح المطلوب في لغة الشعر والشعراء وهي أنسب في شكلها وجوهرها كما وردت في الآية الكريمة من اختها "الكذب المباشرة – لتنزه الله تعالى عن الإقرار بالكذب – بالنسبة لتحديد أهداف الابداع الشعري. مثل هذا التعبير المجازي، يقترب الى حد ما، من مقولة الأصمعي بعد ان تدبر مليا في الشعر في العصر الاسلامي الأول والذي ورث مباشرة عصر الجاهليين فقال حكمه المأثور الذي حمله النقاد القداس والمعاصرون على أكثر من محمل، وقوله هذا هو أن طريق الشعر اذا ادخلته الى باب الخير لان، وقد استخلص هذا الرأي بعد أن لاحظ على حسان بن ثابت ضعفه الواضح في مراثيه- ربما المتكلفة الرسول الله صلى الله عليه وسلم ولأصحابه من أمثال حمزة وجعفر رضوان الله عليهم، ثم يخلص الى التأكيد الواضح كما ذكر ذلك المرزبان "ان طريق الشعر الحق هي طريق امري القيس وغيره من الجاهليين المولعين بوصف الديار والتشبيب بالنساء ووصف الخمور،
(72) وكل ما ليس له علاقة بالمعايير الخلقية الاسلامية، وهي نظرة أخرى تؤازر رأي القاضي الجرجائ وتنبع من مصدر له صوت وسلطان على مسيرة الشعر العربي، وبالاضافة الى ذلك فانه تتلمذ على أحد أساطنة اللغة والبيان العربي وهو أبو عمرو بن العلاء (70- 154هـ) الذي يؤكد الأصمعي انه "جلس للتعلم على يده ثماني حجج فما سمعه يحتج ببيت شعر لشاعر اسلامي".(33) وأبو عمرو هذا هو من القراء السبعة، وهو مبدع عبارات كالسهل الممتنع وفحول الشعراء وغير ذلك من السنن النقدية والمعرفية. مثل هذه المواقف تؤازر مبدأ الاجازات التي سنها الرسول صلى الله عليه وسلم في حق الشعراء اقتداء بالذكر الحكيم.
فباب الخير هنا، كما اكد عليه الاصمعي، ليس المقصود به ضعف شعر الشعراء الذين اعتنقوا العقيدة الاسلامية كما أنجر فهم العديد من النقاد الى ذلك خطأ (من مثل آراء الاستاذ نجيب البهبيتي في كتابه: تاريخ الشعر العربي حتى القرن الثالث، وكذلك الاستاذ محمد الكفراوي في كتابه: الشعر العربي بين التطور والجمود فقد دافع الأستاذان عن فكرة ان تسبب في ضعف الشعر). بل مقصد هذا المصطلح هو فني بحت، فسبب ليونة الشعر التي لاحظها الاصمعي ناجمة عن حياد ماهية الشعر عن حقيقتها الجوهرية المتمثلة في استجادة الكذب الفني، وقول ما لا يمكن ادراكه بالفعل كما نصت عليه الآية الكريمة.
إن أعمال الخير لها مجالاتها ومنابرها ورجالاتها، وليس على الشعراء من مسؤولية تجبرهم على الدفاع عن مثل هذه القيم المادية المحدودة الأبعاد. فليونة الشعر المنصوص عليها في قول الأصمعي تتجلى بوضوح تام من خلال هذه المفارقة التي تفصل بين مستويين من الخطاب الشعري ذاته أجبر الاصمعي أن يعلق على الخلل الذي أصاب بنية الخطاب لما حاد عن خطه الطبيعي: يقول الشاعر:
سمالك هم ولم تطرب
وبث ببث ولم تنصب
وقالت سليمي: أرى رأسه
كناصية الفرس الأشهب
الى غير ذلك من الأبيات الشعرية المقبولة فنيا وجماليا حسب رأي الأصمعي، لكن لما يصل الشاعر الى قوله:
فأدخلك الله برد الجنا
ن جذلان في مدخل طيب
يعلق الأصمعي بقوله على هذا البيت الأخير: " فلان كلامه، حتى لو ان أبا الشمقمق – شاعر مشهور بالنوادر في شعره – قال هذا البيت لكان رديئا ضعيفا… وطريق الشعر اذا ادخلته في باب الخير لان. الا ترى ان حسان بن ثابت كان علا في الجاهلية والاسلام. فلما دخل شعره في باب الخير من مراثي رسول الله صلى الله عليه وسلم وحمزة وجعفر رضوان الله عليهما وغيرهم، لان شعره. وطريق الشعر هي طريق الفحول ؟ مثل امري القيس وزهير والنابغة، من صفات الديار والرحيل، والهجاء والمديح، والتشييب بالنساء، وصفة الخمر والخيل، والافتخار، فاذا ادخلته في باب الخير لان ".(34) لعل في هذا النص الطويل ما يوضح كل شيء ويرفع اللبس حول مسألة كون الاسلام أضعف الشعر؟ فها هو الاصمعي يقر بأن حسان علا شعره في الجاهلية والاسلام، ولكن متى انحط ؟ لقد انحط لما خرج عن دائرة الشعر الحقيقية وتحول الى مجاملات مجانية. أو الى مواعظ وارشاد هي من اختصاص رجال الدين، كما هي الحال في البيت الشعري الأخير الذي تحول الى موعظة تبشر بالجنة ودوام النعيم. وبذلك حاد الشاعر عن استجادة الكذب الفني الذي نصح بضرورة وجوده النابغة، واكد عليه رومان جاكبسون فيما بعد. فالشعر بمعزل عن العقيدة، انه اختصاص آخر ليس من صالح الشعر والشعراء ان يركبوه في اشعارهم، والا يكون السقوط المشار اليه " باللين " تلطفا ولباقة من طرف الاصمعي.
ويمكن اضافة موقف آخر الى موقف الاصمعي الواضح والدقيق، والذي حدد بموجبه دوائر الشعر المحظورة عليه ومداراته المباحة له، والتي كما يلاحظ تتنافى كلية ودائرة العقيدة ؟ انه تحريض ضمني للشعراء على ركوب ما ترغبه النفس اذا رغبتها كوصف النساء والتشييب بهن، ووصف الخمور والتفاخر وركوب ما اعتادت الروح الجاهلية الشاعرة على اتيانه. فيروى ان الشاعر الاموي الراعي النميري،(35) أنشد في حضرة الخليفة عبد الملك بن مروان رائعته الذائعة الميت التي مطلعها:
ما بال دفك بالفراش مذيلا
أقذى بعينك أم اردت رحيلا
الى ان قال مخاطبا عبدا لملك:
أخليفة الرحمان انا معشر
حنفاء نسجد بكرة وأصيلا
عرب نرى لله في أهوالنا
حق الزكاة منزلا تنزيلا!
فقال له عبدا لملك بن مروان العارف بخبايا الشعرية: "ليس هذا شعرا هذا شرح اسلام، وقراءة آية ".(36) ومن هنا يمكننا ان ندرك من خلال هذه اللفتة النقدية الفذة ان القيم الدينية شيء، والقيم الشعرية شيء آخر. فالشعر ليس سجل عقائد ولا مروجا لقيمها؟ فالراعي النميري تحول في بيتيه الى واقع الموعظة الحسنة، ومن هناك زجره عبدا لملك على الخروج بالشعر من دائرة اختصاصه ليتحول الى ناظم للآيات وموضح لتعاليمها. فليس من مهاو الشاعر ان يحل محل رجل الدين أو يتحول الى مروج لاعمال خيرية لها من يتولى أمرها.
ولما كان الشعراء هم أفضل من يدرك هذه المعايير الفنية، وأكثر الناس حرصا على العمل بها وذلك بفضل طبعهم الشعري الدقيق الاحساس فانهم لم يجدوا حرجا من تزوير القول الشعري في حضرة خليفة ورع كعمر بن عبد العزيز الذي تعود الكثيرون اعتباره خامس الخلفاء الراشدين. هذا الخليفة الورع ارتكزت أحكامه الفنية فيما يتعلق بمعايير الشعر ومكافأة الشعراء على شروط يأتي في مقدمتها توافر القيم الاسلامية في قصائدهم وكذلك ذكر الله والصدق في القول ؟ هذا الشرط الذي يتنافى كلية مع مبدأ الشعر بموجب الاقرار الرباني في آية الشعراء وكذلك بموجب رأي النقاد القدامي. فعمر بن عبد العزيز قبل سماع الشعر كان يستنطق الشعراء قائلا لهم: " قل ولا تقل الا حقا فان الله سائلك ".(37) ودون ذلك فالخليفة غير مستعد لتضييع وقت المسلمين في سماع اللغو من الكلام.
هذا الموقف- المعادي لصميم الشعر- جعل بعض الشعراء يسخر من الخليفة ومن شروطه بطريقه الذكية الخاصة، فيقال ان الشاعر الأموي نصيب استأذن ليمدح عمر بن عبدالعزيز، فلم يأذن له ؟ فما كان منه سوى ان راوغ حاجب الخليفة بذكاء الشعراء وقال له: خبر أمير المؤمنين اني قلت فيه شعرا أوله الحمد لله، فأعلموه فاذن له فأدخل عليه وهو ينشد مادحا الخليفة:
الحمد لله، أما بعد ياعمر
فقد أتتنا بك الحاجات والقدر
فأنت رأس قريش وابن سيدها
والرأس فيه يكون السمع والبصر
فأمر له بجائزة". (38) لكن هذا الشعر لو قيل في حضرة عبدا لملك بن مروان أو سمعه الاصمعي لأحيل قائله على مصلحة الشؤون الاجتماعية او مصلحة. أوقاف المسلمين لتتكفل بحاجاته الاجتماعية. فهي الجهاز المؤهل لفهم مثل هذا الخطاب الذي لا علاقة له بصميم الشعر. لكن، وكما رأينا، تمكنت حيلة الشاعر من ان تنطلي على سذاجة الخليفة الفنية ويأمر له بجائزة، ولو طال حكم خليفة كعمر بن عبد العزيز لتمكن الشعراء من احتلال مناصب الوعاظ في المساجد، او ألحق جلهم بدواوين المظالم كمتخصصين اجتماعيين. مثل هذا الوضع الذي آل اليه الشعر نابع من تشرب الخليفة الفاضل والعادل عمر بن عبد العزيز بقيم تجاهلت العناية الإلهية والنقدية التي منحت للشعراء واعطتهم حق القول بما جرت به المقادير الشعرية وليس الدينية والسياسية. ويمكن أن نقول، كما قال ابن سلام الجمحي: هناك شاعر يتاله وهناك شاعر يتعهر، وهذا ما أدى بعبد الله بن محمد بن أبي بكر رضي الله عنه الى الولع برواية وانشاد شعر الغزل بنوعيه الفاحش والعفيف، فقد كان يبدي اعجابا كبيرا بشعر عمر بن ابي ربيعة، وفي الوقت ذاته كان يقبل على سماع شعر كثير، إلا انه كان يعيب على هذا الاخير كثيرا من معانيه، ويفضل عليه شعر عمر بن أبي ربيعة فيروى عنه انه قال: "الشعر عمر بن أبي ربيعة لوطة بالقلب وعلق بالنفس ودرك للحاجة مما ليس لشعر غيره. وما عصي الله عز وجل بشعر أكثر مما عصي بشعر عمر. (39) فهذا حكم آخر يجيز للشاعر ما لا يجوز لغيره، ومن هناك كانت النتيجة التي خلص اليها القاضي الجرجاني في لمحته الدالة، والمذكورة في أول هذا البحث والقاضية بوجوب بقاء الدين بمعزل عن الشعر كنتيجة مبنية عن معاينة دقيقة في المتن الشعري العربي.
يكفي الشعراء فخرا واعتزارا ان الله سبحانه وتعالى منحهم حق الكذب الفني، وحق حرية القول الذي قد يرده البعض من صميم الانحراف والخروج عن السائد من الأعراف والمعتقد، لذا، كان الشاعر الاموي الفرزدق موفقا حين انشد الخليفة سليمان بن عبد الملك متجرئا عليه بهذا القول الفاحش الماجن في رأي الاخلاقيين ومصرحا فيه بارتكاب المعاصي ومعاشرة ست أبكار من البنات دفعة واحدة قائلا:
ثلاث واثنان فهن خمس
وسادسة تميل الى شماسي
فبنتا جنابتي مطرحات
وبت أفض اغلاق الختام
فأحس الخليفة سليمان بالحرج والامتعاض وحاول أن يبدي اعتراضه على المسلك الشعري الذي ركبه الفرزدق، فقال له: "أخللت بنفسك، أقررت عليها بالزنا عندي وأنا امام! فلا بد من اقامة الحد عليك، فقال الفرزدق: ومن أين اوجبته علي؟ قال: لقوله تعالى: (الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة )، فقال الفرزدق: فان كتاب الله يدرؤه عني بقول الله تبارك وتعالى: (والشعراء يتبعهم الغاوون ألم تر انهم في كل واد يهيمون وانهم يقولون ما لا يفعلون)، فأنا قلت ما لم أفعل .(4)
قراءة في آية الشعراء
يكفي مملكة الشعر والشعراء انها استفادت من هذا الغفران الرباني الذي جعل مثل هذه الآية المحكمة تخرج من خصوصية السبب الى مدار العموم ؟ وإلا ما كان القصد الرباني يصلح لكل زمان ومكان. ومدار الشعراء هنا هو اقتناص مجاز الحقيقة الفنية المفتوحة على التأويل والتي هي المرتع الخصب الذي تعشوشب فيه مشاعر الشعراء بعيدة عن دوائر الواقع القابل للتفسير بل محرضة المقبلين عليها بوسائل اجرائية تمكنها من التأويل الذي يحسن الاستفادة من تعابير محملة بالمعاني التي يوفرها "أعذب الشعر أكذبه "دون غيره".
وأحسبني أرى ان هذا الامتياز الذي حظي به الشعراء في الآية الكريمة من سورتهم القائلة: (والشعراء يتبعهم الغاوون، ألم تر انهم في كل واد يهيمون. وانهم يقولون ما لا يفعلون )، هذه الآية التي بذل المفسرون القداس والمحدثون كل جهدهم فيها من أجل تحديد أهدافها من أمثال القرطبي والطبري وابن كثير والزمخشري وغيرهم والذين استهوتهم ألفاظها قبل معانيها فراحوا يلهثون وراء تحديد المقاصد من عبارات كالغاوين، والتابع والوادي والهيام وغير ذلك. بالاضافة الى حدة اختلافهم في وقت نزولها، هل كانت مكية قبل الهجرة أو مدنية ؟ وهل كانت العبرة منها بعموم اللفظ لا بخصوص السبب ؟ وهل كان المقصود هم شعراء المشركين أم الشعراء عامة ؟. الا أنني لا أرى في ذلك أهمية قصوى؛ لان الآية الكريمة التي قد تكون وردت لتحديد الخاص فقد باتت اليوم تعني العام نظرا لصلاحية القرآن لكل زمان ومكان. فاذا كان الله تعالى بموجب صريح آية العموم هذه اجاز للشعراء ان يقولوا ما يريدون. فقد فعل هذا الامتياز الضمني فعله في مسيرة الأدب اللغوية والنقدية، فقد أجاز اللغويون للشعراء بدورهم ما لا يجوز لغيرهم وهم مكرهون عن ذلك، وبقيت بذلك أبواب الضرورات الشعرية مفتوحة أمام الشعراء جمعت فيها مخالفاتهم للقوا عد النحوية والصرفية وحتى اللغوية وقدر وها انها ارتكبت تحت طائلة الضرورات التي تبيح المحظورات قياسا. كما اجاز الخليل بن أحمد والعروضيون حق الخرق لبحور الأوزان فرخصوا لهم في الزحافات والعلل مثلما رخص لهم الله سبحانه وتعالى ان يقولوا ما لا يفعلون، ومثلما رخص لهم نقاد الشعر الخوض في الكذب الفني للتحرر من ربقة الواقع الذي لا تستحب محاكاته فنيا وشرعيا.
هذا الاقرار بحق التجاوز بالنسبة للشعر والشعراء، شرعا ونقدا، يبيح لهم حق التفاخر بمثل هذه الامتيازات التي لم تمنح لغيرهم، ولا يمكن قراءة آية الشعراء بعد التدبر في مقاصدها أن تكون بمثابة التقليل من شأن الشعر، بمختلف اغراضه، والشعراء حتى ولو انها استدركت بآية الاستثناء التي تحولت في رأي بعض المفسرين الى القاعدة العامة التي يجب ان يكون عليها سلوك الشعراء والموضوعات التي يجب أن يخوضوا فيها.
مثل هذا التخريج لا نوافق عليه لعدة اسباب منها: كون الاستثناء في حكم اللغة يمثل الخصوص، والخاص لا يمكن ان يلفي العام، والكثرة تلفي القلة، اورهما يمكن ان نحمل أداة الاستثناء "إلا" على محمل آخر يجوز لغريا وهو اعتبارها الا حرف عطف كما يرى الكوفيون.(41) "فمذاهب الاحتيال في النحو لا تضيق كما يقول القاضي الجرجاني"(42) فالخاص المستثنى هنا لا يعني القاعدة العامة المطردة التي يجب أن يكون عليها الشعر في كل زمان ومكان، بل هو استثناء الضرورة الظرفية المحدودة الزمان والمكان والهدف ؟ كوقوف بعض شعراء العرب في صف الدفاع عن العقيدة الاسلامية من أجل تمكينها، ووقوف البعض الآخر مناوئا لها. لكن بمجرد انتهاء السبب المتنازع عليه عاد الجميع الى حظيرة (والشعراء يتبعهم الغاوون..)، وهو ما يمكن ان نفسر به وقوف بعض أفكار الشعراء في مختلف الظروف التاريخية من اجل مناصرة ايديولوجية أو أفكار يرون انها تصلح وضعا أو تقوم انحرافا أو تبشر بأمل. كل هذا يدخل في دائرة الاستثناء المنصوص عليه في آية الشعراء ولا يلغي مفهوم الشعر كما حددته الآية التي تجيز القول وتقر بضرورة حضور الجمهور- الغاوون – كشرط من شروط تمام الأداء الشعري مع عدم محاسبة قائله بظاهرا للفظ.
ان الشعر العربي الذي يمثل القاعدة العامة المنصوص عليها في آية الشعراء بما فيه شعر شعراء
الاستثناء يشكل الحيز الضروري، بالنسبة للشرع كما يقول ذلك عبدالله بن عباس رضي الله عنه: "الشعر ديوان العرب فاذا خفي علينا الحرف من القرآن الذي انزله الله بلغة العرب رجعنا الى ديوانها فالتمسنا معرفة ذلك منه " ولا اظن انه كان يلتمس الاهتداء الى فهم القرآن الكريم من الكذب بالمفهوم المجرد لهذا المعنى، او بما يقوله الشعراء ولا يفعلونه… كل هذه المعاني تبقى مجازية تعبر عن أبعاد فنية تدخل في خصوصيات المجاز بالتعبير القديم، والإنزياح بالتعبير المعاصر، الذي يميز كل الأساليب اللغوية بما في ذلك لغة العرب.
ويقول الصحابي الجليل عبدالله بن عباس رضي الله عنهما، ودائما في فضائل الشعر: "اذا سألتمونى عن غريب القرآن فالتمسوه في الشعر، فان الشعر ديوان العرب ". انه يمثل مكارم الاخلاق، فلا اعتقد ابن عباس هنا يقصد شعر شعراء الاستثناء المشار اليهم في الآية الكريمة والتي تقول (الا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وذكروا الله كثيرا وانتصروا من بعد ما ظلموا) هؤلاء، وكما أقر بذلك الأصمعي نجد استاذه الاكبر وأحد القراء السبعة ابو عمرو ابن العلاء لا يلتفت الى شعرهم ولا يعتبره حجة لغوية أو اخلاقية او ما الى ذلك… فهؤلاء يمثلون الخاص في اطار العام، ويمكن أن تقابل بهم الشعراء الكفار الذين أصروا على كفرهم وناصبوا الدعوة الإسلامية، عداء صارخا كموقف من مواقف ارادة التغيير الذي كان من المفترض ان يكون الشعراء من السباقين اليها قبل غيرهم لإيمانهم بمهمة الشعر الاستشرافية والمؤمنة بالتجاوز والتحديث.
هذا الشعر المبجل المكرم لدى العرب، والذي جمع فأوعي، ما أظن انه هو المقصود بظاهر الفهم الساذج لآية الشعراء التي تشير الى الخاص في اطار العام الدائم المهيمن، وهو ما اشار اليه الخليفة عمر رضي الله عنه في قوله: " كان الشعر علم قوم لم يكن لهم علم أصح منه "، أو كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: "لا تدع العرب الشعر حتى تدع الابل الحنين"، وهو أمر مستحيل حدوثه، وتغييره. ولا أظن أن الله سبحانه وتعالى حين وصف الشعراء بأنهم يقولون ما لا يفعلون فيه تقليل من شأنهم أو يعني التحقير من منزلتهم فيكفي الشعراء فخرا آخر انهم كرموا بسورة في القرآن الكريم، ويكفيهم فخرا آخرا ان ورود كلمة شعر وشاعر جاء ذكرها في القرآن: ست مرات (43) وكلها يمثل القول الفصل في كل ما يتعلق بالشعر والشعراء ورفع اللبس بينهم وبين اختصاصات أخرى كالسحر والنبوة والكهانة… فالشعر بعد الفرز القرآني يبقى شعرا كما حددته آية الشعراء من سورة الشعراء، آية 224- 227.
ومن هنا يمكن أن أجزم ان النظرة الإسلامية للشعر لم تكن الزامية ولا مؤطرة، بل كانت تعكس حقيقة لم تر ضرورة الى تغييرها. لأنه ربما وجدت الشعر الذي يعتبر من مكارم أخلاق العرب قد بلغ درجة التمام أو أوشك ؟ ومن هنا كان الاقرار بوجوب احتفاظ الشعر بالحقيقة الفنية بدل الحقيقة المجردة التي تلهث وراء رصد الواقع بواسطة المحاكاة، وهو مطلب رفضته النظرة الإسلامية الشمولية المفزع، والتي تبيح للفنان ان يلتزم في فنه بالوازع الفني بدل غيره من المؤثرات الاخرى حتى ولو كانت عقيدة.
انها نظرة من أقدر النظرات المستوعبة بجدارة نادرة لماهية الفنون وحسن توجيهها الامثل حسب طبيعتها الملوكية – وقد تجلى هذا التوجيه الحكيم فيما يتعلق بكيفية تصور فنون اسلامية تناهض المحاكاة وتتسم بالتعبير عن المشاعر والعواطف الانسانية من خلال الكلمات والرمز، والتي تأتي الألوان والاشكال فيها لنقل ماهية الأشياء التي لا يمكن ايصالها بما دون التجريد.
فالفنون الاسلامية في انطلاقتها القسوى من خلال هذا التوجيه، الذي سبق وأن شرحناه، باتت ترصد في تجلياتها بما يسمى بمبدأ الاستحالة، او رصد لحظة جمالية نموذجية تستهدف الاختراق الى الداخل واستنطاق ما هو جوهري وتجسيد روح المعاني لا دلالاتها الخارجية.(44)
فيروى ان ابن عباس رضي الله عنهما اشار على احد المصورين بقطع رؤوس الحيوانات وجعلها تشبه الرموز أكثر من الحقائق. وهي عملية لا محالة، تبيح للفنان استجادة الكذب الفني، فالفن يجب ان يتحدث بدلا عن الطبيعة. وخير ما اختم به هذا البحث هو وقفة مع الأستاذ القدير غازي عبدالرحمن القصيبي وهو يتحدث في مدخل كتابه أدمن هم الشعراء الذين يتبعهم الغاوون…"؟ عن آية الشعراء وما يدور من حولها من غمز ولمن من قبل الشعراء أنفسهم ليجمعوا في النهاية على ان عبارة "يقولون ما لا يفعلون " هي انه يحق للشعراء دون غيرهم من البشر ان يكذبوا، يقول الاستاذ غازي: "ولا اعتراض لدي على مثل هذا التفاهم ان وجد". (45) أما اعتراضه الذي بقي معلقا، رغم صيغة عنوان كتابه الاستفهامية، فهو عدم وجود ما يبيح الكذب في القرآن الكريم، ونحن نوافقه على هذا، لكن الكذب المقصود في الشعر والفنون عامة هو رفض المحاكاة وعدم التقيد بها ولعله المقصود باباحة التقول للشعراء فيما يمكن اعتباره الكذب المجازي والله ورسوله أعلم.
الهوامش
* "ألقيت هذه المحاضرة بمقر الجمعية الوطنية الثقافية الجاحظية بالجزائر في 14 يونيو 1999.
1- القاضي الجرجاني الوساطة ص 64.
2- أبوالفرج الاصفهاني: الأغاني، ج 4- 142.
3- سنن الترمزي، ج 4، ص 17 2.
4- انظر تفاصيل اضافية أكثر في الدراسة القيمة والدقيقة التوثيق التي أنجزها الاستاذ سليمان الشطي بعنوان: "الاسلام والابداع الشعري" ابتداء من ص 141 الى 176، مجلة عالم الفكر الكويتية، المجلد 14، العدد 4، يناير- فبراير- مارس 1984 م.
5- أبوالفرج الاصفهاني: الاغاني، ج 4/147.
6- ابن سلام: طبقات فحول الشعراء، ج 1/217
7- سنن أبي داود.. 5/ 281، الترمزي… 4/218
8- أبوالفرج الاصفهاني: الأغاني، ج 1 / 141
9- سليمان الشطي: الاسلام والابداع الشعري… ص 161.
10- المرجع نفسه… ص 160.
11- غازي عبدالرحمن القصيبي: من هم الشعراء الذين يتبعهم الغاوون ؟… ص-77-76
12- ابن رشيق: العمدة، ج1، ص 28.
13- سليمان الشطي: الإسلام والابداع الشعري… ص 163.
14- عبدالعزيز جسوس: نقد الشعر عند العرب في الطور الشفوي… ص 63.
15- ابن سلام: طبقات فحول الشعراء، ج 1/243.
16- ابوالفرج الاصفهانى: الأغاني، ج2 /158.
17- عبدالعزيز جسوس: نقد الشعر عند العرب في الطور الشفوي… ص 64.
18- ابن رشيق: العمدة، ص 172.
19- عبدالعزيز جسوس: نقد الشعر في الطور الشفوي… ص 55.
20- ابن سلام: طبقات فحول الشعراء، ج 1/242.
21- غازي عبدالرحمن القصيبي: من هم الشعراء الذين يتبعهم الغاوون… ص 78.
22- أبوالفرج الاصفهاني: الأغاني، ج 8/240.
23- ابن عبد ربه: العقد الفريد… ج 6/105.
24- سليمان الشطي: الإسلام والابداع الشعري… ص 143.
25- ابن رشيق: العمدة، ج 1/172.
26- سليمان الشطي: الاسلام والابداع الشعري… ص 141 الى 176.
27- سليمان الشطي: الإسلام والابداع الشعري… ص 166.
28- المرجع نفسه… ص 164.
29- عبدالعزيز جسوس: نقد الشعر عند العرب في الطورالشفوي.. ص71.
30- أبوعلي… الحاتمي: حلية المحاضرة في صناعة الشعر، ج 1، ص 195.
31- رومان جاكبسون: قضايا الشعرية… ص 11.
32- المزربان: الموشح، ص 85.
33- ابن رشيق: العمدة، ص 69.
34- المزربان: الموشح… ص 90.
35- دكتور محمد نبيه حجاب: الراعي النميري… ص 153-155.
36- المزربان: الموشح.. ص 249.
37- ابوالفرج الاصفهاني: الاغاني… ج9/250.
38- ابن عبد ربه: العقد الفريد ج6/124.
39- المزربان: الموشح… ص 328، الاغاني: ج 1/113.
40- ابن قتيبة: الشعر والشعراء… ج1/486.
41- ابن هشام: مغني اللبيب عن كتب الأعاريب… ج1/73-77.
42- القاضي الجرجاني: الوساطة… ص 62.
43- في سورة 1- ياسين، آية 69، 2- سورة الحاقة، آية 41، 3- سورة الأنبياء، آية 4، 4- وسورة الطور، آية 30، 5- سورة الصافات، آية 36، 6- سورة الشعراء، الآيات 224- 227.
44- انظر تفاصيل أكثر من الكتاب القيم: جماليات الفن الاسلامي، الكسندر بابادويولو الذي يقع في ستة مجلدات ويحتوي على 1950 صفحة تحتوي على 881 لوحة و270 شكلا بيانيا حصلت هذه الدراسة على جائزة معهد فرنسا جائزة دانيال بوفري. ونشرت عام 1972م بجامعة ليل فرنسا.
45- غازي عبدالرحمن القصيبي: من هم الشعراء الذين يتبعهم الغاوون ؟… ص 7.