ليس اقل من التشتت، ولا أكثر من الانتقائية، الرسم الحديث في الوطن العربي الآن، لا يخترع أزمانه من داخله، بل هو وليد أزمة دائمة، ابتلي بها منذ نشأته، وها هي تلتف الآن حوله مثل خيوط بيت العنكبوت لتخنقه، او على الاقل تتستر عليه في غياهبها، فن نشأ خارج الحاضنة الثقافية، في محاولة منه لاستدراج المحيط الثقافي الى منطقة استفهامية تقع خارجه، هي في الوقت نفسه منطقة مناوئة، كان حدثا ثقافيا غريبا ظل يكافح غربته هذه عن طريق اختراع أسئلة تخص الواقع الثقافي أكثر مما تخص واقعه، محاولة إنشائية تتحاشى وضف الواقع بأدواته،
من المفارقات الغريبة التي صارت جزءا عضويا من تاريخ رسمنا، ان مفهوم الأصالة لم يتحقق الا مشتبكا بالماضي، وكان مخترعو هذه العلاقة المريبة هم ذاتهم دعاة الحداثة الفنية وروادها. وهكذا يكون مفهوم الحداثة قد حل في ديارنا ضيفا ملتبسا وحائرا، التلفت هي صفته الأكثر اثارة للتساؤلات، فهو كمن يضع قدما على بر في حين يضع قدمه الأخرى على بر ثان. وما لم ينتبه اليه رواد الحداثة الفنية، هو ان دعوتهم قد انطوت على تناقض خطير بين الغاية والوسيلة، بين المرتجى والمسعى، بين الهدف المؤجل والسلوك العاجل. تناقض سيؤتي أكله ازدواجية ما بين القول والفعل، وانعدام للتوازن يرافقه اهتزاز في الرؤية، تنعدم معه القدرة على التحكم بالمسار أو الحكم عليه وحينها يكون كل ما هو ممكن مقبولا؟ الارتداد الى الماضي يقابله الاقتلاع عن الجذور، شهوة المضي بكل احتمالاتها يقابلها الاتكاء على الثابت والراسخ والمؤكد والمتفق عليه اجتماعيا. ان الفاصلة ما بين الطرفين لا تكمن في مدى الاستجابة لتحولات العصر فقط، بل في امكانية حشد الوعي الشعبي أيضا. ذلك لان هذا الصراع بدلا من أن يندفع عميقا في مناطق تجلياته الثقافية صار مع الاحتكام لنوع التلقي يتخذ مسارات اجتماعية هي أضيق من ان تحتوي تفجراته، ومنذ ان اصبح الرهان شعبيا الى هذا الحد صار الرسامون العرب يتبارون، كل حسب مستواه، في إظهار سصالحتهم مع المشروع الجمالي الشعبي أو عدائهم لذلك المشروع. وفي المسافة ما بين الخيارين يتم قياس مفهوم الأصالة، وهو مفهوم كما هو واضح لا تحكمه شروط فنية خالصة. ذلك لان أصالة العمل الفني، وفق هذا المقياس، كان يتم تحديدها بناء على مقتضيات وعي مسبق لا صلة له بالفعل الفني لذاته. لقد شهدت طريقة التفكير العربية بالفن انحرافا واضحا على مبادئ حرية الفنان أثناء عملية الخلق الفني.
فهذه المبادئ ظلت مقيدة بارتباطها بمفاهيم جمالية افرزها الماضي وكرسها الحس الجمالي الشعبي حتى لدى دعاة الحداثة من الرواد او من الاجيال الفنية التي جاءت بعدهم. وظل الفنان العربي، والرسام هنا يمثله خير تمثيل، يرى أمالته إنما تكمن في الذهاب الى الماضي والغرف من بحوره التي هي في حقيقتها بحور ناشفة، وهو ما لم ينتبه اليه الا قلة من الرس امين الذين طاردتهم الشبهات وظلوا متهمين بعداء الاصالة والتنكر للتراث والتواطؤ مع مشروع الغزو الثقافي الغربي. في حين طرح هؤلاء الفنانون معنى آخر وجديدا لمفهوم الأصالة الفنية يتفوق على المعنى السائد من جهة احترامه لحرية الفنان في استجابته لشروط فعله الجمالي الداخلية وعناصر تربيته الفنية، وهو أمر لا يتنافى على الاطلاق مع انتماء الفنان العرقي او الديني أو الاجتماعي. ومن ثم فانه لا يستبدل الحاضنة الثقافية التي تجمعه بالآخرين بحاضنة ثقافية أخرى، غريبة ومريبة النوايا، كل ما في الأمر ان هذا النوع من الرسامين شعروا أن ارتباطهم بفعل الرسم لذاته هو أقوى من إن يقاوموه بمصدات وعي لا يستجيب لحريته، بل ويخذلها، ولهذا مضوا وراء الهام هذا الفعل الذي يتستر على لذائذ حرية لم تكتشف بعد، وكانوا بذلك انما يعبرون عن أصالة انتمائهم للرسم، عالما مفتوحا على ما لا يحصى من التوقعات والمفاجآت الجمالية. ان امتناع هؤلاء الرسامين عن الخضوع للمعني السائد لمفهوم الأصالة، بل وتمردهم على هذا المفهوم انما ينطوي على
ثقة بمعنى بديل للمفهوم ذاته، معنى يأخذ بنظر الاعتبار استقلالية الفنان وخصوصية تجربته، وهنا بالضبط يكمن واحد من اهم المبادئ التي انطلق منها مفهوم الأصالة الفردية، وعلى تلتها فان تجارب الفنانين الباحثين من أمالتهم الشخصية _u أثبتت أن مفهوم الأصالة هو الآخر لم يعد تألبا جاهزا أو وصفة معدة سلفا، وان من شأن ازاحته من مرتع صنميته ان يهب الفنان حرية مضافة. هي في الوقت نفسه فضاء يخترقه الفنان وصولا إلى تحققه من جدارته الشخصية لابتكار جماله الخاص.
ان فنانينا اليوم وهم يجوبون المنافي، حالمين بفن يكون مخلصا، او على الأقل معبرا عن المحنة الوجودية التي ما فتئ المواطن العربي يغرف من لجتها انما يقدمون دروسا أهلة بالموعظة الشخصية، هذه المواعظ التي لو كرست نقديا لكانت التمهيد العملي للنظرية الجمالية العربية المعاصرة وبالاخص بعد ان افتضح هزال الدعوات إلى فن قطيعي، بحجة أبعاده الاجتماعية،
حيث صار واضحا بعد كل ما أنجزته الأنظمة التي تدعي الثورية في الوطن الغربي من كوارث ثقافية واقتصادية وسياسية البعد النفعي والذرائعي التخريبي لهذه الدعوات.
يستفز فن منى حاطوم (انجليزية من أصل فلسطيني) بشكل عام كل من لا يرى في الجمال مشروعا رؤيويا مرجأ، لا بسبب ما ينطوي عليه من اثارة تعبيرية مستترة، بل بسبب غموض ما يرمي اليه، ذلك لانه لا يقدم الشكل على ما يدعي انشاءه، وبالأخص ان محصلته لن تكون شكلية بالضرورة، فالشكل لدى هذه الفنانة لا يطرح للتداول ومن ثم للاستهلاك، قيما جمالية محددة ومحاطة بمهارات تأويلية جاهزة، فن (حاطوم) ينتزع تراثه الشكلي من لحظة خواء تعبيري وهو لذلك لا يعني الا بهذا النوع من الفراق، فراق يقصد تكريس الأبدية، كونها نزعة استعداد للقبول بالقطيعة حلا جماليا غير مضمون. وهنا تتخطى هذه الرسامة عقدة الخوف من الطارئ، فهي تصنع من هذا الطارئ مبدأ مضيها الى ما اختارته من جمال بارد.. وهو جمال لا يستفز بذاته، بل يكون محط استفزاز، ذلك لانه لا يقيم صلة مباشرة بالمشاهد المعني بنسيج الجمال المباح والمنتهك تعبيريا وشكليا في الوقت نفسه، انه بالاحرى يزيح عن كاهل المشاهد أعباء التفكير بمرجعية ما يرده من أشكال، سواء كانت هذه المرجعية ثقافية ام اجتماعية او تاريخية، العمل الفني، هنا، يكون من جهة تماهيه مع عزلته، وسيلة لتحرير المشاهد من اسر التفسير المسبق والجاهز للفعل الجمالي، انه يطلق هذا المشاهد في فضائه، كما لو انه يكتشف براءته مجددا. وهي على العموم براءة مخادعة، اذ سرعان ما يعود المشاهد الى اسئلته التأويلية العميقة، ولكن حقا هل يمكن ان يبتكر العمل الفني بذاته هواءه الخاص؟ بمعنى هل يمكنه الاستفنا، نهائيا عن مرجعياته كما نزعم؟ هنا ينبغي إن نتحقق من الخط الفاصل بين مفهومين للمرجعية: الأول يدعي الثبات بسبب مشاعيته، أي انه مرجع مقدس لا لشيء الا لانه مكرس ثقافيا. وهو ما يمنحه غطاء التداول الشعبي، أما المفهوم الثاني، فانه لا يدعي القدسية، بل انه يظهر قابليته على التراجع الضمني عن أحكامه. وهو مفهوم تمنعه شخصانيته من الانتشار بين العامة، في الحالة الأولى تكون المرجعية محددة بإطار وعي جمالي هو أشبه بالعقد المبرم بين المبدع والمتلقي أما في الحالة الثانية فان الخصومة بين الاثنين فيها لا يمكن إخفاؤها، وهي خصومة لا تقتصر على المعالجة الشكلية لفكرة الجمال، بل ان هذه المعالجة تختصر القطيعة.
بين عالمين: عالم يذهب إلى الجمال عاريا، وغير مسلح بنية التأليف الشكلي للفكرة وهي نية تتستر على محاولة مرآتية لاظهار المعاني، وعالم آخر يختص بالمعاني الشكلية والمضمونية ويسعى الى ابتكار اشكال متناغمة تكون بمثابة الوعاء الذي تأوي اليه هذه المعاني، والفن الجديد في جزء من مسعده انما يرغب في التخلي نهائيا عن عالم المعاني، وبالأخص منها ما ييسر عملية التراسل بين الفنان والمتلقي. فما يجب ان يواجهه العمل الفني بكامل خبرته: عزلته الداخلية والخارجية على حد سواء. فهو من جهة يرتجل عصيانه الذاتي لخبرته الشكلية. الأمر الذي يجعله لا يمثل لحظة من لحظات التراكم المعرفي، ومن جهة أخرى فانه يزيح عن طريقه كل معرفة ممكنة، جماعيا. ان منطق الكشف بمعناه الالهامي هو المنطق الوحيد الذي تسري قوانينه بقوة غموضها. وهنا يكون الفنان ازاء مهارة من نوع مختلف ، هي مهارة بقدر ما تكون ارتجالية بقدر ما تستلهم عزلتها، وهنا بالضبط تكمن أسباب الشعور بغرابة الاشكال التي تنتجها (منى حاطوم) وهي البريئة من أي انحياز شكلي.
فهذه الأشكال بالنسبة للمتلقي تطلع من منطقة عمياء، لا تاريخ يحكمها او تحتكم اليه، وهي لا تمارس تأثيرها على المتلقي اعتمادا على عاطفة مشتركة، بل هي تفعل العكس تماما، اذ أنها تنسف أية مناورة عاطفية ممكنة، مثلما تنسف أية شبهة شكلية محتملة. ربما كان هذا الفن تمهيدا لتحول جوهري في مفهوم الفن، اذا لم يكن هو في حد ذاته التحول الذي يشير الى قيام منظومة جديدة من المفاهيم، التي تنقذ الفن من تحجر أساليب الحداثة. وهي أساليب صارت أشبه بممارسات الحواة المخادعة، فالفنان الحديث صار اليوم قريبا من منطق السوق، بل وملتبسا بهذا المنطق صار يخفي خيبته عن الأنظار، هذه الخيبة التي نتجت عن شعوره، بقوة الاتباعي في تجربته، حيث تناقض الممارسة الاتباعية مبدأ الحرية الذي يقوم عليه الإبداع، بغض النظر عن المثال المتبع.
ان الفن الجديد اذ يطرح أمامنا تجاربه (وهناك ما يجسد هذه التجارب في عدد من المحاولات في غير بلد عربي او في المنافيا فانه انما ينتقل بالذائقة الفنية من منطقة استسلامها السلبي لقدر اسمه الجمال الى منطقة يكون فيها الجمال موضع تساؤل. وهنا يكون التلقي عنوانا لفعل إبداعي مضاف. وهو بالذات ما عجزت تجربة الحداثة الفنية في العالم العربي بعمرها الطويل عن الوصول اليه او اختراعه. وهو أمر يمكننا تبينه في استمرار الذائقة الجمالية لدى نقاد الفن بالذات في الخضوع لمفهوم التقاليد الفنية، وهذا المفهوم هو الآخر في حاجة الى ترصيف جديد، فكما أرى ان التقاليد الفنية، بصيغتها العربية، بغض النظر عن عناصر تكوينها، هي بناء حجري أصم، لا يمكن اختراقه الا عن طريق نسفه او هدم جزء عظيم منه. ولهذا السبب يمكننا ان نفهم لماذا تنشأ التحولات الفنية الانقلابية خارج سياج هذه التقاليد. بل وفي حالة تناقض أساسا مع كل ما أفرزته من قيم جمالية وثقافية. ويمكننا ان نفهم أيضا لماذا يفضل الفنانون المجددون، مضطرين، الإقامة في المنافي على البقاء في الاوطان، واذا ما كان البعد الانساني في هذا السلوك واضحا، فان المسعى الفني الذي ينطوي عليه هذا السلوك ما زال مسكوتا عنه. ان التجارب الفنية التي ترجو الذهاب بالمحاولة الانقلابية إلى أقصدها لا تقوم بذلك داخل العالم العربي، ومن ثم داخل الثقافة العربية، الا بأسلوب حي او مرتبك.
ويمكننا أن نجد في تجارب عدد من الفنانين العرب، التركيبية منها او المفهومية، وبالأخص في الامارات والسعودية خير دليل على الجرأة المغلفة بالخوف، ولذلك فان فهما جديدا للجمال لم ينشأ في الثقافة العربية، بل نحن الآن ما زلنا نعيش تجليات ذلك المفهوم الذي نشأ في خمسينات القرن العشرين، لقد بقيت المقولة التي تبلورت في ذلك الزمن تحكم زماننا بسبب النسيج الميت التي تتشكل منه عادة تقاليدنا الفنية والثقافية، ولذلك فقد بقي فننا، كوجود مفهومي، هو الفن نفسه الذي شهدت الخمسينات فورات نضوجه، وهو من هذا المنطلق فن قديم، فن ما زال يستعيد مرجعية تسكن زمانا غير زمانه. ولا يمكنني هنا ان استثني أي فنان عربي مقيم في وطنه من الوقوع في هذا الفخ المحكم، غير انني في الوقت نفسه لا يمكنني ان أشير الا الى عدد قليل من فناني المهاجر والمنافي معن استطاعوا ان يحرروا فنهم من عبودية التقاليد الفنية العربية، كما وصفتها، هناك اليوم في أوروبا وأمريكا فنانون عرب يفوق عددهم عدد الفنانين العرب المقيمين في أوطانهم، فير ان جلهم مازال ملحقا بأشد مناطق ثقافته المحلية ظلاما، فهم يجدون في التقاليد الفنية الفلكلورية حائط المبكى الذي يعيد اليهم صورة الوطن المفقود.
وهو فن يشهر حداثته حدادا على موت الحداثة، وهنا تكمن أحدى مفارقات ثقافتنا.
يعتقد الفنان العربي ان عصر الروائع لم ينته بعد، وان معجزة الخلق الفني ما تزال قائمة في ما لا يفنى، وهو ينظر باشفاق، مضطربا، الى التجارب الفنية العالمية التي تستلهم فكرة زوالها وتسعي اليها، وهو في ذلك انما يقيم اعتبارا لجسد العمل الفني لا لمغزاه، لأبديته المفترضة لا لسقوطه العابر في الفراغ النفسي. وكما أرى فإن الفنان العربي في هذه الرؤية إنما يجسد ارتباطه الأعمى بالمفاهيم التي تكرسها حياة أزاحت عن كاهلها عبء التاريخ المتحرك وسقطت في عتمة تاريخ ميت، هي الحياة العربية. وهنا تكمن واحدة من اكثر مفارقات ثقافتنا مأساوية فالفنان العربي، كونه عضوا حيا في الحياة بمفهومها الشامل، يدرك جيدا انه ضحية مزدوجة لهذا النوع من الحياة التي يعيشها العرب في لحظة من لحظات تدهورهم الحضاري: انسانا ومثقفا، ومع ذلك فانه فيما يفكر به وقيما يفعله إنما يستجيب لشروط هذه الحياة، بكل جمودها وتكلسها. هذه الثقة تتناقض مع مبدأ الشك، الذي يجب ان تتبناه الضحية او ما ينبغي لها ان تتبعه، غير ان الفنان العربي وهو الأكثر حساسية من سواه في تفسيري وتحليل الظواهر المعيشة، قد تماهى مع افرازات حياته الممعنة في نقصها الاتصالي، حتى صار هذا النقص فضيلة بنظر البعض. وصار ينظر إلى مغامرة الخلق الفني من جهة اتصالها بالماضي لا من جهة انفصالها عن هذا الماضي. وبغض النظر عن النيات المبيتة فان الفنان العربي، اليوم، هو كائن ماضوي يرى في الاستجابة لشروط العرض الانساني كما هو خير تعبير عن أمالته. ومن مغطس الصالة هذا ينظر الفنان العربي الى ما يجري من تحولات في العالم الخارجي. ومنطقه هو منطق الرافض الساخر، المتعفف، والحريص على الفن بمفهومه الذهبي إزاء ما انتهى اليه الفن من وضع مزر، رخيص، ومشاع، وزائل، وهو يرى ان الفن في العالم قد سقط في الحضيض، ولا تمثل نتائجه الجمالية الا موقفا عبثيا من الحياة ومن الفن في الوقت نفسه. وفي الحقيقة فان الفنان العربي في موقفه هذا يشبه الى حد كبير عقائديي الأمس الذين ينظرون الى تفكك الاتحاد السوفييتي على أساس انه خيانة عظمي للماركسية اللينينية، وكفى، وليس القصد من هذه المقارنة الدعوة الى الواقعية، بل محاولة للنظر الى العالم الخارجي مثلما هو، في حقيقته. وهو امر لا أظنه يسيرا على الفنان العربي وهو يرى في عزلته فكرة خلاص، انه يعيش حالة فرار نكوصية من الحاضر في اتجاه الماضي. ولذلك فانه لايز ال يتمنى لاعماله الفنية مصيرا متحفيا. وهو يوفر لهذه الأعمال كل المقومات التي تجعلها قابلة للتحنيط. في حين ان المتحف الفني المعاصر قد اكتسب اليوم ترصيفا جديدا أملى عليه وظائف جديدة تقع خارج المنحى التوثيقي، الجامد، وهي وظائف ازاحت المتحف من منطقة الاكتفاء المخزني، حيث تتكدس الاعمال الفنية متبعة معيارية تاريخية، الى منطقة التبشير الانتقائي بالحركات الفنية الطليعية، كما يفعل متحف (تيت) البريطاني بين حين وآخر. هذا التحول في الصفة المتحفية منح الفكرة المتحفية طابع حياة تتجدد، وهي حياة تتفتح على مغزى الفن في تحوله، ولا تملي على الفن شروطا متحفية مسبقة. هذه الشروط التي تضع في حسبانها معيارية جاهزة للخلود. وكما أرى فإن المتحف اذ يغادر أسطو رته القائمة على اشهار كثافة الوجود الفني قياسا للزمن، فانه يلقي بظلال اسطورة جديدة على العمل الفني لذاته، من غير ان يكون هذا العمل الفني قابلا للضم المتحفي. هنا مارس المتحفيون خيلتهم بذكاء لإنقاذ سمعة متاحفهم ليس الا. فمن خلال هذه الحيلة يكتسب المتحف وظيفة في ادارة الحياة الثقافية. من جهة التفاعل مع متغيراتها، لا من جهة الفعل الرقابي، الأبوي، الصارم والعابس وغير المكترث، وهكذا تكون المتاحف،، أو عدد منها، قد غادرت فكرة متحفيتها الميتة، في حين لا يزال يسعى الفنان العربي ولا يخفي وبضراوة لافتة، ولعه المتحفي، حيث تقف فكرة الخلود حاجزا بينه وبين اكتساب مهارات وحساسية جديدتين تجعلانه اكثر تمثلا لواقعه الهش وانسانيته العبادة. ذلك لان هذه الفكرة بصلابتها تمنعه من استيعاب كل ما يحيط حياته من عبث ومجانية. وهو فيما ينتجه من أعمال فنية أشبه بممثل اغريقي وجد نفسه واقفا وسط حلبة سيرك ويأبي سوى ان يظهر بكامل أبهته التراجيدية. وهذا المثل ليس للمقاربة ولكن لتوضيح عناصر المفارقة ليس الا، فالفنان العربي لا يزال يظهر حرصه على المسافة التي تفصل بين حياته وبين عمله الفني، ولا تزال الاعمال الفنية في العالم العربي مستغرقة في حياد سلبي يجعلها مؤهلة لكي تكون سلعة مترفة في سوق الفن. وليس غريبا ان ينتج يساريو الماضي العربي القريب لوحات وقطعا نحتية لتزيين بيوت الأثرياء الرجعيين، حسب التصنيف اليساري البائد. الأمر الذي يؤكد ان البوصلة التي يتبع الفنان العربي حركة ابرتها، هي بوصلة مخادعة، ولا يعتد بنتائجها. وهي بوصلة يغذيها خيال مقفل على عدد من البداهات التي لم تعد صالحة للاستعمال، اليوم فـ (الروائع) التي ينتجها الفنان العربي اليوم، ساعيا بها في اتجاه الخلود المتحفي هي في حقيقتها من مخلفات المسيرة التاريخية للفن، وهي لا تقدمه في العالم الا كونه كائنا منقرضا هو أشبه بديناصور استيقظ من غفوته فجأة، ويا للصدفة المرحة التي تجمعه بالديناصور في خزينة واحدة هي المتحف.
ان الفنان العربي (المعاصر) لا ينتج فنا معاصرا، لا لشيء الا لانه يمارس كل لحظة خيانة مبيتة لحياته، وهي خيانة مصدرها سوء فهم عظيم لهدف الفن ولوظيفة الفنان، ولولا سوء الفهم هذا لكان فناننا هو الاكثر قدرة على استحضار الأشكال الجمالية التي تليق بالعذاب والشقاء والألم الذي ينطق به الوضع البشري، وهي أشكال لا تعبر عن ذاتها الا بمواد فالتة من أي تقييم جمالي مسبق، ومواد تجلب فتنتها من انحسار المعنى الخالد للجمال، من ضموره المستتر، من رؤياه الكابوسية. هذا الفنان، لانه ابن واقع لا حدود لعبثيته، مؤهل لابتكار معنى آخر للجمال. معنى وحشي لا يبحث عن اية ألفة متحفية. ذلك لانه غير قابل للضم، وممتنع على اية محاولة للاستيلاء. غير ان الفنان العربي بعكس ما هو متوقع منه لم يتماه مع واقعه المعيش هذا، ولم يبتكر فنا يكون مرآة لهذا الواقع، لا بالمعنى التصويري، بل بالمعنى التجسيدي لعضوية هذا العالم. فلم يكن فنه ببنيته ونياته ودوافعه ومواده ابن هذا الواقع. هو فن لا يزال مصرا على أداء دور تزييني، عائم، ومغرب في الحياة. وهو دور لا ينسجم مع الدعوات النظرية التي يتستر خلفها أغلب الفنانين العرب. وهنا تقع مشكلث أخرى من مشكلات فننا، وهي مشكلة تزيد من عزلة الفنان لا عن الواقع فحسب، بل عن ذاته أيضا. ولذلك نواه يندفع وراء دعوات غيبية مضللة تغريه بالخلود، ولذلك فانه لا ينتج الا أعمالا مؤهلة للانضمام للتاريخ بصفته محرقة ومؤشر زوال. يبدو الاتجاه الحروفي في الرسم وكأنه آخر أصنام الحداثة الفنية في الوطن العربي التي تم هدمها، ولم تعد الذكرى كفيلة باعادة الاعتبار لهذا الاتجاه الفني الذي اجتاح الحياة الثقافية العربية في سبعينات القرن الماضي كإعصار، انطوى هبوبه على اجابات على عدد من الأسئلة الافتراضية التي بدت الحر وفية وكأنها العلاج الشافي لعصيانها واستغلاقها. ولم تكن هذه الأسئلة وليدة عصرها، بقدر ما عبرت عن ارتداد غير ضروري الى مرحلة الخمسينات، حيث سادت الرغبة في التأصيل المنضبط بقواعد وشروط الفكر البرجوازي الوطني. لقد اتخذ فنانوا لخمسينات قرارهم في الدفاع عن حداثة أساليبهم الفنية بوعي سلفي. أي من خلال افتراض صلة (قد تكون جينية) بين أشكالهم والفن القائم او ذلك الفن الذي يفترض ان يكون قائما. وقد وضع فنانون رئيسيون نتائجهم الفنية قيد الدرس التاريخي. وعلى هذا الأساس أمكن النظر الى محاولات جواد سليم في العراق ومحمود مختار في مصر واحمد الشرقاوي في المغرب. وكما يبدو لي من خلال قراءة تاريخية عابرة فان هذه المحاولات قد كفت واكتفت. أي أنها أزاحت الغطاء عن النبع وارتوت منه ولم تغادره الا بعد جفافه، بما يجعلها تمثل مرحلة تاريخية مغلقة. واذا ما كان هناك فنانون ستينيون قد استعاروا في هدايتهم جزءا من النتائج الجمالية التي انتهت اليها المحاولة الخمسينية (محمد شبقة وفريد بلكاهية في المغرب، وضياء العزاوي في العراق وأدم حنين في مصر) فان هذه الاستعارة ظلت في حدودها الشكلية ولم تسع الى تكريس الاستفهام الأصولي الذي انطلقت منه المحاولة لخمسينية. الأمر الذي يسر على هؤلاء الفنانين المضي، كل في طريقه التجريبي من غير الشعور بالذنب لعدم لالتفات الى الوراء. لقد كانت الستينات مرحلة تحرر مزدوجة: تحرر الرسام لعربي من أسئلة الخمسينات العربية وفي الوقت نفسه تعرف الرسم العربي فيها على حويته، فنا متخيلا لا يخضع لبحث جماعي عن الاسلوب. صار الأسلوب الشخصي هو الهاجس الملح ثكل رسام في حين اندفع الرسم، مفهوما، الى حدود التلميح المباشر بالعالمية، ولهذا وسط حمى التحول هذه لا يمكن النظر الى (الحروفية) استنادا إلى اسئلتها الا من خلال كونها فعل استرجاع خمسيني، غير ان ما يجب الاعتراف به أنها هي الأخرى قد شكلت فضاء مختلفا على الرغم من أنها لم تجلب معها هواء جديدا. ولم تلفظ الحروفية أنفاسها إلا بعد ان تحولت الى مشروع تجاري سهل ومشاع وشعبي. وهذا ما لا تستحقه، ولا يستحقه أي مشروع يقف وراءه فنانون ذوو رؤى مشعة ومؤثرة مثل شاكر حسن آل سعيد. الذي هو الآخر في وقت متأخر أصابته عدوى الستينات فغادر صنفاه الحروفي. لكن هذا الاتجاه (الحروفي) لم يكن الا ظاهرة هي مؤشر لما يمكن ان تقود اليه طريقة تفكير متأصلة في أعماق الفنان العربي. هذه الطريقة تتعلق بالأساليب التي يخترعها الفنان العربي (والمثقف العربي بشكل عام) لتبرير وجوده داخل فضاء ثقافي بعينه. فلأن هذا الفنان (ومن ثم المثقف / يعيش حيرة انتماء مستمرة، فان خياراته غالبا ما تكون ضيقة وهو يسعى من خلال هذه الخيارات الى ان يمهد لفنه اجتماعيا. ولا يتم هذا التمهيد الا من خلال استدراج المتلقي الى منطقة غير بعيدة عن خبرته الجمالية ومن ثم لا يشعر بالغربة فيها. وهي فكرة مغلقة، غالبا ما يدفع الفن ثمنها من حريته ومن قدرته على الاسترسال في نبوءته، التي غالبا ما تكون مبعث حيرة لما تنطوي عليه من مجهولية على المستوى المرجعي. وبسبب ذلك السعي الملفق لارضاء المتلقي، عاشت الحداثة الفنية في العالم العربي طوال حوالي خمسين سنة مقيدة بوعيها السلفي. هذا الوعي الذي يتستر على امكانية الردة الكامنة، ذلك لان سؤال الأصالة بصيغته العربية كان الى وقت قريب قائما، ومحميا بقوة المؤسسة الرسمية كأحد اختبارات الولاء او بقوة المؤسسة شبه الرسمية كأحد الأسئلة النقابية. وكان اتهام التغريب هو الآخر قائما، بكل الهلع الذي ينطوي عليه هذا الاتهام كقوة عزل ثقافي. وكما أرى الآن فان سقوط الحر وفية كآخر صنم من أصنام الحداثة العربية انما هو جزء من سقوط عمارة البداهة العربية الخمسينية، ذلك السقوط الذي تأخرنا كثيرا في اكتشاف وقوعه. ولم يكن سبب ذلك التأخر الا انغماسنا في سحر الماضي وغوايته.
ذلك لان سلوكنا الحداثي كان مشفوعا دائما بعاطفة عائلية ازاء الماضي، هي من بقايا تكويننا الريفي. الأمر الذي جعل النظرة عدائية الى دعوات الهدم. وجعل الدعوة إلى القطيعة نوعا من التآمر. وهنا يكمن سر العطب السريع الذي تتعرض له كل محاولة للخروج على المسلمات الجمالية. فأما يلجأ الفنانون الخوارج الى التراجع وتقديم فروض الطاعة او يدفع بهم الاضطرار الى مغادرة أوطانهم سعيا وراء وطن افتراضي تكون محاولتهم الانسانية فيه مصانة. وبسبب هذا الاضطرار فقد غادر عدد كبير من الرسامين العرب أوطانهم انحيازا لحريتهم وكرها في النهايات الحزينة التي أدت اليها سبل الحكم في الوطن العربي في الوقت نفسه. لقد اقترنت البداهة الجمالية الما ضوية بالعنف الذي يمارسه الحكم في الوطن العربي في حق معارضيه، فصار كل من يخرج على هذه البداهة بمثابة معارض سياسي. وأظن أن آلية الحكم ما كان بإمكانها ان تستمر بهذا التكريس الميت لولا اعتمادها على آلية ثقافية تفرض النهج الاتباعي حلا. ومن الغريب ان حركات الحداثة الفنية في العالم العربي في جزء مهم منها كانت تخدم في هذا الاتجاه. ولكن السؤال اليوم، وبعد ان سقطت أصنام كثيرة كان تكبل بقدسيتها الحياة العربية، وليست الحروفية الا أحد تجلياتها، الا يواجه الرسام العربي محنة هي من نوع آخر، يلخصها ذهابه الى الرسم بمفرده، وهو أشبه بمن يخوض قتالا فرديا من غير ان يكون عارفا بفنون هذا القتال؟ ذلك لان هذا الرسام كان الى وقت قريب ابا بارا للمؤمسة. (ولا يهم اذا ما كانت هذه المؤسسة سياسية أو اجتماعية او ثقافية). ولانه كذلك فقد تربى على نوع من الحماية التي تمثلها رعاية هذه المؤسسة لخطواته. وكان يستلمم جز،ا عظيما من قوته من هذه الحماية، فكيف به يقوى على الوقوف فردا وحيدا عاريا الا من فنه؟ لقد فشل غير فنان عربي مهاجر في اختزال المسافة بينه وبين فكرة الحرية. الأمر الذي يفسر لجوء الكثيرين الى الاحتماء بظل الفيتو الحزبي او الطائفي، وذلك استجابة لسلوك مؤسساتي تطبعوا عليه، وهو سلوك لا يشجع على التفكير في امكانية خروج الرسم العربي الحديث من قمقم الوعي السلفي. وهو ما يمكن تبينه في الكثير من التجارب الفلكلورية الرثة التي تثير الشفقة وتدعو الى التشاؤم. أما المحاولات الأخرى التي جسدت نزعة أصيلة وراسخة للدفاع عن فكرة الحرية وتجسيدها، وهي ليست قليلة، فإنها كانت ولا تزال هائمة في فضاء غربتها. ويكاد يكون وصولها الى المتلقي العربي التي هي جزء من وجدانه الإنساني اقرب الى المستحيل. في ظل ارتباط التفسير السياسي الجاهز بالبداهات الجمالية السائدة، فهذا النوع من النتاج الفني هو من وجهة نظر المؤسسة جزء من فعالية الصوت المعارض الذي يجب خنقه. ولهذا فقد بقي فن الخوارج من الفنانين مكبلا بعزلته، محروما من امكانية ان يغرس رؤاه في الأرض الطيبة.
في العقدين الأخيرين تراجع سؤال الهوية في الثقافة العربية بشكل عام وفي الفنون التشكيلية بشكل خاص. وكما أرى فان هذا التراجع على الرغم من إيجابيته النسبية، ما كان ممكنا لولا حالة التشتت الاستثنائية التي يعيشها النتاج التشكيلي العربي بسبب توزع الفنانين التشكيليين العرب بين المنافي. وهو ما أدى الى اضعاف المعرفة النقدية بهذا النتاج في ظل الغياب الكلي للتوثيق. هذا الغياب الذي هو بمثابة الآنة التي تلتهم عصرنا الثقافي وتعتم على النتائج الجمالية الخلاقة التي تمثل الواقع من غير ان يتمثلها هذا الواقع. وحتى البيناليات الفنية التي تشهدها غير مدينة عربية، دوريا، فانها تتعامل مع هذه الإشكالية بتعال انتقائي مريض، هو التعبير الأمثل عن تسلط الأمزجة الثقافية بشكل عام والامزجة الشخصية بشكل خاص على المشهد الفني العربي العام. ولذلك يمكنني القول ان هذه البيناليات لا تشكل البوصلة الدقيقة التي بامكانها ان تعيننا على معرفة متغيرات وتحولات المحاولة التشكيلية العربية المعاصرة. بل ان هذه اللقاءات والتظاهرات الفنية هي الحاضنة الرئيسية لنشاط العافيات التي تتستر باسم الفن وقيمه الجمالية على أغراضها النفعية، ذلك لان شعار الهيئات المشرفة عليها هو تبادل المنافع ورعاية المصالح المشتركة. انها وللأسف مجرد بؤر للفساد الثقافي والمالي، فهل يمكن ان تكون مقياسا وميزانا ودليلا؟ هذه البيناليات، اليوم، تمثل جزءا من المرجعية الثقافية الممزقة وفي جانب آخر فان ما يكتب في الصحف العربية، بالأخص ذات الطابع العالمي، من مقالات نقدية واستعراضية عن هذا المعرض او ذاك تمثل هي الأخرى قصاصات مقتطعة من مجلد الحيوية التشكيلية العربية المنفية. هذا المجلد الذي صار يتضخم بشكل لافت في السنوات الأخيرة. فلسنا اليوم أمام ظاهرة الفنانين العرب المهاجرين، بل أضيفت اليها ظاهرة جديدة أكثر غموضا وأشد التباسا هي ظاهرة الفنانين العرب الذين ولدوا في المنافي. انهم أبناء المهاجرين. فاذا كنا نفتقر الى المعلومات التي تخص الآباء الذين كانوا يوما ما جزءا من حيوية ثقافتنا اليومية فما الذي يمكن ان نقوله عن جيل الأبناء، المحظوظين بغربتهم، التعساء بعزلتهم عن وسطهم الطبيعي. ان زمنا عظيما يفلت من بين أصابعنا لا لانه عصي على الاحتواء بل لأننا خذلناه بتقاعسنا عن تقبله كائنا تعنينا اخرته. ان الفنان العربي اليوم يضرب خطاه في أرض لا يسودها التعتيم على انجازات الآخر الغريب فحسب بل وحتى على انجازات الآخر القريب. واقتناص فرصة المعرفة متروك للصدفة أو للجها الشخصي الذي غالبا ما يكون انتقائيا. ولكن هل يكفي هذا النوع العرضي والعشوائي من المعرفة؟ لست في حاجة الى الإجابة. ذلك لان الواقع يؤكد لنا يوميا ان ما نجهله من الفن العربي أكبر بكثير مما نعرفه. وبالأخص ان المكتبة العربية تفتقر الى ثبت بأسماء الفنانين التشكيليين العرب. فكيف بأساليبهم وبحوثهم الجمالية ورؤاهم الفكرية؛ ان أقل ما يمكن ان يقال في وصف حاضر الفن التشكيلي العربي انه صورة صادقة عن الحياة العربية بكل تشوهاتها وانسداداتها وضيقها وانحسار الأمل عنها واستعدادها للردة والتراجع وضمور رغبتها في اكتشاف ذاتها. وبهذا يكون الفن العربي مخلصا لانتمائه الى الذات العربية، لكن على مستوى تمزقها وانحدارها وتشوهها فقط. ولكن وسط كل هذا التشتت والضياع هل يحق لنا استعمال هذا المصطلح الذي يبدو يقينيا، اقصد: الفن العربي. فهل هو كل ما ينتجه الفنان العربي بغض النظر عن انتمائه الأسلوبي والمنهجي والرؤيوي أم انه نتاج فني هو بمثابة التعليق المظهري لاستجابات جمالية لفكرة معينة عن الهوية؟ أظن ان في كلا الخيارين هناك خطأ ما، خطأ جوهري لا يتعلق بآلية الحكم بل بالمفهوم ذاته. فهل ضروري أن يكون لدينا فن عربي؟ واذا كان ذلك ضروريا فهل الواقع العربي بحجم إمكانية توليده أو اختراعه؟ كان سؤال الهوية الذي يعيش اليوم أسوأ لحظاته هو السؤال الجوهري في ثقافة أربعينات وخمسينات القرن الماضي.
وحين تبنته الأحزاب اليسارية اتخذ طابعا الزاميا في طريقة التفكر العربية. غير ان هذا السؤال لم يعد الزاميا، لا بسبب هزيمة الفكر السياسي العربي على مستوى واقعي، بل لان الفنان العربي قد اكتشف ان تجربته الجمالية قد تخطت حدود هذا السؤال الذي بدأ ضيقا، لا لشيء الا لانه كان منذ البدء سؤالا افتراضيا، بمعنى انه لم يكن فاصلة اعتراضية بين واقعين: واقع جمالي مكرس تراثيا وواقع آخر يتشكل بمحض ارادته. لقد كانت المعادلة مضطربة في أساسها، فما نملكه من ارث فني عربي في الرسم والنحت لا يمكن ان يشكل رصيد حيوية جمالية منفردة. وبالأخص ان مرجعيتنا في فهم ذلك التراث كانت مستعارة هي الأخرى من الغرب، والدليل على ذلك ان دعاة حداثتنا في الخمسينات كانوا أوفياء في نتاجهم الفني الى تجارب الفنانين الغربيين الذين استلهموا الشرق، فنا ومكانا وفلسفة.
اذن، لم يكن السؤال ملحا لاسباب فنية، بل كان كذلك لاسباب تاريخية تتعلق بفكرة الاستقلال الوطني من خلال فك الارتباط بالمحتل وبثقا فته، لكن من خلال الاشارة باعتزار الى ان ثقافة هذا المحتل قد التهمت جزءا من ثقافتنا. وكما أرى الآن ان هذه الفكرة قد احتالت على حقيقة ان ما لدينا من ارث فني لا يمكن ان يشكل بمفرده قاعدة لخلق فن يواجه الفن الغربي بقناعات جمالية متجددة كما هوا لحال بالنسبة للفن الياباني مثلا. وافضل ما فعله أولئك الرواد الخالدون انهم اربكوا الاستعارة الغربية بحفيف النبرة العربية الإسلامية. ان فنهم وحده لا يكفي لاثبات أمالتهم، وفكرة الأصالة هذه هي الأخرى كانت منتزعة من طريقة تفكير مستعارة. واذا ما كان النتاج الفني العربي قد نجا منذ الستينات من الفرق في محليته والاستغراق في شعبويته فذلك يكمن سببه في ان الرواد من دعاة الحداثة أنفسهم كانوا نخبويين. وكان انتماؤهم الى الشعب مجرد دعابة تزينية. واذا ما كان هؤلاء الرواد قد غطوا انفصالهم عن الناس بدعاوي تراثية، فان فن الستينات وما بعده كان قريبا وبشكل مدهش من حساسية الشارع. لقد كان فنا يستقرئ الحدث المباشر ويضيئه جماليا من غير ان يموهه شكليا. وكان هذا الفن صادقا في اظهار انتمائه الى العالم. كان فنا عالميا من غير اي شعور بالنقص. ومن هذا الفن ولدت تجربة الحداثة العربية الحقة. وهي تجربة انتماء الى العالم والى الفن بصدق من غير حذلقة وبعمق من غير اعتذار. وكما أرى فان هذه التجربة قد تجلت في أعمال العديد من الفنانين العرب، في مقدمتهم شفيق عبود من لبنان وضياء العزاوي من العراق وآدم حنين من مصر وفريد بلكاهية من المغرب. وهناك تجارب أجيال من الفنانين العرب تجعل من احتكامي الى تجارب الفنانين المذكورين مجرد تسلية تاريخية.
أعود الآن الى سؤالي: أما زال سؤال الهوية ضروريا؟ وهل نحن في حاجة الى فن عربي؟ اعتقد ان القصة التاريخية لن تشفع لنا دائما. وما نحتاجه بشكل مؤكد يسبق الأمنية الى محاولة معرفة الذات: من نحن؟ وما فعلنا طوال هذا الزمن؟
فاروق يوسف (كاتب وناقد من العراق)