الركن الذي تنتمي إليه لا يزيد عن مترين فقط تذكر الآن وهي تجلس فيه الأركان المماثلة التي مرت عليها في مراحل عمرها ولهها بالأركان جعل لها ذكريات لا يشاركها بها أحد أولها ذلك الذي كان أسفل الدرج في منزلها الصحراوي الكبير كانت تفوح منه رائحة الطلاء الجيري ممزوجة بالرطوبة، تلك الرائحة التي كلما حدث وأن صادفتها في مكان ما، تعود إليها ذكرى ذلك الركن، فتشعر بالحنين المصحوب بالندم هي لا تعرف حتى الآن سبب هذا الندم المصحوب بالحزن هل هو بسبب ماض لم تكتشف جماله في وقته، فتعيشه كما يجب ؟ أم أنه الحزن على التغيرات التي طرأت على كل شيء؟
الركن السفلي هو الاسم الذي أطلقته على ركنها تحت الدرج في منزلها الصحراوي وهو الركن الذي حفر في ذاكرتها أولى خلايا الفرح كانت في السادسة وهي تلعب فيه بفستانها القصير، تشعر ببرودة أرضيته الأسمنتية تتسلل إلى ساقيها، وهي تقبع فيه مثل قطة صغيرة
تعودت أن تستمتع في ركنها السفلي بكونه لها وحدها المكان الوحيد الذي يحوي أحلامها وممتلكاتها الدمية البلاستيكية التي بلا رأس، وعلبة مناديل الورق التي جعلتها سريرا للدمية، غطاء قارورة الكلور الأزرق الذي خصصته لطاولة الزينة كرة البينج بونج البيضاء والحصان البلاستيكي الصغير الذي انشق إلى نصفين بمرور الزمن الآن لا تعرف كيف كانت محتويات هذا الركن تمدها بالخيالات، وكيف كانت تأتيها بالأحلام المتجددة كل يوم
الركن الثاني انتقلت إليه بعد انتقال أسرتها إلى العاصمة، لم يكن سوى مقعد كبير يقع خلف باب البيت مباشرة، بجوار المكتب الذي تقتسم أدراجه مع أختها الكبرى، درجان اعتادت أمها أن تعبث فيهما وتسألها عن محتوياتهما كانت تغوص في المقعد وهي تمسك في يدها بكتاب مدرسي وبداخله كتاب آخر، تخفيه عن عيني والدتها هي لا تنسى ما اكتشفته وهي تجلس في ذلك الركن، روايات الجيب، أغاني الحب، ومساحيق الزينة تذكر كيف أغرمت بطلاء الأظافر على وجه الخصوص، وتذكر كيف اكتشفت عشقها للرسم بسبب فرشاته التي ألقت عليها ألوانا من السحر، تلك الفرشاة التي تموج لها أحاسيسها وهي تنسحبها على أظافرها، كم من متعة عاشتها في كل مرة كانت تضع فيها الطلاء ثم تزيله لتعود وتضعه ممن جديد تشعر وهي تمر بالفرشاة على أظافرها وكأنها تسبح في فضاء هذا الكون فتكتشف أسراره وحقائقه لم تقلع عن هذه اللعبة حتى انتقلت للصف التالي في المدرسة، وبدأت تتلقى دروس الرسم بالفرشاة بدلا من أقلام الخشب
ركنها ما قبل الأخير لجأت اليه وهي في العشرين من عمرها كان فراشها الذي ضم أحاسيس الثورة والقلق في نفسها سريرها الذي اختارت مكانه في الغرفة التي تتقاسمها أيضا مع أختها تذكر كيف أصرت على أن يكون ملاصقا للحائط كي تتمكن من وضع المذياع الصغير بجواره دون أن يسقط على الأرض
في ركن القلق قرأت رسائل الحب، وكتب السياسة، والأدب ذلك الركن الذي يختلف عن بقية أركانها، فهو الوحيد الذي لم ينتابها الحنين إليه، ولا تتحرك له مشاعرها هي لا تعرف إن كان هذا بسبب كونه قد شاركها في اكتشاف الحقائق الممزوجة بالقهر عندما قرأت عن المعتقلات والسراديب الخفية ؟ أم بسبب كونها قد تعرضت فيه لأول تجربة لها مع الخيانة؟ عرفت وهي ممددة بداخله أن الحياة ليست بلون الورد ، وأن الذئاب تتخفى أحيانا وراء وجوه البشر ذلك الركن الذي شهد قرارها الأول بالانتحار كلما تذكرته تشعر بالضيق والرغبة في تجاوزه تكره الشعور بمسؤوليتها تجاه ما عاشت به من أحداث، بالرغم من سلبيتها المعروفة، ومن وقوفها دوما مكتوفة الأيدي، إلا أنها تشعر بمسؤوليتها في كل حدث
القاسم المشترك بين هذه الأركان جميعا أنها كانت ملكا لها وحدها، وأنها كانت تشعر بالقلق كلما غادرتها حتى تعود إليها من جديد لذا صممت ركنها الأخير بحيث لا تضطر لمغادرته إلا نادرا هكذا جعلته متكاملا قدر الإمكان، ساعد على ذلك أن جعلته مقرا لعملها، منذ أن اختارت أن تنجز عملها على الحاسب الآلي، وفي آخر الشهر تتسلم العائد منه عن طريق البريد هكذا تستمتع بعملها دون أن تغادر ركنها الذي جعلت منه بيتا متكاملا
الركن الذي تنتمي إليه الآن لا يزيد عن مترين فقط غرفة المكتب التي تتمثل في المكتبة، والكرسي المريح الدوار، والطاولة التي تحمل الحاسب الآلي، والمقالم التي تحوي ما يمكن أن تحتاج إليه من مقص، وأقلام، وألوان، وغراء تضعها بجوار علبة حلوى دائرية تحوي ما لا يمكن أن تضعه في المقالم مثل شريط لاصق، وعلبة كبريت، ساعة يد، أقراص منومة، وعلبة علك نعناع، خيوط ملونة، ملمع للأحذية، وسماعة الهاتف النقال، وأشياء أخرى صغيرة
بجوار العلبة الدائرية، وعلى الطاولة الصغيرة المنخفضة التي وضعتها في الزاوية بحيث تكون في متناول اليد، وضعت مرآة وبجوارها ثلاث علب شفافة مستطيلة ومتشابهة، متراصة فوق بعضها البعض، وضعت في إحداهن الاكسسوارات والحلى، وفي الثانية مستحضرات التجميل، وفي الثالثة مقابض الشعر والأمشاط الخاصة بها أما الأشياء المتناهية في الصغر فقد خصصت لها علبة صغيرة في حجم قبضة اليد، ثبتتها على جهاز الكمبيوتر لتضع بها مشابك الشعر، ودبابيس المكتب، ومشابك الأوراق والإبر، وأشياء أخرى من هذا القبيل
بالإضافة إلى غرفة المكتب كان لديها في ركنها الصغير غرفة المطبخ التي تتمثل في سخان المياه، وقد وضعته على أحد رفوف المكتبة، وفناجين القهوة، والشوربة سريعة التحضير التي لا تحتاج إلا لماء مغلي كي تكون جاهزة، وبعض المعلبات، ومغلفات البسكويت، والكعك، وكوب فخاري كبير تضع به ملاعق، وسكاكين، وفتاحة علب
حرصت في هذا الركن على وضع أريكة صغيرة، هذه الأريكة هي نفسها غرفة النوم التي تلجأ إلها بعد تعب يوم طويل، أو تستلقي عليها فاردة قدماها كي تتعرض لحرارة المدفأة، وتبدأ في قراءة كتاب يعبر بها العالم المجهول
تقبع الآن في ركنها الحالي، تتذكر وهي مستلقية على الأريكة الأركان المماثلة التي مرت بها تستمتع بوحدتها وهي تخشى اللحظات التي ستضطر فيها لمغادرته، مثل ذهابها للحمام، أو فتح الباب لزائر مفاجئ، تعلم أنها ستشعر حينها بالغربة، وأنها لن يعود إليها الإحساس بالأمان حتى تعود إليه، فتشعر وكأنها قد عادت للوطن من جديد تتذكر كل هذا وهي تغوص في أريكتها فتتكور على نفسها وتشد عليها شالها الصوف، ثم تستغرق في نوم عميق
أسماء عواد كاتبة من السعودية